وكانت فرصة ونحن في اليابان أن نزور كوريا الجنوبية والعاصمة سيول والتي أصبحت نموذجا للتنمية، ورأينا المعابد البوذية. وفي معبد يتكرر بوذا اثني عشر مرة أو يزيد من الكبير إلى الصغير، والابتسامة على وجهه، يد مفتوحة إلى السماء ويد موجهة نحو الأرض كما نقول نحن
رب السموات والأرض ، ولكن يدينا الاثنتين مفتوحتان كالشحاذ إلى السماء. ومنها إلى جزيرة هاواي في وسط المحيط الهادي، سيادة أمريكية ولكن شعورا يابانيا. ما أسهل السكن هناك في فيلات، وليس في فنادق! وما أسهل أكل اللحوم، الاستيك الأمريكي، والأيس كريم الأمريكي! وركبنا الطائرة السياحية لنرى الجزيرة «من فوق» وأشجار الموز. صحيح أنها تربط بين الشرق والغرب. طالبتي وزميلتي وصديقتي يمنى طريف الخولي أخبرتني كم هي معجبة بجامعة هاواي، ومحاولة التعرف على الفكر العربي المعاصر بما فيه فكري.
وكثيرا ما توقفت في جاكرتا إندونيسيا؛ فقد كان عندي في الولايات المتحدة طلبة إندونيسيون من جماعة نهضة العلماء التي كان يرأسها عبد الرحمن وحيد الذي كان طالبا عندي في الستينيات، ثم ذهب إلى العراق، ثم عاد إلى إندونيسيا. وقد بدأت هذه الجماعة صوفية ثم تطورت فأصبحت عقلية، تسير في تيار محمد عبده. وكانت الجماعة الثانية المحمدية، بدأت عقلانية ولكنها انتهت صوفية بزعامة الريس، تعمل بالسياسة مباشرة في حين أن نهضة العلماء تعمل بها بطريق غير مباشر، يكفي استنارة الجمهور ووعيه بالوضع السياسي. تجاوزهما محمد مهاتير العقلاني التجريبي في ماليزيا، وأصبح قادرا على أن يصبح رئيسا للوزراء، وقد عرفته في معهد الفكر الإسلامي الذي أسسه وأداره في كوالالمبور، وعملت معه في كيفية تطوير المعهد، بعمل برامج تنموية محددة، وعندما أتى مصر طلبني، فحادثته عبر التليفون في برنامج معه. كان يلتف حوله السلفيون والإصلاحيون والماركسيون؛ فالتحدي هو التنمية وبناء البلاد. ولما اطمأن إلى مشروعه التحديثي 2020م استقال، ونادرا ما يحدث ذلك في الوطن العربي؛ فالرئيس في الحكم إلى أن يقضي نحبه بشكل طبيعي أو اغتيالا أو إزاحة من الحكم بانقلاب أو بثورة شعبية، وهو في سجن أو مستشفى أشبه بفندق من النجوم الخمسة!
ولما ذهبت إلى المغرب واليابان (1982-1987م) كان أبو الوفا التفتازاني هو رئيس الجمعية الفلسفية، فلم تنشط الجمعية، وعدت ووجدت في محمود حمدي زقزوق خير صديق ورئيس للجمعية، وما زال حتى الآن يباشر نشاطه خاصة المؤتمر السنوي من كل عام في الجلسة الافتتاحية مع رئيس القسم والعميد ورئيس الجامعة وكلمة الضيوف العرب. وكان أول رئيس للجمعية هو إبراهيم بيومي مدكور، وهي الجمعية التي أسسها منصور فهمي باشا ثم انقطع نشاطها بسبب الحرب، ثم استأنفه علي عبد الواحد وافي ومحمود قاسم وعثمان أمين وعثمان نجاتي، وكانت تجمع بين الفلسفة والاجتماع وعلم النفس، كان يقتصر نشاطها على الإصدارات، ولم يكن لها مقر ولكن كان يديرها محمود قاسم من كلية دار العلوم بالمنيرة، ثم انقطع من جديد. وكنت أنا قد أعدت نشاطها، وبحثنا عن مكان ووجدناه في مساكن هيئة التدريس بجامعة القاهرة بالدور الأرضي، شقة كان يمتلكها أستاذ في كلية الهندسة، فاتفقنا على تقسيط التسعين ألفا. واستمر النشاط بتأييد من جامعة القاهرة في المؤتمر السنوي، وبدعم من وزارة الثقافة التي خفضت الثلاثين ألفا من فاروق حسني إلى المنتصف عندما كلمه محمود حمدي زقزوق رئيس الجمعية في ذلك الوقت ووزير الأوقاف، فتبرع للجمعية، وأعطانا على مدى خمس سنوات كل سنة ثلاثين ألفا سددنا بها أقساط الشقة، وأسسناها، وفتحنا صالة كبيرة للمحاضرات، وصنعنا دواليب للكتب ومكتبا للكومبيوتر والتليفون والإنترنت، وعينا موظفة ثم موظفتين. وبدأنا في طباعة مجلة الجمعية السنوية، ومطبوعات الجمعية، وندوات الجامعة الشهرية، والندوة السنوية التي أصبحت تجمعا للتفلسف للوطن العربي خاصة الوطن الشقيق، الجزائر والسودان، ثم قطعها جابر عصفور، ثم عادت بفضل صابر عرب وشاكر عبد الحميد وحلمي النمنم مع تخفيضها إلى النصف من صندوق التنمية الثقافية، مع تقديم كل الوثائق اللازمة في كيفية الصرف. وقد بدأنا بعدة محاضرات للأساتذة، ثم بمؤتمر سنوي في الجامعة أيدته الكلية بخمسمائة جنيه. واستمر نشاط الجمعية على هذا المستوى الصغير بدفتر توفير في البريد في يد الزميل أحمد عبد الحليم كان فيه أربعون جنيها قبل أن تتحول إلى الحساب البنكي حينها لرغبة وزارة الشئون الاجتماعية التي تخضع لها الجمعيات الأهلية. ونظرا لشدة خلافي مع النظام السياسي حول سياساته خاصة كامب دافيد، فقد أمرنا العميد في ذلك الوقت بالمغادرة؛ فنحن جمعية أهلية والمكان مؤسسة حكومية، فاستغربت لأن معظم الجمعيات الفلسفية تمارس نشاطها من خلال أقسام الجامعة المماثلة. وأنا أدير الجمعية منذ نشأتها الثانية 1976م منذ أربعين عاما متواصلة، فإذا افتقرت لأسباب مالية دفعتها من الجوائز التي آخذها، التقديرية والنيل. والآن نفكر في تغيير الأجيال حتى نطمئن على استمرارها من جيل آخر بعد اعتلال صحتي، وقد وصلت أربعا وثمانين عاما. وما زال زقزوق يتحمل أعباء الجمعية واستشارته فيما يطرأ عليها من مصاعب. وحاولنا أن ننقل مسئولياتها على جيل، ولكن عين البعض كان على الرئاسة، يريد أن يأخذ أكثر مما يعطي، فظللنا كما نحن عمودين للجمعية، ولو بصفة شرفية حتى يقل طمع الطامعين خاصة بعد أن أصبح لها وديعة في البنك نصرف من عائدها على النفقات الشهرية للموظفين وفواتير الكهرباء والماء والإنترنت والإيميل وصيانة العمارة التي بها شقة الجمعية لاتحاد الملاك. واستقال أمين الصندوق سمير أبو زيد وقاطع الجمعية لأنه رفض صرف هذا القسط الكبير للشقة من ميزانية الجمعية، فأخبرته أن المقر ضروري، وأن البديل بعد أن تركنا الجامعة هو الشارع. واستلمها صديق عمر منذ عودتي من باريس وهو أحمد الأنصاري كسكرتير عام، ولم أر إنسانا مخلصا مثله في العمل التطوعي، وهو خريج قسم فلسفة، وقد أشرفت على رسالتيه، الماجستير والدكتوراه، وراجعت ترجماته العديدة لمؤلفات رويس، فتطوع باستلام الجمعية وأصبح دعامتها الأولى ماليا وإداريا، وكان وفيا في الإشراف على حساباتها وطباعة مجلتها وأعمال ندواتها السنوية، والاشراف على الجمعية العمومية السنوية، والاستجابة لمطالب وزارة الشئون الاجتماعية التي لا تنتهي، فكان ذراعي الأيمن الذي حاول آخرون قطعه، أستشيره في كل شيء، وأعرف أن نصيحته خالصة لوجه الله. أما السابق فقد كان يكتب عدة مقالات في الأهرام ويمضي باسمه عضو الجمعية الفلسفية المصرية، ولما نصحته بالعودة إلى نشاطه بالجمعية اعترض بأن واحدا فقط هو المسيطر عليها، فطلبت منه أن يحاضرنا في اعتراضاته على سير الجمعية، فأتى ولم يقل شيئا ذا قيمة. وأذكر إخلاص رشا ماهر وقدرتها على الإدارة التنفيذية للجمعية حتى شعرت بالتعب، وفضلت إكمال رسالتها للماجستير واختفت، فخلفتها ليزا سعيد وآلاء شلتوت بقيمتهما الفائقة في إدارة الجمعية، والاتصال بالأعضاء، والترتيب الإداري للندوات الشهرية، الأحد الثاني من كل شهر، والمؤتمر السنوي في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر من كل عام. والجمعية تبارك للسكرتيرة الأولى بالزواج والإنجاب من المهندس كريم، وترجو لآلاء أن تلحق بها عن قريب.
الفصل الثامن
رئاسة القسم ومحاولة تكوين
مدارس فكرية (1987-1995م)
عدت إلى الجامعة وأنا في شوق إليها، إلى الطلبة والقسم، خاصة وأنها السنوات الأخيرة قبل أن أحال إلى المعاش. تسلمت رئاسة القسم عام 1988-1994م على فترتين متتاليتين، كل فترة ثلاث سنوات. وكان همي هو ربط القسم فلسفيا ، وتعاون الأساتذة مع بعضهم البعض لأداء الفلسفة كرسالة، وليس فقط كمهنة. كانت مهمة صعبة، كيفية التعامل مع الزملاء ومع تضارب المصالح وتدخل الأهواء البشرية مثل الغيرة والحقد. وكنا نضع في لجان الامتحانات أسماء زكي نجيب محمود صوريا ويأخذ القسم مكافأته للصرف على المناسبات التي تمر بالقسم، فذهب أحد الأساتذة ومضى بالاستلام من الصراف بعد أن أعطاه «بقشيشا» كبيرا ليزيحني مع أنه ضد القانون، وذهب إلى الأستاذ الكبير وأعطاه مكافأته، وأبلغه أن رئيس القسم هو الذي يأخذ هذه المكافأة وليس القسم، فذهبت إليه، وشرحت إليه هذا الأمر وقال لي: «كان من المستحسن إبلاغه، وعمل ذلك بطريقة أفضل.» فاعتذرت إليه. وحاول بعض الأساتذة مقاطعة جلسات مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب فيبطل الاجتماع، لكن كان النصاب باستمرار مكتملا؛ فبعد عام عادوا لحضور مجلس القسم مثل العصا في العجلة الدائرة. تحملت كل شيء بحكمة وعدل، فأدخلت في القسم عدة مواد جديدة أو حاربت من أجل إدخالها، فلسفة التاريخ للسنة الرابعة، وكنت أدرس المادة فأثير سؤال: في أي مرحلة من التاريخ أنا أعيش؟ بعد عرض فلسفات التاريخ في الغرب. وسؤال: لماذا لم يظهر موضوع التاريخ في تراثنا باستثناء ابن خلدون؟ كما أدخلت الفكر العربي المعاصر حتى يتخرج الطالب وهو على علم بما يدور حوله وبماذا يفكر الناس. وحاربت من أجل إدخال فلسفة اللغة التي أصبحت أحد المداخل للفكر الغربي المعاصر. وأدخلت فلسفة الدين في السنة الأولى بحيث يعرف الطلاب أن الدين علم يمكن دراسته في علم تاريخ الأديان. وجاهدت من أجل إدخال اليهودية مع المسيحية في فلسفة العصور الوسطى. ويحاول البعض الآن إدخال «فلسفة البيئة»، و«فلسفة المرأة»، و«فلسفة حقوق الإنسان» ولو في الدراسات العليا. واستدعيت أساتذة زائرين مثل حسام الدين الألوسي من العراق في الفلسفة العامة، أنور عبد الملك من مصر في الفلسفة السياسية، ورشدي راشد من مصر ومن المركز الوطني للبحث العلمي بباريس في فلسفة الرياضيات، وسيد حسين نصر من العراق في الفلسفة الإسلامية حتى يسمع الطلاب أصواتا جديدة في الفلسفة .
ولما أصبح رئيس الغيورين رئيسا للقسم لم أستطع الجلوس فيه حتى تقل هذه الغيرة وينضج من كل كلمة يقولها أو فعل يفعله؛ فكنت أجلس في قسم اللغة العربية المجاور، ولي فيه أصدقاء، يقابلني الزملاء والطلبة هناك، ولا أحضر مجالس الأقسام حيث الكراهية تشع من العينين. وأزيح من رئاسة القسم، ولم يكمل دورته، فعدت إليه، وكان القسم ما زال في المبنى القديم، وكان في حالة يرثى لها؛ فالأساتذة مع الرئيس أيا كان بحثا عن مصالحهم الخاصة كما يحدث في الدولة. وتحول القسم إلى عصابة، ورئيس قسم آخر يفتح الباب بدفعة من قدمه احتقارا له، وثالث يساند في جانب ومثله في جانب آخر كما يفعل المنافقون، وآخر عقله في القسم، ولكن قلبه مع منصب أعلى يتطلع إليه؛ فرئاسة القسم سلم للعمادة، والعمادة سلم لرئاسة الجامعة، ورئاسة الجامعة سلم للوزارة، والوزارة خطوة نحو رئاسة الحكومة، بل أصبح رئيس القسم موضوعا للتندر والسخرية في المسرحيات الذكية مثل «أستاذ ورئيس قسم».
وكان همي إنما هو تكوين مدرسة فكرية في القسم كما فعل طه حسين وأمين الخولي بقسم اللغة العربية، ومصطفى عبد الرازق بقسم الفلسفة، ومحمد أنيس بقسم التاريخ، ومحمد صقر خفاجة بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ورشاد رشدي بقسم اللغة الإنجليزية.
نامعلوم صفحہ