ثم، انتشر الإسلام، واتسعت مملكته، وحدثت الفتن، شرعوا في تدوين الحديث النبوي، وقوانين الشريعة. واشتغلوا: بالنظر، والاستدلال، والاستنباط، وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الفوائد والفصول. وكان ذلك، مصلحة عظيمة. ومع هذا، فالسند عند علماء الإسلام، شرط في العمل بما في الكتب، والاحتجاج بها، والسند: هو أن يعطى المصنف، كتابه إلى آخر، ويقول له: أذنت لك، أن تروي عني هذا الكتاب. ويعطيه الذي أخذه عن المصنف، إلى آخر - بهذا الشرط - وهكذا نسبة كل علم، وإذا عدم هذا السند في كتاب، يكون غير معتبر، ولو تكون فيه العلوم الكثيرة. ولا يصح نسبة ما في الكتاب، إلى من نسب إليه الكتاب، إلا بشرط السند. وهذا، شيء خص به علماء الإسلام وشريعته. فإن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه العدول. ثم أخذها، عن أولئك العدول، عدول آخرون... وهكذا. حتى وصلت للبخاري مثلا، وهو عدل، ثم البخاري، صنف كتابه، ورواه عنه تسعون ألفا، ثم انتشر في المشرق والمغرب، بالسند، حتى وصل إلينا. وأما علوم الأوائل والفلاسفة، فإنها كانت، في صدر الإسلام، مهجورة إلى دولة بني العباس. وكان أول من اعتنى منهم بالعلوم: أبو جعفر المنصور. وكان مقدما في علم الفلسفة والنجوم. ثم لما وصلت الخلافة إلى المأمون بن الرشيد، تمم ما بدأ به جد. واستخرج العلم، من معادنه، بعلو همته. فراسل ملوك الروم، وسألهم كتب الفلاسفة؟؟ فبعثوا إليه من كتب: أفلاطون، وأرسطو، وبقراط، وجالينوس، وأقليدس، وبطليموس... وغيرهم. وأحضر - لهذه الكتب - مهرة المترجمين، فترجموا له، على غاية ما أمكن. ثم ألزم الناس قراءتها، ورغبهم في تعلمها. إذ المقصود من المنع منها، في صدر الإسلام، هو لأجل ضبط قواعد الشريعة، ورسوخ العقائد الصحيحة. وقد حصل ذلك. مع إن أكثر الفلسفة، والهيئة، والهندسة، لا تعلق لها بالديانات. ولما نقلت علوم الأمم، بالترجمة. وحدثت الملكات. لأهل الملة الإسلامية، نقلوا هذه العلوم إلى علومهم. وبقيت تلك الدفاتر، التي باللغة الأعجمية نسيا منسيا. وأصبحت العلوم - كلها - بلغة العرب. واحتاج القائمون بها، إلى معرفة الدلالات اللفظية، والخطية، في لسانهم، دون ما سواه من الألسن، لدروسها، وذهاب العناية بها.
خاتمة الرسالة
في انقسام الناس بحسب العلوم والمعارف واختلاف المذاهب اعلموا: أن الناس قسمان: قسم اعتنى بالعلوم، فظهرت منهم أنواع المعارف، فهم صفوة الله من خلقه. وقسم لم يعتن بالعوم، عناية يستحق بها اسمه. فالأول، أمم. منهم: الهند، والفرس، واليونان، والروم، والإفرنج، والعرب، والعبرانيون، وأهل مصر، والثاني: بقية الأمم. أما الهند، فإن أهله - وإن كانوا في أول مراتب السواد - فإن الله، جنبهم سوء أخلاق السودان. وفضلهم على كثير من البيض. فهم أهل الآراء الفاضلة، والأحلام الراجحة. ولهم التحقيق، في علم العدد، والهندسة، والطب، والنجوم، والعلم الطبيعي. ومنهم براهمة - فرقة قليلة العدد - مذهبهم: إبطال النبوات، وتحريم ذبح الحيوان. وهذا، من ضعف أمزجتهم وقلوبهم. فإن قوي القلب، بحسب المزاج، يستحسن الإيلام، ولا يستقبحه. وجمهور الهند: صابئة، يعبدون الملائكة والكواكب وهم ينكرون النبوات أيضا. ولهم في تعظيم الكواكب وأدوارها، آراء ومذاهب. والمشهور في كتبهم، مذهب السند هند أي في دهر الداهر ومذهب الأرجهير، ومذهب الاركند. ولهم في الحساب والأخلاق والموسيقي، تأليفات كثيرة. ومن تصنيف حكماء الهند: كتاب كليلة ودمنة. وما فيه من الحكم، المنظومة بضرب الأمثال، يشهد بكمال عقل واضعه. وترجم من الهندسة إلى الفارسية، أيام أنو شروان، الملك العادل وكان محبا في العلم وأهله ثم ترجم، من الفارسية إلى العربية، أيام المنصور العباسي. ترجمه ابن المقفع، العالم المشهور.
صفحہ 28