هدم التجارة والصناعة والزراعة متى صار صاحب العمل شريكا لعماله، ذلك لأن هذه الفنون المتشعبة العظيمة تقتضي وحدة الإدارة وإطلاق الإرادة، فمتى كان صاحب العمل مقيدا بآراء عماله فقد خرب العمل لا محالة وخمدت نار النشاط والإقدام الشخصي على الأعمال؛ لأن الفرد لا يعود يخاطر بماله ووقته وذكائه من أجل غيره.
والأمر السادس:
أن تذكروا أيها السادة أن حكومة بلاد كبلادنا لا يليق أن تبنى على الأوهام والأحلام ويلقى زمامها إلى أصحاب التصورات والتخيلات، إن المخلوقات كلها قد خلقها الله طبقات مختلفة، ففيها القوي والضعيف والكبير والصغير والخامل والنبيه، وما الاشتراكية التي تحاول جعل جميع الناس متساوين إلا وهم وخيال، فهي تطلب مثلا أن توزع ثروة الدنيا وأراضيها على جميع البشر بالسواء حتى لا يكون فيهم فقير وغني بل يكونوا كلهم في مرتبة واحدة، فهل سمعت خرافة كهذه الخرافة: وهب أننا وزعنا أموال الدنيا وأراضيها بين الناس بالسواء فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة أن الكسالى والجهلاء والضعفاء والخاملين والمسرفين ينفقون أموالهم ويبيعون أراضيهم بعد مدة وجيزة، فيحصرها ويستولي عليها المجتهدون والمقتصدون وأهل الذكاء والتدبير، وحينئذ تعود الحالة إلى ما هي عليه اليوم ونرجع إلى ما نحن فيه، فهل تريدون ضعضعة أساس الهيئة الاجتماعية من أجل تجربة كل التاريخ البشري في الأرض يشهد بفسادها، كلا، لا تخالفوا نواميس الاجتماع والطبيعة نفسها، إن نواميس الطبيعة الثابتة تثبت هذا الامتياز بين المخلوقات، ولذلك يأكل قوي الحيوانات ضعيفها، أية قوة في العالم تقدر أن تساوي بين الذئب والحمل والهرة والفأر والبازي والعصفور، أية قوة تقدر أن تنقض ناموس تنازع البقاء وبقاء الأفضل في الأرض، إن هذا الناموس وحده كاف لنقض مذهب الاشتراكية، ففي الحياة طبيعيا واجتماعيا وسياسيا القوي يقوم والضعيف يسقط، وهذا سبب انقراض كثير من الأمم وقيام كثير من الشعوب، فمن أراد جر القوي من طبقته وإنزاله ليساوي بينه وبين الضعيف كان كمن يهدم قوة الهيئة الاجتماعية ويجعل جميع أفرادها ضعفاء خاملين بحجة المساواة بينهم.
ولقد ختم نائب العمال كلامه بذكر كارل ماكس وبتهديده لنا، فنحن نشك في رضائكم عن هذه المبادئ لأنكم تعلمون عقباها، إنكم لا تجهلون أن دعامة مذهب كارل ماكس اعتقاده بأن الحكومات لا يمكن أن تهب الشعب والعمال من تلقاء نفسها حق الاستيلاء على مرافق الأمة ومنافعها لأن رجال هذه الحكومات من أهل المال الذين هم في رأيه أعداء للعمال، ولذلك يوجب على الشعب أن يغتنم إحدى الفرص ويهاجم الحكومة ويستولي عليها، وبعد ذلك يتصرف بها طبقا لمصلحته من جعل المعامل والمتاجر والمصانع والمزارع ملكا للأمة نفسها وإعطاء أصحابها تعويضا عنها، فإذا كانت هذه مبادئهم أيها السادة فما هذا التحكيم والرغبة في المسالمة إلا رياء لا ينطلي محالة علينا.
فهم استحلفوكم أيها السادة باسم الإخاء الإنساني أن تجيبوهم إلى طلبهم أما نحن فنستحلفكم باسم دستورنا وعمران بلادنا ومستقبل أمتنا وشرف صيت حكومتنا عند الأمم أن تردوا هذا الطلب.
وما جلس زعيم أهل المال في مجلسه حتى اضطربت صفوف العمال وصفوف أهل العلم المجاورة لها، ثم انفرد أحد رجال العلم وقام، فشخصت إليه جميع الأنظار وأشرقت وجوه العملة لأنه كان معروفا عندهم، فابتدأ هذا الخطيب خطابه قائلا:
دعوى أهل العلم
أيها السادة:
كان في نيتي أن لا أتكلم اليوم بل غدا ولذلك سمعت كثيرا من الأقوال والمزاعم التي تقتضي الرد دون أن تتحرك نفسي للرد عليها، غير أن كلمة واحدة لفظها خطيب إخواننا أهل المال في آخر مقاله أثارت نفسي للكلام رغما عنها.
فهو أيها السادة استحلفكم في آخر خطابه «بمستقبل أمتنا» أن لا تجيبوا الشعب إلى ما طلب من مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فهذا الاستحلاف «بالمستقبل» أمر مدهش أيها السادة في مسألة كهذه المسألة، المستقبل! بالله دعوا المستقبل لله، وهل تعتقدون حقيقة أن الإنسانية ستكون في المستقبل على ما هي عليه اليوم من الشقاء، أتصدقون أن أكثرية البشر سيبقون في المستقبل عبيدا وخداما للأقلية، أيدخل في تصديقكم أن الشعوب ستبقى ضعيفة ضئيلة تحت نير الاجتماع، أقوياؤها يموتون ضنى وجهادا في هذه الحياة لأنهم لا يكادون يقدرون على تحصيل رزقهم ورزق أولادهم، وضعفاؤها يموتون جوعا وبردا في الشوارع والأسواق، وعاجزوها يعاملون معاملة الكلاب، بينما أفراد قليلون في المدينة يجمعون قناطير الأموال.
نامعلوم صفحہ