انسان کا دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
اصناف
5
وفي الميثولوجيا المصرية، يلعب السحر دوره في عالم الآلهة كما في عالم البشر. ولعل في قصة حصول الإلهة إيزيس على قواها السحرية الخارقة عن طريق خداعها للإله رع، خير مثال على ذلك؛ فلقد شاخ الإله الأكبر ووهنت قواه، ولكنه استطاع البقاء سيدا للسموات والأرض بقوة اسمه السري الذي لا يعرفه أحد. وكانت إيزيس متمرسة بفنون السحر، وتمتلك من أسماء القوة ما لا يعرفه أحد غيرها، إلا أن طموحها الذي لا يقف عند حد دفعها إلى محاولة امتلاك الاسم السري لرع، حتى تسيطر بواسطته على الأرض كما يسيطر رع على السماء والأرض، فأعدت لذلك خطة محكمة. قامت إيزيس بصنع حية من تراب الأرض الذي يسيل عليه لعاب العجوز رع، فتلت عليها تعويذتها وأرسلتها تسعى في طريق الإله الذي يسلكه كل يوم، فعضته في ساقه ودفعت سمها في شرايين دمه. سرى السم في جسد كبير الآلهة واشتد ألمه، فدعا كل آلهة الأرض والسماء لشفائه دون أن يفلح منهم أحد، وهنا تطوعت إيزيس للمهمة ومثلت أمامه قائلة: ما الذي حل بك أيها الأب المقدس؟ هل عضتك حية؟ وهل تجرأ كائن من خلقك على رفع رأسه إليك؟ سأقهر هذه الحية بأسماء القوة التي عندي، ولن تزحف بعد اليوم تحت أشعة شمسك، ولكن قل أولا عن اسمك القدسي؛ لأن من عرفه وجد الحياة. فأجابها متهربا: في الصباح اسمي خيبيرا، وفي الظهيرة اسمي رع، وفي المساء اسمي توم. ولكن إيزيس تجيبه بأن أيا من هذه ليس اسمه السري، وتمتنع عن علاجه، ثم تعود إلى تكرار السؤال لتسمع منه الجواب نفسه. ولكن آلام الإله تصل بعد مدة إلى حد لا يطاق، فيرضخ لمشيئة إيزيس ويلقي باسمه السري في قلبها من دون أن ينطق به، فتقوم بشفائه وتنتقل إليها قوى الاسم الأعظم.
6
وفي الحقيقة، فإن ديانة مصر القديمة برمتها إنما تقوم على مفهومي المجال والقوة، رغم أن وادي النيل كان يعج بالآلهة والكائنات الروحية من كل نوع، وربما أكثر من أي مكان آخر في المشرق الأدنى القديم. فالمصري القديم رغم اعتقاده بالآلهة المشخصة وقيامه بتقديم فروض العبادة لها، فإنه آمن دوما بألوهة منزهة هي القاع الكلي للوجود، عنها صدرت المادة والآلهة والحياة بكل أشكالها. يقول واليس بدج في كتابه المعروف عن الديانة المصرية:
7 «حين يدرس القارئ نصوص الديانة المصرية، تحصل لديه القناعة بأن المصريين قوم كانوا يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خالد، غير مرئي، أبدي، قدير، لا يحيط به عقل ، خالق السموات والأرض والعالم الأسفل، خالق الرجال والنساء والحيوان والطير والسمك والزواحف والشجر والزرع، والكائنات الروحانية الذين كانوا رسله ينفذون مشيئته ويحققون كلمته ... وأننا مهما أوغلنا في الزمن رجوعا، فربما لن نقترب أبدا من زمان كان فيه المصري بدون هذا الإيمان الرائع.»
إن ما يصفه بدج هنا بكلمات وتعابير مستمدة من مخزونه المعرفي التقليدي، ليس في واقع الأمر إلها مشخصا، بل ألوهة غير مشخصة أو مجال قدسي أو قوة سارية. ويظهر ذلك بكل جلاء من التحليلات التي تابعها المؤلف؛ فهذه الألوهة التي استمر الإيمان بها من العصور الحجرية إلى نهاية التاريخ المصري، لم يكن لها في العصور التاريخية معابد أو هياكل، ولم تصور في أية هيئة شخصية أبدا، وإنما بقيت في أذهان المصريين وقلوبهم كقدرة كونية لا يحدها وصف أو قول. وكما يقول بدج: «فإن الاسم الذي أطلقه المصريون على هذه الألوهة هو نتر
Neter ، وكان يرمز إليها بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض الخشبي؛ لأن الحجر كان عرضة للتشقق بالاستعمال الطويل. وعندما حل الرأس المعدني محل الرأس الحجري، غابت الأربطة الجلدية عن رأس الفأس الذي لم يعد بحاجة إلى تدعيم. ونستطيع متابعة هذا التطور في رسم الفأس من صورته في الكتابة الهيروغليفية الدالة على الألوهة.» ويبدو أن اختيار الإنسان الحجري لرمز الفأس للدلالة على الألوهة هو التوكيد على جانب القوة المتبدية فيها، ويدعم هذا الرأي أن كلمة نتر بالذات يمكن أن تعني القوة أو الشدة، من جملة ما يمكن أن تعني. وهنا يمكن أن نقارن مع الكلمة المشابهة في اللغة السورية المحكية «نتر»، والتي تعني ممارسة القوة في إتيان الفعل، فنقول: «نتر» بمعنى انتزع بقوة. وهناك من علماء الهيروغليفية من يرى رأيا مخالفا، ولكنه يدعم أيضا ما ذهبنا إليه؛ فالعالم الفرنسي دي روجيه يرى أن في الكلمة ما يدل على التجدد أو التجديد، وكأنما الفكرة الأساسية عن الألوهة هي تجديد نفسها بنفسها، أو بكلمة أخرى: الوجود بالذات. أما ه. بروكش، فقد قبل هذا الرأي جزئيا حين عرف الاسم بأنه القوة الفاعلة التي تنتج الأشياء وتخلقها وفق أدوار منتظمة؛ مما يمنحها حياة جديدة ويشحنها بالحيوية والشباب.
وإلى جانب كلمة نتر، لدينا كلمة نترو، وتعني الكائنات التي تشترك على نحو ما في طبيعة نتر أو في شخصيته، وتسمى في العادة آلهة. وقد كانت الأقوام الأولى التي كان لها صلات بالمصريين كثيرا ما تسيء فهم طبيعة هذه الكائنات، لكننا حين ندرس هذه الآلهة عن كثب نجد أنها ليست إلا صورا أو تجليات أو مظاهر لإله واحد هو الإله رع، إله الشمس الذي هو النموذج أو الرمز لنتر. وها هو الإله حابي إله النيل، في تواحده بالإله رع، يشف عن كل ما يسبغه المصري على الألوهة المنزهة؛ فحابي المتواحد مع رع، كما تصفه إحدى التراتيل: لا يصور ولا يرى في صور منحوتة، لا قرابين تقرب إليه، ولا أعمال تؤدى إليه، لا يطلع من مكانه الخفي، ومكان سكناه غير معروف؛ إذ لا مكان يمكن أن يحتويه، وأنت لا تستطيع أن تتصور هيئته في قلبك.
وتعطينا البردية المعروفة باسم بردية نيزي أمسو، أكثر النصوص المصرية تعبيرا عن الجدلية القائمة في المعتقد المصري بين المجال القدسي والآلهة المشخصة؛ فالنص يشبه المجال القدسي بالروح الإلهية الهاجعة في الهاوية المائية، والتي لم يكن لها أثر أو فعل قبل صدور القوة السارية عنها، وهي القوة التي أنتجت الكون والآلهة. تقول البردية: «لقد أنشأت نشوء الناشئات، لقد أنشأت نفسي على هيئة أطوار الإله خيبيرا، الذي كان تطوره في بداية الأزمان. لقد نشأت بنشوء الناشئات؛ أي إنني أنشأت نفسي من المادة. اسمي أوزارس؛ جرثومة المادة البدئية. لقد جعلت إرادتي كلها في هذه الأرض؛ بسطتها إلى الخارج وملأتها وشددت أزرها بيدي. كنت وحيدا إذ لم يكن ثمة شيء مخلوق، في ذلك الوقت ما كنت أصدرت عن نفسي شو ولا طفنوت، نطقت باسمي، باعتباره كلمة القوة، من فمي، وأنشأت نفسي من المادة البدئية التي أنشأت عددا لا حصر له من النشوءات منذ بداية الأزمان. ما من شيء كان على الأرض حينئذ، وأنا صنعت كل شيء. لقد خلقت الخلق بواسطة الروح الإلهي الذي ظل عاطلا في الهاوية المائية لا يفعل شيئا. ما وجدت مكانا أقف عليه، ولكني كنت قويا في قلبي، فصنعت قاعدة لنفسي وصنعت كل ما قد صنع. كنت وحيدا، عملت أساسا لقلبي (أو لإرادتي)، وخلقت حشودا من الأشياء التي تطورت بأطوار الإله خيبيرا، وجاءت ذرياتها من أطوار ولاداتها. أصدرت عني الإلهين شو وطفنوت، ومن كوني واحدا صرت ثلاثة، لقد انبثقا مني وجاءا إلى الوجود على هذه الأرض، ومن شو وطفنوت انبثق سب ونوت وإيزيس وطفنيس في ولادة واحدة.»
إن الآلهة المذكورة في هذا النص لا تشتمل إلا على أولئك المرتبطين بدورة حياة وموت الإله أوزوريس، أما الآلهة الأخرى المعروفة لنا، فهناك روايات ميثولوجية أخرى تقدمها لنا من خلال تنويعات نشوء-كونية أخرى، تتخذ فيها كل مجموعة من الآلهة الأدوار الرئيسية التي لحظناها في نصنا أعلاه. فاللاهوت المصري كان لاهوتا ديناميا لا يبقى على حال، وكلما دعت الظروف إلى إقامة نظام جديد من الآلهة، وجد المصريون أنفسهم مضطرين إلى أخذ الآلهة المحلية القديمة في اعتبارهم، وإيجاد مكان لها في النظام الجديد. وكانوا يفعلون ذلك بأن يجعلوا الآلهة أعضاء في ثواليث أو في تاسوعات؛ فكان لديهم التاسوعة العظمى والتاسوعة الصغرى والتاسوعة الدنيا. ومع ذلك فإن الآلهة المألوفة أسماؤها في الميثولوجيا الرسمية وطقوسها ليست كل الآلهة؛ فقد كان لكل ولاية إلهها، ولكل مدينة إلهها، ولكل قرية إلهها، بل ولكل عائلة إقطاعية كبيرة إلهها أيضا. وكانت هذه الآلهة جميعا في حالة حركية دائبة؛ فقد يتفق لبلدة أو قرية أن تترك إله الأمس لتتبنى إلها جديدا من مناطق مجاورة، وقد يغدو إله محلي مغمور إلها في الغد لمدينة كبيرة، وقد نجد إلها تقرب إليه القرابين الكثيرة في شهر ليغمره الإهمال ويغدو إلها ميتا في شهر آخر. كل ذلك يدفعنا إلى الاستنتاج الأساسي الذي أود التوكيد عليه هنا، وهو أن المصري القديم (والإنسان القديم عامة) لم يكن يأخذ مسألة الآلهة المشخصة على محمل الجد، وأن هذه الكائنات لم تكن في ذهنه سوى أردية متبدلة تعكس تداخلات المطلق في ظواهر النسبي.
نامعلوم صفحہ