اعلموا - وفقكم الله - أن النبوة، هي عبارة عن طور، تنفتح فيه عين أخرى، زائدة على طور العقل، ونظره، ينظر بها النبي، ما يكون في المستقبل، من أمور، العقل معزول عن إدراكها كعزل قوة التمييز، عن إدراك المعقولات وكعزل الحواس، عن مدركات التمييز وانظروا إلى ذوق الشعر. كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوع إحساس وإدراك ويحرم منه بعضهم وانظر كيف عظمت قوة هذا الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار ونحوها، التي منها: الحازن، والمطرب، والمبكي، والمضحك، والقاتل، والموجب للغشي، وإنما يقوى على استنباط هذه الأنواع من قوى له أصل الذوق، وأما العاطل عن خاصية هذه الذوق فيشاركه في سماع الصوت، وتضعف فيه هذه الآثار، وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشى، ولو اجتمع العقلاء - كلهم - من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق، لم يقدروا.0 فلا تجعلوا الكمال وقفا على العقل، فوراء كمال العقل، كمال آخر أعلى من كمال العقل، وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل، لأنكرها واستبعدها فكذلك بعض العقلاء استبعدوا مدركات النبوة ولا مستند لاستبعادها، إلا أنها طور، لم تبلغه العقول، وقد خلق الله مثالا للنبوة.
من حيث أنها إدراك، زائد على الإدراك المتعارف وهو النوم. إذ النائم يدرك أمورا، تكون في المستقبل إما صريحا ، وإما بإشارة يعرفها المعبرون للرؤيا وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه، وقيل له: إن من الناس، من يسقط كالميت، ويزول إحساسه وسمعه وبصره، فيدرك المغيبات، لأنكره وقال: القوى الحسية، أسباب الإدراك، والإنسان، لا يدرك المغيبات، مع وجود حواسه، فكيف يدرك مع غيبتها، والوجود والمشاهدة، قاضيان بصحة النوم. وقد شاهدنا صحة كثير من المنامات وبلغنا عن الثقات، بالنقل الصحيح أن الفردوسي الشاعر، لما صنف كتابه، المسمى بشاهنامه على اسم السلطان محمود بن سبكتكين وأنه ما قضى حقه كما يلزم وما راعاه كما يليق بذلك الكتاب، ضاق قلب الفردوسي، فرأى رستم في المنام، فقال له: إنك مدحتني في هذا الكتاب كثيرا، وأنا في حملة الأموات، فلا أقدر على قضاء حقك، ولكن اذهب إلى الموضع الفلاني واحفر، فإنك تجد فيه دفينا، كنت دفنته، فخذه فذهب فوجده، وأخذه، فكان الفردوسي يقول: إن رستم - بعد موته - كان أكثر كرما، من محمود حال حياته.
والشك في النبوة، إما أن يكون في إمكانها، أو وجودها، و حصولها لشخص معين. ودليل إمكانها وجودها، وجود معارف في العالم، لا يمكن أن تدرك بالعقل، كعلم الطب وعلم النجم، فإن من بحث في علميهما، علم يقينا، أن بعضها لا يدرك، إلا من جهة الله تعالى، ولا تكون التجربة طريقا إليها، فإن من الأحكام النجومية، ما لا يقع في كل ألف سنة مرة. فكيف يحصل ذلك العلم بالتجربة؟ وكذلك خواص الأدوية فظهر بهذا أن من الممكن، وجود طريق إدراك هذه الأمور، التي لا يدركها العقل. وهو المراد بالنبوة.
وثم أمور، تسمى خواص لا يدور العقل حولها أصلا فإن وزن دانق، من الأفيون، سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق، لقوة برودته والعالم بالطبيعيات يقول أنه يبرد، لأنه من المبردات، التي يغلب فيها عنصر الماء والتراب، ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب، لا يبلغ تبريدها، إلى هذا الحد، ولو أخبر طبيب بهذا، ولم يجربه، لقال: هذا كذب، لأن الماء والتراب، لو كانا وحدهما، ما وصلا إلى هذا الحد، والأفيون، فيه هوائية ونارية ، فإذا جربه، التزم أن يقول: إن في الأفيون خاصية في التبريد، خارجة عن قياس المعقول.
ولو قيل لإنسان: هل يمكن أن يكون، في الدنيا، شيء هو بمقدار حبة، في بلدة، فيأكل تلك البلدة بجملتها، ثم يأكل نفسه، فلا يبقى شيء في البلدة، وما فيها. ولا يبقى هو في نفسه، لقال: هذه محال، وهو من جملة الخرافات وهذه حالة، ينكرها من لم ير النار، وأكثر العجائب التي يخبر بها الأنبياء، من هذا المعنى.
صفحہ 15