وبقيت السيارة لا أدري هل من أجل شفاعة والدتي، أم شفقة علي، أم من أجل القصيدة، أم من أجل كل هذا مجتمعا؟ والعجيب أنني نسيت هذه الواقعة التي حدثت عام 46 حتى ذهبت إلى الدوحة عاصمة قطر في أوائل السبعينيات، وبينما يجري معي المذيع حديثا في الراديو، فإذا به يفاجئني بحكاية السيارة كاملة، وبالأبيات التي نشرت بمجلة الصباح، والتي كنت نسيت أمرها تماما.
وهكذا كان أبي في معاملتي لي أنا وشامل أما إذا عامل أختي فالأمر مختلف كل الاختلاف؛ فهو يفيض عليها ألوانا من الحب الذي لا يحاول أن يتخفى ولا يستتر.
أما والدتي فقد كانت تفيض عن نهر متدفق من الحنان والرحمة والحب، ولكنها مع ذلك كانت تعرف متى تغضب ومتى تعاقب، تذكر لها سيدة جليلة من قريباتنا أنها دخلت يوما إلى منزلنا فرأتني واقفا أمام مرآة أرجل شعري ومن خلفي أمي كلما رجلت أنا شعري نكشته هي وأنا أصر على الترجيل، وهي تصر على النكش؛ فقد كانت تأبى لي منذ الطفولة أن يكون اعتزازي بشعر مرجل.
وأذكر أنا أنني كنت في الابتدائية، وكان الامتحان قد اقترب، ودخلت أمي إلى حجرة نومي، فوجدتني أقرأ في كتب غير كتب المدرسة، فثارت علي ثورة جامحة، وكنت واثقا من مكانتي عندها، فرأيت أن أهددها بهذه المكانة، فإذا أنا أصيح: «والله العظيم أنتحر.»
فإذا هذه الأم التي تعبد أولادهما بعد الله، والتي لم تتجاوز في تعليمها مرحلة القراءة والكتابة تذهب إلى الشباك في خطى واثقة ثابتة جليلة، وتفتح الشباك وهي تقول في حسم: تفضل انتحر.
وانكسرت حدتي وعلمت منذ ذلك اليوم أن الموت قد يصب الذعر في نفس الأم إذا اقترب من ابنها، ولكن الخيبة أيضا تفعل الأمر نفسه.
كان أبي وأمي في طليعة الجيل الذي كان ينادي كل منهما الآخر باسمه مجردا. وقد يدهش القارئ من هذا الذي أقول، وربما تزول هذه الدهشة إذا علم أن الجيل السابق لهما، وكثيرا من جيلهما كان الزوجان من أبنائه يتناديان بالألقاب، فتقول الست فلان باشا أو فلان بك، ويقول الرجل: يا هانم أو يا فلانة هانم، وهذا ما لم نشهده نحن في بيتنا، وإنما شهدته في بيوت بعض أقاربنا ممن هم في جيل أبي وأمي.
كان أبي متحضرا في ثقافته تحضرا لا أراه في كثير ممن يعيشون معنا الآن، كان أبي مثلا يعجب بالكتاب الروائيين وكتاب المسرح إعجابا لا حدود له، وربما يرجع ذلك إلى ثقافته الفرنسية الواسعة، وإلى حبه للغة الفرنسية وإجادتها إجادة المثقفين من أبنائها. وإني أرى كثيرا من الأدباء المعاصرين، وخاصة من الشعراء لا يعتبرون الرواية أو القصة أدبا على الإطلاق، ويكثر هؤلاء بصورة واضحة في الشعراء العرب خاصة.
وقد شعرت في أسفاري في البلاد العربية أنني لو لم أكن من كتاب المقال الأدبي والسياسي ما وضعني هؤلاء الشعراء في عداد الأدباء أو الكتاب.
ومن مظاهر الحضارة المذهلة في خلق أبي أنني حين كنت في السابعة من عمري، وكنت في السنة الأولى الابتدائية بمدرسة المنيرة أعجبت بالموسيقى، وكان بالمدرسة فرقة موسيقى يشرف عليها عازف الكمان الشهير إسماعيل العقاد، وانضممت أنا إلى هذه الفرقة، وطلبت من أبي أن يشتري لي آلة كمان لأعزف عليها؛ ففرح لمطلبي فرحا بالغا، وسارع بشراء الكمان، وكان ثمنها في ذلك الحين خمسة جنيهات. وناهيك بخمسة جنيهات في سنوات الأزمة الطاحنة، إلا أنني للأسف أخلفت ظنه، ولم أفلح في العزف على الكمان، ولم أتجاوز في هذا الفن عزف السلم الموسيقي. •••
نامعلوم صفحہ