كان أبي ينتظر أن أتم تعليمي حتى يزوجني لها، وكان أبوها ينتظر الشيء نفسه حتى يتم هذا الزواج.
وكنا جارين، ولعل هذا الجوار فرض علينا رقابة أشد، والعجيب في الأمر أن أبي كان أشد دقة في رقابته من أبيها؛ فلم يكن يسمح لها أن تخلو إلي لحظة؛ فإن جاءت البيت فهو فيه لا يبرحه حتى تخرج مهما يكن وراءه من أعمال. وإن حاولت أن أذهب إلى بيتها كان حريصا أن يعلم بوجود أبيها هناك.
نعم، كنت يتيم الأم منذ الطفولة الباكرة، وكانت ترعى أمري امرأة كبيرة السن وأنا في المهد، وظلت قائمة على شأني حتى اليوم، وكان أمرها كأمري، امرأة كبيرة ترعاها منذ لا تعرف متى وما زالت في بيتهم حتى اليوم، نعم حتى اليوم.
لم يكن أبي، ولا أبوها، يكتفي برقابة هاتين الحاضنتين، وكانتا تفرضان علينا قيودا قاسية نلقاها بالبشر، والابتسامة المختلسة، وبالمخادعة الطويلة أن نحظى بلقاء مهما يكن قصيرا بعيدا عن أعين الرقباء.
أتسألني ماذا كنا نقول في هذه اللقاءات؟ زوجان يعلمان أنهما زوجان ويتحدثان كزوجين بلا قبلات ولا عناق. وما حاجتنا إلى ذلك ونحن ننتظر الغد القريب فنتقبل ونعانق ما شاء لنا الهوى المشبوب والحب الطاهر العميق.
زوجان، أحدثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدثني عن شأنها وما مر بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي، ولكن كأن لنا نحن الدنيا بما وسعت، كانت سعادتي وحياتي التي أحيا لها وأملي الذي أسعى إليه، كان حبي كل شيء لي، وما أظنه إلا كان كل شيء لها.
كنت أحدثها عن المدرسين حين كنت تلميذا صغيرا، وكانت تحدثني عن المدرسات، ثم صرت أحدثها عن الجامعة والمحاضرات، وكانت تحدثني عن البيت وما تلقى فيه من كسل الخادم وإلحاح الباعة حين بلغنا بواكير الشباب. وأظل بعد اللقاء ساعات أعيش اللقاء مرات ومرات، وأتمثلها وهي تحكي أو تسمع، تضحك أو تغضب، ثم أفيق إلى كتبي أنصب عليها في وعي وإصرار، أتعجل الأيام والسنين ليجمعنا البيت بلا رقيب إلا الحب، ولا أعين من أبيها ولا أبي.
لم يكن أبي غنيا ولا كان أبوها؛ فقد كانا من الموظفين القدامى الذين يعتمدون على الستر أكثر اعتمادهم على الريع، وكان الستر يكفينا، فملابسنا نظيفة وبيوتنا توفر لنا ما نهفو إليه من راحة، وكان أبوها يعلم دخل أبي، يعلمه كما يعلم دخل نفسه، كما كان أبي يعلم خاصة شأنهم لا يجهل من أمرهم أمرا، وكانا متفقين على الزواج وكل منهما على علم تام بحال الآخر. كان الزواج مقررا لا شك فيه، كان كذلك، حتى نجحت في السنة الثالثة في الكلية وأصبحت على أعتاب السنة النهائية، وكان رأي أبيها ورأي أبي أن نقضي جميعا الصيف في الإسكندرية، فانتقلنا إليها.
وهناك كنا نقضي يومنا جميعا معا لا نفترق حتى لقد كنا نأكل معا، وتولت هي القيام بشأنها وأعطاها أبي نصيبا من المصاريف، وكأنما أراد أبي أن يشعرها بقرب الزواج، وكأنما أراد أن تضم العائلة حياة واحدة، فلم يكن يفصل بين سكناها وسكنانا غير جدار، عشناها حياة واحدة تزيدنا الرقابة المفروضة علينا شغفا ومتعة، وتلتقي العيون منا في عناق طويل يسخر من الرقابة، ويفضي بنا إلى عالم علوي مليء بالهوى والأحلام والآمال.
يا لها من أيام! إن كنت أحسست بذاتي، أو كنت أحببت حياتي فمن ضياء هذه الأيام.
نامعلوم صفحہ