وكان قد تم اغتيال الرئيس بعد قرارات سبتمبر التي تم فيها الفصل بشهر واحد، وعندما علم خليفته أننا رفعنا قضية في مجلس الدولة أصدر قرارا قبلها بعودة نصف المفصولين فقط إلى وظائفهم (الذين تم إثبات وطنيتهم). ولم أكن واحدا منهم بالطبع، ورفض الجميع العودة إلى وظائفهم حتى يصدر حكم مجلس الدولة، وبالفعل صدر الحكم بعودتنا جميعا وبأن الرئيس المغتال قد خرق قانون الجامعة والدستور؛ ففي الجامعات مجالس تأديب ولجان محاكمات جامعية، تقوم بهذا الدور وليس السلطة السياسية؛ فعدت إلى الجامعة وردوا لي ما خصم من مرتبي وأنا موظف في الوزارة. جلست بعدها في المنزل سنة منذ الفصل من الجامعة وحتى الرجوع إليها، أكتب كتابي «مقدمة في علم الاستغراب».
لم تتم محاكمتي كعضو في جماعة الإخوان المسلمين أو في الحزب الشيوعي المصري أو في الجماعات الإسلامية المتشددة، بل كمفكر له مؤلفات معروفة ومشهورة ومؤثرة في الثقافة المصرية والعربية والإسلامية. وهذا يدل على قصر نظر السلطات التنفيذية باتهام كل من خالفها بتهم سياسية لا أساس لها من الصحة؛ فالمعارضة السياسية جزء من النظام. في المعارضة اليوم وفي السلطة غدا ، والسلطة قد تبقى اليوم وفي المعارضة غدا. كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، والمحافظين والعمال في بريطانيا.
وفي محاكمتين قام المحامي بالنيابة عني في الوقوف مدافعا عن حقي في ساحة القضاء؛ الأولى عندما رأيت إعلانا في الأهرام في صفحة الإعلانات عن بيع قطعة أرض حوالي خمسمائة متر في مدينة نصر. فاتصلت بصاحبة الإعلان، واتضح أنها مفتشة في وزارة التربية والتعليم، وقد كانت قطعة الأرض ملكا للوزارة والتي كانت قد قسمتها على المفتشين، كان ثمن المتر حسب الإعلان مائة وثمانين جنيها، وبحضور محام عند توقيع عقد البيع وبعد اطلاعه على أوراق ملكية الأرض للمفتشة عرف أن ثمنها كان ستين جنيها للمتر أي إنها ستكسب ثلاثة أضعاف عند البيع لي، وقد كانت منطقة مدينة نصر في ذلك الوقت في تسعينيات القرن الماضي لا يسكنها أحد تقريبا، مجرد صحراء ورمال، وأثناء إعداد الأوراق لتوقيع العقد النهائي طمعت المفتشة، وأرادت البيع بحوالي ستمائة جنيه للمتر؛ أي ثلاثة أضعاف الثمن المعلن، وبالتالي تكسب تسعة أضعاف الثمن مرة واحدة، رفضت هذا الاستغلال. وكانت الأسعار ترتفع تدريجيا حتى وصل سعر المتر ثلاثة أضعاف السعر المعلن، وأثناء محاولات المحامي إقناع السيدة بأن هذا لا يجوز قانونا فالاتفاق بين البائع والمشتري طبقا لإعلان الصحيفة؛ فرفضت. واضطر المحامي أن يقيم عليها دعوى بما حدث، وحكم القاضي لصالحنا؛ فأخذت المفتشة المبلغ المتفق عليه أولا، ووضعت المبلغ في حجرها تحاول أن تعد الأوراق المالية رزمة رزمة؛ فقلت لها إن هذا سيستغرق طيلة اليوم؛ فقد كان المبلغ حوالي مائة ألف جنيه، وطلبت أن تعطيني رقم حسابها لكي يتم تحويل المبلغ من بنك إلى بنك، فرفضت. وكانت السعادة تبدو عليها وهي تعد رزم الأوراق المالية وبجوارها أختها التي فتحت هي الأخرى رزمة وبدأت تعد. ومع ذلك أقامت المفتشة دعوى ضدي بأنني لم أذهب إلى ميدان محطة مصر حيث يوجد عقار أدفع لها مبلغا آخر ثمن إشغال الرصيف بمخلفات البناء؛ فأقام عليها المحامي دعوى أخرى لعدم توقيع العقد النهائي؛ لأنني لم أدفع ثمن رفع مخلفات البناء، وكسبنا القضية بعد دفعنا المطلوب للحي؛ وبالتالي لم يعد أمامها حيلة إلا التوقيع النهائي على عقد البيع.
والقضية الثانية، كانت عندما تأخرت الموافقة على الرسم الهندسي الخاص بالبناء من مجلس الحي، وكان المقاول على علم بهذه القوانين وقال إن كل ما يتم بناؤه تحت مستوى الأرض لا يحتاج إلى ترخيص مثل الأساسات؛ فبدأ في بناء الأساسات والأعمدة القائمة عليها، ولما حضر مهندس الحي ومساعده للتأكد من أن الأساسات قد تم بناؤها تحت سطح الأرض ورأى الأعمدة وقد ارتفعت عن سطح الأرض فكتب في أوراقه عدم الموافقة؛ للحصول على رخصة البناء. وبينما كنت أشاهد مهندس الحي والتفتيش وكتابة الملاحظات، سألني مساعد المهندس عن دورة المياه، وكانت العمارة على الصف الآخر قد بنيت بالفعل، فأشرت عليه أن يدخل الحمام بمدخل العمارة، فدخل وخرج بسرعة وهو يغلق أزرار البنطلون ويشاور أن أتبعه، فلم أفهم ماذا يريد؟ فكرر الإشارة، ولم أفهم أيضا، وكرر الإشارة للمرة الثالثة كما فعل حسن يوسف لنادية لطفي حتى تتبعه لكي يتفق معها على زواجها من أخيه عبد الحليم حافظ في فيلم «الخطايا». فهمت ذلك فيما بعد، ويبدو أن الإشارة كانت تعني تعال إلى العمارة المقابلة لكي أقول لك ماذا يكلفك أن تعطيني ومهندس الحي حتى نوافق على إعطاء الرخصة؟ وفهمت أنه يعني الرشوة. وكنت في ذلك الوقت مثاليا حازما، وأخلاقيا ضد هذا الفساد، فرفضت؛ فأصدر قراره بعدم الموافقة، وأيده المهندس المساعد بحجة أني بدأت في البناء وإقامة الدور الأرضي دون انتظار الترخيص؛ فرفع المحامي الخاص بي دعوة قضائية ضد الحي بأنه يجوز رفع الأعمدة وبدء البناء ما دام لم تقم أرضية للدور الأرضي بعد، وكسبت القضية. وظلت مفتشة التربية والتعليم تبحث في كل الدفاتر والقوانين عن وسيلة لإيقاف البناء، خاصة بعد أن ارتفع ثمن المتر خمسين مرة في فترة قليلة وتصورت أنها تستطيع مضاعفة السعر مرات أخرى كي تصبح مليونيرة هي وأختها. ولما رأت أن البناء يرتفع طابقا فوق طابق وأن محاولاتها لإيقاف البناء مرتين لم تنجح استسلمت. وعلمنا بعدها أنها قد توفيت، والبناء ما زال يرتفع، فلا هي رضيت ولا أرضت الشاري. وكان بإمكانها أن تأخذ المبلغ المتفق عليه؛ فالعقد شريعة المتعاقدين، وتعيش سلطانة زمانها.
وبعد أن أتممت بناء المنزل والذي كان تصريحه بسبعة طوابق، بنيت منها خمسة فقط، طلب مني المقاول أن أبني طابقين آخرين ثم يشتري مني هذين الطابقين، وبالتالي يكون البناء قد تم دون تكاليف تذكر؛ فرفضت. وقلت إن المبنى كله لي ولأولادي، أنا أحتاج لطابقين؛ طابق كامل منهم لمكتبتي، وطابق لزوجتي التي كانت تريد أن تؤسس به مركزا للنقد السينمائي ومكانا للمكتبة السينمائية، ثم ثلاثة طوابق لأبنائي الثلاثة. فلا أحتاج أكثر من ذلك. فقال لي: «ولكن الهواء ملكك فلماذا ترفض الهواء؟ وسأتكلف أنا بناء الطابقين فلن يكلفك ذلك شيئا بل ستكسب من بيع هذين الطابقين لي.» فشرحت له أن القضية ليست مكسبا أو خسارة ولكنها قضية البحث عن الخصوصية والراحة لي ولزوجتي ولأولادي. ولما فشل في إقناعي تآمر مع شركة اتصالات لكي نبني برجا طويلا فوق سطح المنزل بإيجار قدره سبعين ألف جنيه شهريا في محاولة لإقناعي بالبيع. فتصورت أن منزلي تحول لشركة وأنني سوف أحرم من الجلوس في سطح المنزل والاستمتاع بالشمس الدافئة في الشتاء؛ لأنه سوف يكون تحت رحمة برج الاتصالات، وبأن المنزل سيصبح مليئا بالغرباء الصاعدين والنازلين من السطح والذين يعملون على هذا البرج؛ فشعرت بالقشعريرة، والمقاول اتهمني بالغباء، وأنا أتأمل في أنني حاولت البناء في هذه الحياة وسأترك كل شيء يوما ما، وتساءلت: «وكيف تم بناء هذه الأبراج العالية بجواري وفي الميدان والكل سعيد، السكان والمقاول والمهندس والدولة؟»
والآن أسمع عن قوانين تسجيل العقارات والضرائب العقارية الجديد وقد أخاطر بدفع الآلاف ثمنا لهدوء وخصوصية منزلي ولكي أتفرغ للتأليف، ومكان أوسع لمكتبتي التي بلغ حجمها «ستين ألف كتاب» أضعت بينهم وفيهم عمري وقد بلغت السابعة والثمانين عاما. والدولة تريد أن تأخذ كل ما في جيوب المواطنين، لا فرق بين غني وفقير ، بين من يعيش على الوطن، ومن يعيش لأجله.
الفصل الخامس
الاضطهاد العلمي
عرفت الاضطهاد العلمي من قراءة تاريخ الفكر الإنساني، فقد تم اضطهاد أفلاطون عند كتابة كتابه «الجمهورية». وتم اضطهاد إخناتون لقوله بالتوحيد. وما أكثر من اضطهد من رجال الفكر الإسلامي مثل ابن رشد، ومن الفقهاء ابن حنبل وابن تيمية، ومن الصوفية الحلاج والسهروردي إلى حد الإعدام! وقد استمر الاضطهاد في العصر الوسيط للمعارضين للعقائد الكنسية، والمفكرين الأحرار حتى الإصلاح الديني. واضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لمارتن لوثر، ولكل المحتجين ضدها «البروتستانت». واستمر الاضطهاد في القرن السابع عشر عند اسبينوزا الذي حاولت يد الإثم اغتياله، وكوبرنيكس الذي أثبت دوران الأرض حول الشمس وليس دوران الشمس حول الأرض بسجنه، وفي فكرنا الحديث أعدم عبد القادر عودة وسيد قطب، وتوفي شهدي عطية من التعذيب في السجن، كما أعدم خميس والبقلي في أول الثورة المصرية عام 1952م خوفا من ثورة العمال.
وكان أول اضطهاد لي وأنا طالب بالجامعة في قسم الفلسفة وبالسنة الرابعة، كنت أؤدي امتحانا آخر العام في ثلاث مواد، ترتيبي الأول في السنوات الثلاث الماضية. وكنت مرشحا لأكون معيدا، كنت معروفا بالحرية الفطرية، ومناقشاتي للأساتذة، وبالاعتراض على بعض آرائهم. ففي مادة علم النفس الصناعي، وكانت تقوم على اختيار أفضل العمال من حيث القدرات البدنية والعقلية، وهو ما تحتاجه الصناعة المدنية والعسكرية. ولم تكن الإلكترونيات قد ظهرت بعد، وكان المقرر كتابا باللغة الإنجليزية في علم النفس الصناعي، كنت لا أحتمل هذا العلم؛ لأنه مرتبط بالنظم الرأسمالية في المجتمعات الصناعية، يعتمد على قياس القدرات ونحن في مجتمع زراعي لا يفيد معه هذا العلم في كثير أو في قليل. وكنت أدعو إلى ممارسة علم شعوري كما فعل برجسون وهوسرل فيما بعد. كنت أهاجم علم النفس الصناعي، وأدافع عن أنواع أخرى من علم النفس وعلى رأسها وفي مقدمتها علوم النفس الشعورية ، الاجتماعية، والأدبية، والسياسية، والثقافية.
نامعلوم صفحہ