انسان کا دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
اصناف
اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
مع نهاية عصر الباليوليت الأعلى، تتوقف معظم أنواع الفنون التشكيلية في أوروبا فيما يبدو، وكأنه عصر انحطاط شامل لتلك الثقافة. وذلك في الوقت الذي أخذ فيه مركز الثقل الحضاري يتجه نحو مناطق شرقي المتوسط، التي كانت تتأهب للدخول في عصر حاسم من عصور البشرية هو العصر الحجري الحديث، أو النيوليتي (Neolithic) .
لقد شهد العصر النيوليتي، الذي ابتدأ مع أوائل الألف الثامن قبل الميلاد، جملة من التحولات الجذرية العميقة الأثر في مجرى التاريخ الإنساني؛ فخلال هذا العصر استقر الإنسان الصياد في الأرض وبنى أولى القرى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلا من جمعه معتمدا على الزراعة وتأهيل الحيوان، مبتدئا بذلك حضارتنا الحديثة. وقد قدمت لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، ثقافة ازدهرت قبلها في فلسطين وأواسط سوريا، ابتداء من الفرات الأوسط وحتى وادي العربة، عرفت بالثقافة النطوفية، نسبة إلى وادي نطوف بفلسطين، أول مواقعها المكتشفة، واستمرت خلال الألفين العاشر والتاسع قبل الميلاد. لقد قدمت لنا الثقافة النطوفية أول الدلائل على الاستقرار في الأرض وسكن المواقع الثابتة في العراء بدل الكهوف. وكان الدافع الأول للاستقرار هو الاستراتيجية الغذائية التي اتبعها هؤلاء النطوفيون، والتي اعتمدت على الجمع المكثف للحبوب البرية التي كانت تنمو بكثرة في مناطقهم، وذلك إضافة إلى صيد الحيوانات.
لم تنتج الثقافة النطوفية فنا تشكيليا راقيا، يمكن مقارنته على أي صعيد بفن الباليوليت الأعلى، وذلك إضافة إلى قلة الأعمال التشكيلية التي تم العثور عليها، والتي كانت المقابر مصدرها الأساسي. ومع ذلك، فإن هذا القليل يكفي لمتابعة استقصائنا للأيديولوجية الدينية للعصور الحجرية في منعطفها الجديد. إن جرد الأعمال الفنية النطوفية التي عثر عليها حتى الآن، يظهر استمرارا للتقليد الباليوليتي في تصوير الأشكال الحيوانية، إلا أن الرسوم الجدارية غائبة تماما، وكل ما لدينا عبارة عن دمى حيوانية بصورة رئيسية. ويبدو أن الحيوانات المصورة هنا كانت موضوعا لاختيار أيديولوجي كما هو الحال في الباليوليت الأعلى؛ لأن ما صوره النطوفي من الأنواع الحيوانية أقل بكثير من الحيوانات التي حفلت بها بيئته الطبيعية، ومن تلك التي اعتمد عليها في صيده واستراتيجية غذائه. فلقد أهمل النطوفي تماما الثور والخنزير البري، وأكد بشكل رئيسي على الغزال والأيل الأسمر. وإذا كان الغزال من الطرائد المفضلة عند النطوفيين ومتوفرا بكثرة في مناطقهم، فإن الأيل الأسمر كان من الحيوانات النادرة، ومع ذلك فقد صور إلى جانب الغزال وإن بنسبة أقل. هذا ويظهر الدور المتميز للغزال في الوسط الفكري للثقافة النطوفية من خلال التقاليد الجنائزية، ومن خلال اقتران صورته بالنشاطات الغذائية المتعلقة بجمع الحبوب البرية؛ فقد تكرر ترافق عراقيب الغزلان مع الهياكل العظمية في عدد لا بأس به من القبور، وربما قام الحصان مقام الغزال في هذا الطقس الجنائزي الملفت للنظر، وذلك رغم عدم عثورنا على صور للحصان من العصر النطوفي. أما عن اقتران الغزال بنشاط جمع الحبوب البرية، فقد تم العثور على العديد من المناجل الصوانية التي زينت قبضاتها بصور مجسمة للغزال، وهذا ما ينشئ علاقة رمزية بين الصيد وبين الحصاد من خلال هيئة الغزال التي ربما رمزت إلى قوة الخصوبة إجمالا.
1
أما عن التمثيلات الإنسانية فنادرة جدا، إضافة إلى كونها منفذة بأسلوب اختزالي يجعل من الصعب تحديد جنسها، على عكس الدمى العشتارية للعصر الباليوليتي السابق. غير أن ما يلفت نظرنا هو زيادة عدد الدمى الإنسانية في موقع واحد هو عين الملاحة بفلسطين. ولما كان هذا الموقع هو أكثر المواقع النطوفية قربا إلى القرى المستقرة، فإن استنتاج ترابط الدمى الإنسانية في هذا العصر مع درجة الاستقرار له ما يسوغه.
2
خصوصا وأن ظاهرة زيادة المساحة المخصصة للهيئة الإنسانية في الفن التشكيلي، كلما تقدمنا في العصر النيوليتي، هي ظاهرة مؤكدة.
إنه لمن المغري حقا لمن يحاول تفسير الصور المقدسة لعصر ما، أن يبحث في الإطار الطبيعي الذي انتزعت منه موضوعات هذه الصور، وعن موقعها في اقتصادياته واستراتيجياته الغذائية. ولكن العلاقة بين الإنسان وموضوعات تصويره ليست دائما على هذه الدرجة من البساطة؛ فقد يعكس التركيز على الغزال مثلا في العصر النطوفي وضعا اقتصاديا يعتمد على صيد الغزال، وهو ما تؤكده الكميات الكبيرة من عظامه في المواقع المكتشفة، غير أن قيام الإنسان النطوفي بتصوير حيوانات أخرى لا تدخل في نظامه الغذائي، يدل على أن الوسط الطبيعي والعلاقة النفعية مع الحيوان لا يقدمان إلا مدخلا من عدة مداخل محتملة، وأن الخيار الأخير للحيوان الذي تتحول هيئته الخارجية إلى شارة قدسية هو خيار فكري بالدرجة الأولى، وعلينا أن نبحث عنه في المجال الاعتقادي لا في المجال الطبيعي. ولا أدل على ذلك من علاقة الإنسان بالثور البري منذ مطلع العصر النيوليتي.
فمنذ بدايات العصر النيوليتي في تل المريبط على الفرات الأوسط بسوريا، وهو من المواقع الرائدة للثقافة النيوليتية، لدينا دلائل واضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط قروي مستقر يتهيأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية معمارية خاصة (تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة)، أقيمت مصاطب طينية عرض في وسطها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران البرية، بهيئتها الطبيعية ودون إضافات فنية تزيينية، وتشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف مغروزة بشكل أفقي تكوينا متماسكا معروضا للناظرين دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككا إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى القرنين الكبيرين اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لا تنبئ عن قيمة استعمالية معينة، والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولا شك مدلولات أيديولوجية معينة، سوف نتلمس استمرارها في مواقع نيوليتية أخرى.
نامعلوم صفحہ