أيها الأبناء الأعزاء:
قد عزمتم على عقد ثلاثة اجتماعات كبرى لتتباحثوا في مسائلكم المهمة والمشاكل التي نغصت عيشكم وعطلت أشغالكم وقسمت قلوبكم وعيالكم، فيسرني أنا حاكمكم وأبوكم أن تؤدي هذه الاجتماعات إلى قطع كل ما بينكم من أسباب النزاع والخلاف حرصا على سعادتكم وعلى عمران مدننا الثلاث التي تعبنا في إنشائها وترقية شؤونها، إنما قبل الشروع في المباحثة أتمنى من صميم قلبي أمرا، وهو أن يجتنب كل فريق منكم في أثناء كلامه كل قول يسوء الآخر فإن الإنسان يستطيع أن يصرح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به، ولا يجدي العدوان والشدة نفعا، وإنني أسأل الله أن يوفق أعمالكم ويسدد آراءكم وينير عقولكم.
فهنا حصلت ضجة بين بعض من أهل العلم، فانتصب رجل من فريق الدين وقال بصوت جهوري: ماذا؟ هل صرتم تكرهون أن تسمعوا اسم الله أيضا، فصرخ خمسون عاملا من العملة كانوا جالسين قرب فريق أهل العلم: كذاب كذاب. فانتصب حينئذ أحد هؤلاء وكان أقربهم إلى العملة وقال مخاطبا فريق أهل الدين: لا تبدأوا بالعدوان إذا كنتم مخلصين في طلب المسالمة. فقال الشيخ الرئيس حينئذ: لست أجهل سبب الضجة التي حصلت بين بعض من الأبناء، فإنهم لا يزالون يطلبون ترك المسائل الدينية للجوامع والكنائس ولذلك لا يجيزون لحاكمهم أن يلفظ عبارة دينية في منصبه الرسمي، وأنا على ثقة من أن ذلك لم يكن منهم عن إنكار للمسائل الدينية بل عن رغبة في الفصل بين شؤون المذاهب المختلفة، ولكني أظن أنهم يجيزون لشيخ بسني صار قريبا من القبر أن يستسلم لعواطفه أحيانا.
ثم قال الرئيس: أما الآن فإننا نسمع الشكاوى التي اجتمعنا للنظر فيها بصدق وحسن نية، ولنعلمن قبل نوعها وتفصيلها.
فنهض حينئذ زعيم العملة وقال: إن شكوى العمال من طمع أرباب الأموال، فالعمال يتعبون ويجنون وأرباب الأموال يتمتعون بتعبهم ويتلذذون، فمن العدل أن يشارك أولئك هؤلاء في كل الأشياء.
فنهض النائب عن أرباب الأموال وقال: إن شكوى أرباب الأموال لم تكن من العملة أنفسهم فإننا نحب عمالنا كما نحب أولادنا، كيف لا وهم رفقاؤنا وشركاؤنا في أعمالنا، وإنما شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا، فلتفصل الحكومة العمال عن هؤلاء المحرضين فيستتب السلام بين الجميع.
فنهض رجل من فريق العلم وقال: إذا صح أنه متى رفعت يد الذين يسمونهم «محرضين» من بين العمال وأصحاب الأموال فإن السلام يستتب في الحال فقد زال نصف شكوى أهل العلم، وإنما يبقى عليهم في هذا الموضوع أن يبحثوا هل يرافق السلام الذي يحصل حينئذ هناء العمال وراحتهم وسعادتهم أم يبقى سلامهم موتا أدبيا وماديا كسلام أهل القبور، وإننا معشر أهل العلم نفتخر في هذا العصر بأننا حللنا في هذه المسألة محل أهل الأديان وصار همنا الأول التفكير بإنهاض الشعوب وترقيتها بينما نرى أهل الأديان يسلمون الشعوب بأيديهم إلى الأطماع المختلفة، فكان مثلهم مثل ملوك يخلعون أنفسهم بأنفسهم، ولذلك تراهم يكثرون من التزلف للأغنياء وأرباب الأموال ويجارونهم في كل شيء حتى في ما يخالف مبادئهم الدينية وينقض أساسها ويلهون الشعب في أثناء ذلك بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية، فغرض العلم في هذا الزمان تفتيح عيني الشعب وترقية أحواله والضرب على أيدي المدجلين، وشكواه من كل من يحاول منعه من الوصول إلى هذا الغرض الشريف.
فهمس حينئذ واحد من أهل العلم كان قريبا من الخطيب في أذن جاره قائلا: ليت أصحابنا أنابوا عنهم خطيبا أكثر اعتدالا من هذا الخطيب فإن مقاما كهذا المقام لا يفيد فيه غير التأني والاعتدال، أما رأيت السياسة التي اتخذها نائب أرباب الأموال.
وكان قد نهض نائب فريق الدين فقال: أما شكوانا نحن خدمة الله تعالى فمن أولئك الكفرة الجاحدين الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس، فإننا والحق يقال لولاهم لكنا كلنا في ألف نعمة من الله تعالى، فإنهم بدأوا ضلالهم بيننا بتعليم أولادنا مبادئهم الطبيعية الممقوتة والعياذ بالله، ثم تدرجوا منها إلى إنكار المذاهب المختلفة فالوحي وجحود الخالق سبحانه وتعالى، فما دام هؤلاء المفسدون يفسدون عقول الناس فلا سلام ولا راحة عندنا.
فقال الشيخ الرئيس حينئذ: نعم هذه هي الشكاوى المختلفة التي مر علي عشرات السنوات وأنا أسمعها، فأستحلفكم بكل ما هو عزيز مقدس لديكم، أستحلفكم بالشيخ الجليل المحسن إلى هذه المدن والواقف الآن بيننا في وسط الحديقة على تمثاله الرخامي يسمع كلامنا وينظر إلينا، أن تكسروا حدتكم قليلا وتتباحثوا في مشاكلكم بسلام وأدب، فإننا كلنا يا أبنائي إخوان، وكلنا في هذه الأرض ضيوف وغرباء.
نامعلوم صفحہ