عمى، عمى كامل، ولا أمل في الإبصار. لم تكن عبثا هذه السعادة الطويلة؛ فقد كانت الأيام حبالى عن مستقبل شائه أسود مقيت، عمى، وهو المهندس، ماذا يصلح للدنيا بعد اليوم، لا شيء، إلا هذا الكرسي وذلك الفراش وذلك الطعام الذي يلقى في جوفه لا يعرف لونه إلا بالذكرى، لا شيء إلا آلة خربة تدور واقفة فلا تغني فإنها لا تغني إلا إذا تحركت ورأت، لا شيء إلا ظلام يراه وظلام في مستقبله، لا شيء.
أيعمى أمين، زوجي؟ فديته، بعيني، بحياتي وبأغلى من العين والحياة إن كان هناك أغلى من العين والحياة.
وهل ينفع الأسى أو ينفع الفداء؟ هيهات.
مرت الأيام سوداء قاتمة السواد، لا وميض فيها من الأمل إلا هذه الخطابات التي راح أمين يمليها على زوجته إلى جميع الأطباء العالميين يشرح لهم حالته شرحا دقيقا مفصلا مستعينا بالأطباء الذين حملوا إليه نبأ الفاجعة، وعاد البريد بالإجابات فكانت وفاء تقرؤها وحدها وكانت وفاء تحرقها وحدها؛ فقد كانت جميعها تحمل حريق الآمال، وكان أمين يسأل وكانت تجيبه أن الرد على الخطابات لم يأت بعد؛ فيتردد أمله بين اليأس والرجاء وتذوي هي وحدها في وهدة اليأس.
ثم جاء خطاب من لندن، أن عملية يمكن أن تتم لهذه الحالة لو تبرع له شخص بإحدى عينيه. وفي حزم مستقر ويد ثابتة كتبت وفاء خطابا آخر، إن عملية يمكن أن تتم إذا جاءت هذه الحالة إلى لندن حيث يمكن العثور على عين سليمة من بنك العيون.
وقرأت خطابها على أمين. ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقا يتحقق الأمل، فما هذه النبرة الواجفة الحزينة التي شاعت في صوت وفاء فلم تستطع أن تتغلب عليها بمظاهرة الفرح التي قدمت بها للخطاب التي قرأته بها.
كانت البعثة للدكتوراه فلتكن بعثة للحياة، وللدكتوراه أيضا، ولم لا يا وفاء؟ إذا نجحت العملية، إذا نجحت، نحقق آمالنا، وفاء، لم لا؟ فيم أنت مفكرة يا وفاء، وفاء؟ واستطاعت وفاء أن تصحو مما تفكر فيه لتقول له في نبرة تترجح بين الأسى ومحاولة الفرح: آه، نعم، ولم لا؟
وسافرا يدا تمسك يدا، وقلبا واجفا يهدي قلبا واجفا، وأملا حزينا خائفا يقود أملا سعيدا خائفا، سافرا.
وتمت العملية، بل تمت العمليتان، انتزعت عين مليئة بالحياة من وجه وفاء ووضعت مكانها عين جامدة موات. وانتزعت عين جامدة موات من وجه أمين ووضعت مكانها عين مليئة بالحياة، هي عين زوجته أطل منها إلى الحياة.
فداك عيناي أمين، أما كنت أرى الدنيا فلا أراها إلا من خلال عينيك، وفداك نفسي أمين أما كنت ألتقي بها إلا من خلال نفسك، فداك أمين فداك.
نامعلوم صفحہ