وكان عندي دراجة اشتريتها من ألمانيا، ركبت القطار حتى سالزبورج وهي المدينة التي كان يتصارع عليها كل من فرنسا وألمانيا، وهي الآن تابعة لفرنسا. كنت آخذ الدراجة، وأنزلها من القطار، أسير بها في جميع ربوع ألمانيا بحثا عن منازل الشعراء والموسيقيين والفلاسفة. تجولت بها من دوسولدورف في كولونيا وبون على نهر الراين حتى فرايبورج في الجنوب. وقطعت كل جنوب ألمانيا ووسطها حتى وصلت فرانكفورت وهايدلبرج ومالبورج، وصعدت إلى هامبورج في الشمال، وأردت الذهاب إلى برلين، وكانت مقسمة إلى قسمين؛ شرقية وغربية، فتركت الدراجة في آخر مدينة في ألمانيا الغربية. وقمت برحلة مستخدما طريقة الأوتوستوب لبرلين الغربية، وكانت معظم الآثار في برلين الشرقية؛ المتحف والآثار المصرية القديمة، ومتحف دالم في برلين الغربية لرؤية تمثال رأس نفرتيتي آية الجمال. كنت أسكن في منازل الشباب وكانت على قمم الجبال، كان الصعود إليها بالدراجة صعبا، والنزول سهلا. وفي البيت حيث نسكن كنت أرى شبابا من كل أنحاء العالم، وكان الطعام زهيد الثمن، وكانت الأسرة مزدوجة ونظيفة.
وعبرت إلى برلين الشرقية عبر شارع فريدريش، ورأيت شارع ستالين الطويل العريض، والمنازل كلها في طول واحد وشكل واحد متشابهة، واشتريت كتب الفلسفة. وكان المارك الألماني الغربي يساوي ستة ماركات شرقية، فكانت الكتب رخيصة. وأستعمل طريقة الأتوستوب رجوعا إلى دراجتي التي كنت أركنها عند الحاجز بين ألمانيا الشرقية والغربية، واضعا كتبي خلفي في ربطتها.
وكنت أعود إلى ستراسبورج في وسط ألمانيا، وآخذ القطار عائدا إلى باريس، وكنا نأكل ما يفيض من الموائد في بيوت الشباب، حيث كان بعض الطلبة لا يحبون البيض المسلوق، أو اللانشون، أو الجبن، أو الخبز؛ فكنا نأكل كل ذلك وما يفيض نأخذه في حقيبة نأكله ساعة الغداء ، عشنا تقريبا بلا مصاريف وبلا تكاليف في ألمانيا إلا أجرة ليلة الشباب كل نهاية أسبوع، وكانت لا تزيد على مارك واحد.
وبعد عودتي إلى مصر كان انشغالي بعد هزيمة 1967م بكيفية درء الاحتلال ورفع إهانة الهزيمة؛ فكان همي في الكتابة عن الأنا والآخر الذي جمع فيما بعد في جزأين «قضايا معاصرة».
وذهبت إلى مرسى مطروح في رحلة مع الجامعة، ورأيت ساحل عجيبة وغيرها من السواحل، وأعجبت بالمناظر الطبيعية والجبال المتناثرة بطول الساحل، وسمعت أن الجيش استولى على ساحل عجيبة لإقامة استراحات خاصة به، وكان لجامعة القاهرة استراحة صغيرة، تطل مبانيها على البحر مباشرة، وكنا نسبح في المياه الضحلة أمام الاستراحة.
وكنت أسمع عن الواحات الخارجة والداخلة وسيوة في علم الجغرافيا، ولم أكن أتصور كيف تكون بقع خضراء في مساحات واسعة صفراء جرداء هي الصحراء الغربية! ولما أعلنت الكلية عن رحلة إلى واحة سيوة انضممنا إليها فرحين، أخذنا القطار من القاهرة إلى أسيوط، ثم أخذنا الحافلة إلى واحة سيوة. رأيت شجرات نخيل باسقات، والجو مريح، والمنظر بديع، ودخلنا مصنع تغليف البلح، ورأينا هناك فتيات بدويات يغلفن البلح في علب كرتونية صغيرة باليد، وربما الآن دخلت الآلة، كن واقفات ولسن جالسات، والبلح أكوام وأكوام يملأ المناضد أمامهن، وكان معنا في الرحلة نصر حامد أبو زيد. وكنا نغني الأغاني الشعبية البدوية وغيرها.
كان أولادي ينقدونني بأنني لا أروح عنهم في نهاية الأسبوع، ولا أصاحبهم في التنزه بالحدائق والمتنزهات مثلما يفعل الوالدان مع باقي الصبية من سنهم، فكنت آخذهم لأريهم آثار مصر في القاهرة القديمة: الأزهر والحسين، والقلعة، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وجامعي السلطان حسن والرفاعي، وليعلموا آثار مصر وتاريخها؛ فالنزهة في العلم، والتنزه في التاريخ، ولم يعترضوا بل استحسنوا ما نفعل في نهاية الأسبوع.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية وأنا أستاذ زائر بجامعة تمبل في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وبعد أن أرسلنا طفلنا الأول إلى مصر خوفا عليه من الرحلات الطويلة المتكررة، كان هناك دفتر للسفر في حافلة جرايهاوند، كان بها عشر ورقات وثمنها تسعة وتسعون دولارا، نستخدمها في أي وقت وأي مكان في ربوع القارة الأمريكية، وكان هناك نظام في مركز الخدمات الطلابية بالجامعة بأن نبلغه بخط السير، ويعرفنا بدوره على عائلات أمريكية نقضي عندهم الليلة، نتعرف عليهم، ويتعرفون علينا، تحقيقا لمبدأ التضامن بين الشعوب. أعطينا أنا وزوجتي لمركز الخدمات خطة السير والسفر من الشرق إلى الغرب، وأسماء المدن التي سنتوقف فيها، وأعطونا دفترا به عناوين وأسماء العائلات التي سنقيم معها، وبالفعل كنا ننزل من الحافلة في المدينة المعلومة، فنجد العائلة الأمريكية في انتظارنا ومعهم أولادهم، يرحبون بنا، ويلعب أطفالهم معنا. ويصطحبوننا إلى منزلهم للعشاء والإقامة ليلة واحدة أو أكثر إذا رغبنا، وفي صباح اليوم التالي نزور المدينة بالسيارة وهم معنا، ثم نصل إلى الحافلة، نستقلها إلى المدينة التالية، فنجد أسرة أمريكية أخرى في انتظارنا. ويتكرر الموقف حتى وصلنا إلى لوس أنجلوس في كاليفورنيا، وكانت بعض الهدايا التي أحضرناها من مصر مثل التماثيل الفرعونية الصغيرة لرمسيس أو أخناتون أو أبي الهول والأهرامات، أو كتابا عن مصر الفرعونية، كنا نترك عادة ذكرى واحدة منها عند الأسرة التي نقيم معها؛ فكانوا يزدادون إعجابا بنا.
ذهبنا من لوس أنجلوس لسان فرانسيسكو، وعدنا إلى فيلادلفيا من طريق آخر غير الطريق الأول، وقد استغرقت الرحلة شهرا، وكنا قد استهلكنا خلاله جميع دفاتر السفر بالحافلة.
وفي الصيف الذي يليه سافرنا بنفس النظام من الشرق إلى الجنوب، من بنسلفانيا إلى فلوريدا مارين بأهم المدن، وصلنا إلى المكسيك، ورأينا المدينة المشهورة، وعدنا إلى فيلادلفيا من طريق آخر، واستغرقت الرحلة شهرا كاملا ذهابا وإيابا.
نامعلوم صفحہ