ذو النورین عثمان بن عفان

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
54

ذو النورین عثمان بن عفان

ذو النورين عثمان بن عفان

اصناف

وكان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يدع أحدا من بني تميم عائلا إلا كفاه مئونة عياله، ويزوج أياماهم ويقضي دين غارمهم، وأخرج صاحب الصفوة فيما أخرج من أخباره أنه باع عثمان أرضا بسبعمائة ألف حملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلا تبيت هذه عنده في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله ... فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم.

وعن سعدى بنت عوف امرأته أنها دخلت عليه يوما فرأته مغموما فسألته، ما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قالت: وما عليك؟ اقسمه. فقسمه حتى ما بقي منه درهم، وقال خازنه: كان المال الذي فرقه يومئذ أربعمائة ألف.

ونحن لا نشك في عظم هذه الثروات التي توافرت لهؤلاء النخبة من أجلاء الصحابة شيئا فشيئا من أيام النبي عليه السلام إلى ما بعد قيام الدولة الأموية، ولا نجري على عادة المحدثين الذين يتلقون أخبار العصور الماضية جملة واحدة بالشك أو بالنفي من غير بينة؛ فإن الرفض المطلق كالتسليم المطلق كلاهما من الآليات التي تحكم حكمها بغير تصرف ولا انتقاد، ومن الجائز أن الناقلين لم يتحروا الدقة في حساب الأرقام بالملايين والألوف والمئات كما نحسبها اليوم، ولكن الذي نعتقده أن مقادير تلك الثروات أكبر وليست أقل مما توحيه تلك الأرقام؛ لأنها اجتمعت من أربح التجارات في جميع العصور، وهي التجارة المتبادلة بين الشرق والغرب من طريق العراق والشام والجزيرة العربية مجتمعات. •••

لقد كان الملأ من قريش أغنياء مفرطين في الغنى أيام الجاهلية، وكان موردهم كله من مواصلات الحجاز بين اليمن والشام، ولم يكن لهم فوق ذلك سلطان على بقعة وراء الحجاز، بل كان سلطانهم في الحجاز نفسه عاجزا عن تأمين قوافلهم بغير المساومة بينهم وبين قبائل الطريق.

فلما استقر الأمن في الجزيرة العربية وامتدت الفتوح إلى العراق والشام وفلسطين ومصر، واطمأنت القوافل على هذه الطرق شرقا وغربا وإلى الشمال والجنوب، واتسعت مواصلات التجارة العالمية في تلك البقاع لم يكن مورد في العالم قط أعظم ولا أربح من هذا المورد الذي تهيأ لبيوت التجارة العريقة في قريش، ويكفي أن يسلم هذا المورد سنة في كل سنتين أو ثلاث؛ ليغنم منه التاجر الكبير ألوف الألوف، ويأخذ من ربح سنة ما يعوض وقف التجارة سنوات.

ومن المعلوم في العصور الحديثة أن شركة الهند الشرقية جمعت الملايين من أرباح تجارة دون هذه التجارة في السعة والضمان؛ إذ كانت تؤدي الضرائب والإتاوات في البحر والبر. ولا تملك خطوطا من المواصلات كتلك الخطوط التي تمهدت لأصحاب التجارات في الحجاز، أما أصحاب هذه التجارات فلم تكن عليهم ضريبة مفروضة غير الزكاة ونفقات الحراسة، وكانت أرباحهم معدنا خالصا أو عملة مقبولة في كل جهة من جهات العالم يومذاك، دون أن تتعرض لتقلب المضاربات في الأسواق بين أقصى المشرق في الهند وأقصى المغرب على الشواطئ الأطلسية.

فإذا قام على هذه التجارة العالمية عشرون بيتا أو ثلاثون بيتا من بيوت التجارة العريقة في مكة والمدينة؛ فليس من المبالغة أن يقال عنها: إنها كانت تملك الملايين وتعمل الفئوس في حطام الذهب والفضة، فربما كانت المبالغة هنا إلى القلة لا إلى التزيد في التقدير.

ويهمنا أن نلتفت إلى مصدر الثروات من التجارة تصحيحا لوهم الواهمين أنها قد اجتمعت كلها من غنائم القتال؛ فإن عطاء المقاتلين لم يكن يتفاوت هذا التفاوت في الأنصبة بين أكبر عطاء وأصغر عطاء، ولم يكن في وسع طلحة ولا الزبير ولا عبد الرحمن بن عوف أن يجمعوا من أنفال القتال ثروة تزيد على نصيب الأجناد بمثل ذلك الفارق الكبير.

وليس هذا كل ما يهم من تحقيق مصدر الثروة أو من الرجوع بأكثره إلى التجارة دون غنائم القتال؛ إذ المهم في الواقع أن المجتمع الذي تدور ثروته على الأعمال التجارية غير المجتمع الذي تدور ثروته على أعطية الجند من غنائم القتال دون سواها، فهما مجتمعان متغايران في آداب المعاملة وفي موازين الأخلاق وفي النظر إلى متع الحياة، وإذا التقيا معا في أقل من عمر الرجل الواحد فلا قرار ولا تفاهم بين موازين التجارة وموازين الجهاد إلى حين.

قال محمد بن سيرين: «كثر المال في زمن عثمان فبيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم.»

نامعلوم صفحہ