والرغبة في الاستقلال عن فرنسا. صحيح أن اللغة الفرنسية رابط بين كيبك وفرنسا الأم، ولكن كان هذا جزءا من التاريخ الاستعماري الفرنسي لأمريكا الشمالية، مثل الاستعمار البريطاني لأمريكا الوسطى، والاستعمار المكسيكي للجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، والبرتغالي إلى أمريكا الجنوبية. وتعرفنا في فانكوفر على طبيب أسنان ونحات، وشرح لي أن الأسنان فيها طريقة التعامل مع عظام مثل التعامل مع الحجارة في فن النحت، مثل التعامل مع العظام. ومررنا بتورنتو في وسط الصحراء الممتدة من الشرق إلى الغرب. ورأينا المدن التي نسمع عنها في الجغرافيا.
وإذا كنت وأنا في باريس اهتممت بالمسيحية والنقد التاريخي للأناجيل الأربعة بسبب جيتون، فإنني في أمريكا أكملت دراستي في تاريخ الأديان باليهودية، خاصة التوراة وتاريخها وكل نتائج النقد التاريخي للكتب المقدسة التي نخشى من تطبيقها، كما طبق طه حسين نظرية مارجليوث في الشعر الجاهلي، وجمعت كل المؤلفات في الموضوع. وفي باريس اطلعت على معظم المؤلفات الفلسفية الفرنسية والمترجمة عن الألمانية. وتركت في نفسي وعدا بأنه سيأتي وقت أحصل فيه على المؤلفات البريطانية والأمريكية في أصولها الإنجليزية، وأتى هذا الوقت وأنا في أمريكا، واشتريت معظم المؤلفات الإنجليزية لرسل ولوك وهوبز وهيوم ومل مثلا والأمريكية لجيمس وبيري ورويس. وكان النظام أن أطلب ما أريد عن طريق مكتبة الجامعة والحصول على 20٪ تخفيضا باعتبارها كتبا دراسية، فأكملت مكتبتي حتى جاء وقت المغادرة، فطلبت من شركة شحن أن تقوم بذلك، وما أسهل الشحن في أمريكا! فالصناعة تجارة، والتجارة شحن ونقل وضبط مواعيد وثقة متبادلة بين البائع والشاري، دون فساد، فجاءت بثلاثة صناديق كبيرة من الخشب وشحنتها إلى مصر قبل مغادرتي أنا وزوجتي إلى القاهرة. وأحس حازم ابني بالغربة مرة ثانية، واستمر في النوم عند حماتي أمامنا حتى الغداء، وعلم أننا أبواه، وكان عمره أربع سنوات. كانت زوجتي قد حملت قبل المغادرة، ومن إرهاق البحث عن الهدايا قبل السفر أجهضت، وحزنا لأننا كنا نريد طفلا ثانيا. وذهبنا إلى نيويورك في الحي التجاري الذي تباع فيه الصناعات الأمريكية للتصدير بكهرباء قوة 220 كما هو الحال في بلادنا وليس 110 كما هو الحال في أمريكا.
وتعرفت على الفلسفة الشرقية في الصين والهند. وقرأت نصوص كونفوشيوس ومنشيوس وبوذا، وتياراتها المعاصرة، كما تعرفت على لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا؛ فالفلسفة في أمريكا كانت مفتوحة على فلسفات العالم كلها، وشاعت ترجمة نصوصها إلى الإنجليزية، وتوافرت طبعاتها؛ فأمريكا تمتد من ساحلها الشرقي إلى أوروبا عبر الأطلنطي، ومن ساحلها الغربي إلى آسيا عبر الهادي، ومن وسطها إلى أفريقيا منذ أخذ العبيد إلى العالم الجديد، ومن جنوبها إلى المكسيك وأمريكا اللاتينية، مستعمرات إسبانيا والبرتغال القديمة.
وسمعت عن اعتصام الطلبة في ميدان التحرير للمطالبة بتحرير سيناء والأرض العربية المحتلة، وحزنا لبعدنا عن مصر. وبعدها بعام اندلعت حرب أكتوبر 1973م، وكنا باستمرار أمام التفلزيون نشاهد مناظر العبور، ونفرح، والأساتذة والطلبة اليهود حزانى حتى يوم 16 أكتوبر، وقوع الثغرة. نحن نسمع أنها لا شيء، وأن الجيش المصري قادر على محاصرتها. ورأي آخر يقول إن الجيش الثالث محاصر، ويمكن القضاء عليه. وصعقنا عندما علمنا أن الهدنة قد وقعت وما زلنا بعد العبور لم نستمر على الأقل حتى المضايق. وطبقا لاتفاقية الكيلو 104 انسحبت إسرائيل من الثغرة، وانسحب الجيش المصري غرب القناة. وكان الجمصي والشاذلي يبكيان؛ فقد سلب منهما النصر. وقسمت سيناء إلى ثلاثة أقسام: أ، ب، ج. الأولى قبل الممرات، والثانية وسط سيناء، والثالثة الثلث المحاذي لإسرائيل، وفي كل جزء قوات محدودة. وفتحت قناة السويس بعد أن أغرقت فيها سفينة لمنع الملاحة. في عام 1974م بدأ الانفتاح الاقتصادي، وانقلب النظام على الناصرية، واعتمد الاقتصاد الحر؛ فالرأسمالية ليست جريمة. وبدأ التوجه نحو الغرب، الولايات المتحدة الأمريكية، وطرد الخبراء الروس.
والمرأة الأمريكية بالرغم من تحررها في الظاهر إلا أنها مسيحية عقائدية في الباطن؛ فلا تعارض بين الحرية والإيمان، بين الجنس والتقوى، بين لذة الجسد وصفاء الروح. وليس كالثنائية الشرقية كما غناها عبد الوهاب في فيلم أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فان.» تعرفت على إحداهن كانت تدعو الأساتذة إلى منزلها، تريد صداقة كاملة تؤنسها في وحدتها. وأين لي بذلك وزوجتي تقلق علي إذا تأخرت عن العودة إلى المنزل دقائق معدودة ؟ والصداقة تريد وقتا. ومرة أخرى تعرفت على فتاة تسكن بعيدا عن حي الجامعة، فتأخرت في العودة، فقلقت زوجتي، وسألت القاصي والداني أين أنا؟ خاصة وحوادث العنف شائعة، والصداقة تحتاج إلى راحة وليس إلى قلق على قلق.
وفي هذه الفترة ترقيت من مدرس إلى أستاذ مساعد عام 1973م بعد أن قضيت ست سنوات مدرسا، متأخرا سنة واحدة؛ رقتني اللجنة عن جدارة واستحقاق. ولما كنت من المشاغبين في السياسة فقد رفض مجلس الكلية بالألاعيب الإدارية والدينية لأن إيماني أيضا به شكوك. وكنت قد تقدمت بترجمتي لكتاب إسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» وترجمتي لمحاورة «المعلم» لأوغسطين، و«أومن كي أعقل» لأنسليم، و«الوجود والماهية» لتوما الأكويني في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، كما تقدمت بالجزء الثاني من «قضايا معاصرة» بعنوان «الفكر الغربي المعاصر»، وبعض المقالات في مجلة «تراث الإنسانية». وأعاد مجلس الكلية إلى اللجنة العلمية التقرير، وكان رئيسها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، فرد عليه قائلا عبارة واحدة، وكان معروفا بإيجازه «إن ناقل الكفر ليس بكافر.» فاضطر مجلس الكلية إلى الموافقة ثم مجلس الجامعة. وعرفت كيف تستغل الاتهامات الدينية لتغطية الاتهامات السياسية، كانت رئيسة القسم معادية لي، وباقي الأساتذة خائفين منها، يتملقونها ، فوافقوا على عدم موافقتها على الترقية؛ فكانت هي القسم. وكان هناك من يقول: إنها ليست اتهامات دينية ولا سياسية بل هي الغيرة، قاتلها الله. واحتفظ العميد بالتقرير حوالي ستة أشهر وهو ينكر وصوله واستلامه، فذهبت إلى البريد وعرفت أنه استلمه مسجلا بتوقيعه، فنظر إلى مجموع المراسلات ورآه، واعتذر أنه كان مختبئا بينها، وعرض على مجلس الكلية في آخر الوقت، والأساتذة قد غادروا، وأيد قرار القسم بأني مشاغب، وأرسل إلى الجامعة، فلم تدر ماذا تفعل: قرار بالترقية من اللجنة العلمية، ولها الكلمة الأولى والأخيرة، وقرار بعدم الترقية لأني مشاغب من مجلس القسم ومجلس الكلية، فأعاد مجلس الجامعة الموضوع إلى القسم لرفع التناقض بين قرار اللجنة العلمية بالترقية وقرار المجلسين الإداريين بعدم الترقية. وقرر مجلس الكلية إرجاع الموضوع إلى اللجنة العلمية من جديد لعلها تغير رأيها، وتحكم بعدم الترقية؛ وبالتالي يرتفع التناقض المطلوب بين القرار العلمي والقرار الإداري، فأعادت اللجنة العلمية نفس تقريرها بأن المتقدم يرقى بجدارة، وأنه هو المحك في الترقية وليس القرارات الإدارية، ووصل إلى الكلية وكان رئيس القسم قد تغير، وأتى آخر قاوم الضغوط عليه بالرفض، ثم عرض على مجلس الكلية، وكان العميد قد تغير، وقاوم المجلس الضغوط عليه بالرفض، ورفع الأمر إلى مجلس الجامعة، وكان العميد السابق قد أصبح نائبا لرئيس الجامعة، فأصر على الرفض، ومعه عميد العلوم، فطلب رئيس الجامعة إبراهيم بدران بالتصويت، فصوت كل مجلس الجامعة لصالحي باستثناء العميد السابق وعميد العلوم. وكان رئيس الجامعة قد نصحني بألا أذيع الأمر إلى الإعلام حتى يمر بهدوء لأن ورائي أساتذة مثل عواطف عبد الرحمن ستكون في نفس الموقف.
وأتى منزلنا أحمد فخري عالم المصريات وقص علينا اكتشافاته بواحة سيوة، فقدرت أكثر فأكثر علماء مصر. وأنا أسكن الآن في شارع لوزاكا المتفرع من أحمد فخري بعد أن سمي الشارع باسمه، ولوزاكا في العهد الناصري والانفتاح على أفريقيا. كما زارني عالم الرياضيات الشهير رشدي راشد والذي زاملني منذ أيام الدراسة في جامعة القاهرة ثم جامعة باريس، واستقر هناك. وتعرفت على مالك بن نبي الذي زار فيلادلفيا بدعوة من جمعية الطلبة المسلمين، وشرح لي أن انفصال باكستان عن الهند عمل استعماري طبقا لقاعدة «فرق تسد»، وأن هذه القسمة هي التي حجزت الإسلام في الهند بعدما كان كالسكر في الماء. وقد كنت من أنصار محمد إقبال، ومحمد علي جناح، فأعدت التفكير في موقفي، وقد يكون مالك بن نبي على حق. وظل السؤال بالنسبة لي: وماذا عن كشمير؟ فمعظم سكانها مسلمون، ولا تريد الهند ضمها إلى باكستان، وما زالت تحت وصاية الأمم المتحدة، وبعد ذلك قسمت باكستان إلى جزأين، الشرقية والغربية، باكستان وبنجلاديش. وما زال مخطط التقسيم جاريا حتى الآن في الوطن العربي للدول الوطنية وتفتيتها إلى دويلات عرقية وطائفية بحيث تكون إسرائيل هي الدولة القومية الأقوى وسط هذا الركام من التفتيت.
وانتدبت إلى كلية الإعلام كي أدرس الفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة عامي 1976م، 1977م. وكنت أربط الفكر بالواقع؛ أي بالسياسة. وكان الطلاب في غاية النضج، يناقشون ويجادلون. وكنت أتخلى عن المنصة، وأجلس مع الطلاب، وأكلف بعض الطلاب بالحديث بدلا عني حتى أبين لهم أن الفكر ليس له أستاذ. وكان حمدين صباحي، رئيس نادي الفكر الناصري، يجلس في آخر صف ليسمع ويناقش. سعدت بهذا المستوى العالي من الوعي الفكري والسياسي، ثم ألغي المقرر بعد مظاهرات يناير 1977م، ما سميت «انتفاضة الحرامية»، عندما خرج شعب مصر كله من الإسكندرية إلى أسوان يطالب بخفض الأسعار التي رفعتها حكومة ممدوح سالم، فتراجع على الفور بعد أن استعد الرئيس المغدور إلى الهرب بطائرته من أسوان إلى طهران عند صديقه الشاه، وحليف أمريكا. وذكرني كثير من الإعلاميين الآن بهذه السنوات، كما ذكرني رئيس الجامعة جابر نصار بالستينيات بعد هزيمة يونيو 1967م عندما كنت أتحدث عن فلسفة المقاومة، وكان طلبة الجامعة من كل الكليات خاصة كلية الحقوق التي أمام الآداب يحضرون لسماعي.
وكنت أعجب من الزملاء الذين يعارون للخارج، ويقضون سنوات الإعارة ثم سنوات مرافقة الزوجة، فإذا انتهت يبحثون عن أي عقد عمل لاستمرار الإعارة. ولما كانت القوانين لا تسمح للتفرقة بين الرجل وزوجه فإنهما يستمران في الخارج حتى سن المعاش، ويفقد فرصة ذهبية في القاهرة لتعليم الطلاب من أجل آلاف الدولارات يبني بها منزلا حين العودة النهائية؛ فيفقد وجوده في جامعته، وأثره في طلابه، وتضيع ذكراه في نفوسهم، ثم يقضون نحبهم فلا يتمتعون بما أثروا، ولا تكون لهم ذكرى في قلوب أحد.
الفصل السادس
نامعلوم صفحہ