انسان کا دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
اصناف
من هنا، فإن الصلاة إلى الآلهة، في الدين البابلي، لا ترفع طمعا في خلاص الروح إلى عالم أفضل، بل طمعا بمزيد من أيام العمر في هذه الحياة. نقرأ نصا بابليا: «إن القرابين تمد في الأعمار ... وخشية الآلهة تطيل الأيام على هذه الأرض.» ونقرأ في دعاء لأحد ملوك بابل: «يا إلهي، احفظني من الخطيئة نحو ذاتك العظيمة، وامنح لي عمرا مديدا، وازرع في فؤاد ابني وبكري مخافتك وخشيتك، فلا يقترف ذنبا؛ ليمنح أياما كثيرة.» وعن ملك آشوري نقرأ: «إن ما قدمته يدا أبي من أفعال وما قربه من قرابين قد سر فؤاد الآلهة فعاش عمرا مديدا.» وعن ملك آشوري آخر: «لدوام الصحة وطول العمر وامتداد الحكم، أسجد إليك أيتها الآلهة.» وعلى العكس من ذلك، فإن الخطيئة تقصر العمر وتقطع سلسلة الأيام كما يقول أحد النصوص الآشورية: «من لا يخشى الآلهة سيكسر عوده كقضيب القصب.»
لذلك، عندما انقشعت الغشاوة عن بصيرة جلجامش، في الملحمة البابلية، ورأى أن كل ما يصنعه الإنسان في حياته باطل، وأن الأيام مهما امتدت به لا بد وأن تقوده إلى موت أكيد، لم يلتفت إلى الدين البابلي يطلب العزاء عنده، ولا إلى آلهة قومه يستجدي خلاص روحه؛ لأنها لا تستطيع أن تمنح مثل هذا الخلاص، بل رام الخلود في هذه الحياة، أو راح يبحث عن خلاص لم تبشر به ديانة وادي الرافدين، معتمدا على نفسه فقط دون عون من إله أو بشر. ولو كان في المعتقد البابلي مفهوم حقيقي لخلاص الروح إلى عالم أفضل، لما طرحت مسألة الموت نفسها بهذا الإلحاح على الفكر البابلي.
فإذا انتقلنا من حضارة الهلال الخصيب في قرنه الشرقي، نحو قرنه الغربي في سوريا، لم تقدم لنا الوثائق الكتابية صورة واضحة عن معتقدات الموت وأحوال الروح في الدار الآخرة؛ وذلك بسبب ندرة هذه الوثائق خارج موقع أوغاريت من جهة، وعدم عناية ما عثر عليه منها بالموضوعات الميثولوجية والدينية. ورغم أننا نعرف من ألواح أوغاريت عن وجود عالم أسفل يرعاه الإله موت، وعن هبوط الإله بعل ميتا إليه، إلا أن التفاصيل التي أمدتنا بها الوثائق الكتابية عن هذا الموضوع قليلة أو شبه معدومة في سوريا. من هنا فإننا لا نستطيع إلا الاعتماد على كتاب التوراة، الذي ورث الكثير من المعتقدات الكنعانية في الروح، وأحوالها بعد الموت في الدار الآخرة.
يظهر المعتقد التوراتي، في الروح وأحوال الدار الآخرة، شبها واضحا بالمعتقد الرافدي؛ فالأرواح متساوية في مصيرها، وهي تهبط إلى دار سفلى اسمها «شيئول»، أو «الهاوية» وفق الترجمات العربية للتوراة. وهذه الدار تقع تحت الأرض (سفر العدد 16: 30-32)، ولها أبواب تذكرنا ببوابات العالم السفلي الرافدي السبع (إشعيا 38: 10)، وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورا (صموئيل الثاني 22: 6، والمزمور 6: 5، و88: 12)، وإليها تذهب أرواح الموتى دون استثناء (التكوين 37: 35، والمزمور 31: 17، وإشعيا 38: 10)، وهي عميقة وتبتلع (التثنية 3: 22، والأمثال 1: 12). والإله التوراتي لا سلطة له على العالم الأسفل: «أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب؟ أم الأخيلة تقوم تمجدك؟ هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف الظلمة عجائبك وبرك في أرض النسيان؟» (المزمور 6). والموتى قد فقدوا في الدار الآخرة السفلى كل صلة لهم بإله الأحياء، فلا بعث ولا نشور ولا حساب، نقرأ في (إشعيا 43: 17): «يضطجعون معا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلة انطفأت.» وفي (إرميا 51: 39): «ينامون نوما أبديا ولا يستيقظون.» وفي (أيوب 14: 10-12): «أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يسلم الروح، فأين هو؟ قد تنفد الحياة من البحيرة والنهر يجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم.»
على أن احتكاك محرري أسفار التوراة بالفكر الديني الفارسي في المنفى إبان حكم قورش الأول، قد أدى إلى ظهور أفكار ضبابية حول الثواب والعقاب وخلاص الروح بعد الممات، ولكن النصوص المتعلقة بهذه الأفكار قد بقيت غامضة وعرضة للتأويلات والتفسيرات المتباينة. وانعكس هذا التردد على المسيحية في فتراتها الأولى قبل استقلالها عن اليهودية، حيث بقي المعتقد المسيحي في بدايات تشكله دون موقف واضح من مسألة خلود الروح الفردية وخلاصها، وتخبط فترة لا بأس بها قبل أن يتوصل إلى قرار حاسم بخصوصها. ويظهر لنا إنجيل نيكوديمس المنحول هذا الموقف الغامض؛ فالسيد المسيح بعد أن يسلم الروح على الصليب، يهبط إلى العالم الأسفل ويحرر الأنبياء والقديسين فيرفعهم معه إلى السماء، أما بقية سكان الهاوية فلا نعرف شيئا عن مصيرهم.
7
فإذا نظرنا إلى أديان الهند والشرق الأقصى عامة، وجدنا أن معتقداتها في الروح والخلود لا تتفق وفكرة خلود الشخصية الفردية؛ فالبوذية تنفي وجود الروح الفردية، كما تنفي وجود جوهر روحي يحل في الأحياء عبر تناسخات متتالية، وما الفرد إلا حالة عابرة لا تتكرر، في سلسلة تقمصات الكارما التي تئول إلى الانطفاء التام في النيرفانا. أما في الهندوسية، فرغم التوكيد على وجود جوهر روحي ثابت محكوم بالتناسخ في الأجساد، وقادر على تحقيق الانعتاق النهائي، إلا أن هذا الجوهر الخالد لا يتطابق في الواقع مع أي من الشخصيات المفردة التي تجسد فيها، عبر مليارات السنين التي قضاها في الانتقال من ظهور إلى آخر. من هنا، فإني لا أرى فارقا كبيرا بين مفهوم النفس الهندوسي، الذي هو حالة عارضة لجوهر ثابت، ومفهوم اللانفس البوذي الذي هو حالة عارضة بلا جوهر ثابت؛ لأننا إذا جردنا مفهوم الروح (أو الجوهر الثابت) في الهندوسية من كل الحالات الشخصية التي صارت إليها قبل انعتاقها، فإنها تفقد محتوياتها من الأفعال والذكريات وتغدو خاوية بلا ماهية أو قوام، لتذوب في الفراغ العظيم عقب انسلاخها عن آخر تقمصاتها. فأي فرق إذن بين ذوبان الروح الكامل في براهمان كما يذوب النهر في المحيط، وبين انطفاء سلسلة الكارما في النيرفانا البوذية، طالما أن الروح لا تعيش استقلاليتها خارج سلسلة التناسخ إلا لتذوب في المطلق؟
إن الخوف من الموت والطمع في الخلود لا يكمنان في أساس الدين ولا يبعثان على نشوئه، والنظرية العاطفية قاصرة على تسويغ وجود أديان لا تقدم لأتباعها مثل هذا العزاء، وذلك من أكثرها بدائية وبساطة إلى أكثرها تجريدا وتفلسفا. مما لا شك فيه أن بعض الأديان قد صاغ تصورا بهيجا عن خلود للشخصية الفردية في عالم مثالي قادم، وأنه قد استخدم فكرة الخلود الشخصي من أجل تثبيت مثله الأخلاقية والتمكين لنواظمه التشريعية، إلا أن دراستنا لتاريخ الدين تظهر بكل جلاء أن معتقدات الروح الفردية وخلود الشخصية قد بنيت على المعتقد الديني، ولم تشكل في أي وقت باعثا من بواعث الدين.
إن رفضنا للاتجاهات التفسيرية المستعرضة أعلاه،
8
نامعلوم صفحہ