هنا تحول الدين عندي إلى سياسة، وتحولت عواطفي من الانتساب إلى الجماعة إلى الانتساب لمجموعة الضباط الأحرار، فقد كان الوطن عندي أغلى من الدين، ومصر الوطنية عندي أعز من الوحدة الإسلامية العامة. ومع ذلك كان صوت عبد الباسط عبد الصمد يرن في أذني جامعا بين الدين والموسيقى، وكنت أذهب إلى صديق سوري يعيش في شمال باريس لأسمع قراءة عبد الباسط عبد الصمد عنده، والذي سماه ملك المغرب «قيثارة السماء». كنت أذهب إليه كل سبت في السادسة مساء، وكنت أيضا أذهب إلى مسجد باريس كل ظهر جمعة لأداء صلاة الجماعة. ورأيت بداية الخلاف بين مجموعة البشير الإبراهيمي ومجموعة هيئة التحرير برئاسة فرحات عباس.
كانت عندي سجادة صلاة أحضرتها معي من مصر، أفترشها وأصلي بين الحين والآخر، وكنت أذهب إلى المطعم الجامعي الخاص بالطلبة المسلمين في شارع سان ميشيل كل جمعة بعد الصلاة لأكل «الكسكسي» بالخضار واللحم، كان الطلبة المسلمون يقودون تقريبا كل يوم المظاهرات ضد العدوان الفرنسي على الجزائر، ويطالبون باستقلالها، وكانوا يقومون مع باقي الطلبة بمظاهرات ضد الغزو الأمريكي على فيتنام.
في عام 1965م قامت مظاهرات ضد انقلاب بومدين في الجزائر ضد ابن بيللا الزعيم الوطني ورمز الحرية والاستقلال.
وفي مظاهرات الحي اللاتيني تعرفت على «علي شريعتي» المفكر الثوري الإيراني الذي كان يدرس «دكتوراه الجامعة» وليس «دكتوراه الدولة». الأولى معترف بها من الجامعة فقط دون الدولة، وهي أشبه بالماجستير، ومخصصة للطلبة الإيرانيين، والثانية معترف بها من الجامعة والدولة، ومخصصة لباقي الطلاب؛ ومنهم الطلبة المصريون. وكانت تتطلب إجراء رسالتين: رسالة رئيسية، ورسالة أخرى تكميلية. تناقشان معا في نفس اليوم، وبينهما استراحة قصيرة. ولجنة المناقشة مكونة من خمسة أساتذة.
وبدأ الدين يتوارى أكثر من أجل السياسة حتى رفعت السجادة من على الأرض وعلقتها على الحائط وكأنها عمل فني.
وبعد أن أعيدت العلاقات السياسية بين مصر وفرنسا بعد انقطاعها بسبب العدوان الفرنسي على مصر بعد تأميم قناة السويس، جاء المشير عامر إلى باريس لمقابلة ديجول، وتهيئة جو الصداقة بين مصر وفرنسا، والحديث عن استقلال الجزائر والقضية الفلسطينية. دعاه السفير إلى السفارة المصرية ليرحب به الطلبة المصريون، ووضعت لافتات الترحيب على الحوائط بالألوان، واختار السفير بعض الطلبة لإلقاء خطب ترحيبية بالمشير، صححها بنفسه خشية أن يكون بها شيء معارض للنظام السياسي. دخلت السفارة، ووجدت اللافتات في أزهى الألوان، وصعدت الطابق الثاني مكان اللقاء، وكان المشير يجلس بجواره وزير الخارجية المصرية محمود فوزي والصحفي لطفي الخولي رئيس تحرير «مجلة الطليعة».
وما إن بدأ أول طالب بقراءة خطاب الترحيب حتى وقفت وأخذت منه مكبر الصوت قائلا: «أيها المشير كل هذه اللافتات التي تراها نفاق في نفاق، كتبها السفير، وعلقها، كلها وكل الخطب التي ستسمعها راجعها السفير بنفسه، أريدك أن تسمع ما يقوله الطلاب.» فأنزلت اللافتات، وبدأت أقول: «الطلبة يتساءلون عن الحريات في مصر، وعن الطبقة الجديدة التي نشأت في مجتمع اشتراكي من مديري البنوك، ورجال الأعمال، وضباط الجيش، والمحافظين. وخلقت طبقة بين الحاكم والمحكوم. وقد وعد الرئيس جمال عبد الناصر بألا يزيد الفرق بين الطبقات الاجتماعية أكثر من واحد إلى عشرة. والآن الفرق واحد إلى مائة.»
فقام الطلاب ورائي كل منهم يعبر عن مأساة النظام معه، منهم من قطعت منحته؛ لأنه إخواني أو ماركسي، ومنهم من لم يجدد جواز سفره؛ لأنه متهم من أجهزة الأمن، ومنهم من وضع في قوائم الممنوعين من السفر. وبعد حوالي نصف ساعة من انتقادي للنظام السياسي لم يعرف المشير ماذا يقول؛ فطلب من لطفي الخولي أن يرد. فقال: «إن الطلبة هنا في باريس مستريحون، يدرسون، ويطعمون بكل حرية، أما في مصر فهناك المعذبون والمعتقلون ومن ضحوا بأنفسهم من أجل النظام.» ومحمود فوزي يبتسم مسرورا من كلام الطلاب، وحزينا مما سمعه من دفاع عن النظام من أحد الماركسيين المصريين والذي أصبح عمدة للنظام.
وبعد أن انتهت المقابلة استدعاني السفير إلى مكتبه قائلا: «ماذا فعلت؟» قلت :«فعلت ما يمليه علي ضميري ضد النفاق.» قال: «ألا تخاف؟» قلت: «لا، ومم أخاف وقد عبرت عما في قلوب الجميع.» ومنذ ذلك الوقت كون الطلاب في باريس جماعة لدراسة الأحوال في مصر، وأقاموا ندوات أسبوعية تناقش هذه الأحوال؛ فأقيمت ندوات عن الطبقة الجديدة، التي أصبحت مفهوما شائعا، والفقر في مصر، ونقص الحريات في مصر. ولما عاد المشير أخبر عبد الناصر بما سمعه من الطلاب في باريس؛ فطلب عبد الناصر استدعاء ممثلي الطلاب في أوروبا كي يأتوه إلى مصر ومناقشتهم. وكان هذا بعام 1966م. فأعددنا في باريس ملفات عن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية في مصر، وأقام الطلبة انتخابات في جامعاتهم كي يختاروا من يأتي إلى باريس ومنها إلى القاهرة لمناقشة الرئيس. وكنت رئيسا للوفد المصري، وحضرنا إلى القاهرة في أغسطس سنة 1966م. والتقينا في مدرج كبير بجامعة الإسكندرية، وكنا نغني في الطائرة «لكي يا مصر السلامة»، و«اسلمي يا مصر». ناقشنا عبد الناصر يوميا لمدة أسبوع تقريبا، وكانت مهمتي أن أكتب ورقتين؛ واحدة في الحريات العامة، والثانية في استقلال الجامعات.
قدمنا الملف إلى عبد الناصر، وناقشناه علنا، وطلبنا الحريات لشعب مصر واستقلال الجامعات، وقام واحد بالتحدث عن الأحوال السياسية في مصر، وقام آخر بالتحدث عن الأحوال الاقتصادية، وثالث ورابع وخامس عن الأحوال الاجتماعية والثقافية. وحذرنا عبد الناصر من حالة وقوع معركة بين مصر وإسرائيل، فالخوف والخطر على مصر. وسألناه لماذا تم إعدام سيد قطب؟ وهو الأديب، الناقد، المفكر؟ فرد عبد الناصر على أسئلتنا ومنها: «إن مهمته توفير الخبز للشعب.» فرد عليه يوسف إدريس في اليوم التالي على صفحات «الأهرام» قائلا: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
نامعلوم صفحہ