قال تاوفان: «إن زلزال 738 حل في وادي الأردن وفي البرية الواقعة بين القدس وبحر لوط؛ فدمر غالب أديرة تلك الأنحاء.»
وقال ابن الأثير في تاريخ سنة 1170 / 567ه: «أن حدثت في هذه السنة زلزلة لم ير الناس مثلها عمت أكثر بلاد الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وكان أشدها بالشام، فخرب كثير من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبارين وحلب وغيرها.»
ووصف كمال الدين المعروف بابن العديم في كتاب «زبدة الحلب في تاريخ حلب» الزلزلة التي وقعت في سنة 1138 وصفا هائلا، وقد يظهر من مفاعيل مرج النيران في بطن الأرض في مواقع الخطين، فالزلزلة حينئذ تكون أسوأ عاقبة كما كان في زلزلة سنة 859 / 245ه مما وصفه الطبري؛ إذ قال: «كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال تقطع بها الجبل الأقرع، وسقط في البحر فهاج وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب، وأصاب حمص ودمشق والرها وطرسوس وأدنة وسواحل الشام، وأرجفت اللاذقية، وذهبت جبلة بأسرها.» وحدث مثل هذه الزلزلة واحدة في سنة 1157 / 552ه خربت منها: حماة، وحمص، وأنطاكية، واللاذقية، وطرابلس ، وبيروت، وصيدا، وصور، وعكة.
وأثبت عبد اللطيف البغدادي في كلامه على زلزلة سنة 1202 في كتاب «الإفادة والاعتبار» نسخة كتابين وردا من حماة ودمشق يتبين منهما أن تأثرت من تلك الزلزلة قلعة حماة مع إتقانها وعمارتها، وبارين مع اكتنازها ولطافتها، وبعلبك مع قوتها ووثاقتها. وتساقطت عدة مساكن بدمشق على أهلها، وأن بانياس سقط بعضها، وكذلك صفد وتبنين ونابلس لم يبق بها جدار قائم سوى حارة السمرة، وأما بيت جن فلم يبق منها ولا أساس الجدران إلا وقد أتى عليه الخسف، وكذلك أكثر بلاد حوران غارت، ولم يعرف لبلد منها موضع يقال فيه: هذه القرية الفلانية. وجاء في أحد الكتابين: «يقال إن عكة سقط أكثرها، وصور ثلثها، وعرقة خسف بها، وكذلك صافيتا، وأما جبل لبنان وهو موضع يدخل الناس إليه بين جبلين يجمع منه الريباس الأخضر فيقال عنه: إن الجبلين انطبقا على من بينهما وكانت عدتهم تناهز مائتي رجل.»
وقد سبق لنا أن قلنا: إن الزلازل ليست هي وحدها محدثة التغيير في سواحل لبنان، بل يشترك معها في ذلك ما يحدث للأرض من حركات خفيفة بطيئة متتابعة على ممر السنين، فقد أثبت العالم الأب غدفريد زموفن - مدرس الطبيعيات في كلية القديس يوسف - في العددين 9 و12 من مجلة المشرق، مقالتين في ارتفاع ساحل بيروت وسورية أنتج منهما أن ساحل سورية على طول مداه قد ارتفع، وأن ذلك يظهر خصوصا من قرب غور المياه في المرافئ القديمة: كيافا، وصور، وصيدا، وطرابلس. ومن الرواسب البحرية التي ترى الآن مرتفعة فوق سطح البحر.
وبالجملة، فإنه مما لا شبهة فيه أن جبلا قائما مثل لبنان يناطح بشماريخه السحاب كبرياء فتقشر جلده بقذائفها من ثلوج وسيول جارفة ، وينظر إلى البحر عند مواطئ أقدامه ازدراء، فيرغي البحر ويزبد عليه، ويصدمه بأمواجه صدمات الأبطال المغاوير، وينظر إلى ما حوله من السهول الراقدة المطمئنة فيتلظى قلبه بنيران الحسد لها على سكينتها جبلا مثل ذلك، لا بد أن يعتريه هو وما حوله التغيير والتبديل على ممر السنين. (3) تربة لبنان
إن تربة البنان هي في الغالب طبقة رقيقة مرتكزة على الصخور، وأما في الوديان فسميكة لتراكم الأجراف فيها. ولما كانت الأرض في لبنان شديدة الانحدار عمد أهله إلى معالجتها بالجدران صونا لترابها من السيل، وهنا يجمل بنا أن ننبه اللبنانيين إلى أمر لا يخلو من الفائدة لو وضع موضع العمل به؛ ذلك أن تترك الأرض الشديدة الانحدار بدون حرث منبتا لصنوف الأشجار التي تقوى على النمو فيها بدون حرث تربتها مثل أشجار الآجام المتروكة وشأنها من النماء الطبيعي؛ فإن ذلك أصون لترابها من الجدران. وفي هذه الأشجار منفعة أعظم من غيرها سواء كان من جهة صون التراب لتماسك أجزائه بما يشتبك فيها من الجذور، أو كان من جهة الريع؛ فإن ريعها بطول المدى يجيء أكثر من غيرها، وأما لو حرثت هذه الأرض فإنها لا تكون في مأمن من جرف السيول مهما عولجت بالجدران، فإن المجروف من ترابها بمياه السيل يذهب من خلال الجدران. هذا إذا لم يثغر السيل نفسه تلك الجدران ويذهب بترابها، ففي كل حال لا يمر بتلك الأرض المنحدرة زمن حتى تمسي فاقدة لما عليها من تلك الطبقة الترابية، وينكشف من تحتها صخور لا تنبت شيئا. وقد ذهبت الغرة ببعض الناس إلى أن عمدوا إلى شيء من أراضي تلك الآجام على ما هي عليه من الانحدار فقطعوا أشجارها، واستأصلوا أرومها، وجعلوا يحرثونها ويزرعونها مغترين في أول الأمر بخصبها بسبب المتناثر من أوراقها طبقة فوق طبقة، فأدى بهم الأمر إلى أن رأوا تلك الأرض بعد مدة من الزمان فاقدة لما كان عليها من التراب، غير صالحة للزرع ولا للغرس، مع أنهم لو أبقوها عامرة بأشجارها لانتفعوا بها كثيرا. أما نرى أن اللبنانيين كانوا في القرون الغابرة مشهورين بتجارة الأخشاب من الأرز وغيره مما كان يستعمل في اصطناع السفن والمباني؟ ولكن ربما كانت الحاجة اضطرتهم في ذلك كله إلى اجتناء الثمرات الدانية وإن قل مقدارها، والتغاضي عن الثمرات القاصية وإن كثر مقدارها.
والأرض اللبنانية في كل حال كريمة صالحة للنمو بما يدخل في تراكيبها من الجواهر والأجزاء العضوية الصالحة لغذاء النبات ونموه، وهذه الأرض تختلف ألوانها، فمنها بيضاء وحمراء وسوداء، وما يلامس الصخور منها يكون عذيا تزداد صلاحيته للإنماء بعذاوته المكتسبة من ملامسة الصخور وبما يدخل في تراكيبه من المتحات من بعضها؛ لأن هذه الصخور لا تخلو أن تكون إما من الطباشيري، أو من الجصي، أو الصدفي، أو الرملي، أو الصواني. وبالجملة، فإن أرض لبنان جيدة كثيرا، وإن كان المستعمل منها قليلا؛ بسبب كثرة الصخور فيها. واللبنانيون لولا إقدامهم ونشاطهم لما تيسر لهم إن وسعوا في نطاق المستعمل من أراضيهم حتى بلغ ما هو عليه الآن، وذلك بإزالة تلك الصخور وتغشية البعض منها بطبقة ترابية. ولا غرو فإن افتقارهم إلى الأرض وقلة موارد الاسترزاق من دونها أوجدا فيهم ذلك النشاط؛ فإن المرء ابن الحاجة. (4) هواء لبنان
لبنان واقع بين الدرجة الثالثة والثلاثين من العرض الشمالي والخامسة والثلاثين منه، ومع هذا فإنه يختلف كثيرا من حيث جودة هوائه عن الأماكن الواقعة في هذا العرض نفسه؛ مثل: شمالي إفريقيا، ومكسيكو، والهند. وإن الإنسان ليجد فيه من كل صنف من صنوف الهواء، ويتخير منها ما يوافق مزاجه، فللبنان في هذا مزية على سائر البلدان؛ إذ الحرارة فيه تختلف درجاتها بين سواحله وأعاليه اختلافا منسوقا بحسب درجات الارتفاع لكل مائتي متر من العلو نقصان درجة واحدة من الحرارة، وإنك لو سرت من السواحل المنبسطة عند أقدامه إلى هامته لتيسر لك بمسيرة يوم واحد أن تجتاز جميع تلك الدرجات؛ إذ لو ركبت صباحا من سواحل شماليه، وحر الصيف بالغ معظمه 85 درجة من مقياس فارنهيت لما غربت عنك الشمس إلا وأنت على قمته ترشف الحياة من لطيف نسماته ، وتعلل بصرك ببياض لمته. وبالجملة، فإن هواء لبنان ملائم للأبدان على اختلاف أمزجتها، حتى أصبح يضرب المثل بجودته. والأمراض المزمنة يكاد لا يعرفها اللبنانيون إلا البعض من سكان سواحله الذين يصيبهم الالتهاب الشعبي المزمن، على أن هذا الالتهاب لا يعزى السبب فيه إلى الهواء أكثر مما يعزى إلى التفريط في الوقاية من الأعراض، والإفراط في استعمال التبغ ونحوه إلى حد ليس عليه من مزيد.
أما فصول السنة فأربعة واضحة بمميزاتها، ويظهر وضوحها كثيرا في الأماكن العالية من الجبل والأماكن الوسطى. وقبل أن ننتقل من هذا المطلب إلى مطلب غيره من مطالب جغرافية لبنان نرى من الضرورة أن نذكر أمرا يتعلق بالهواء عظيم الشأن؛ ذلك أنه من المعلوم أن الأشجار تؤثر في الهواء كثيرا، فمنها ما يفسده ومنها ما يصلحه، وذلك بحسبما تتناوله من أجزاء الهواء غذاء لها، ففي الغالب تكون الأشجار العريضة الورق أكثر ضررا من غيرها، فشتان بين شجر التوت والأرز. ومعلوم أن اللبنانيين أولعوا من زمن بغرس أشجار التوت لما لهم فيه من المنفعة ولعلمهم أن هذا الصنف يلزمه من السماد أكثر من غيره، وأن الأرض التي تحيط بالمنازل في القرى تشتمل على السماد بما يطرح فيها اضطرارا من الهوالك والقاذورات؛ فأكثروا من غرس التوت فيها، حتى إنهم لم يدعوا منها قيد ذراع بدون أن يظلله هذا الشجر، وإن كثيرا من القرى فسد لذلك هواؤها بعد أن كان نقيا صافيا.
نامعلوم صفحہ