الفصل الحادي عشر
كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
والآن وقد اكتملت ذكريات الماضي دون الحاضر، فماذا عن المستقبل؟ لم يتحقق المستقبل بعد، ولكن هل يمكن للاستباق أن يحل محله؟ هل يمكن بناء على ذكريات الماضي وربما الحاضر التنبؤ أو على الأقل الإحساس بما سيحدث في المستقبل قبل أن يتحول إلى ذكريات قد لا يعيش صاحبها؟ فالماضي مستقبل الحاضر، والحاضر والمستقبل هما الماضي قبل أن يتحققا، والمستقبل لا يمكن تحديد نهايته ولا بدايته ؛ فالبداية هو الحاضر، ونهايته الموت، ولا يتحول إلى ذكريات إلا يوم الحساب. ومع ذلك يمكن مراجعة الماضي، هل حقق كل ما أراده «التراث والتجديد» بمستوياته الثلاثة: العلمية الفلسفية، والثقافية، والسياسية الشعبية؟ صحيح أنني أسمع صداه في كل مكان، وعند عدة أجيال، والواقع يسير في منطقه الخاص ، لم يغير مساره في شيء؛ فالصراع بين أنصار القديم، الإسلاميين، وأنصار الجديد، اليسار، ما زال قائما من أجل الاستيلاء على السلطة في الحاضر. أنصار الماضي هم السلفيون، وأنصار المستقبل هم المدنيون، ما زالوا يتصارعون على الحاضر. والشعب الفقير هو الذي ضاعت مصالحه، ويحتاج إلى خدماته، ولم ينفع في ذلك لا المستوى العلمي للعلماء، ولا المستوى الفلسفي للمثقفين، ولا المستوى السياسي الشعبي للجماهير. ربما علي الانتظار حتى يكتشف التاريخ أهمية «التراث والتجديد»، ويحركه، وينقله من مرحلة ماضية إلى مرحلة آنية، من مرحلة السقوط في القرون السبعة الأخيرة إلى مرحلة النهوض في القرون السبعة التالية لحاقا بالقرون السبعة الأولى، من الأول إلى السابع، مرحلة النهضة الماضية الأولى إلى مرحلة النهضة الثانية الحديثة من القرن الرابع عشر حتى الواحد والعشرين، وابن خلدون علامة فارقة بين الاثنين.
استرسلت في الذكريات قدر المستطاع. قد أكون نسيت بعضها أو أولت البعض الآخر، ولكني لم أظلم أحدا، ومن يحس بالظلم بعد قراءتها فليرد علي، وتجمع هذه الردود وتطبع في نهاية الذكريات في الطبعة الثانية. الذكريات تسيل كنهر دافق، أكتبها كي أستريح من الكتب العلمية الموثقة في أجزاء «التراث والتجديد»، وتنتهي براحة نفسية بعد التخلي عن ثقل التاريخ وهمومه. هو علاج نفسي أعطيه لنفسي عن طيب خاطر، وأجربه لعلي أعود إلى «الروح الطائر». كنت أظن أنها ستأخذ مني سنينا، ولكنها أخذت مني شهرين في صياغتها الأولى، ثم شهرا ثالثا في الصياغتين الثانية والثالثة. وأنا أكتب كل يوم مرتين، صباحا ومساء، لعلي أترك للأجيال القادمة قصة حب مفكر لا يفرق بين هموم الفكر وهموم الوطن. الحمد لله أنني لم أسجن أو أعذب، ولكن السجن كان إراديا؛ سجن البدن بين أربعة جدران، وسجن الروح وعذابه في حمل الهموم دون التخلي عنها لحساب نظام سياسي أيا كان. لقد كنت أشعر دائما بواجب العلماء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد مناقشتي لعبد الناصر في مؤتمر المبعوثين صيف 1966م في المدرج الكبير بجامعة الإسكندرية. ولم أستطع أن أفعل ذلك على من خلفه في معرض الكتاب لأني اعتبرته قد تخلى عن الأرض بمعاهدة كامب دافيد واتفاقية السلام مع إسرائيل، ولكني ناقشت من أتى بعده في معرض الكتاب مبينا أهمية حرية الفكر والاستقلال الوطني للبلاد ضاربا المثل برمسيس، وصلاح الدين، وعبد الناصر، فسأل: وأين السادات؟ فلم أشأ أن أرد قائلا إنه عقد السلام مع العدو قبل أن ينسحب من الأراضي المحتلة. وكان عبد الناصر يقول دائما: ليست القضية سيناء؛ فأنا أستطيع أن استردها في أربع وعشرين ساعة، ولكن عيني على الضفة الغربية والجولان.
والآن وقد اكتمل المشروع، وقاربت حياتي على الانتهاء؛ إذ لما سمع أبو بكر آية:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، قال: «إن الرسول ينعى نفسه.» ولم يبق لي إلا هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان؛ لبيان أهمية هذه الفترة من الفلسفة الغربية؛ فقد استطاع هيجل أن يحول الدين إلى فكر، والعقائد إلى حياة؛ فالتثليث هو الجدل الهيجلي، والتجسد هو الروح في التاريخ، والمطلق في الدولة. والدين والمثالية قرينان منذ كانط، وهيجل في النهاية هو أحد تلاميذه جمع بين كتبه النقدية الثلاثة، نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم في عقل واحد، لا يفرق بين الظاهر والشيء في ذاته؛ فالعقل والغائية في التاريخ؛ فالماركسية هي التطور الطبيعي للدين، من العقائدية إلى المثالية إلى الإنسانية إلى الواقعية الاجتماعية. ولا فرق بين الإيمان بالمسيحية والإيمان بهيجل؛ فهيجل هو المسيحية العاقلة، والمسيحية المثالية هي هيجل التاريخي. ثم جاء تلاميذه ونقدوا مثاليته، مثالية الأستاذ والتي لا فرق بينها وبين الدين المسيحي؛ فالحقيقة تحت المثالية في الواقع، في المجتمع وحياة الناس، الفرد عند شترنر، والوعي الذاتي عند باور، والإنسان عند فيورباخ. ثم جاء تلميذ آخر، كارل ماركس، فنقد التلاميذ، العائلة المقدسة؛ فهم ما زالوا مثاليين مثل الأستاذ. أما الحقيقة لديه فهي الحياة المادية، الصراع بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يملكون ومن يملكون، بين الحرية والاستعباد.
وكان بودي أن أنجز تفصيلات لما تركته عاما مثل «مقدمة في علم الاستغراب»؛ فالإعلان عن كونه مقدمة يوحي بأن أجزاء أخرى ستأتي؛ فقد أعلن في مشروع «التراث والتجديد» أن موقفنا من التراث الغربي وهو علم الاستغراب يشمل ثلاثة أجزاء: الأول، مصادر الوعي الأوروبي خاصة المصادر الأفريقية والآسيوية كما فعل مارتن برنال في الجزء الأول من «أثينا السوداء» لتحليل المصدر الأفريقي للحضارة الأوروبية. والثاني، تكوين الوعي الأوروبي؛ أي مراحله القديمة اليونانية والرومانية، الوسطى المسيحية، الحديثة في عصر الحداثة، وبالتوثيق اللازم كما فعلت في «موقفنا من التراث القديم». وكان هذا يحتاج عمرا جديدا لا أملكه، وعوضا عن ذلك ساندته ببعض الترجمات مثل «نماذج من المسيحية في العصر الوسيط» والجزء الثاني من «قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر»، و«دراسات فلسفية»، كما ساندته ببعض الترجمات مثل «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا، و«تربية الجنس البشري» للسنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر؛ حيث يضع التقابل بين «الأنا أفكر»
Cogito
في بداية عصر الحداثة و«الأنا موجود»
Ego
نامعلوم صفحہ