وأذكر أنني قلت لأحمد باشا يوم روى لنا هذه الحكاية: «ألم تكن قاسيا على الباشا دون ذنب له؟»
وضحك أحمد باشا، وقال: «لك حق، ولكن كنت أرد للباشا إساءة وجهها إلي قبل ذلك؛ فقد تجاهلني مرتين دون مناسبة، فأحببت أن أعرفه مقامه.»
وكان أحمد باشا عبد الغفار من أكرم الناس الذين عرفتهم في حياتي، وكان كثيرا ما يدعو أصدقاءه إلى الغداء أو العشاء في كلوب محمد علي، وكان في هذه الدعوات يغدق بغير حساب.
ولكن الأهم من ذلك أنه كان يحسن إلى المحتاجين في كرم لا مثيل له. فهو موطأ الأكناف، يوسع على الناس بكل ما يستطيع من جهد. وكان إذا عرف أن صديقا له في ضائقة سارع إليه دون أن يندبه أحد إلى هذا، وإنما يتبرع بالمبادرة، ويسعد غاية السعادة بأن يعطي ويحس بالرضا غاية الرضا أن الظروف أتاحت له أن يقف إلى جانب صديق مكروب. وكان أحمد عبد الغفار يقدر الرجولة، ويعجب بها غاية الإعجاب.
وكان أحمد باشا معروفا بالصوت المرتفع الجهير، ومن أطرف النكات التي تروى عنه أنه حين كان وزيرا للزراعة، جاء أحد أصدقائه ليقابله، فاستمهله السكرتير قائلا له: «إن الباشا مشغول.» وجلس الضيف، وإذا بصوت الباشا يملأ أجواء حجرة السكرتير، وشعر السكرتير بالخجل، فأراد أن يعتذر للضيف فقال: «لا مؤاخذة يا سعادة البك أصل الباشا يكلم تلا.» وتلا هي قرية الباشا، وفيها زراعته التي كانت معروفة في مصر جميعا أنها زراعة نموذجية لخبرة الباشا الفائقة بفلاحة الأرض. وتلا هذه قرية من المنوفية.
وإذا بالضيف يقول في سرعة خاطر رائعة: «ولماذا لا تقولون للباشا يكلم تلا بالتليفون بدلا من هذا الزعيق؟»
رحم الله أحمد عبد الغفار باشا الذي عاش رجلا، ومات رجلا على رغم كل ما أحاطه به الدهر في أخريات أيامه من تحديات واجهها في شموخ العظماء، وفي كبرياء الكرام. (6) الدكتور محمد حسين هيكل باشا
كنت كما أخبرتك في رأس البر حين ظهرت نتيجة الثقافة. ونلت شهادة الثقافة، وأصبحت طالبا بالتوجيهية. وأرحت عن كاهلي مشقة انتظار النتيجة، وانطلقت أقرأ ما كنت أهفو إلى قراءته من الكتب. وما كان انتظار النتيجة مانعي عن القراءة، ولكن ما أبعد الفارق بين قراءة مفزعة يملؤها رعب انتظار النتيجة، وقراءة هانئة خالية من الخوف. وكنت قرأت حياة محمد قبل هذا بسنوات، ولكن طاب لي أن أعيد قراءتها. وكنا في رمضان، فكنت أنزل إلى البحر حتى الساعة الواحدة ظهرا، ثم أعود إلى العشة وألبس ملابسي العادية، وأجر كرسيا ومظلة بحر، وكتاب «حياة محمد». ولا أشعر بالحياة، حتى تغرب الشمس، وأضيق بغروبها كل ضيق، وربما كانت هذه الأيام الوحيدة في حياتي التي كنت أرجو فيها وأنا صائم ألا يأتي الغروب.
وكان المرحوم محمد حسين هيكل باشا يصطاف في رأس البر معنا؛ فقد كان الجميع يصطافون في رأس البر في زمان الحرب العالمية الثانية التي أثرت أعظم الأثر في الدول المشتركة فيها وغير المشتركة.
وبعد الإفطار كنت أذهب مع أبي ليجلس مع أصدقائه في فندق كورتيل على النيل، وسألني هيكل باشا: «ماذا تقرأ الآن يا ثروت؟»
نامعلوم صفحہ