نعم يا أبي، لقد كنت أعلم أنك واقف على كل خطوة في حياتي لا تخفى عنك خافية، وقد كنت أبيح لمن أعرف أنه يلقاك أن يعرف من أمري كل شيء.
أبي، أتراني جاحدا لأني انقطعت عنك طوال هذه الفترة، أبي، أتراني ظالما لحق الأبوة إن لم أقصد إليك هذه السنوات جميعها، أتراني أبي كذلك؟ لا، وحقك لم أكن.
أبي، طوال عشر سنوات كنت أراك في كل أسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثة، كنت يا أبي أتخفى وراء الجدران في مواعيد خروجك من المنزل وأطمئن وأترقبك وأزود نفسي بمحياك ثم أعود إلى الحياة وحدي، ولقد مرضت يا أبي فكنت أرسل إلى عمي زيدان خادمك الذي تولى أمري بعد وفاة أمي، كنت أرسل إليه وأنا خارج الدار أعرف دقائق مرضك، وأنصرف بعد أن أستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يخبرك بمقدمي، نعم يا أبي، أدري أنك كنت تتمنى في لحظات مرضك هذا أن تراني، ولكن هذه الفكرة التي تسلطت على ذهني ووجداني منعتني أن أفعل، منعتني أن أنتهز فرصة مرضك لأستمنحك الرضا وأسألك الغفران، تذكر يا أبي أنك طردتني في اليوم ذاته الذي ظهرت فيه نتيجة الليسانس وكنت ناجحا بتفوق، طردتني يومذاك وأنا عائد إلى المنزل في الهزيع الأخير من الليل، رأيتني قبل عودتك أجلس إلى مائدة في حانة أشرب الخمر، وأنت رجل يخاف الله، وأغضبك أن يشرب الخمر ابنك الذي تعرفه يقيم الصلاة في مواقيتها، كبر في نفسك أن يخادعك ولدك فيصلي في البيت ويشرب الخمر في الحانة. أعرف أن فكرة مخادعتي هذه هي التي أثارتك، أعلم ولكن ...
أبي وحياتك لم أشرب الخمر، لم أشربها يومذاك ولم أشربها حتى اليوم، ولكن أكنت تصدقني حينئذ لو دفعت التهمة عن نفسي، لقد رأيتني رأي العين فكيف ينهض إنكاري دون رؤيتك.
لقد كنت هناك في الحانة ولكن صحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟
طردتني يومذاك وأعلم أنك كنت تقدر أنني سأغيب عن البيت بضعة أيام أعود بعدها، وإلا فأين أولي وجهي وأنا خريج جديد بلا مال ولا مأوى ولا وظيفة، كان تقديرك معقولا حكيما، وقد أردتني أن أحس سوء الذنب الذي ظننت أنني ارتكبته، ذنب المخادعة ولكنك حين طردتني يا أبي أردت أن أثبت لك حبي كاملا خالصا عميقا متينا فكانت هذه الفترة الطويلة التي لم ترني فيها.
كان في جيبي تلك الليلة خمسة جنيهات هي كل مالي، قضيت الليل سائرا وكان الصيف عطوفا حانيا فلم أكن في حاجة إلى مكان أبيت فيه، قضيت الليلة مع أريكة في حديقة، عجيبة، نعم أنا ابنك الذي كنت ترعاه رعاية مرهفة مدللة، ابنك الذي كانت له حجرة خاصة منذ لا يذكر متى، والذي كان يسعى بين يديه الخدم، ابنك هذا قضى ليلته مع أريكة في حديقة .
وفي الصباح الباكر قصدت صديقا أبوه من كبار المحامين ورجوته أن يلحقني بمكتب أبيه، ورحب بي المحامي الكبير وجعل لي راتبا ظنه هو رمزيا، واعتبرته أنا حياتي التي لا حياة لي إلا به.
كان مرتبي عشرة جنيهات في الشهر، وعملت. عملت بكل جهدي وبكل ضميري وبكل إحساسي، وأشهد يا أبي أنك نشأتني فأحسنت، فكان العمل عندي واجبا مقدسا، لا أتخلف عن أقل دقائقه شأنا، وقرأت وتأملت القضايا وكنت أطالب بالمزيد منها، فما مر عامان حتى كان اسمي معروفا لدى المحاكم، وحتى كان مرتبي ثلاثين جنيها، ولكني رجوت أستاذي أن يسمح لي بتركه لأفتح مكتبي الجديد، وفتحته وثابرت واجتهدت وقرأت اسمي يا أبي في الجرائد مرات عديدة؛ فقد أصبح الناس يعتبرونني من أحسن المحامين. وأنني أملك اليوم ثروة تغنيني إلى المدى الطويل، وأنا ما أزال في بواكير الشباب الأولى، وأني أحب عملي ولا أتركه.
لهذا يا أبي أجدني خليقا بأن أجثو عند قدميك أطلب الصفح والغفران فهل تراك تصفح؟ كنت أعيش هذه السنوات مع كفاح، لا أمل لي إلا في هذه اللحظة التي أنا فيها الآن؛ أن أراك تقرأ خطابي الذي كتبته وقدمته لك بيدي وأنا راكع عند قدميك حتى تقيني بيديك.
نامعلوم صفحہ