انسان کا دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
اصناف
مما لا شك فيه أن المعتقد النيوليتي قد تميز عن المعتقد الباليوليتي باستيعابه لأفكار جديدة تدور حول خصوبة الأرض الزراعية، وأن مفهوم الخصوبة العام والغائم جدا قد غدا الآن أكثر تركيزا وتخصيصا، وأخذت الفعالية الإخصابية للقوة تأخذ حيزا أوسع من تفكير الإنسان ومن طقوسه. غير أننا يجب ألا نسير بعيدا وراء التصورات التقليدية عن الأساس النفعي للمعتقدات الدينية الأولى، وعن الدور الحاسم لأفكار الخصوبة في تكوينها؛ ذلك أن المضامين الجديدة المتعلقة بخصوبة الأرض المزروعة والقطعان المؤهلة، قد تكونت على أرضية أقدم لمعتقدات أكثر تجذرا في البنية النفسية للإنسان. ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن البحث عن الغذاء لم يكن ذلك الهاجس المسيطر عند الإنسان، سواء في عصوره الباليوليتية أم النيوليتية؛ فلقد أثبت بعض الباحثين مثل م. سالهينز
9
أن اقتصاد الجماعات البشرية التي تعيش على الصيد والالتقاط في مناطق طبيعية غنية، لا يتطلب إلا مقدارا قليلا من العمل، وذلك خلافا للأحكام الرومانسية المسبقة التي جعلت من الإنسان الصياد إنسانا بائسا همه الركض وراء الغذاء. كما بين الباحث هارلان بالتجربة العملية
10
أن جامع الحبوب البرية لم يكن بحاجة إلا إلى ثلاثة أسابيع عمل تكفي حصيلتها لإعالته على مدار السنة. ففي إحدى مناطق جنوب تركيا، حيث تنمو بعض أنواع الحبوب البرية إلى الآن، تزود هارلان بمنجل صواني من النوع الذي استخدمه جامعو الحبوب عند أعتاب العصر النيوليتي، وقام بنفسه بعمل الحصاد على الطريقة القديمة، فاستطاع جمع ما مقداره 2,45كغ من السنابل في ساعة واحدة، وهذه الكمية تعطي كيلوغراما واحدا من الحبوب الجاهزة للطحن، وهذا يعني أن أسرة من الجامعين لن تحتاج إلا إلى بضعة أسابيع عمل في السنة، لتحصل على مئونة سنوية كافية من الخبز. أما مزارعو القرى النيوليتية الأولى، فلم يكونوا في وضع يختلف كثيرا عن وضع جامعي الحبوب؛ ذلك أن بضعة أسابيع أخرى كانت تلزمهم في السنة لبذر الحبوب، وما عليهم بعد ذلك سوى انتظار المطر؛ وبذلك وجد الإنسان القديم أمامه متسعا من الوقت للتفكير في أمور لا تمت إلى سعيه المعاشي بصلة مباشرة. لقد ربط ذلك الإنسان ولا شك بين هاجسه الغذائي وهاجسه الديني، ووجد في القوة الإخصابية الكونية شرطا لنمو النبات وتكاثر الحيوان. إلا أن ما أود التوكيد عليه هنا، هو أن الأيديولوجيا الدينية للجماعات الأولى، صيادة كانت أم مستقرة، لم تكن مشروطة باستراتيجياتها الغذائية، وأن الأفكار حول الخصوبة وعلاقة القوة السارية بالإخصاب قد نمت في وسط فكري مجهز مسبقا لنمو مثل هذه الأفكار، وأن هذا الوسط الفكري هو حصيلة عوامل نفسية بالدرجة الأولى. إن عالما من الصور الذهنية الدينية التي تنمو من خلال مواجهة نفسانية كلانية مع العالم، هو أسبق من أية صلة عملية له مع ظواهر معينة من مجال الطبيعة.
لقد بينا سابقا أن تركيز الجماعة على صيد نوع معين من الحيوان أكثر من غيره، ينجم عن خيار فكري لا عن عوامل طبيعية قاهرة. ويبدو لنا الآن أن الخيارات الفكرية إنما تسبق ضغوطات البيئة في توجيه سلوك الإنسان في مجالات هامة أخرى تتعلق بحياته. فالزراعة، التي أحدثت انقلابا ثقافيا لا يعادله انقلاب في تاريخ البشر، إنما نشأت عن خيار فكري بالدرجة الأولى، والجماعات النيوليتية الرائدة في المشرق العربي، لم تعدل استراتيجياتها الغذائية نحو الاعتماد المتزايد على الزراعة من أجل تلاؤم الجماعة مع وسطها الطبيعي، بل من أجل تلاؤمها مع نفسها.
والأدلة الأثرية في تلك المواقع الزراعية الرائدة، مثل أريحا في فلسطين والمريبط في سوريا، تقدم برهانا ساطعا على ذلك؛ فقد تبين للبروفيسور جاك كوفان، الذي نقب في موقع المريبط وفي غيره، وبالتعاون الوثيق مع علماء نباتات ما قبل التاريخ وعلماء تحليل غبار الطلع، أن المواقع الزراعية الرائدة كانت غنية بالحبوب البرية التي يمكن جنيها والاعتماد عليها في اقتصاديات الجماعة، دون اللجوء إلى مجهود الزراعة المنظمة، وهذا يعني أن تعديل الاستراتيجية الغذائية للإنسان هنا لم يكن مدفوعا بشح البيئة الطبيعية وتراجع حقول الحبوب البرية التي أمدته سابقا باحتياجاته. وقد ترافق هذا الخيار الزراعي مع خيارات أخرى تتعلق بأنواع الحيوانات التي اصطفاها من وسطه الغني لتكون موضوعا لصيده الجديد دون غيرها (وفي حالة تل المريبط كان الحمار الوحشي والثيران)، ومع تغيير جذري في نمطه المعماري الذي تحول من البيت المستدير إلى البيت المستقيم الزوايا (مربع أو مستطيل)؛ الأمر الذي يدل على نضوج أفكار معينة قادت عملية تغيير اجتماعي واقتصادي شامل. وهذه الحقائق إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الظاهرة الفكرية لم تسبق التغييرات على الصعيد المادي فقط، وإنما كانت المحرض على حدوث هذه التغييرات.
11
إن السير في مناقشة هذه المسألة إلى أبعد من ذلك سوف يخرج بحثنا عن خطه المرسوم، وكل ما يهمني هنا هو التوكيد على أن المعتقد الديني باعتباره ظاهرة فكرية، يتمتع باستقلالية كافية عن ضغوط البيئة الطبيعية، وأن الظاهرة الدينية في أصولها هي ظاهرة مستقلة عن الظاهرة الاقتصادية ومتقاطعة معها. أما التأثيرات المتبادلة لهاتين الظاهرتين، والتي يمكن متابعتها عبر تاريخ الحضارة، فليست دليلا على تبعية إحداهما للأخرى بقدر ما هي دليل على قوة واستقلال كل منهما عن الأخرى. وأنا هنا أقف على الطرف النقيض من كارل ماركس وماديته التاريخية. •••
لقد زودتنا حتى الآن دراستنا لمعتقدات العصر الحجري بشقيه القديم والحديث بعدد من الأفكار والمفاهيم الدينية الأساسية، التي تميز المعتقد الديني للإنسان العاقل في أصوله وجذوره التحتية. ولما كان الدين، كما بينا، هو ظاهرة فكرية ونفسانية لا تخضع لتطور ولا تسري عليها قوانين الارتقاء، فإننا يجب أن نعثر على هذه الأفكار والمفاهيم في صلب وأساس كل المعتقدات الدينية للإنسان، بصرف النظر عن الزمان والبيئة والمكان. وبشكل خاص، لا بد من العثور عليها بشكل أكثر وضوحا في معتقدات الثقافات البدائية التي عاشت على هامش الخط الرئيسي لتطور الحضارة العالمية، وحافظت على أحوال معاشية وأنماط فكرية أقرب إلى أحوال وأنماط ثقافات العصر الحجري، وهذا ما سنتعرض له في الفصل القادم، وبعد أن أقدم فيما يأتي ملخصا لما توصلنا إليه حتى الآن في القسم الحالي من دراستنا.
نامعلوم صفحہ