وحدث أن إبراهيم باشا بينما كان بزوق ميكائيل يجمع الأسلحة ضرب واحدا من أبناء المدور وسجنه؛ لأنه قال إنه من أبناء الحماية الإفرنسية، فلما نما ذلك إلى قنصل فرنسا ببيروت وجه إلى جونيه سفينة أفرنسية كانت يومئذ في مياه بيروت، وأمرها أن تأتيه بابن المدور عنوة، فسارت السفينة وأخرجت عسكرها إلى سهل جونيه، فلما رأى إبراهيم باشا ذلك اضطرب باله وفر عسكره إلى جبل بكركي فأتى بابن المدور إلى بيروت، وقد التمس الشيخ نعمان جنبلاط من الجنرال روز أن يرسله إلى الإسكندرية، فأرسله، وسار نميق باشا بعسكره إلى العاقورة ومعه الأمير بشير أحمد اللمعي. وفي أثناء ذلك، قدم أحد رجال الدولة العلية من الآستانة مأمورا بأن ينهى نميق باشا عن التثقيل على الناس، فأرسل نميق باشا ورد ما كان قد نهبه العسكر من غزير وأخذ الأسلحة من العاقورة، ثم سار إلى تنورين يريد الذهاب إلى جبة بشري، فلقيه أهل الجبة إلى حد تنورين وراموا دفعه بالقوة؛ فوقعت له معهم مناوشة ارتدوا فيها منهزمين إلى الحدث، ثم عندما أحسوا باقترابه منهم فروا إلى بشري، فشفع فيهم البطريرك يوسف الخازن لدى الباشا على أنهم يدفعون أسلحتهم إلى الباشا في الحدث بدون أن يدخل العسكر سائر المقاطعة، فقبل نميق باشا بذلك، ولما فرغ من عمله جمع الأسلحة وسار بعسكره إلى طرابلس ثم إلى بيروت، وقد ورد يومئذ على نميق باشا أمر من الآستانة بأن يقبض على الشيخ حمود المتقدم ذكره ويبعث به إلى الآستانة؛ فأنفذ الأمر، وبعد ذلك انتشر الأمان وظهر المختبئون من مخابئهم، وعادت الأعمال إلى مجاريها.
ثم أمر شكيب أفندي بأداء القسط الأول من قيمة المسلوب من النصارى، فاستحضر لديه وكلاءهم؛ فوزع عليهم، وقد بلغ ألفي كيس أي ألف ألف غرش، ثم استحضر لديه جميع وكلاء النصارى من جميع المحلات المختلطة سكانها من نصارى ودروز، فنصب لكل مقاطعة وكيلا إلا المتن فإنه يجعل لها وكيلين درزيين؛ لأنها في ولاية النصارى، وجعل راتب الوكيل النصراني مائتي غرش في كل شهر، وأناط به أمور نصارى مقاطعته عند صاحب المقاطعة الدرزي، وأناط أمر الأحكام بصاحب المقاطعة الدرزي على أن يكون ما يجريه منها يعلمه الوكيل، وكذلك جعل شأن وكيل الدروز في المتن. وفي تلك الأيام ظهر الشيخ سعيد جانبلاط بعد أن كان متنكرا، ومثل لدى شكيب أفندي بعد أن مهد له الجنرال روز السبيل، فطيب شكيب أفندي نفسه وسلمه زمام مقاطعته، ثم أقال الأمير أحمد الأرسلاني من ولاية مقاطعته، وجعل عليها أخاه الأمير أمينا بدلا منه، ثم قسم البلاد بين الأمير حيدر اللمعي والأمير أمين الأرسلاني، وجعل طريق دمشق حدا فاصلا بينهما، وضم إلى الأمير أمين نصف ساحل بيروت، فلم يقبل الأمير حيدر بذلك؛ لأن السكان كانوا من النصارى، وكانوا قد خصوا بوالي البلاد منذ خمس وسبعين سنة؛ فغضب شكيب أفندي وأمر أهل الساحل أن يكونوا خاضعين لولاية الأمير أمين، فاجتمع غالبهم والتمسوا منه أن ينضموا إلى ولاية الأمير حيدر فلم يقبل ملتمسهم، فاعترضته القناصل في ذلك فعاد وقسم الساحل على حسب رأيهم؛ فجعل للأمير حيدر الساحل الشرقي وللأمير أمين الساحل الغربي، وجعل طريق دير القمر حدا فاصلا بينهما، وجعل لكل منهما ديوانا من اثني عشر رجلا من كل طائفة اثنان، وراتب كل واحد من أهل الديوان خمسمائة غرش في كل شهر، ثم وقع خلاف بين الأميرين الواليين على الشياح ووادي شحرور الفوقية، فادعى كل منهما أن هاتين القريتين من ولايته، ولم يتفقا على ذلك حتى جعل وزير الدولة يده على القريتين وضمهما إلى ولاية بيروت.
وفي سنة 1847 أمر كامل باشا الذي خلف وجيهي باشا أن يجتمع أرباب مناصب البلاد وأعيانها في بيروت لترتيب الأموال الأميرية فاجتمعوا، وكان من رأي الأمراء الشهابيين ومن رأي العماديين والنكديين والوجوه أن تقاس مساحة البلاد، وخالفهم الباقون، فكتب الوزير يعرض واقع الحال على الحضرة السلطانية، وفي تلك السنة أقبل كامل باشا وولي في مكانه مصطفى باشا الأرناووطي، فاستحضر وكلاء النصارى إلى بيروت، وأمر وكيله أن يجري عليهم مبلغ القسط الثاني من قيمة المسلوب وقدره ألفا كيس أي ألف ألف غرش، فرأى رؤساء الوكلاء أن تعدل قوائم الأسلاب المصدق عليها في ديوان أسعد باشا؛ فعدلت بشيء من الزيادة والنقصان تعديلا لا يخلو من الغش، ثم أخذ كل وكيل ما أصاب وكالته ودفعها إلى أربابها. وقد قدم في تلك السنة نفسها إلى لبنان اثنان مندوبين من دولة فرنسا للبحث عن أحوال أهله، فجابا القرى قرية قرية، وبعد استيفاء البحث والتنقيب رجعا إلى بلادهما.
وفي السنة التالية دفع القسط الثالث من قيمة المسلوب وقدره كالقسطين الأولين، وبوشر إجراء المساحة ولم يتم أمره.
وفي سنة 1849 أمر السلطان عبد المجيد أن يعد الذكور بلبنان، فبلغ عدد الذكور من النصارى 87727 ومن الدروز 12023 ومن الإسلام والمتاولة 6744.
وفي سنة 1854 توفي الأمير حيدر إسماعيل في صربا من كسروان مفلوجا بدون عقب وله من العمر سبع وستون سنة، ودفن في كنيسة اليسوعية ببكفيا، وقد احتفل بمأتمه احتفالا عظيما، وكان ربعا حنطي اللون كريما فصيحا ورعا وديعا سريع الانقياد، وقد جعل الوزير في مكانه ابن أخيه الأمير بشير عساف وكيلا حتى يجيء الأمر من الآستانة بتعيين الأمير بشير أحمد الذي التمس الوزير الولاية له، ثم صدر الأمر فولي الأمير بشير. (8) الأمراء المعنيون
إننا راعينا في تاريخ أمراء لبنان من حيث التقديم والتأخير في ذكرهم وإثبات أخبارهم ما يراعيه كل مؤرخ في ترتيب الأزمنة من ذكر الأقدم في البلاد من أصحابها، ثم القديم، ثم الذي بعده تدريجا على التوالي، وعليه فإننا مثبتون الآن بحسب الاتساق تاريخ الأمراء المعنيين الأيوبيين.
إن هؤلاء الأمراء ينتسبون إلى الأمير معن من العرب الأيوبيين من ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان، نبغ من بني ربيعة رجل اسمه أيوب، كان فارسا مغوارا سلابا، مات وله أحد عشر ذكرا وكلهم شجعان، فلما استفحل أمرهم حسدهم جميع بني ربيعة، وحملوهم على الرحيل فأتوا جزيرة الفرات ونزلوا بها فنموا نموا كبيرا، واتخذوا نسبة الأيوبية نسبة إلى أيوب، ورحل أحدهم من تلك الجزيرة إلى الديار الحلبية، وتوفي بها عن ولد اسمه معن.
فمعن هذا أرسله الأمير غازي أمير الترك في سنة 1119ب.م لمحاربة الإفرنج في أنطاكية، فانهزم من وجه الملك بلدوين الفرنسي وعساكره في جملة المنهزمين ولجأ إلى طغتكين في الديار الحلبية، وفي سنة 1120ب.م أمره طغتكين أن يمضي بعشيرته إلى البقاع، ثم إلى لبنان المشرف على الساحل لينزل به ويتخذه حصنا؛ ليرصد منه الغارة على الإفرنج الذين بالساحل فرحل الأمير معن بعشيرته إلى الشوف، وقد كان قفرا فنزل بصحراء بعقلين ووادد آل تنوخ أمراء الغرب، وكبيرهم يومئذ الأمير بحتر، فتحالف الأميران على الإفرنج، وآثر الأمير معن سكن الأقبية على المضارب، فأرسل إليه الأمير بحتر أناسا بنوا له ولأصحابه أقبية يسكنونها، ثم كثرت المباني واتسع العمران فانضم إلى الأمير معن خلق كثير لجئوا إليه من جميع البلاد التي استولى الإفرنج عليها من حوران ودمشق وحلب ومن الأماكن المجاورة للبنان ومن أطرافه وعاش الأمير معن هناك ثلاثين سنة، وتوفي سنة 1149 وخلفه ولده الأمير يونس.
وفي الأيام الأخيرة من أيام الأمير يونس كان قدوم الأمراء الشهابيين إلى وادي التيم حيث اكتسحوا الإفرنج وحلوا محلهم، وفي سنة 1175ب.م بعث الأمير يونس إلى الأمير منقذ الشهابي يدعوه إليه بعد أن كانا قد تحالفا على المودة والإخاء، فقدم إليه هو وولده الأمير محمد فلقيهما الأمير يونس إلى نبع الباروك حيث مكثوا ثلاثة أيام، ثم أتى بهما بعقلين.
نامعلوم صفحہ