في الكشف عن أسرار كلام الوصي (السفر الأول)
المجلد الأول
الإمام المؤيد بالله
أبو الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني
تحقيق
خالد قاسم محمد المتوكل
تصدير
لعل التساؤل الأول الذي يبرز إلى أذهان كثير ممن يطلع على "نهج البلاغة" هو سؤال الانتساب. هل هذا الكتاب حقا يجمع بعضا مما قاله وكتبه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام؟ أم أن الشريف الرضي رحمه الله قام بتأليفه كله ، أو أجزاء منه ثم قام بنسبته للإمام ؟
تعدد الإجابات إزاء هذا التساؤل المشروع بين "سنية" و"شيعية" و"معتزلية" تسعى جميعا، على اختلاف أساليبها، وتباين منطلقاتها، إلى إثبات أن مضمون "نهج البلاغة" هو لعلي بن أبي طالب
وبين التساؤل والإجابة تختفي قضية في غاية الأهمية
هذا السؤال يخفي واقعا مؤلما نعيشه، يتعلق بطبيعة تفكير المسلمين اليوم، ومنذ أمد بعيد. وهي النظر إلى العلوم أولا من خلال النظر إلى مصدرها، وليس إلى مضمونها. فلا يهم ما يقال، بقدر من قال. والسبب يعود إلى عنصر آخر يتعلق بدور العقل المسلم في معرفة وتقييم القضايا الدينية على وجه الخصوص. فبقدر ما يغيب العقل عن هذه الساحة، بقدر ما يكون أي موضوع ذا صبغة دينية معتمدا على القائل، وليس على القول. ولا شك في أن ما ينسب للإمام علي له صبغته الدينية المتفردة، إن مضمونا، لكثرة ما فيه من قضايا تعالج مفردات دينية متنوعة، أو انتسابا من حيث مقام الإمام علي الديني كصحابي جليل لدى بعض المسلمين، أو كوصي لدى بعض آخر.
هذه النظرة ستجعل الاستفادة من نهج البلاغة متوقفة بدرجة كبيرة على إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام علي.
صفحہ 1
وواقع الحال، أن خطب وكلمات نهج البلاغة، لا يمكن أن تثبت كلها كلمة كلمة إلى الإمام علي باستعمال المناهج الصارمة للمحدثين باختلاف طوائفهم. وغاية ما يمكن أن نعمله هو أن نثبت الانتساب الإجمالي للنهج إلى الإمام علي، بحيث نقول إن مجموع الكتاب له نسبة إلى الإمام، وأما بعض مفرداته فقد تصح عنه، وقد لا تصح . وعليه، فإن هذا المنهج سيحرمنا كثيرا من الاستفادة من هذا السفر العظيم.
وأما إذا انطلقنا من حيث أن الكلام يستمد صحته وصوابيته من ذاته أولا بذاته، من خلال العقل، وليس من خلال قائله، فإن نظرتنا إلى نهج البلاغة واستفادتنا منه ستختلف. حينها، سننظر إلى النهج من حيث مضامينه التي تفتح لنا آفاقا للتأمل والتفكير. مضامين قد نختلف معها، كما قد نوافقها، ولكنها في نهاية الأمر تثير عقولنا لاستكشاف أبواب لم نكن على اطلاع عليها.
إن نهج البلاغة من حيث مضمونه بحر متلاطم من المعاني الروحية، والصراعات السياسية، والحكم التأملية، والنظرات الفلسفية، والمشاهدات العلمية، يخوضه المرء فيجد نفسه ينتقل من موج إلى موج، كل ذلك من خلال أسلوب أدبي في غاية الرقي .
صفحہ 2
إن هذا السفر النفيس، يجسد شخصية الفيلسوف المتأمل لما وراء الطبيعة، من خلال الكلمات التي قيلت في الله تعالى، وفي أصل الكون. كما نجد فيه شخصية الفارس من خلال الخطب الحماسية التي تدفع أجبن الناس إلى خوض ساحات الوغى. وتلتفت هناك فتجد فيه شخصية الحكيم الذي اختبر الحياة قرونا من الزمان، فجاءت منه الكلمات التي تدلنا على طريقة الحياة بشكل منساب لا تكلف فيه، وبعمق لا نظير له. كما تجد فيه شخصية المنظر السياسي من خلال الكلمات التي أرشد بها عماله إلى طرائف الحكم. كما تجد العارف بالله الذي لا يرى لوجوده، بل ووجود كل ما حوله إلا تجليا لعظمة الله ولقدرته. كما تجد الخاشع لله، الذي لا هم له إلا بأن يلتئم وجوده مع إرادة الله جل جلاله وعز سلطانه. وتجد أيضا شخص المراقب الذي ينظر إلى ما حوله من الخلق، فيصفه. وتجد السياسي الذي يحاول أن يوازن بين مجموعة كبيرة من المتناقضات التي اتسم بها عصره، ولكن من خلال وسائل وطرائق لا تبعده عن أصل مراده، وأهم غاياته. ثم تجد أن كل تلك السمات تتداخل معا بحيث تخرج بكثير منها من خلال خطبة واحدة أحيانا.
وفي كل ذلك تجد وحدة ووحشة لرجل لم يكن من حوله قادرا على استيعاب مراده، ولا على الوصول إلى مقامه. ولذلك تجد في خطابه لمن حوله، نفثة الحسرة، حسرة من يرى الآفاق كلها، ولكن بغير أن يقدر على أن ينقل الناس إليها. لقد كان يريد أن يسبح بهم في ملكوت الله، وأن يرتفع بهم إلى مقامات الكرامة والعزة، ولكن أرادوا الاستكانة، وطلبوا الدعة، فكانت عليهم الذلة في الدنيا والسخط في الآخرة.
صفحہ 3
لا شك، أن عظمة الكتاب، التي تكشف عن عظمة قائلها، تثير فينا الفضول نحو معرفة هذه الشخصية التي جمعت في آن واحد جملة من السمات المتضادة... ومن هذا المنطلق فحسب، قد نسعى لتحقيق نسبة الكتاب.. ولكن ليس من منطلق الاستفادة منه. هذه الشخصية التي يقف المرء أمامها حائرا، شخصية لا تنتمي إلى زمن من عرفناهم من البشر... شخصية من تلك التي تقف بين مليارات الخلق ممن مضى، وممن سيأتي...
وكأي عظيم، فإن نهج البلاغة بما فيه من معان وآفاق، كان بحاجة إلى دراسة، إلى تأمل، إلى قراءة لا تكون عابرة، وإنما قراءة مستلهمة، ومقارنة، ومتعمقة، بحيث لا تأخذ ما في النص أخذا عجلا ، وإنما تنظر فيه وتضعه في سياق الوقائع والمعاني ....
وقد تحصل لهذا الكتاب من الشروح والتعليقات والحواشي ما جعله نصا متفردا استطاع استيعاب الكثير من المدارس والتيارات والفهوم التي أخذت تجول وتصول بحثا عن دقائق معانيه وفرائد مبانيه.
ومن تلك المحاولات الرائعة هذا الكتاب الذي بين يديك.
ومؤلفه من تلك الشخصيات التي اتسمت بكثير من السمات التي كانت للإمام علي عليه السلام. فقد جمع بين الشجاعة والإقدام وأخلاق الفارس الذي لا يداهن الظلمة مع ورع شديد وعبادة ووله وخشوع مع صدق نفس وديانة متينة فكانت قراءته للنهج قراءة من عاش جزءا كبيرا من تجربة صاحب النهج بحيث سرت روحه في سلوكه وتجسدت صفاته في حياته حتى بات مثالا يحتذي طيب الأصل وفرعا يتدلى من سموق تلك الشجرة المباركة.
ولا شك أن خير من يقرأ تجربة ما هو من يعيش تلك التجربة بذاته ويجسدها بسلوكه العملي بين الناس .
صفحہ 4
فلنقرأ الشرح مع المؤلف بعقلية المتأمل والمسائل والمحاور ... ولنتأمل في النهج معا نحن وإياه، بحيث نقرأه من خلال عقله وعقولنا، لتثمر بذلك القراءة ، وتتعمق المطالعة...
لقد ترك النهج بصمات كبيرة على أجيال متتابعة ... وكل أملنا أن تستمر آثاره، وأن تتوسع آفاقه الرحبة بحيث لا يكون للصراعات الضيقة دور في صرف الناس عنه ، وفي حرمانهم من الاستفادة منه.
والشكر موصول للمحقق الذي لم يتوان جهدا في تحقيق النص وتتبع موارده وتخريج نصوصه وشواهده مما أضفى حلة بهية على العمل فجزاه الله خيرا وبارك في وقته وعمله.
مؤسسة الإمام زيد بن علي (ع) الثقافية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق العدل المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وعلى أصحابه المنتجبين الأخيار.
وبعد ..
صفحہ 5
إن الحديث عن فضائل ومناقب وخصائص الإمام علي بن أبي طالبعليه السلام يطول ويطول جدا، إذ أنها جمة كثيرة وشهيرة، وليس في وسع الباحث أو الكاتب ضبط ذلك وإحصاؤه في مثل هذه العجالة، إذ أنه يحتاج في رقمه إلى مجلدات كبار، وتلك المناقب والفضائل قد اشتهرت بين الخاص والعام عند جميع المسلمين ومنذ العهد النبوي وبزوغ فجر الدعوة، على صاحبها وآله أفضل الصلوات والتسليم، فظهرت على الآفاق، وطارت كل مطار، وطفحت بذكرها المئات من المؤلفات والمصنفات، وتداولها الناس جيلا فجيل، وخلفا عن سلف، بين أوساط جميع المذاهب الإسلامية، وحسبك معرفة أنك لا تجد مذهبا من مذاهب المسلمين، إلا وقد ظهر من بين أبناءه من ألف وصنف في ذلك الباب، فعمرت المكتبة الإسلامية بالمئات من المصنفات الحافلة.
قال ابن أبي الحديد في كتابه (شرح نهج البلاغة)1/16-17، تحت عنوان: القول في نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام، وذكر لمع يسيرة من فضائله ما لفظه: (فأما فضائله عليه السلام؛ فإنها قد بلغت من العظم والجلالة، والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
صفحہ 6
قال: وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا، وحتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموا، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة.
وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى). انتهى ما نقلته من ابن أبي الحديد رحمه الله.
وغاية ما يمكن أن أقوله هنا: إن قلمي ولساني لعاجزان ومقصران عن إيفاء الإمام علي عليه السلام حقه، ولو بضرب من الاختصار والإيجاز، لكنني أقتطف نبذة يسيرة من فضائلهعليه السلام صاغها قلم العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في كتابه الروضة الندية في شرح التحفة العلوية ص392-410، حيث قال ما لفظه:
وكفاه كونه للمصطفى .... ثانيا في كل ذكر وصفيا
قوله: (وكفاه): أي كفاه شرفا وفخرا أنه يذكر ثانيا وتاليا لذكره صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه صفي ومختار لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم لما تقدم من إكرامه.
صفحہ 7
والبيت يشير إلى ما خص الله الوصي عليه السلام من إبقاء ذكره الشريف على ألسنة العالم من صبي ومكلف وحر وعبد ذكر وأنثى، فإنهم إذا ذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروه بذكره. وهذا من إكرام الله تعالى له فإنه ينشأ الصبي فيهتف: يا محمد، يا علي، والعالم والعامي وغيرهما، وهذا من رفع الذكر الذي طلبه خليل الله، في قوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}[الشعراء:84]، وهو الذي امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {ورفعنا لك ذكرك}[الشرح:4]، (وكفاه شرفا) أنه أول السابقين إلى الإسلام، (وكفاه شرفا) أنه أول من صلى، وأنه الذي رقى جنب أبي القاسم لكسر الأصنام، (وكفاه شرفا) أنه الذي فداه بنفسه ليلة مكر الذين مكروا به، (وكفاه شرفا) أنه الذي أدى عنه الأمانات إلى أهلها، (وكفاه شرفا) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الرأس من البدن، (وكفاه شرفا) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله منه، (وكفاه شرفا) أنه سلمت عليه الأملاك يوم بدر، (وكفاه شرفا) أنه الذي قطر أبطال المشركين في كل معركة، (وكفاه شرفا) أنه قاتل عمرو بن ود، (وكفاه شرفا) أنه فاتح خيبر، (وكفاه شرفا) أنه مبلغ براءة إلى المشركين، (وكفاه شرفا) أن الله تعالى زوجه البتول عليها السلام، (وكفاه شرفا) أن أولاده للرسولصلى الله عليه وآله وسلم أولاد، (وكفاه شرفا) أنه خليفته يوم غزوة تبوك، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة، (وكفاه شرفا) أنه أحب الخلق إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أنه أحب الخلق إلى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أن الله باهى به ملائكته، (وكفاه شرفا) أنه نودي من السماء: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي))، (وكفاه شرفا) أنه قسيم النار والجنة، (وكفاه شرفا) أنه أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أن من آذاه فقد آذى رسول الله، (وكفاه شرفا) أن النظر إلى وجهه عبادة، (وكفاه شرفا) أنه لا يبغضه إلا منافق وأنه لا يحبه إلا مؤمن، (وكفاه شرفا) أن فيه مثلا من عيسى بن مريم عليه السلام، (وكفاه شرفا) أنه ولي كل مؤمن ومؤمنة، (وكفاه شرفا) أنه سيد العرب، (وكفاه شرفا) أنه سيد المسلمين، (وكفاه شرفا) أنه يحشر راكبا، (وكفاه شرفا) أنه يسقي من حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين ويذود المنافقين، (وكفاه شرفا) أنه لا يجوز أحد الصراط إلا بجواز منه، (وكفاه شرفا) أنه يكسى حلة خضراء من حلل الجنة، (وكفاه شرفا) أنه ينادي مناد من تحت العرش: نعم الأخ أخوك علي، (وكفاه شرفا) أنه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصره ومع ابنته سيدة نساء العالمين، (وكفاه شرفا) أنه حامل لواء الحمد آدم ومن ولده يمشون في ظله، (وكفاه شرفا) أنه يقول أهل المحشر حين يرونه: ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل، فينادي مناد: ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولكنه علي بن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أنه مكتوب اسمه مع اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محمد رسول الله أيدته بعلي، (وكفاه شرفا) أنه يقبض روحه كما يقبض روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أنها تشتاق الجنة إليه كما في حديث أنس: ((تشتاق الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان))، (وكفاه شرفا) أنه باب مدينة علمهصلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أنها سدت الأبواب إلا بابه، (وكفاه شرفا) أنه لم يرمد بعد الدعوة النبوية، ولا أصابه حر ولا برد، (وكفاه شرفا) أنه أول من يقرع باب الجنة، (وكفاه شرفا) أن قصره في الجنة بين قصري خليل الرحمن وسيد ولد آدم عليه السلام، (وكفاه شرفا) نزول آية الولاية فيه، (وكفاه شرفا) أن الله سماه مؤمنا في عشر آيات، (وكفاه شرفا) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتجاه، (وكفاه شرفا) أكله من الطائر مع رسول الله، (وكفاه شرفا) بيعة الرضوان، (وكفاه شرفا) أنه رأس أهل بدر، (وكفاه شرفا) أنه وصي رسول الله، (وكفاه شرفا) أنه وزيره، (وكفاه شرفا) أنه أعلم أمته، (وكفاه شرفا) أنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تنزيله، (وكفاه شرفا) أنه قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، (وكفاه شرفا) أنه حامل لوائه صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة، (وكفاه شرفا) أنه الذي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتولى دفنه، (وكفاه شرفا) ما أعطاه الله تعالى من الزهادة والعبادة والبسالة، (وكفاه شرفا) ما فاز به من الشهادة والزلفى.
صفحہ 10
هذي المفاخر لا قعبان من لبن .... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (وكفاه شرفا) شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يحب الله ورسوله، (وكفاه شرفا) شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كرار غير فرار، (وكفاه شرفا) تهدده صلى الله عليه وآله وسلم لقريش بأنه يبعثه عليهم، (وكفاه شرفا) شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن الله امتحن قلبه للتقوى، وكفاه شرفا أنه من أهل الكساء، (وكفاه شرفا) أن الله سماه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفا) أنه ثان لرسوله في كتابة اسمه في ساق العرش، (وكفاه شرفا) أنه ثان لرسول الله في سؤاله من الله كلما سأله لنفسه، واستعاذته له من كل ما استعاذ منه لنفسه، كما أخرجه الإمام المحاملي، عن عبيد الله بن الحارث، قال: قلت لعلي بن أبي طالب: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول الله؟ قال: نعم، بينا أنا نائم عنده وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته، قال: ((يا علي، ما سألت الله عز وجل شيئا إلا سألت لك مثله، ولا استعذت بالله من شيء إلا استعذت لك مثله))، (وكفاه شرفا) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدخله في ثوبه يوم توفي واحتضنه إلى أن قبض، (وكفاه شرفا) أنه أعلم الناس بالسنة، (وكفاه شرفا) أنه أكثر الأمة علما وأعظمهم حلما، (وكفاه شرفا) أن الصحابة أحالت السؤالات -لما سئلوا- عليه، (وكفاه شرفا) أنه لم يكن في الصحابة من يقول: سلوني قبل فقدي غيره، (وكفاه شرفا) دعاء النبيصلى الله عليه وآله وسلم حين ولاه القضاء بأن يثبت الله لسانه ويهدي قلبه، (وكفاه شرفا) قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقضى أمته، (وكفاه شرفا) أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قرر قضاؤه وأعجب به، وقال: ((الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت الحكمة))، (وكفاه شرفا) أنه من سادات أهل الجنة، كما أخرجه ابن السري عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي)).
صفحہ 11
(وكفاه شرفا) لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أبغضه، كما أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة، عن أنس بن مالك، قال: صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، فذكر قولا كثيرا، ثم قال: ((أين علي بن أبي طالب؟ فوثب إليه، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فضمه إلى صدره وقبله بين عينيه، وقال بأعلى صوته: ((معاشر المسلمين، هذا أخي وابن عمي، وختني، هذا لحمي ودمي وشعري، هذا أبو السبطين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هذا مفرج الكرب عني، هذا أسد الله وسيفه في أرضه على أعدائه، على مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين، والله منه بريء وأنا منه بريء، فمن أحب أن يبرأ من الله ومني فليبرأ من علي، وليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال: اجلس يا علي، قد عرف الله لك ذلك)).
(وكفاه شرفا) اشتياق أهل السماوات والأنبياء في الجنة إلى عليعليه السلام، كما أخرجه الملا في سيرته عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما مررت بسماء إلا وأهلها مشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة نبيء إلا وهو مشتاق إلى علي بن أبي طالب))، (وكفاه شرفا) أن الله تعالى باهى به حملة العرش، كما أخرجه أبو القاسم في فضائل العباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم صف المهاجرين والأنصار، وقال: ((هبط علي جبريلعليه السلام، وقال: إن الله عز وجل باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السماوات العلا، وباهى بي وبك يا علي وبك يا عباس حملة العرش))، فهذه والله هي الرتب التي لا يبلغها أحد من العجم ولا العرب.
صفحہ 12
رتب ترجع الأماني حسرى دونها ما وراءهن وراء (وكفاه شرفا) أنه يخصم الناس بسبع، كما أخرجه أبو نعيم في الحلية، من حديث معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: ((تخصم الناس بسبع لا يحاجك أحد من قريش: أنت أولهم إيمانا بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية)).
(وكفاه شرفا) أنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في انشقاق الأرض عنه، وفي وقوفه عند كفة الميزان، كما أخرجه السيوطي في جامعه، قال شاذان: (ثنا) أبو طالب عبد الله بن محمد بن عبد الله الكاتب بعكبرا، (ثنا) أبو القاسم [عبد الله بن محمد بن غياث الخراساني]، أبو جعفر بن غياث الخراساني، (ثنا) أحمد بن عامر بن سليم الطائي (ثنا) علي بن موسى الرضا "، حدثني أبي موسى، حدثني أبي جعفر، حدثني أبي محمد، حدثني أبي علي، حدثني أبي الحسين، حدثني أبي علي بن أبي طالب"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، إني سألت ربي عز وجل فيك خمس خصال فأعطاني: أما لأولى: فإني سألت ربي أن تنشق عني الأرض وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، وأما الثانية: فسألته أن يوقفني عند كفة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأما الثالثة: فسألته أن يجعلك حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر تحته المفلحون والفائزون بالجنة فأعطاني، وأما الرابعة: فسألت ربي أن تسقي أمتي من حوضي فأعطاني، وأما الخامسة: فسألت ربي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنة فأعطاني، فالحمد لله الذي من علي بذلك)).
صفحہ 13
(وكفاه شرفا) أنه ثان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشرف الذكر وأعلاه وأطيبه، وأدومه وأبقاه، وذلك في صلاته وملائكته والخلائق عليه صلى الله عليه وعلى الآل؛ وأمير المؤمنين عليه السلام رأس الآل، وقد علمهم صلى الله عليه وآله وسلم كيفية الصلاة، كما أخرج الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم المعروف بابن البيع في كتابه علوم الحديث: عدهن في يدي أبو بكر بن أبي حازم بن دارم الحافظ بالكوفة، وقال: عدهن في يدي علي بن أحمد بن الحسين العجلي، قال: عدهن في يدي حرب بن الحسن الطحان، وقال لي: عدهن في يدي يحيى بن المساور الحناط، وقال لي: عدهن في يدي عمرو بن خالد، وقال: عدهن في يدي زيد بن علي بن الحسين، وقال: عدهن في يدي أبي علي بن الحسين، وقال: عدهن في يدي أبي الحسين بن علي، وقال: عدهن في يدي علي بن أبي طالب، وقال: عدهن في يدي رسول الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عدهن في يدي جبريل، وقال جبريل: هكذا نزلت بهن من عند رب العزة:
اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم، بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وسلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد)).
صفحہ 14
مع كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
من الخصائص التي تميز بها أمير المؤمنين علي عليه السلام القدرة الفائقة على نظم خطبه ومواعظه وكتبه ورسائله وحكمه بأسلوب بلاغي وإنشائي جذاب وبلفظ فصيح وقوي سريع التأثير في النفوس لا يرقى إليه أحد، فتعلم الناس منه علوم البلاغة، قال ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح نهج البلاغة1/24 في تعداده لفضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ما لفظه: (وأما الفصاحة فهوعليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلم الناس الخطابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباته: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره). انتهى.
صفحہ 15
وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية الإمام علي ص143144: (وليس الإمام علي أول من كتب الرسائل وألقى العظات، وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية، ولكنه لا ريب أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب؛ لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلغين لا صياغة منشئين، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه، ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الإمام عليا تعلم الكتابة صغيرا، ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى إلى طور التفنن والتجويد، فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع، هو فيما نرى أول أساليب الإنشاء الفني في اللغة العربية، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن والاستفادة من قدرته وسياقه، وتأتى له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية، فديوانه الذي سمي (نهج البلاغة) أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية). انتهى.
صفحہ 16
وهكذا نرى أن الإمام عليا عليه السلام استطاع بأسلوبه ذلك أن يصوغ الكلام صياغة بليغة في مختلف المناحي الدينية والفكرية، وفي شتى الميادين العلمية والعملية، وهو في كل ذلك يحافظ على الجمال في التعبير، وسرعة تغلغله في طوايا النفوس وتأثيره، وشمول مدلوله وتركيبه، وهاك على سبيل المثال قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، فهذه الحكمة الجامعة تلقى من علماء البيان أشد الإعجاب وأصدقه، فها هو الجاحظ المعروف بأدبه وعلمه عند الخاص والعام، ينقل عنه الشهيد مرتضى المطهري في كتابه (في رحاب نهج البلاغة) ص23، ينقل عنه ثناءه على هذه الحكمة في كتابه (البيان والتبيين): (فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية، وكأن الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).
هذا بالإضافة إلى المكانة السامية التي تبوأها الإمام علي عليه السلام في حياة المسلمين وتأريخهم منذ بزوغ فجر الدعوة النبوية، وموقعه من نفس الرسولصلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره له وإشادته بمناقبه وفضائله وإظهار خصائصه ومزاياه على جموع الملأ من الناس وفي مختلف المحافل، كل تلك العوامل مجتمعة وغيرها كانت دوافعا قوية لالتفاف الناس حوله وإقبالهم على استماع كلامه ومواعظه والحرص الشديد على حفظها، ليشكل ذلك لهم منهجا وسلوكا يسيرون على ضوئه، ويحتذون على مثاله، فأمير المؤمنين عليعليه السلام مع الحق والحق معه، كما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
صفحہ 17
فحفظ الناس كلامه عليه السلام وتداولوه فيما بينهم، ونقله السلف للخلف رواية وتلقينا، ودرسا وتدريسا، وألفوا لجمعه وتدوينه الكتب، يقول الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد 1/5-6، بعد سياقه لسرد بعض خصائص الإمام عليعليه السلام، ما لفظه:
(كل هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة، وما صاحبها من نفح إلهي، وإلهام قدسي، مكنت للإمام علي من وجوه البيان وملكته أعنة الكلام، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها، وهيأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة، والرسائل الجامعة، والوصايا النافعة، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، والحديث يلقيه بلا تعمل ولا إعنات فيصبح مثلا؛ في أداء محكم ، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ، وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل، وينتقل في البدو والحضر، يرويه على كثرته الرواة، ويحفظه العلماء والدارسون؛ قال المسعودي: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول عنه الناس ذلك قولا وعملا.
صفحہ 18
ثم ظل هكذا محفوظا في الصدور، مرويا على الألسنة، حتى كان عصر التدوين والتأليف؛ فانتثرت خطبه ورسائله في كتب التأريخ والسير والمغازي والمحاضرات والأدب على الخصوص، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من أبواب المواعظ والدعاء، وفي كتابي الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام(1)، وابن قتيبة(2) منه الشيء الكثير(3)).
صفحہ 19
قال: (وإذا كان لكلام الإمام علي طابع خاص يميزه عن غيره من الخطباء، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مر العصور أن يفردوا لكلامه كتبا خاصة ودواوين مستقلة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على مر الأيام؛ منهم نصر بن مزاحم صاحب (صفين)(1)، وأبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي(2)، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي(3)، ومحمد بن عمر الواقدي(4)، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني(5)، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(6)، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي(7)، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي(8)، وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي(9)، ورشيد الدين محمد بن محمد المعروف بالوطواط(10)، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد(11) ، وغيرهم كثيرون، إلا أن أعظم هذه المحاولات خطرا وأعلاها شأنا، وأحسنها أبوابا، وأبعدها صيتا وشأوا هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي(1) في كتابه (نهج البلاغة)). انتهى.
وهذا يفسر لنا مدى الاهتمام الكبير الذي لقيه وحظي به كلام الإمام عليعليه السلام من قبل كوكبة من العلماء والمؤلفين والباحثين، ومنذ بداية عصر التدوين والتأليف، فجمعوا كلامه عليه السلام وأفردوا له كتبا خاصة به، ويوضح بدوره الأهمية العلمية الكبيرة المشتمل عليها كلامه عليه السلام، إذ أنه يشكل بدوره رافدا من روافد العطاء الديني والفكري والروحي والعلمي لدى جميع المسلمين، يشهد بصحة هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها))، وغير ذلك من الأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب.
صفحہ 21
وإذا كان من سبق ذكره من العلماء والمؤلفين ممن قد اهتموا بتدوين وجمع كلام الإمام علي عليه السلام في مؤلفات وكتب خاصة، فهناك أيضا طائفة أخرى كثيرا منهم، قد رووا وأوردوا كثيرا من كلامه عليه السلام في بعض من مؤلفاتهم منهم: الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة 424هالملقب بالناطق بالحق، فقد أخرج الكثير منه في كتابه الإمالي المسمى (تيسير المطالب في أمالي أبي طالب)، وسواء كان مذكورا في كتاب نهج البلاغة أم في غيره، وهو في جميع ذلك يرويه مسندا إلى الإمام علي عليه السلام، ومنهم الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني المتوفى، سنة 430هتقريبا، فقد أخرج وروى في كتابه (الاعتبار وسلوة العارفين) الكثير من كلام الإمام عليه السلام، وروى الأغلب والأكثر منه مسندا، بل كان في بعض من ذلك يرويه مسندا ومن عدة طرق، فيذكرها جميعا، ومنهم الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري المتوفى سنة 479ه، فقد أخرج وروى في كتابه المسمى (الأمالي الخميسية) كثيرا من كلام الإمام علي بن عليه السلام، رواه جميعه مسندا إلى الإمام عليعليه السلام، ومنهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 571ه، فقد أخرج وروى في (ترجمة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب من تأريخ دمشق) الكثير من ذلك، وهو في جميع ذلك يرويه مسندا إلى الإمام علي عليه السلام، هذا ومتابعة هذا الموضوع يطول جدا والغرض الإشارة.
صفحہ 22
ولما ظهر كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي رحمه الله، وأورد فيه ما اختاره من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، انبرى بعض من المتأخرين والمغرضين إلى التشكيك في صحة نسبته إلى أمير المؤمنين عليعليه السلام، وبنوا ذلك على أسس أوهى من خيط العنكبوت، ومزاعم نسجتها خيالاتهم وأوهامهم، لا تثبت بها أدنى حجة، ولا يقبلها عقل ولا لب، وهم في كل تلك التشكيكات والمزاعم لم يضيروا (نهج البلاغة) وصحة نسبة ما فيه إلى الإمام علي عليه السلام بشيء، ولم يرجع ضرر تلك التخرصات والتقولات إلا على أصحابها، فكتاب (نهج البلاغة)، لم تبله تلك المزاعم ولم تؤثر فيه، فهو باق وموجود بين أيدي العلماء والدارسين منذ جمعه، يتناقلونه ويتدارسونه ويرويه خلف عن سلف، وتزداد شروحه والدراسات والكتابات والبحوث حوله يوما فيوما، وفي مختلف العصور منذ أن جمعه الشريف الرضي وإلى عصرنا الحاضر، وفي كل ذلك تظهر محاسنه فيزداد جمالا وبهاء، ويتسع ظهوره وانتشاره، وصدق من قال:
وبضدها تتبين الأشياء
وقول من قال:
صفحہ 23