قلت: «الحقوق، ولو أنني أفكر أحيانا في الآداب.»
فقال: «إياك، إن الذي ستحصله من كلية الحقوق لا يمكن أن تحصله إلا من كلية الحقوق، أما الآداب فستستطيع أن تدرس علومها دون كلية. وها أنا ذا أمامك دراستي حقوق والماجستير والدكتوراه حقوق، ومع ذلك يقولون عني أني أديب.»
ولم أعد أفكر في كلية الآداب بعد ذلك، وتذكرت أن هذا الرجل الجالس أمامي نال الحقوق واللغة الأساسية الإنجليزية، وكذلك الماجستير، ثم نال الدكتوراه باللغة الفرنسية، إنه ظاهرة كونية هذا الرجل.
في هذا اليوم الذي ذهبت لأهنئه بشهادته ذات الرفعة والإباء، قال لي: «سأقص عليك قصة كلما رويتها أعجبت بأبطالها وحزنت لأنهم كانوا مع ذلك غزاة محتلين. يراعون العدل مع الأفراد، ولا يراعون العدل مع الأمم. في يوم من الأيام جاءني استدعاء إلى محكمة الإنجليز العسكرية. وحمل الاستدعاء ضابطان بريطانيان صحباني في سيارة محترمة إلى المحكمة. وجلست في مقاعد المحامين، حتى جاء دور القضية التي طلبت من أجلها، فنودي اسمي، ومثلت أمام المحكمة. وأمسك القاضي بجريدة السياسة، وسألني: «هل أنت رئيس تحرير هذه الجريدة؟» فقلت: «نعم.» قال: «أهذا يصح؟» وأشار إلى مقالة قرأت عنوانها فعرفتها، كانت مقالة يهاجم فيها د. طه حسين الأستاذ محمد أبو شادي، وكان الإنجليز يعتقلونه عند ظهور المقالة فتعجبت؛ ما هذا الذي لا يصح؟ إننا نهاجم رجلا أنتم تعتقلونه؟ ماذا في هذا؟ فقال القاضي: «في هذا أننا نعتقله. ألا تدري أننا حين نعتقله تصبح كرامته في أيدينا. كيف تهاجمون شخصا لا يملك الرد عليكم؟» فقلت بسرعة: «من هذه الناحية أنتم محقون، وأعدك ألا يتكرر هذا.» فقال: «شكرا.» وانصرفت، وأنا أتعجب كيف يكون للإنسان عندهم هذه القدسية، وتجدهم في معاملتهم للدول قراصنة، ولا ضمير على الإطلاق .»
توثقت صلتي بالمرحوم هيكل باشا، يزيدها أنها كانت علاقة عائلية؛ فوالدتي صديقة زوجته، وأبناؤه وبناته نعتبرهم طول عمرنا في بيتنا إخوة لنا.
وشاء القدر أن يلحق بالرفيق الأعلى عام 1957م، وأردت أنا والأستاذ الشناوي أن نقيم له حفل تأبين، وأخبرنا بذلك أحمد باشا عبد الغفار؛ فدعانا للقائه مع كبار رجال الحزب في نادي محمد علي، ولم نكن والشناوي أعضاء، فانتقل إلينا الباشا وأصدقاؤه في غرفة الضيوف، وعرضنا رأينا، وإذا بوزير سابق من وزراء الحزب أكن له كل إكبار وإجلال يقول: «والله أنا أرى الوقت ليس مناسبا، فالثورة الآن باطشة، وليست الحال كما كان عند وفاة المرحوم والدك، وأرى أن لا داعي أن تثير علينا البراكين، ونعطل مصالحنا.»
وساد بعض الصمت بعد حديث الباشا، فوجدت نفسي أقول في سرعة وفي حسم: «يظهر يا معالي الباشا أنني لم أحسن عرض فكرتي. أنا لم أحضر للقاء معاليكم والباشوات لنستأذن في إقامة الحفل، وإنما جئت أنا والأستاذ الشناوي لنخطركم أنني والأستاذ الشناوي سنقيم تأبين لهيكل باشا، ونسألكم فقط إن كان أحد منكم يحب أن يشترك فيه أم لا؟ إنما الحفل سيقام على أي حال يا معالي الباشا.»
وصمت الباشا فترة، ثم قال: «أفكر.»
أما الباشوات الآخرون فقد وافقوا على الاشتراك جميعهم في الحفل.
وأقيم حفل التأبين، وأشهد أمام الله وأمامكم أن الباشا الذي حاول أن يمنع إقامة حفل هيكل باشا ألقى كلمة اعتبرتها أنا أجرأ كلمة ألقيت في الحفل جميعا.
نامعلوم صفحہ