114

جرى البحث حول المبنى المخصص لجمارك السيارات، بين عشرات الرائحين والغادين والمتسكعين، الذين كانوا جميعا مستعدين لأي خدمة بوجوه باسمة، إلى أن تذكر صفية اسم الرشيدي، فتتلاشى الابتسامات وتلتوي الرءوس نافية أي معرفة بالاسم وصاحبه. واحد فقط كان موقفه مختلفا؛ كان كهلا ضامر الصدر، منتفخ البطن، يرتدي بنطلونا قديما متهدلا، وقميصا مكويا في عناية هدفت لإخفاء قدمه، ونظارة طبية مشروخة الإطار، وترتعش يده بصورة مستمرة. اقترب منهما في تردد وعينه على الملف الذي تحمله صفية في يدها: «خدامكم كمال، مخلص سيارات. أي خدمة؟» ثم قادهما بعد تفكير إلى ممر صغير بين مبنيين وقال: «استنوه هنا. جاي بعد شوية.»

وفعلا هل الرشيدي بعد لحظات بخطواته المعتدة، فأخذ منهما الملف، وتقدمهما إلى أحد المبنيين مرورا بكمال الذي جلس القرفصاء إلى جوار الحائط مع عدد من زملائه المخلصين، ولم يشأ أن يدع الفرصة تمر، فخاطب الرشيدي قائلا: «أنا اللي قلت لهم عليك.» ودون أن يبطئ هذا من سيره رد عليه مؤنبا: «يا وسخ. كان عندي موعد معهم.»

انبرت ذات، صاحبة المواقف الإنسانية، للدفاع عن الكهل المظلوم، الذي لمست فيه شيئا مألوفا، كأنما التقت به من قبل، أو يذكرها بشخص تعرفه جيدا، فأكدت للرشيدي أنه الوحيد الذي ساعدهما على الوصول إليه، لكن هذا لم يتراجع عن موقفه: ده دني. كل همه نص جني وبس.»

دناءة المخلص الكهل كان لها أوجه عديدة؛ فهو مريض بالسكر، ويفقد أعصابه بسهولة، ويسيء معاملة الزبائن، وبالإضافة إلى ذلك: «خدي مثلا حالة مثل حالتك. هل يتم التخليص من غير الرش؟ لو اديته أوراقك ومعاها عشرين جنيه للمصاريف؛ أي للرش على الموظفين، يحجز نص المبلغ على الأقل لنفسه، والنتيجة على رأس الزبون.»

استوعبت صفية ما ظنته رسالة غير مباشرة، فأخرجت مادة الرش. وداخل صالة واسعة، صفت بها عشرات المكاتب في صفوف غير منتظمة، وحولها عشرات الأشخاص الذين يتكلمون في آن واحد؛ ولهذا يتنافسون في المقدرة على الإسماع، أتيح لذات أن ترى المخلص الكهل مرة أخرى على الطبيعة.

كان يحمل ملفا أزرق اللون، ويحاول الحديث عبثا إلى أحد الموظفين. وتقدم الرشيدي بملف صفية إلى نفس الموظف، فاستقبله في ترحاب وتناول منه الملف على الفور. واستدار الكهل إلى شاب عابس الوجه، فغمز له بعينه، بطريقة تآمرية، وأشار بيده إلى فضيلة الصبر، ثم اتجه إلى موظف آخر لم يعبأ به، فوقف لحظة جامدا يتطلع إلى الفضاء بين المكاتب ويده اليسرى لا تكف عن الارتعاش. وبعد لحظة استدار وعاد إلى صاحب الملف، وسمعته ذات يخاطبه قائلا: «لا بد أن ننتظر قليلا فهناك مشكلة في ورقك. لكن لا تقلق. سأحلها لك.» وتركه متجها إلى موظف آخر.

خلال ذلك كان الرشيدي قد حصل، بالطبع، على التوقيعات والأختام المطلوبة، ولم يبق سوى توقيع رئيس الإدارة الذي لم يكن، بالطبع، في مكتبه، ولا يعلم أحد أين ذهب، لكن الرشيدي المدرب عثر عليه في مكتب جانبي غارقا في حديث تليفوني عن خطوط السفن ورحلات العطلات، سرعان ما انتقل إلى قطع غيار السيارات وعيوب الميكانيكيين قبل أن ينتبه إلى وجود الرشيدي ومرافقتيه، فتناول منه الملف وفتحه وشرع يقرأ محتوياته، مواصلا الحديث، أو بالأحرى التلقي، بينما يقلب الأوراق، تتابعه عيون المرأتين المتلهفتين، في انتظار أن يبلغ الصفحة الأخيرة ويمهرها بتوقيعه، لكنه لم يكن بهذه السذاجة، فقبل أن يصل إلى النهاية عاد إلى البداية، ودق قلبا المرأتين وهما تتابعان أصابعه في رحلة تقليب الصفحات ذهابا وإيابا، حتى اكتشفتا أنه يفعل ذلك بصورة ميكانيكية دون أن يقرأ شيئا.

انتهت المكالمة أخيرا، وأعاد الرئيس السماعة إلى مكانها، شارعا في بداية جديدة مختلفة؛ إذ ركز بصره على أحد السطور متمعنا فيه، ودق قلب ذات في عنف عندما تناول السماعة وأدار رقما بنفس اليد، ثم رفع رأسه للرشيدي وقال وهو يناوله الملف باليد الأخرى: «فؤاد بيه.»

خارج الغرفة تطلع الرشيدي إلى سماعته في تقطيب، وتطلعت إليه المرأتان في قلق، وصح ما توقعتاه؛ ففؤاد بك انصرف فعلا، كما أن الخزانة تغلق في الواحدة والنصف، ولا بد من دفع الرسوم وتقدير الأرضية: «سيبي الملف معايا وتعالي بكره.»

في الطريق إلى جمرك العفش التقتا بالمخلص الكهل الذي حرص على تجنبهما، رغم أن ذات رغبت في الحديث معه لتكتشف سر الألفة التي تشعر بها نحوه، وهو السر الذي شغلها طوال الساعتين التاليتين من الانتظار بين الحمالين والسائقين المستعدين لأي خدمة، إلى أن خرج إليهم عزيز والفيلسوف الذي خلعت عليه صفية لقب الدكتور، ومن خلفهما العفش (مكتب وسرير ومقاعد وثلاجة وغسالة وتليفزيون؛ مبررات اللقب العلمي) الذي بدأ تحميله فوق سيارة النقل، فهل انتهت المحنة؟ كلا.

نامعلوم صفحہ