وفي الزمن الذي فيه كانت كلمة المصريين نافذة في فينيقية وسيادتهم مستقرة عليهم خرج بنو إسرائيل من أرض مصر، ثم دخلوا أرض الميعاد في منتصف القرن الخامس عشر ق.م وتملكوا البلاد، وبعد أن ضربوا إحدى وثلاثين إمارة كنعانية، وكان ما كان من أمرهم في أيام موسى وفي أيام يشوع مما رواه الكتاب المقدس وفصله المؤرخون من اليهود من المواقع الحربية التي كان النصر فيها حليفا للإسرائيليين، وحرق يشوع حاصور وغيرها، ونهب مدنا كثيرة، واستولى على جميع أرض الجنوب وأرض جوشن والجبل والسهل والعربة من الجبل الأقرع الناتئ إلى سعير وإلى بعل جاد في بقعة لبنان تحت جبل حرمون.
وفي أواخر القرن الثالث عشر ق.م هجم الفلسطينيون (وهم قوم أتوا سورية من كريت في أواخر القرن الخامس عشر) على صيدا ودمروها وأسروا أهلها؛ فانتقلت السيادة إلى صور. ويظهر أن الفينيقيين في القرن الحادي عشر كانوا مصافين لبني إسرائيل حلفاء لهم حتى إنهم كانوا يسرون كثيرا بما كان يناله داود من الفوز على الآراميين والفلسطينيين.
وقد بعث حيرام ملك صور إلى داود بالصناع الفينيقيين والخشب من لبنان، وكذلك أرسل إلى سليمان بن داود من الفعلة والخشب، ومات حيرام سنة 944ق.م، وهو في الأرجح حيرام الثاني بن أبيبعل بن حيرام الأول، ثم خلف حيرام ابنه بعل عازار، ثم خلف بعل عازار ابنه عبد عشتروت؛ فتآمر على عبد عشتروت هذا أبناء ظئره الأربعة، فقتلوه نحو سنة 928ق.م، وخرج الملك من يد سلالة حيرام زمنا يسيرا عاد إليها على يد عشترتوس بن بعل عازار بن حيرام فتبوأ تخت الملك، ثم مات وخلفه أخوه عشتريم فقتل عشتريم أخوه فالس، واستقل بالملك مدة ثمانية أشهر، فسطا عليه كاهن عشتروت إيتو بعل وقتله واستبد بالملك، وقد استحكمت للفينيقيين في أيامه السلطة على بني إسرائيل الذين كانوا يومئذ منقسمين؛ وذلك لأن امرأة أخاب ملك إسرائيل، وهي إيز بعل ابنة إيتو بعل، قد تسلطت على زوجها وملكت إرادته فجعلته آلة في يدها تديره كيف شاءت، وهي كانت تحب أبناء جلدتها الفينيقين، وتعبد ما يعبدون، فأفسدت عبادة الإسرائيليين، وحملتهم على أن يشركوا بالله آلهة الفينيقيين.
ولبث الحال على هذا المنوال في بني إسرائيل حتى مات يورام سنة 830ق.م، وفي بني يهوذا منهم حتى أيام يواش الذي رقي منصة الملك سنة 823ق.م، وأما إيتو بعل الذي تقدم ذكره فهو الذي (فيما رواه يوسيفوس في كتاب تاريخ اليهود عن مينندر المؤرخ اليوناني الأفسسي) بنى مدينة بتريس (البترون) في فينيقية؛ وهي المدينة التي - فيما قال هذا المؤرخ - لبثت زمانا طويلا تصد اللبنانيين في غاراتهم على تلك السواحل الفينيقية، وكان ابتداء ملك إيتو بعل فيما رواه لنورمان سنة 838ق.م وانتهاؤه سنة 829ق.م.
فيتبين مما تقدم من حوادث بني إسرائيل أن معظم ذلك إنما كان في الجانب الجنوبي من لبنان والجانب الشرقي منه، وأما مواطن الفينيقيين فلم يرد من ذكرها في عرض تلك الحوادث إلا بعض الشيء مما يتعلق بصور وصيدا. ومعلوم أن موسى قسم الكنعانيين إلى جنوبيين وشماليين، وجعل صيدا تخما شماليا للجنوبيين، وجرار وغزة تخما جنوبيا، كما يتبين ذلك من سفر التكوين (فصل 10 عدد 9)، ويعلم أيضا أن العرقيين والأرواديين وغيرهم من أهل تلك الأنحاء الشمالية كالصماريين والحماثيين كانوا كنعانيين وهم الشماليون، ثم إنه لم يذكر لإحدى عشائر الكنعانيين مقام بين صيدا وعرقا لا في الكتاب ولا في غيره، ويؤخذ من الآثار والتواريخ أنه كان بين الكنعانيين والجبليين والبيروتيين محالفة تدل على أن المتحالفين لم يكونوا من قبيلة واحدة. وحيث إن هذه الأنحاء كانت لا تستوعب من السكان إلا الكنعانيين والآراميين، وكان الآراميون - أشهر سكان سورية - منتشرين فيها إلى دمشق، وكانت جبيل فيما يظهر من الآثار والأقاصيص عريقة في القدم وبيروت من مستعمراتها، فالسكان الأقدمون في هذه السواحل سواحل لبنان كانوا آراميين حتى غشيت مواطنهم العشائر الكنعانية فاختلطوا بها، ولا يعلم متى كان اختلاطهم ذلك، والمرجح أنه كان عند استفحال أمر الفينيقيين وانتشار سطوتهم وامتداد ظل تجارتهم. ويظهر أيضا أن العشائر الكنعانية كانت كل واحدة منها منفردة في أمرها مستقلة بتدبير شئونها، لم تكن لتجمع بينها وبين أخواتها نكبة ولا ملمة، ولبثت تلك العشائر كذلك حتى اجتمعت بالجامعة الفينيقية. ومع هذا فقد لبثت غير ميالة إلى التناصر والتكاتف.
إنه في أيام إيتو بعل الأول في أواسط القرن التاسع قبل المسيح استولى على فينيقية ولبنان أحد ملوك الآشوريين آشور نسير بال، كما يؤخذ ذلك مما كتب على تمثال له اكتشفه المستر لايرد في أسوار حصن نمرود، وجعل في المتحف البريطاني. أما الكتابة، فهي: «آشور نسير بال الملك العظيم الملك القدير ملك البلاد من ضفة دجلة إلى بلاد لبنان (لبنان)، ضرب سلطته على البحار الكبيرة وكل البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها.» وقد نقر تاريخ استيلائه هذا في صفيحة من صخر، وبالجملة فإن هذا الملك دوخ بلاد أمانوس (جبل اللكام) وعبر العاصي، ثم سار حتى بلغ لبنان وملك سفحيه إلى البحر وإلى سهل بعلبك والبقاع العزيز، وضرب الجزية على ملوك صور وصيدا وجبيل وأرواد التي في وسط البحر، ومال إلى الصيد في لبنان، فاصطاد خنازير برية وبقرا وحشية، وأخذ منها بعضا حيا وأرسله إلى آشور، وقتل نمورا وضباعا وثعالب، واصطاد أيالا وغزلانا ونسورا وغير ذلك من الوحوش
10
والطير، وزار المعابد على قمم لبنان، وقدم محرقة للآلهة. فيظهر مما تقدم أن لبنان لم يكن آهلا بالسكان؛ بدليل كثرة انتشار الحيوانات فيه وعدم ذكر شيء من مدنه في جملة المدن التي استولى عليها الملك آشور نسيربال، وأنه إنما كان موضعا للمعابد المشيدة على قممه المحفوفة بالآجام الكثيفة التي أخذ الملك آشور نسير بال منها أخشابا من السنديان وغيره، وأن العمران إنما كان بسفحيه، ثم مات إيتو بعل
11
الأول سنة 844ق.م بعد أن ملك أربعين سنة، ورقي منصة الملك بعده ابنه بعل عازار الثاني سنة 844ق.م، ومات سنة 838ق.م، فملك ست سنوات وخلفه ابنه موتون فملك تسع سنوات، وفي أيام هذا الملك أتى سلمناصر الثالث (وهو ابن آشور نزير بال) فينيقية وأخذ الجزية من ملوكها بدليل ما وجد مكتوبا على مسلة نمرود؛ حيث قال: «في غزوتي الثامنة عشرة عبرت الفرات المرة الواحدة والعشرين، وسرت بجنودي على مدن حزائل ملك دمشق، وأخذت الجزية من صور وصيدا وجبيل.» فيظهر من كلامه هذا ومن غيره من أقوال المؤرخين أن الحرب أضرمت نيرانها على الدمشقيين، وأما الفينيقيون فاستسلموا لهذا الملك بدون حرب ودفعوا إليه الجزية، وأنه لم يدرج في أسماء الملوك السورية الاثني عشر الذين تحالفوا على سلمناصر من أسماء ملوك الفينيقيين إلا اسم ماتينبعل ملك أرواد.
نامعلوم صفحہ