Dictionary of Renowned Poets of Prophetic Praise
معجم أعلام شعراء المدح النبوي
ناشر
دار ومكتبة الهلال
ایڈیشن نمبر
الأولى
اصناف
[تقديم]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة ١٢٨- ١٢٩]
صدق الله العظيم
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم بقلم الدكتور ياسين الأيوبي من نعم الله على المرء، متاع فكري يزدهي به ويسمو على ما حوله من متع الحياة الدنيا وأطايبها البائدة..
وما من نعمة تفوق كتابا يضم بين دفتيه، خلاصة القرائح، وصفوة المعاناة الروحية، يعتصرها سدنة الكلمة، وأهل العرفان، وهم في نشوة العبادة، ومنتهى الشوق للثم العتبات، وارتشاف النفحات المحمدية.
والأمتع من ذلك كله، أن تتحقق المتعة في رمضان، شهر العبادة والابتهالات.. شهر البرّ والانعتاق، الذي عدله الله بكل الشهور، بل فضّله على كل الشهور..
وهكذا كان..
فقد رغب إليّ الأخ الدكتور محمد درنيقة، في مطلع هذا العام أن أقرأ كتابه الموسوم: «معجم أعلام شعراء المدح النبوي»، وأضع أوزان أشعاره وأضبطها ضبطا عروضيا سليما. فلم أتردد بالموافقة، ووعدته إنجازا خلال شهر رمضان.
وإذا بي أمام حصيلة نيّرة من عيون الشعر النبوي، جمعها الدكتور درنيقة من حدائق العصور وموائد الشعراء، منذ البردة الكعبية (نسبة إلى كعب
1 / 9
بن زهير) حتى بردة أحمد شوقي، وما تلاها من قصائد مماثلة إلى يومنا هذا، قاطعا بذلك أربعة عشر قرنا ونيّفا، وقرابة خمسمائة شاعر وعالم ومجاهد وكاتب.. وقفوا جميعا بباب الرحمن ملبّين وصاته الأزلية في الصلاة على النبي، والسلام عليه وعلى آله وصحبه..
كلمة «١» صدرت عن العزة الإلهية، تلقاها الإنسان.. فأقبل عليها واستجاب لصاحبها؛ وأضحى الكلام على النبي ﷺ ضربا من التبرّك والزلفى إلى الملك القدوس الذي أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم.
كلمة واحدة: «صلّوا» .. وانطلقت الألسن والشفاه تصوغ أجمل الكلام، وتوقّع أعذب الألحان في مختلف المناسبات والمقامات، لتصلي على النبي المختار، وتنشر له أجمل الأشعار.
هل الصلاة على الرسول، كالصلاة لله العظيم؟ ..
حاشا لله ولرسوله! .. هنا عبادة، وخشوع، وتبتّل، وضراعة، وضمور، وانتهاء ... وهناك التحبّب، والتكريم، والتفاني، والمديح، والتقرب، بكل الصيغ والأساليب.. وليس كالشعر سبيلا لتجسيد هذه الصلاة، وتحقيق مضمونها وتشريف قائلها..
لم يعد مدح الرسول ﷺ صفة تحبّبية يسعى إليها الشاعر، والعابد، والمصلّي؛ بل هي فريضة منزّلة يجزى عليها صاحبها أجمل الجزاء وتحسب له في سجلّه الآخروي أضعاف أضعاف ما تجترح يداه من سيئات، ويرتكب من أخطاء.
فلا نعجبنّ من هذا الكمّ الهائل من قصائد المدح المحمّدي، يطالعنا عبر الحقب والأجيال. ولا سبيل إلى محاسبة أحد على ما سطّر قلمه، وجوّد لسانه، لأن المدح ههنا، دواء لقائله وصائغه، وبلسم لسامعه وقارئه؛
إن أحسن وأبدع، فله أجران: أجر الصلاة الامتداح، وأجر الإجادة
_________
(١) إشارة صريحة إلى الآية ٥٦ من سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
1 / 10
والتحسين، وإن اكتفى بالصلاة والامتداح المجرّد، فالأجر مضمون لا ينقص منه مثقال ذرّة.
فمن لم يؤت ملكة التصوير الفني الشعري الرفيع.. عمد إلى طاقتي التعبير اللغوي- ومشاعر التبجيل، اللتين نشأ عليهما فمارسهما وأتقنهما بصورة أو بأخرى، سواء بالنظم- وما أكثر الناظمين في هذا الباب- أم بالتقليد والعدوى اللذين يشبّ عليهما الكتاب والعلماء في شتى الحقول..
وإذا نحن أمام قائمتين من المدّاحين: قائمة الشعراء الملهمين، وقائمة الكتّاب الناظمين: كلتاهما مادحة (مصلّية)، مؤمنة محسنة، تنتزع منا التأييد والإشادة مهما قلّ الكلام وانقبض المعنى.
وهو ما استشعرته طوال قراءتي لهذا الشعر النفيس مما كتبه الأخ درنيقة وجمعه، ورتّبه.. فلم يصدمني مدح نبوي واحد من بين المئات والألوف من المدائح التي اشتمل عليها كتابه.. لا لشيء، إلّا لأنها ضمّخت بألطاف رمضان وإشراقاته، وترجيع أنواره المباركة التي تشبه المرتاض في حديقة مترامية الأطراف، فيها من كل الأزهار، والأطيار، والثمار.. كيفما التفتّ لفحك النّور، وشنّفك الغناء، وطابت الثمار.. من غير أن تميّز فيها الكزّ، والناشز، والباهت..
ولو كانت القراءة في غير هذا الشهر، لأمكن تمييز الغثّ من الثمين، والكزّ من الرطيب وإن بنسبة ضئيلة.
تلك هي النعمة السّنيّة التي أنعم الله بها عليّ في شهر التوبة والطهارة، نعمت بها على مدى الثلاثين يوما؛ لا ضجر، ولا ضيق، ولا نفور.. لأن قلم الدكتور محمد سلس، بعيد عن تكلف المحبّرين، وتقعّر اللغويين.
ونهجه واضح يقتصر على التعريف بالعلم وباثاره.. بسطور لا تضطر معها إلى المراجعة إلّا للاستزادة.. منتهيا إلى زبدة التعريف وهي: المدحة النبوية التي اختصرها الكاتب، واكتفى منها بما يؤكد الصلاة المحمدية، ويسلط ضوآ على معاني الشاعر وطريقته ومنحاه.
ولئن فات زميلنا الباحث، الغوص على جماليّات الشعر المدحي،
1 / 11
واستخراج لآلئه النورانية- على غرار ما عرفناه في بعض كتبه، ولا سيما الصوفية- فقد عوض ذلك بالإكثار من الشواهد، وذيّل- لمن يرغب- بكثير من المصادر والمراجع.
وقد يؤخذ على الكتاب الكثير من الاختصار في إثبات النماذج المدحية لدى طائفة من الشعراء، والإسهاب لدى طائفة أخرى.. والسبب هو اكتفاء صاحبه باعتماد قواميس التراجم والمؤلّفات، التي تعرّف بالعلم وباثاره ولا تعنى بإيراد الشواهد..
ولو بذل الدكتور درنيقة جهودا إضافية في البحث والتنقيب، لسدّ هذه الثغرة.. وربما أجابنا، بأن كتابه يتناول أعلام المدح النبوي، لا شعرهم وهذا صحيح.
ومع ذلك، فسيكون صنيعه أتمّ، وجهده أعظم، لو عزّز التعريف بشيء من الشواهد..
ولكن طبيعة الموضوع الذي ندب محمد درنيقة نفسه له، محفوف بالنقص، والقصور، لأن مدّاحي الرسول ﷺ لا يحصيهم قلم، ولا يحبسهم لسان، ولا تحتويهم ذاكرة..
كذلك هي المدائح والصلوات الشعرية. ناهيك بأن كاتبنا، عني بالأعلام، لا الأقلام، والنوع لا الكمّ..
فهل يتسع المجال لعمل موسوعي، أكبر وأشمل؟ ..
لا أظن ذلك عسيرا على من وقف دراساته كلها تقريبا، على التصوف الإسلامي، وتبيان معالم السنّة النبوية الشريفة..
سدّد الله خطاه.. وأجزل له العطاء وأحسن إليه.. وأثابه..
طرابلس- لبنان.
الثاني من شوال سنة ١٤١٤ هـ
الموافق ١٤ آذار سنة ١٩٩٤ م.
ياسين الأيوبي
1 / 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
لقد بعث الله تعالى الأنبياء والرسل لهداية بني البشر، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور ولتزكية نفوسهم، وإرشادهم لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. ولقد كان هؤلاء المبعوثون على مستوى رفيع من الخلق القويم، لأنه على المرء أن يقتدي بهم في أعمالهم وسلوكهم؛ لذلك فهم أكمل أفراد النوع الإنساني، ولكنهم، في الوقت نفسه، يتفاوتون فيما بينهم في الكمال «فمنهم الكامل والأكمل. ولم يتعين أحد منهم بما تعين به ﷺ في هذا الوجود من الكمال الذي قطع له بانفراده فيه. شهدت له بذلك أخلاقه وأحواله وأفعاله وبعض أقواله. فهو الإنسان الكامل، والباقون من الأنبياء والأولياء الكمل ملحقون به لحوق الكامل بالأكمل، ومنتسبون إليه انتساب الفاضل إلى الأفضل» «١» . فالرسول ﷺ أفضل الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وكافة الخلق أجمعين، إفرادا وإجمالا؛ أي أنه أفضل من كل فرد منهم على حدته، وأفضل من مجموعهم لو اجتمعوا. و«لا سبيل إلى معرفة فضائله ﷺ ومزاياه، معرفة تحيط به من كل الوجوه، ولو اجتمع لذلك كل من عداه، إذ لا يعرف حقيقته ولا يحيط بفضائله ﵊ إلا الله. وما زال مهرة العلماء يغوصون في
_________
(١) البيرنادر، التصوف الإسلامي (بيروت ١٩٦٠) ص ١٥٣.
1 / 13
لجج بحورها الزواخر، فيستخرجون منها روائع اللآلي وبدائع الجواهر، فمنهم من نظمها عقودا زيّن بها جيد الزمان، ومنهم من نثرها على بساط البسيطة فاستغنى بها أهل المعرفة والإيمان، ألّفوا فيها الكتب ودونوا الدواوين، ورووا أخبارها عن كل صادق أمين» «١» .
وقد تعرض مؤرخو السيرة النبوية لمسألة تفضيله ﷺ على سائر الأنبياء والمرسلين، فأشبعوها بحثا ودراسة، مستندين إلى البراهين الساطعة والحجج الدامغة المأخوذة من القرآن الكريم ومن أحاديث خاتم النبيين. وهذا ما فعله أبو نعيم الأصبهاني في كتابه دلائل النبوة «٢» . كما تباروا في رسم صورة واضحة عن خلقه وخلقه، وذكر نسبه، ووصف عبادته، وسرد بعض معجزاته ...
لقد اشتهر النبي ﷺ بحسن أخلاقه، وكمال أدبه، قبل الإسلام وبعده، واتصف منذ بداية حياته بالاستقامة والصدق والأمانة وثقة الجميع به. ثم بعد الرسالة، بقي مثالا للأدب الرفيع وللخلق الكامل. فكان ﷺ «أحلم الناس، وأعدلهم وأعفهم، وأشجعهم وأسخاهم. وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ويجيب دعوة المظلوم، ويجالس الفقراء والمساكين، ويؤاكلهم، ولا يحتقرهم لفقرهم وزمانتهم «٣» . وكان يصل ذوي القربى، من غير إيثار على من هو أفضل منهم. ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشر بالبر إليهم، ولا يجفو على أحد. وكان أشد الناس أمانة وصبرا، وأكثرهم تواضعا وحياء ولينا وبشرا» «٤» .
وصفه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ض) بقوله: «كان النبي ﷺ دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب، ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يوئس منه. قد
_________
(١) يوسف النبهاني، الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية (بيروت ١٣١٢ هـ) ص ٢- ٤.
(٢) أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة (حيدر آباد ١٣٢٠ هـ) ص ١٤.
(٣) أي: عاهاتهم أو تعطل بعض القوى.
(٤) صبحي محمصاني، الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية (بيروت ١٩٧٩) ص ١٠٠.
1 / 14
ترك نفسه من ثلاث: الرياء والإكثار وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث:
كان لا يذم أحدا ولا يعيبه ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير» «١» .
«ومناقبه ﷺ ومحاسنه قد ملأت الوجود شهرة، ولو اجتمع الخلق على أن يحصوها كان وصفهم من بحرها قطرة. وإنه ما يهتدي أحد من خلق الله ﷿ إلى معرفة ما حوى خلقه الحسن من المحاسن الكريمة، وجميل الأخلاق الكاملة العظيمة، وقد أجمل الله تعالى من وصفه في محكم تنزيله ما لا يتسع الدفاتر لتفصيله فقال في الذكر الحكيم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم/ ٤] «٢» .
ذلك أن أبرز سمة في شخصيته المتعددة الجوانب أخلاقيته التي لا نظير لها «فلو أنك جمعت كل خلق عظيم في العالم، وكل تصرف أخلاقي سليم تصرّفه في يوم من الأيام إنسان، فإن ما تجده في حياة رسول الله ﷺ يربو على هذا كله مجتمعا. مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته ﵇، مما لا تستطيع معه أن تجد في حياته كلها تصرفا يمكن أن ترى أعظم منه في باب الأخلاق عند غيره ﷺ» «٣» . قال تعالى يثني على أخلاقه ﷺ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم/ ٤] وليس بعد ذلك ثناء، فإن أعظم ما يمكن أن يتحلى به المرء هو الأخلاق الحسنة. ومع ما قيل في هذه الآية الكريمة من أنها تكريم وتمجيد ومدح وثناء «ومع إيماننا بأنها تتضمن كل المعاني الكريمة التي قيلت والمعاني الشريفة التي ستقال. فقد يتساءل بعض الناس عن هذا «الخلق العظيم» أكان يشارك رسول الله ﷺ فيه نبي مكرم؟ أكان يشاركه فيه رسول مجتبى؟ أكان يشاركه فيه ملك مقرب؟
يسعفنا القرآن الكريم بهذا التحديد إسعافا يرضي المتطلع إلى المعرفة،
_________
(١) عبد الله اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان (بيروت ١٩٧٠) ١/ ٢٨- ٢٩؛ محمد البتنوني، الرحلة الحجازية (القاهرة ١٣٢٩ هـ) ص ٢٦٧؛ محمد الكاندهلوي، حياة الصحابة (دمشق ط أولى) ١/ ٤٤ و٣/ ١٢٨- ١٢٩.
(٢) اليافعي، مرآة الجنان ١/ ١٩ و٢٦.
(٣) سعيد حوى، الرسول ﷺ (بيروت ١٩٦٩) ١/ ١٣٦.
1 / 15
ويشرح صدور المحبين لرسول الله ﷺ: إن القرآن يحسم الأمر حسما، لا يدع فيه مجالا للبس: يقول الله تعالى لرسوله الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام/ ١٦٢] هذه الآية الكريمة تحدد درجة الأخلاق القرآنية التي وصل إليها الرسول: إنها ذروتها وسنامها» «١» .
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في شرف المصطفى ﷺ وفي ذكر خصائصه الطيبة وخلاله الحميدة ... فالنبي ﷺ مبشر ونذير، وداع إلى الله بإذنه والسراج المنير وهو رحمة للعالمين، بالمؤمنين رؤوف رحيم ...
قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح/ ٤] وفيها يقول الإمام الشافعي «إن معنى قول الله تعالى ورفعنا لك ذكرك: لا أذكر إلا ذكرت معي» «٢» . ففي كل يوم مليارات الشفاه تتلفظ باسمه ﷺ، وملايين القلوب تحن إليه، وملايين النفوس تطرب وتهتز لسماع اسمه.
وقد فرض الله سبحانه طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر/ ٧]» .
وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران/ ١٣٢] . وقال أيضا: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران/ ٣٢] .
قال القاضي عياض في شرح هذه الآيات: «فجعل (الله تعالى) طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب. وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء/ ٨٠] يعني من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله
_________
(١) الحافظ الذهبي، السيرة النبوية، تحقيق القدسي (بيروت ١٩٨١) ص ٣١٩- ٣٢٠؛ را: محمد رضا، محمد رسول الله (بيروت ١٩٧٥) ص ٤٠٠.
(٢) يوسف النبهاني، الأحاديث الأربعين في فضائل سيد المرسلين (بيروت ١٣١٥ هـ) ص ٦.
(٣) را: الأصبهاني، دلائل النبوة، ص ٨.
1 / 16
فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله. وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء/ ٨٠] فإن من أعماه الله عن الرشد، وأضله عن الطريق فإن أحدا من خلق الله لا يقدر على إرشاده. وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي، وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة لله تعالى. وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي [آل عمران/ ٣١] والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل به طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى. قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء/ ٦٩] . فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية في المراتب الشريفة عنده تعالى» «١» .
عن ابن عباس (ض) أنه قال: «ما خلق الله ﷿ وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد ﷺ، وما سمعت الله ﷿ أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر/ ٧٢] «٢» .
كذلك لم يصل إلينا أن الله تعالى قد دافع عن نبي، وفنّد مزاعم أعدائه كما فعل مع النبي محمد ﷺ: فلما قال المشركون للرسول «إنك لمجنون» أجاب الله تعالى عنه الأعداء قائلا: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم/ ١] . وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يسب حبيبه تولى بنفسه جوابه.
ولما نعته قومه بالأبتر جاء قول الله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر/ ٣] أي عدوك ومبغضك هو المقطوع الذليل الحقير.
ولما قالوا: «إفترى على الله كذبا» . قال تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
_________
(١) النبهاني، الأنوار المحمدية، ص ٣٩١- ٣٩٣.
(٢) ابن منصور، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، تحقيق روحية النحاس (دمشق ١٩٨٤) ٢/ ١٠١، الأصبهاني، دلائل النبوة، ص ١٢.
1 / 17
بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سبأ/ ٨] .
ولما قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا [الرعد/ ٤٣] أجاب الله تعالى عنه:
يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس/ ١- ٣] .
ولما قالوا: إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات/ ٣٦] ردّ الله تعالى عليهم: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات/ ٣٧] .
ولما قالوا: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور/ ٣٠] رد الله تعالى عليهم: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس/ ٦٩] . ولما حكى الله عنهم قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان/ ٤] كذبهم الله تعالى بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان/ ٤] .
وقال ردا لقولهم أساطير الأولين: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان/ ٦] .
ولما قالوا: يلقيه إليه الشيطان قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشعراء/ ٢١٠] .
ولما تلا عليهم نبأ الأولين، قال النضر بن الحارث: «لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين» . قال الله تعالى تكذيبا لهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء/ ٨٨] .
ولما قال الوليد بن المغيرة: «إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر» قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات/ ٥٢] .
ولما قالوا: «محمد قلاه ربه» . رد الله عليهم: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى/ ٣] . ولما قالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان/ ٧] قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان/ ٢٠] .
1 / 18
ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر. قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء/ ٩٥] أي لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر «١» . وهكذا يستمر المولى ﷿ في دفاعه عن هذا الرسول الكريم بما لم نعهده عند أي رسول آخر.
ومن المعلوم أن الدعوة إلى إطاعته، والمدافعة عنه، ومعرفة بعض شمائله الشريفة تدفع المرء إلى محبته ﷺ؛ لأن الإنسان مجبول على محبة وتقدير الصفات الجميلة وكل من اتصف بها. فكيف إذا كانت محبته تحقق رضاء الله تعالى وسعادة الدارين.
قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة/ ٢٤] .
ويكفي هذا الرسول الكريم فخرا أن الله سبحانه قد جعل إتّباع الرسول يستوجب محبته سبحانه للمتبع، وغفران ذنوبه، وبكلمة، تبديله من حال الشقاء إلى السعادة والهناء. قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران/ ٣١] . هذه الآية تسمى آية المحبة: «قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها إتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم. فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، ويستحيل ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله ﷺ. فدل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره» «٢» .
_________
(١) را: النبهاني، الأنوار المحمدية، ص ٣٩٨- ٤٠٠.
(٢) النبهاني، الأنوار المحمدية، ص ٣٩٣.
1 / 19
ومحبة الرسول ﷺ منزلة كبرى يتنافس فيها المتنافسون ويسعى إليها العاملون. وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال. وإذا كان المرء يحب من أسدى إليه معروفا، أو أنقذه من تهلكة أو دفع عنه مضرة عارضه؛ فما بالك بمن وقاه من العذاب السرمدي. وإذا كان الإنسان يحب غيره على ما فيه من صورة جميلة، وأخلاق طيبة، فكيف بهذا النبي الكريم الذي جمع محاسن الأخلاق، والذي بفضله منحنا الله تعالى خيري الدنيا والآخرة؛ لذلك وجب أن تكون محبتنا له أوفى من محبتنا لأنفسنا وأهلنا وأموالنا والناس أجمعين. روى البخاري عن أبي هريرة (ض) أنه ﷺ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» . وروى البخاري أيضا عن عمر بن الخطاب (ض) أنه قال للنبي ﷺ: «لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فقال النبي ﷺ:
لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه. فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إليّ من نفسي التي بين جنبي. فقال له النبي ﷺ الآن يا عمر. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال ما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله. قال أنت مع من أحببت. قال أنس (ض) فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ أنت مع من أحببت. وقوله ﷺ: المرء مع من أحب» «١» .
وقال علي بن أبي طالب (ض): «كان رسول الله ﷺ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا» «٢» . «ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنّة من الحرم ليقتلوه. قال له أبو سفيان بن حرب أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحب أصحاب محمد
_________
(١) النبهاني، الأنوار المحمدية، ص ٤١٠ وص ٦٣٠؛ مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم (بيروت دار الآفاق الجديدة) ٨/ ٤٢؛ ابن قيم الجوزية، روضة المحبين (بيروت دار الكتب العلمية) ص ٤١٢.
(٢) م. ع. ص ٤١١- ٤١٣.
1 / 20
محمدا» «١» . «وبلغ من محبة أصحابه ﷺ أن عبد الله بن زيد كان يعمل في بستانه فأتاه ابنه فأخبره بوفاة النبي ﷺ فقال: اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمدا أحدا» «٢» .
روي أن امرأة من الأنصار استشهد زوجها وأبوها وأخوها يوم أحد.
فقالت: ما فعل رسول الله ﷺ؟ قالوا: خيرا هو بحمد الله كما تحبين.
فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فلما رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة) «٣» .
فلا حياة لقلب المؤمن إلا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله ﷺ. ومن استشعر هذه المحبة قرت عينه بحبيبه، وسكنت نفسه إليه، واطمأن قلبه به، واستأنس بقربه، وتنعم بمحبته.
ولمحبة المؤمن للرسول ﷺ علامات منها:
الاقتداء به واستعمال سنته وسلوك طريقته والإهتداء بهديه لقوله تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب/ ٢١] .
الرضا بما شرعه الرسول ﷺ، وألايجد المؤمن في نفسه حرجا مما قضى لقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء/ ٦٥] فقد سلب المولى ﷿ صفة الإيمان عن كل من لا يرضى بحكم الرسول ﷺ ويسلم لهذا الحكم. وهذه القضية تعود إلى قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم/ ٣] فالأحكام الصادرة عن الرسول ﷺ إنما هي أحكام صادرة عن الله تعالى. يؤكد ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح/ ١٠] .
_________
(١) م. ع. ص ٤١١- ٤١٣.
(٢) م. ع. ص ٤١١- ٤١٣.
(٣) را: م. ع. ص ٤١١.
1 / 21
نصر دينه بالقول والفعل، والذود عن شريعته، والتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والصبر والتواضع ... فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، فاستلذ بالطاعات، وتحمل المصاعب والمشقات في الدين، وآثر ذلك على أعراض الدنيا الزائلة.
عدم الإكتراث للمصائب والرزايا، لأن القلب غارق في المحبة التي تنسي صاحبها المصائب.
الإكثار من ذكره ﷺ، لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره.
تعظيم الرسول ﷺ عند ذكره وإظهار الخشوع والخضوع والإنكسار مع سماع اسمه، لأن كل من أحب شيئا خضع له. ومما يذكر في هذا السياق أن كثيرا من الصحابة (ص) إذا ذكروا اسم الرسول ﷺ، بعد وفاته، خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا. كذلك كان كثير من التابعين ومن تبعهم يفعلون ذلك محبة له وشوقا إليه وتهيبا وتوقيرا.
شدة الشوق إلى لقائه. وكان هذا حال الصحابة (ض) . فإذا اشتد بهم الشوق ولواعج المحبة قصدوا الرسول ﷺ واستشفعوا بمشاهدته، وتلذذوا بالجلوس معه والنظر إليه، والتبرك به ﷺ.
حب القرآن الكريم الذي أتى به هدى للناس والذي تخلق به. وإذا أردت أن تعرف مقدار محبة المرء لله تعالى ورسوله ﷺ فانظر إلى محبة القرآن من قلبه والتذاذه بسماعه: هل هو أعظم من التذاذ أهل الملاهي والطرب. فإذا كان سماع الآلات يولد الوجد والطرب والنشوة دون سماع القرآن فهذا دليل على فراغ القلب من محبة الله تعالى ورسوله ﷺ.
فمن اتصف بهذه العلامات فهو كامل المحبة لله تعالى ولرسوله؛ ومن خالف بعضها كانت محبته ناقصة «١» .
ولئن دعانا المولى ﷿ إلى محبة الرسول ﷺ، فإنه سبحانه قدوتنا
_________
(١) را: النبهاني، الأنوار المحمدية، ص ٤١٤- ٤٢١.
1 / 22
في هذا المجال. عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: «ما خلق الله خلقا أحب إليه من محمد ﷺ» «١» . وكما خصه سبحانه بمحبته كذلك فضله على كافة المخلوقات في الدنيا والآخرة، وخصه بالشفاعة والمقام المحمود:
فهو ﷺ سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، وأول الخلق إجازة على الصراط بأمته، وأول داخل إلى رب العالمين، وأول الخلق إجازة على الصراط بأمته، وأول داخل إلى الجنة ... وقد خص بالمقام المحمود ولواء الحمد، تحته آدم فمن دونه من الأنبياء. واختصاصه بالسجود لله تعالى أمام العرش، وكلام الله تعالى له: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع؛ ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى. وقيامه على يمين العرش الذي يغبطه عليه الأولون الآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم ...
وهو ﷺ صاحب الوسيلة التي هي أعلى درجة في الجنة.. إلى غير ذلك مما يزيده الله تعالى به جلالة وتعظيما وتبجيلا وتكريما على رؤوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين لقوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة/ ٥٤] وقوله أيضا: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء/ ٤١] .
عن أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» «٢» . وفي رواية:
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد. وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» «٣» .
وقال ﷺ: «لكل نبي دعوة يدعوها فأنا أريد إن شاء الله أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» «٤» .
_________
(١) الذهبي، السيرة النبوية، ص ٣٧٦.
(٢) م. ع. ص ٣٧٦؛ صحيح مسلم ٧/ ٥٩.
(٣) ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ٢/ ١٠٥.
(٤) مالك بن أنس، الموطأ (بيروت ١٩٧٩) ص ٣٢٢؛ صحيح مسلم ١/ ١٣١.
1 / 23
وعنه ﷺ أنه قال: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا» «١» . وفي الحديث: «إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا.
وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (ض) أن رسول الله ﷺ قال:
أشفع لأمتي حتى ينادي ربي فيقول: أرضيت يا محمد؟ فأقول نعم رضيت» «٢» . وهذا تفسير آية: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى/ ٥] .
وقال أيضا: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي ... ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة» «٣» .
ومما يدل على تمام محبته ﷺ، وعلى شرفه العظيم، وعلو منزلته كثرة أسمائه وألقابه.
وقد ورد بعض هذه الأسماء في القرآن الكريم، وبعضها ورد في الأحاديث الصحيحة، كما ورد بعضها في الكتب السماوية السابقة.
أما ما ورد في القرآن فهي: محمد وأحمد والرسول والنبي والشاهد والبشير والنذير والمبشر والمنذر والداعي إلى الله والسراج المنير والرؤوف الرحيم والمصدق والمذكور والمزّمّل والمدّثّر وعبد الله والكريم والحق والمبين والنور وخاتم النبيين والرحمة والنعمة والهادي وطه ويس.
وأما ما في الأحاديث فمنها: الماحي (الذي يمحو الله به الكفر) والحاشر (الذي يحشر الناس على قدمه) والعاقب (لأنه عقب غيره من الأنبياء) والمقفّي (ليس بعده نبي) ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملاحم ورحمة مهداة والمتوكل والفاتح والخاتم والمصطفى والمختار والأمين ...
_________
(١) صحيح مسلم ١/ ١٣٠.
(٢) الكاندهلوي، حياة الصحابة ٣/ ٤٦٨ وص ٤٧٠.
(٣) النبهاني، الأحاديث الأربعين، ص ٩.
1 / 24
وأما ما في الكتب السالفة فمنها: الضحوك وحمطايا (حامي الحرم من الحرام) وأحيد (الذي يحيد النار عن أمته) وبارقليط أو فيرقليط (روح الحق) «١» .
روى الترمذي في الشمائل قوله ﷺ: «أنا محمد وأنا أحمد وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة والمقفّي وأنا الحاشر ونبي الملحمة» «٢» . وعن أبي موسى الأشعري قال رسول الله ﷺ: «أنا محمد وأحمد والحاشر والمقفي ونبي التوبة والملحمة» «٣» . «ومحمد اسم علم، وهو منقول من صفة من قولهم:
رجل محمد، وهو الكثير الخصال المحمودة. والمحمد في لغة العرب: هو الذي يحمد حمدا بعد حمد مرة بعد مرة» «٤» .
وذكر النووي في تهذيب الأسماء عن ابن عباس (ض) قال: «قال رسول الله ﷺ: اسمي في القرآن محمد وفي الإنجيل أحمد وفي التوراة أحيد» «٥» .
أما ألقابه ﷺ فهي كثيرة جدا منها: صاحب البراق وصاحب التاج، والمراد به العمامة لأن العمائم تيجان العرب، وصاحب الخاتم والعلامة وصاحب البرهان والحجة وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود وصاحب الفضيلة وصاحب الوسيلة وصاحب الدرجة الرفيعة وصاحب الشفاعة وسيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجلين، وحبيب الله وخليل الله والعروة الوثقى والصراط المستقيم والنجم الثاقب
_________
(١) را: سيد الشبلنجي، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (بيروت المكتبة الشعبية) ص ٢٥؛ الأصبهاني، دلائل النبوة، ص ١٢؛ أحمد النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب (القاهرة ١٣٧٤ هـ/ ١٩٥٥ م) ١٦/ ٧٣ و٧٨. «وفي الإنجيل قال المسيح للحواريين: أنا ذاهب وسيأتيكم الفيرقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما هو كما يقال له، وهو يشهد علي به» (أحمد الزيدي، إثبات نبوة النبي (المكتبة العلمية دون تاريخ) ص ١٦٦) .
(٢) الذهبي، السيرة النبوية ص ١٠.
(٣) صحيح مسلم ٧/ ٨٩- ٩٠.
(٤) النويري، نهاية الأرب ١٦/ ٧٥.
(٥) الشبلنجي، نور الأبصار ص ٢٥.
1 / 25
ورسول رب العالمين والمصطفى والمجتبى والمزكى ... «١» .
ومحبة المسلمين للنبي ﷺ دفعتهم إلى محبة البقاع التي تشرفت بنشأته وترعرعه، ولا سيما المدينة المنورة حيث ضريح أكرم مرسل؛ لذلك نراهم قد أكثروا من وضع الأسماء لها كما فعل أحد الشعراء بقوله [من الرجز]:
«خذ جملة يا صاح من أسماء ... مدينة الهادي من الأسواء
محمد نبيّنا المشرّف ... الهاشميّ المصطفى البرّ الوفي
فطيبة طيّبة وطابه ... وطائب تعرف بالإطابه
حبيبة بيت الرسول والحرم ... وحرم الرسول فاحفظ ما انتظم
ودار الأيمان ودار السّنّة ... ودار فتح مع دار الهجرة
حسنة مختارة مرزوقة ... مؤمنة مسكينة محفوظة
مدخل صدق قبة الإسلام ... شافية من جملة الآلام»
«٢» ومن المعلوم أن قلوب المحبين تتطلع نحو طيبة، وأرواحهم تتشوق لزيارة قبر الرسول الشريف ومسجده المنيف. فقد اتفق المسلمون على أن هذه الزيارة تعتبر من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، وهي السبيل إلى الوصول إلى أعلى الدرجات. وكل من اعتقد بغير ذلك فقد خالف الله ورسوله والعلماء الأعلام: «قال القاضي عياض إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغّب فيها: فقد روى الدارقطني من حديث ابن عمر (ض) أن رسول الله ﷺ قال: من زار قبري وجبت له شفاعتي. وروى الطبراني أن النبي ﷺ قال: من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون شفيعا له يوم القيامة» «٣» .
وعن أنس بن مالك (ض) قال: قال رسول الله ﷺ: «من زارني في
_________
(١) را: م. ع. ص ٢٥؛ النويري، نهاية الأرب ١٦/ ٧٣ و٧٤ وص ٧٩.
(٢) محمود شكري آلوسي، بلوغ الأرب في أحوال العرب (بغداد ١٣١٤ هـ) ١/ ١٩٥.
(٣) ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق ٢/ ٤٠٦؛ تقي الدين السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام (بيروت ١٩٧٩) ص ٢؛ الشيباني، تمييز الطيب من الخبيث (بيروت دار الكتاب العربي) ص ١٦٧.
1 / 26
المدينة محتسبا كان في جواري وكنت له شفيعا يوم القيامة» «١» .
وروى الدارقطني وغيره عن ابن عمر (ض) أن النبي ﷺ قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» «٢» . وعنه ﷺ أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» «٣» . وعن أبي هريرة (ض) أن النبي ﷺ قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» «٤» . إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين فضل الزيارة وثواب الصلاة في المسجد النبوي الشريف؛ الأمر الذي يدفع جماهير المؤمنين لزيارة هذه الأماكن المقدسة، والمجاورة فيها تائبين مستغفرين مصلين ومسلّمين: «أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار أن ابن عمر (ض) كان إذا أراد سفرا، أو قدم من سفر جاء قبر النبي ﷺ، فصلى عليه، ودعا ثم انصرف» «٥» .
وكان أهل الأندلس من أرق المسلمين شوقا لزيارة الرسول ﷺ؛ لأن بعد المزار غزا قلوبهم بأقباس الحنين كما نرى في قول ابن العريف [من البسيط]:
«شدّوا المطايا وقد نالوا المنى بمنى ... وكلّهم بأليم الشوق قد باحا
سارت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبيّ المصطفى لهم ... راح إذا سكروا من أجله فاحا
يا راحلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على شوق وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا»
«٦» قال القاضي عياض: «ولا خلاف أن موضع قبر النبي ﷺ أفضل بقاع
_________
(١) النويري، نهاية الأرب ١/ ٣٢٢.
(٢) الشيباني، تمييز الطيب، ص ١٦٥.
(٣) م. ع. ص ١٤٤. متفق عليه عن أبي هريرة.
(٤) م. ع. ص ٩٨.
(٥) مالك بن أنس، الموطأ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف (بيروت ١٩٧٩) ص ٣٣٤.
(٦) أحمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت ١٩٦٨) ٤/ ٣٣١؛ زكي مبارك، التصوف الإسلامي (بيروت دار الجيل) ١/ ٢٠٩.
1 / 27