الاقتباسات والمراجع
1 - المادة والميتافيزيقا
2 - سماع النداء
3 - علم واحد ومنهج واحد
4 - المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
5 - التجول حول العالم
6 - باريس
7 - كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
8 - ثلاثة نماذج للمنهج
9 - «منطق» جديد
10 - الحاجة إلى الميتافيزيقا
11 - كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
12 - الشك عند ديكارت
13 - علماء اللاهوت والرب الفيزيائي
14 - الأفكار
15 - العقل
16 - الجسد
17 - كتاب «مبادئ الفلسفة»
18 - العلوم الأخرى
19 - الأيام الأخيرة
20 - شبح ديكارت
قراءات إضافية
الاقتباسات والمراجع
1 - المادة والميتافيزيقا
2 - سماع النداء
3 - علم واحد ومنهج واحد
4 - المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
5 - التجول حول العالم
6 - باريس
7 - كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
8 - ثلاثة نماذج للمنهج
9 - «منطق» جديد
10 - الحاجة إلى الميتافيزيقا
11 - كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
12 - الشك عند ديكارت
13 - علماء اللاهوت والرب الفيزيائي
14 - الأفكار
15 - العقل
16 - الجسد
17 - كتاب «مبادئ الفلسفة»
18 - العلوم الأخرى
19 - الأيام الأخيرة
20 - شبح ديكارت
قراءات إضافية
ديكارت
ديكارت
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
توم سوريل
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
ضياء وراد
إلى أليسون
الاقتباسات والمراجع
الإشارة إلى الاقتباسات من أعمال ديكارت في هذا الكتاب قائمة على أساس رقم المجلد ورقم الصفحة بالطبعة المعتمدة لأعمال ديكارت والتي نشرها آدم وتانري (باريس: فرين، 1964-1975). فعلى سبيل المثال، (7 : 12) تعني الصفحة رقم 12 من المجلد رقم 7 من طبعة آدم وتانري. وبشكل عام، الترجمات منقولة من كتاب «أعمال ديكارت الفلسفية» (كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، 1985) لمؤلفيه جيه كوتنجهام، وآر ستوثوف، ودي موردوك، حيث تظهر - في تلك الترجمة - أرقام مجلدات طبعة آدم وتانري في بدايات الأعمال، وأرقام الصفحات في الهوامش. ويشير حرف «أ» الذي يلي أرقام المجلدات إلى نص باللغة اللاتينية، والحرف «ب» إلى نص باللغة الفرنسية. والاقتباسات الطويلة من خطابات ديكارت مأخوذة من ترجمة أنتوني كيني التي صدرت تحت عنوان «ديكارت: الخطابات الفلسفية» (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 1970).
الفصل الأول
المادة والميتافيزيقا
كانت رحلة رينيه ديكارت العملية قصيرة وبدأها متأخرا؛ فهو لم يشرع في البحث المكثف في الفلسفة والعلوم الطبيعية حتى عام 1628، عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره؛ واستغرق تسع سنوات أخرى قبل أن ينشر أي عمل، وما نشرت آخر أعماله التي ألفها في حياته إلا بعد 12 عاما من أولها ؛ أي عام 1649. ولم يكن إنتاجه غزيرا، غير أنه قدم إسهامات جليلة في الفيزياء والرياضيات والبصريات، وأورد ملاحظات مفيدة في مجالات علمية أخرى، على رأسها علم الأرصاد الجوية وعلم وظائف الأعضاء. ولو كان قد حصر نفسه في العلوم الطبيعية وحدها لأصبح إنجازه مميزا بالقدر الكافي، لكن نطاق إنجازاته كان أكثر اتساعا بكثير.
ولعل أكثر ما يشتهر به أنه هو من قال: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» وهذه العبارة الاستدلالية البسيطة هي أول مبدأ في النظرية الميتافيزيقية التي وضعها، أو فلسفته الأولى؛ أي نظريته لما يجب أن يعرف حتى يمكن أن يوجد أي علم ثابت ووثيق. ونظريته الميتافيزيقية دقيقة جدا، ولها بالغ الأثر على الفلسفة حتى يومنا هذا، ولعلها أبرز إنجازاته الفكرية على الإطلاق وأدومها، لكن لم تكن الغاية منها أن تكون منفصلة عن أعماله العلمية، ناهيك عن أن تطغى عليها. فعندما تحول ديكارت للميتافيزيقا في البداية، وقرب منتصف فترة ازدهار إنتاجه، ابتكر نظرية كان مفترضا لها أن تمهد الطريق لنظريته المتعلقة بالفيزياء الرياضية. وبحجة معقدة ومجردة جدا، حاول ديكارت أن يثبت أن الخصائص المفهومة فهما وافيا في علم الهندسة؛ ألا وهي الطول والعرض والعمق، هي وحدها الضرورية لفهم المادة، وأنه ما من خصائص سوى تلك الخصائص الهندسية بالإضافة للحركة تلزم لتفسير الظواهر الطبيعية.
شكل 1-1: نقش لصورة ديكارت من لوحة أصلية لفرانس هالز.
1
لم يكن ديكارت المؤيد الأول أو الأوحد للفيزياء الهندسية؛ فقد كان جاليليو صاحب المنهج العام فيها، لكنه كان في رأي ديكارت يفتقر إلى الدقة الكافية. قال ديكارت متحدثا عن جاليليو في خطاب يرجع تاريخه لأكتوبر 1638: «لقد بنى بلا أساس، ودون أن يضع بعين الاعتبار العلة الرئيسية للطبيعة، لم يسع إلا وراء أسباب بعض الظواهر بعينها» (2 : 380). درست ميتافيزيقا ديكارت العلة الرئيسية للطبيعة وهي الرب، فيما انتهت فيزياء ديكارت إلى علل ظواهر الطبيعة الأعم - كالتسارع وتشوه الأجسام جراء الاصطدام - واقترحت فرضيات لعلل ظواهر أخرى كثيرة.
وكان ديكارت معنيا بتبني شكل من أشكال التفسير بعيد كل البعد عن تفسير البديهة والفيزياء التقليدية من حيث إنه لم يكن مهتما، شأنهما، بالمظاهر التي تبدو عليها الأشياء المادية للحواس البشرية. لقد قامت فيزياء ديكارت على الحقائق الرياضية المتعلقة بالأشياء المادية، حقائق عن الحجم والشكل والتكوين والسرعة، حقائق يمكن أن يستوعبها عقل يتمتع بحس/خبرة مختلفة عن حواسنا وخبراتنا، أو عقل لا يتمتع بحس/خبرة على الإطلاق. وقد قام بالتعامل مع الحقائق الأخرى الخاصة بالأشياء المادية، كتمتعها بلون ورائحة - وهي الحقائق النسبية للقوى الحسية للبشر - بشكل مختلف. فقد وصفها ديكارت في سياق الإطار المفضل لأحجام الأشياء المادية وأشكالها وسرعاتها، وأثرها على أعضاء الحس، وأثمر وصفه عن نظرية ميزت بين الخصائص التي تتمتع بها الأشياء المادية حقا وبديهيا، كالشكل والحجم، والخصائص التي بدا ظاهريا فحسب أنها تتمتع بها، لا سيما اللون والرائحة وغيرها من الصفات المحسوسة.
للتمييز بين الإدراك الحسي للعالم المادي والإدراك الرياضي الأكثر صرامة، ألزم ديكارت نفسه بوجهة النظر التي مفادها: أن الإدراك الرياضي هو الأكثر موضوعية بين الاثنين. والتزم غيره من المؤمنين بالعلم الجديد بالشيء نفسه، وحاولوا أحيانا الإيحاء بتفوق الإدراك الرياضي زاعمين أنه أقرب لإدراك الرب، لكن ديكارت استطاع أن يتجاوز هذا الحديث الغامض عن المنظور الرباني، وبين الفارق بين الإدراكين الحسي والرياضي للعالم المادي، وأثبت أن الأول عرضة باستمرار للشك، بينما الثاني لا يشوبه الشك قط، واقترح طريقة يستطيع من خلالها عزل نفسه عن الإدراك الحسي وتبني الإدراك الأكثر موضوعية.
وإذ شرع في وضع تلك الطريقة موضع التنفيذ، حصل ديكارت على نتائج مبهرة في عدة فروع من العلوم الطبيعية، إضافة إلى الرياضيات البحتة، وتمكن علماء آخرون، مثل فرانسيس بيكون وجاليليو، من مضاهاة إنجاز ديكارت جزئيا وحسب. فرغم أن بيكون ابتكر طريقة لتجاوز قيود البديهة والفيزياء التقليدية، لم تكن شكوكه في العالم الحسي عميقة كشكوك ديكارت. ومرة أخرى، بينما أفسح بيكون المجال لإدراك أكثر موضوعية للطبيعة لم يحدده باعتباره إدراكا رياضيا أصلا. وفي حين قدم لنا جاليليو هذا التمييز، فإنه لم يكن يملك نظرية حقيقية لتفسير مناسبة المنهج الرياضي لتفسير العالم المادي. وقدمت لنا الميتافيزيقا الديكارتية النظرية المفقودة، وأفادت بأن العقل البشري خلقه الرب كي يتمتع باليقين القاطع بخصوص الأشياء المادية عندما يدركها رياضيا؛ وأوضحت أن الرب لديه القدرة على خلق كل ما يمكننا إدراكه على نحو يقيني، وأن الرب أيضا كريم جدا؛ إذ أجاز للعقل البشري أن يقع في الخطأ عندما يدرك على نحو يقيني الطبيعة الرياضية للمادة.
لم يصغ هذا التفسير لبيان كيف أن المادة والرياضيات خلقا بعضهما لبعض بشكل من المرجح أن نراه مألوفا أو جذابا، ولم يكن الهدف أصلا إقناعنا بأن الفيزياء الرياضية قابلة للتطبيق. إن النجاح المدوي للفيزياء الرياضية بوصفها أداة للقياس والتنبؤ والتحكم منذ القرن السابع عشر جعل من أي نظرية تثبت صلاحية الفيزياء الرياضية محض تكرار وتقليد، لكن صياغة نظرية ديكارت ساعدت على تمهيد الطريق أمام بعض الأبحاث المبكرة التي حققت إنجازات بررت ثقتنا بالعلم المادي الحديث.
تلفت النظرية الميتافيزيقية لديكارت الآن الأنظار أكثر من نظريته الخاصة بالفيزياء الرياضية؛ وذلك لأن أكثر فرضياته تميزا في العلوم الفيزيائية بدأت تذوي بحلول فرضيات أخرى تفوقت عليها في غضون عقود قليلة من وفاته. ورغم ذلك، فقد شغلت الأبحاث التي أنتجت تلك الفرضيات وعملية جمعها تقريبا معظم الفترة المثمرة من حياة ديكارت. وغلبت المسائل العلمية لا الفلسفية على عمل ديكارت. وقد واجهها بإدراك قوي بالقواسم المشتركة فيما بينها، وأفكار محددة عن الترتيب الذي يتعين التعاطي معها به، واقتناع داخلي بأنه يستطيع شخصيا أن يعثر على إجابات لأغلبها.
هوامش
الفصل الثاني
سماع النداء
بدا الأمر وكأنه بمحض الصدفة صار لدى ديكارت الثقة والإقدام الكافيان للمضي قدما في المهمة التي أخذها على عاتقه، وهي تنفيذ البرنامج البحثي الذي دشنه في حياته العملية. عندما ولد بمدينة تورين في شمال غرب فرنسا في الحادي والثلاثين من مارس عام 1596، لم يكن ينتسب إلى عائلة من العلماء. صحيح أن جده لأبيه ووالد جده كانا طبيبين، غير أن أباه كان محاميا وقاضيا. وتبين أن جده لأمه تقلد منصبا حكوميا مرموقا في مدينة بواتييه، وأن أقرباء أمه الآخرين تقلدوا مناصب قانونية حكومية. وكان أفراد عائلتي والدي ديكارت إما من صغار النبلاء أو على مشارف الانتماء إلى طبقة النبلاء، وكانوا أثرياء ومتعلمين تعليما راقيا، ولو أنه لم تكن لديهم ميول علمية تحديدا. ولم يكن في سنوات حياته الأولى ما يستدل به كمؤشر على ما آلت إليه حياته المهنية.
ربما عندما بلغ العاشرة من عمره، أرسل ديكارت الصغير إلى الكلية اليسوعية بمدينة لافليش في منطقة أنجو. ظل ديكارت في هذه الكلية لثماني سنوات، وحصل هناك على أول تدريب له في مجال العلوم. وفي العامين الأخيرين تعلم الرياضيات التي أبدى قدرات خاصة فيها، إضافة إلى الفيزياء، لكنها لم تكن الفيزياء التي تستخدم النتائج الرياضية؛ فقد تعرف ديكارت على النظرية المدرسية (السكولائية) للاختلاف والتغير الطبيعيين، وهي النظرية التي تفسر ملاحظات موصوفة نوعيا بلغة غامضة وتجريدية وغير كمية.
وتجاور بين اليسوعيين في أوائل القرن السابع عشر تدريس الفيزياء المدرسية مع الوعي بالقفزات العلمية التي تحققت في علم الفلك، واستلهمت من اتباع منهج رياضي مختلف كل الاختلاف لدراسة الطبيعة، وانعكس ذلك على كلية لافليش. على سبيل المثال، أقيم حفل بالكلية عام 1611 تقديرا لاكتشاف جاليليو أقمار المشتري. ولعل اليسوعيين كانوا مستنيرين بما يكفي لإتاحة الأدوات البصرية المبتكرة حديثا - والتي كانت تباع في باريس منذ عام 1609 - لديكارت وزملائه بالكلية. ولكن داخل الفصل الدراسي، بدا أن المذاهب المدرسية العقيمة كانت لها اليد العليا، وأنها كانت تشعر ديكارت بالضجر، أو هكذا كتب لاحقا. ففي مؤلفه الأشبه بالسيرة الذاتية «مقال عن المنهج»، الذي نشر عام 1637 كمقدمة لثلاث من مقالاته العلمية، أعطى ديكارت الانطباع بأنه تحمل أيام دراسته على مضض ولم يستفد منها، فلم يساعده في أبحاثه اللاحقة سوى الرياضيات التي تعلمها في لافليش، وحتى هذا الضرب من الرياضيات دعت الضرورة إلى إعادة صياغته، على حد قول ديكارت، كي يكون ذا جدوى. ومن الواضح أنه لم ينشغل في لافليش عامي 1613 أو 1614، بل في هولندا بعدها بخمس سنوات، بالأسئلة التي حفلت بها أعماله المنشورة.
لم ترد أخبار كافية عن ديكارت خلال الفترة بين عامي 1614، عندما غادر كلية لافليش، و1618، عندما وصل إلى هولندا. لدينا دليل على أنه حصل على درجة علمية في القانون في بواتييه عام 1616 تأسيا بأخيه الأكبر بيير الذي سبقه في الحصول على درجة مثيلة قبله بسنوات قلائل. ولكن بينما وجه والدهما بيير لامتهان القانون، بدا أن القدر اختار الحياة العسكرية لرينيه؛ ففي عام 1618، انتقل إلى مدينة بريدا في هولندا، وقيد اسمه كمتطوع نبيل في جيش الأمير الهولندي موريس، أمير ناسو. وحقيقة الأمر أنه كان ضابطا متدربا في جيش يعتبر أكاديمية عسكرية أيضا لشباب النبلاء بالقارة الأوروبية.
شكل 2-1: مدينة لافليش، في نقش يرجع للقرن السابع عشر من أعمال بيير أفيلين.
1
وفي مدينة بريدا، التقى ديكارت البالغ من العمر 22 عاما آنذاك بطبيب يكبره بثماني سنوات يدعى إيزاك بيكمان، وصارا صديقين. كان بيكمان علامة محيطا بعدد كبير من التخصصات العلمية، وكان أثره على الشاب ديكارت عظيما. ويستدل على ذلك من خطاب يرجع لعام 1619 كتب فيه ديكارت إلى بيكمان: «إن شئت الحقيقة، دعني أقر بأنك الذي أخرجني من خمولي وجعلني أتذكر أشياء سبق أن تعلمتها وكاد النسيان يطويها، وعندما شطح عقلي بعيدا عن الأمور الجادة، أعدتني أنت إلى جادة الطريق.» ولعله كان يعني ب «الأمور الجادة» مجموعة من المسائل المعضلة في الرياضيات البحتة والتطبيقية؛ فالرسائل التي بقيت من المتبادلة بين ديكارت وبيكمان خلال تلك الفترة لا تناقش شيئا آخر إلا قليلا، ومن الواضح أن الواحدة منها تكمل الحوار من حيث انتهى في السابقة لها. وكانت هناك رسالة واحدة تتعلق بالعلاقات الرياضية بين النغمات الموسيقية في الأغاني لصوت واحد. وفي رسالة أخرى، أعلن ديكارت أنه عثر في غضون ستة أيام على حلول لأربع مسائل قديمة في الرياضيات. وأسر لبيكمان أيضا أنه ينوي أن «يقدم للناس علما جديدا بالكامل» لحل أية مسألة حسابية أو هندسية بطريقة قياسية أيا كانت طبيعتها. في تلك الفترة تحديدا، بدأ حماس ديكارت للمسائل العلمية يتمكن منه حقا ويستحوذ عليه.
بدأت المراسلات بين ديكارت وبيكمان بعدما رحل الأول عن بريدا في طريقه إلى كوبنهاجن بنهاية أبريل عام 1619. وإذ كان حريصا كل الحرص على تفادي التحركات العسكرية القائمة بسبب اندلاع حرب الثلاثين عاما، فقد خطط ديكارت لسلوك درب غير مباشر بالمرة عبر أمستردام ودانزيج مرورا ببولندا، وأخيرا النمسا وبوهيميا. وكما يستدل من رسائله، عندما انطلق ديكارت في رحلته، كان منشغلا كل الانشغال بالمسائل الرياضية، وبدلا من أن يفقد اهتمامه مع طول رحلته، بدا وكأنه ينغمس أكثر فأكثر في تأملاته. ومن الواضح أنه عدل أيضا مسار رحلته؛ فلما لم يكن لديه الوقت الكافي للسفر عبر بولندا والمجر والنمسا وبوهيميا، وصل إلى فرانكفورت في سبتمبر 1619 بالتزامن مع تنصيب الإمبراطور فرديناند.
أنهى ديكارت رحلته في الشتاء في ألمانيا، ربما على مقربة من مدينة أولم، ولعل الأبحاث التي كان منشغلا بها هنالك استحوذت على عقله. على أية حال، ففي العاشر من نوفمبر عام 1619، وبينما كان منعزلا في غرفة يتم تدفئتها بواسطة موقد، يزعم أنه رأى رؤيا في وضح النهار، وراودته ثلاثة أحلام في المساء فسرها على أنها وحي مقدس لمهمته في الحياة؛ كشف النقاب عن علم رائع.
هوامش
الفصل الثالث
علم واحد ومنهج واحد
ما رآه ديكارت في رؤياه في وضح النهار لم يعرفه أحد، ووصفه لأحلامه التي راودته في مذكراته الخاصة مكتوب بأسلوب منمق جدا، وعلى هيئة جمل مبتورة لدرجة يستحيل معها أي تفسير موثوق. ورغم ذلك، من المرجح أن الفكرة التي بدأت تتجلى له هي توحيد قائمة طويلة من العلوم التي كانت تعد من قبل علوما منفصلة تحت لواء الرياضيات. وتتضمن تلك القائمة أربعة فروع علمية كانت تصنف عادة تحت مسمى «العلوم الأربعة»؛ وهي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، علاوة على البصريات والميكانيكا وبعض الفروع الأخرى.
ويشير عدد من المصادر المختلفة أن ديكارت - بعد أن غادر بريدا - صار أكثر نزوعا لاحتمالية وجود علم جامع أو منهج جامع للكشف العلمي. ولما راسل ديكارت بيكمان من أمستردام في أبريل 1619 قال إنه التقى علامة كبيرا زعم أن لديه القدرة على توظيف طريقة مستخلصة من كتاب «الفن الصغير »، لمؤلفه ريموند لول، ببراعة منقطعة النظير، لدرجة تجعله قادرا على مناقشة أي موضوع على الإطلاق لمدة ساعة كاملة دون توقف. كان لول كاتبا في القرن الثالث عشر الميلادي يتناول العلم الكلي. وحمل ديكارت هذا الزعم على محمل الجد لدرجة أنه طلب من بيكمان أن ينظر في المسألة، ويخبره ما إذا كان كتاب لول مميزا بحق. كان ديكارت قد كتب بنفسه لبيكمان عن رؤياه الخاصة بعلم قادر على توحيد الجبر والهندسة، ولعل هذا جعله ميالا لفكرة منهج مناسب لتحقيق اكتشافات جديدة في أي موضوع، أو بالأحرى فيما يتعلق بأي موضوع.
بحث ديكارت عن منهج شامل يتجاوز لول، فنراه لفترة يتأمل مذهب جماعة الصليب الوردي التي زعم أنها مصدر لضرب من الفهم الإجمالي للأمور. وخلال الفترة التي عاشها ديكارت بالقرب من مدينة أولم، التقى رياضيا يدعى يوهان فاولهابر عرف عنه أنه محسوب على جماعة الصليب الوردي، وربما أطلع ديكارت على شيء يتعلق بالمعتقدات السرية لجماعته. في السنوات التالية، ولكي ينفي اتهام انتسابه هو شخصيا إلى تلك الأخوية الخارجة على القانون، قال ديكارت إنه لم يجد شيئا مؤكدا في عقائد تلك الجماعة، ولكن إن كان قد تبرأ منهم، فلم يكن ذلك فور لقائه بفاولهابر مباشرة. تتحدث شذرات من مفكرة له احتفظ بها بعدما رحل عن ألمانيا عن عمل له اعتزم أن يرسي أساسا لما أسماه «سبل حل جميع الصعوبات في علم الرياضيات ... سيتم تقديم هذا العمل للمثقفين في شتى أرجاء العالم، وخاصة إلى الإخوة الأجلاء المحسوبين على جماعة الصليب الوردي في ألمانيا» (10 : 214).
تواصل المفكرة التي اقتبس منها الاقتباس أعلاه الحديث عن الوحدة الكامنة في العلوم: «لو استطعنا أن نرى كيف ترتبط العلوم ببعضها فلن يكون استبقاؤها في عقولنا أصعب من مجموعة أرقام بسيطة» (10 : 215). ولا يتضح على وجه التحديد إن كانت تلك الفكرة جالت بخاطره في شتاء عام 1619 أم لا، لكن ثمة اعتبارات وثيقة الصلة - عن الترتيب الذي يجب دراسة العلوم به - من الواضح أنها خطرت له من قبل، إذا صدقنا الرواية التي يرويها في مؤلفه «مقال عن المنهج».
يقدم لنا الجزء الثاني من مؤلف ديكارت «مقال عن المنهج» تقريرا عن تأملات ديكارت في غرفته ذات الموقد للتدفئة. ومن المفترض أنه شرع بالتأمل في فكرة أن الأدوات تكون أقل جودة إن صنعها عدد كبير من الأشخاص مما لو صنعت على يد شخص واحد وحسب، بل وستكون أسوأ لو صنعت بارتجال مما لو صنعت استنادا إلى خطة شاملة. ومع ذلك، فمن الأفضل أحيانا ألا نحاول من الصفر إعادة صنع شيء ما صنع بطريقة تفتقر للنظام. وكما لا يستطيع أحد أن يحلم بهدم «كل» البيوت في مدينة عشوائية واستبدال بيوت أخرى بها لمجرد إنجاز عمل أكثر جاذبية، على حد قول ديكارت؛ فإنه «من غير المنطقي ... أن يضع المرء خططا لتصحيح مسار العلوم أو نظام تعليمها الراسخ في المدارس» (6 : 13). على الجانب الآخر، من الممكن أن يكون من المنطقي أن يهدم الإنسان بيته ويعيد بناءه، ومن المنطلق نفسه قد يكون من المنطقي أن ينطبق ذلك أيضا على تصحيح المرء مسار ما تعلمه - رفض كل ما يداخله الشك في معتقداتنا المكتسبة - دون المساس بمحتوى العلوم ونظام تدريسها الراسخ. من بين أوائل النتائج التي توصل إليها ديكارت، بحسب مؤلفه «مقال عن المنهج»، أنه لا ضير من التخلص من جميع آرائه والبحث عن شيء أفضل يحل محلها طالما أنه ابتكر مقدما «منهجا» لإيجاد بدائل (6 : 17).
كان ديكارت يبحث عن منهج يتمتع بجميع المميزات دون أن يشوبه أي من أوجه القصور التي تشوب الإجراءات المتبعة في المنطق والجبر والهندسة، وزعم في مؤلفه «مقال عن المنهج» أنه عثر على ذلك المنهج ونجح في تطبيقه إلى حد ما بنجاح. يقول: «في الواقع، يسعني القول إنني بالاتباع الدقيق للقواعد القليلة التي وقع اختياري عليها، صرت بارعا جدا في حل جميع المسائل التي تنتمي إلى (التحليل الهندسي والجبر)» (6 : 20). وبعدها بقليل يقول ديكارت: «وبما أنني لم أحصر المنهج في موضوع بعينه، عقدت الآمال على تطبيقه بنجاح على مسائل العلوم الأخرى كما نجحت في تطبيقه على الجبر» (6 : 21). وهذا التصريح أقرب ما يكون إلى زعم ديكارت في مؤلفه «مقال عن المنهج» بأنه - عندما كان في ألمانيا - عثر على منهج شامل ينطبق مبدئيا على جميع المسائل العلمية، لكنه لم يتطرق إلى أن المنهج يناسب بالفعل العلوم الأخرى، بل صرح بأنه فكر أنه طالما أن مبادئ العلوم الأخرى تعول كلها على الفلسفة، التي لم يجد فيها أي شيء مؤكد، فعليه أولا أن يثبت وجود يقينات في هذا المجال. علاوة على ذلك، أدرك أنه لا داعي لإنجاز هذه المهمة قبل الأوان: «ارتأى لي أنني لا ينبغي أن أحاول إنجاز هذه المهمة حتى أصل إلى عمر أكثر نضجا من سنوات عمري الثلاث والعشرين، وحتى أمضي فترة طويلة في تأهيل نفسي لها» (6 : 22). وكما سيتضح لنا، استمرت فترة «الإعداد» لديكارت تسع سنوات، فلم يبادر بإثبات «المبادئ اليقينية» التي عدها ضرورية لحل المسائل في العلوم الأخرى سوى عام 1628.
الفصل الرابع
المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
ما المنهج الذي اكتشفه ديكارت - إن وجد - قبل عام 1628؟ يشير الجزء الثاني من «مقال عن المنهج» أنه إبان التجربة التي عاشها ديكارت في الغرفة ذات الموقد، كان قد حدد بالفعل أربعة مبادئ يسترشد بها في جميع تساؤلاته (6 : 18). تساءل نقاد «مقال عن المنهج»: هل كانت هذه المجموعة من القواعد يمكن حقا أن ترقى لتكون «منهجا»؟ وتعاطف ديكارت نفسه مع هذا الاعتراض؛ ففي تعليق لمراسل حول الوصف المناسب لمؤلفه، رفض أن يطلق عليه أطروحة كما أشار البعض عليه، استنادا إلى كونه يلمح إلى وجود منهج أو يعلن عنه دون أن يتجاوز ذلك إلى تدريس المنهج نفسه. هناك مشروع أشبه بالأطروحة وضعه ديكارت قرابة عام 1628، ولكنه لم ينته منه قط، وكان من المقرر أن يحوي عددا من القواعد لا تقل عن 36 قاعدة في ثلاث مجموعات، قوام كل منها 12 قاعدة، وسميت الأطروحة غير المكتملة: «قواعد لتوجيه الفكر». وتناوله للمنهج في تلك الأطروحة أكثر تعقيدا من تناول مؤلفه «مقال عن المنهج» له، ولكن لعله أكثر التزاما بالإجراءات العامة لحل المسائل التي خطرت لديكارت أول الأمر.
وإذ يشرح ديكارت القواعد الاثنتي عشرة الأولى في «قواعد لتوجيه الفكر»، نراه يمر على بعض النقاط التي من المفترض أنه درسها خلال تأملاته على مقربة من مدينة أولم في نوفمبر عام 1619. تنص القاعدة الرابعة على أنه يجب أن يكون المنهج لا الفضول دليلنا في البحث. وتعليقا على هذه القاعدة، يركز ديكارت على فائدة الأساليب المعلومة لحل المسائل في العلوم الرياضية المحدودة، ويتساءل عما إذا كان في الإمكان توسعة نطاقها بحيث تشمل «فروعا معرفية تعرقل تقدمها عقبات أكبر» (10 : 373). ويستقر رأيه على أنه يمكن توسعة نطاقها، أو يقرر أن الأساليب المعمول بها في الجبر والهندسة حالات خاصة لشيء أكثر عمومية؛ إجراء للإجابة عن مسائل خاصة بالأرقام والأشكال والكثير من الأشياء غيرها. وفي مرحلة تالية من نقاشه للقاعدة الرابعة، وبعد أن ألمح إلى توافر منهج عام بالكامل لحل المسائل، أكد فعليا أن ثمة «رياضيات كلية»:
تجلى لي أن الاهتمام الوحيد للرياضيات ينصب على مسائل الترتيب أو القياس، وأنه لا يهم إن كان القياس المعني ينطوي على أرقام أو أشكال أو نجوم أو أصوات أو أي شيء آخر أيا كان. وقادني هذا إلى إدراك أنه لا بد وأن هناك علما عاما يفسر جميع الأمور التي يمكن طرحها بخصوص الترتيب والقياس بغض النظر عن الموضوع نفسه، وأن هذا العلم يجب أن يطلق عليه اسم «الرياضيات الكلية» ... ذلك لأنه يغطي كل ما يؤهل ... العلوم الأخرى لأن تسمى فروعا من الرياضيات. (10 : 377-378)
ويواصل حديثه قائلا إن هذا العلم يتجاوز العلوم الثانوية الممثلة في الهندسة والفلك والموسيقى والبصريات والميكانيكا وغيرها «من حيث الوحدة والبساطة»، ويضيف أنه نظرا لمستواه العالي جدا من العمومية، فإنه لا يحوي بعض الصعوبات التي تعرقل العلوم المتخصصة.
يرى ديكارت أن هناك ثلاث قواعد محورية بالنسبة للأطروحة بأسرها (10 : 392). فالقاعدة الخامسة تملي على الباحث أن «يختزل القضايا المعقدة والغامضة بصفة تدريجية إلى قضايا أبسط، ثم يبدأ من خلال حدس القضية الأبسط على الإطلاق، ويحاول أن يرقى وفق نفس التدرج إلى معرفة القضايا الأخرى» (10 : 379). وتتوسع القاعدة السادسة بعض الشيء فيما يعد «بسيطا »؛ أما القاعدة السابعة فتقدم أسلوبا «للارتقاء» استنادا لألفاظ القاعدة الخامسة من القضايا الأبسط التي اختزلت فيها مسألة صعبة، مرورا إلى القضايا الباقية كلها.
ويوضح ديكارت كيف يمكن تطبيق هذه القواعد وغيرها من القواعد بشكل صحيح (10 : 393 والصفحات التالية). ويبدأ ديكارت بمسألة «انكسار الضوء»؛ وهذه مسألة في علم البصريات لوصف الخط أو المسار الذي تنحرف عنده أشعة متوازية من الضوء بطريقة تجعلها تتقاطع عند نقطة واحدة، عندما تصطدم بوسط أكثر كثافة. يقول ديكارت إن أي رياضي لا يفقه شيئا في الفيزياء لن يستطيع أن يحرز سوى تقدم محدود في هذه المسألة؛ فسيكتشف أن الخط الذي يسعى إليه يعتمد على نسبة بين الزوايا التي تصطدم عندها الأشعة بالوسط الأكثر كثافة والزوايا التي تنكسر عندها. وسيتتبع القاعدة الخامسة في اكتشافه لهذه المسألة بقدر أكبر؛ القاعدة الخامسة التي تملي على الباحث حل أية مسألة بواسطة اختزالها إلى قضايا أبسط؛ أي قضايا معلومة بما يسهل حل المسألة. وتورد إحدى القضايا نسبة الزوايا إلى بعضها، ولكن هذا هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه الرياضي البحت؛ وذلك لأن الرياضي البحت، الذي ينتهك القاعدة الأولى من البحث المنصوص عليها في «قواعد لتوجيه الفكر» (قارن: 10 : 361)، يسعى إلى الحقيقة المرتبطة بالأرقام والأشكال وحسب، لا المتعلقة بالأشياء عموما. «يمكن» إيجاد حل لمسألة الأشعة المنكسرة، ولكن من قبل شخص يتجاوز مسألة النسبة بين الزوايا ويرى ما تعتمد عليه تلك النسبة. ما يتعين على الباحث فهمه أن النسبة بين الزوايا تتباين بفعل تغيرات في الزوايا تحدث بسبب اختلافات في الوسائط التي تمر عبرها أشعة الضوء. ولكي يفهم هذه التغيرات، يتعين عليه أولا استيعاب أشياء أخرى؛ وهي كيفية مرور الضوء عبر «المادة الدقيقة» المناسبة لانتقاله، وطبيعة حركة الضوء أو قوته، وطبيعة القوة الطبيعية عموما. ويرتهن استيعاب تلك الأشياء بفهم قضايا «أبسط» من القضية التي تنص على النسبة بين الزوايا. القضية «الأبسط» من بين هذه القضايا البسيطة هي التي تشرح ماهية القوة الطبيعية.
وطبيعة القوة الطبيعية هي ما يعتبرها ديكارت الاصطلاح الأكثر «إطلاقا» في سلسلة الاعتبارات المتعلقة بمسألة انكسار الضوء (10 : 395). وعموما، فإن الاصطلاحات المطلقة لمتسلسلة ما هي التي تمكن الباحث من أن يضع يده على الأشياء «البسيطة» التي تجعل الطبائع المجهولة، كطبيعة الضوء، مفهومة. واستنادا إلى القاعدة السادسة في «قواعد لتوجيه الفكر»، يقدم لنا بعض الخصائص النموذجية للمطلقات:
إنني أصف كل ما يحوي بداخله الطبيعة المحضة البسيطة محل البحث بأنه: «مطلق»؛ أي ما ينظر إليه باعتباره مستقلا، سببا، بسيطا، شاملا، واحدا، مكافئا، مشابها، خطيا، وغيرها من السمات الشبيهة. (10 : 381)
تبدو قائمة السمات متنوعة حتى يقرأ المرء المزيد ويكتشف أنه بالنسبة لديكارت يمكن التعبير عن جميع المسائل القابلة للحل بمعادلات بين الكميات المعلومة والمجهولة المستخلصة من البيانات المرتبطة بتلك المسائل. ويرد ذكر التكافؤ في قائمة المطلقات بسبب استخدام المعادلات في بيان العلاقات التي تربط ما بين المعلوم والمجهول. ويرد ذكر صفة «الخطية»؛ لأن ثمة معادلات بعينها يمكن التعبير عنها كخطوط مستقيمة في نظام إحداثي. ويمكن بيان الإطلاق، من حيث ما يمكن فهمه بذاته لا استنادا إلى أشياء أخرى، في حالة انكسار الضوء: فيمكن فهم قوة الضوء حال فهم القوة عموما وحسب، ولكن فهم القوة عموما لا يعتمد على فهم نوع بعينه من القوة، كقوة الضوء.
يزعم ديكارت في «قواعد لتوجيه الفكر» أن المرء يكتشف «السر الأساسي» لمنهجه عندما يعرف أن كل الأشياء يمكن ترتيبها ترتيبا تتابعيا، وأنه في كل متسلسلة يوجد ارتقاء من الأشياء الأكثر إطلاقا إلى الأقل إطلاقا (10 : 381). والفكرة أن كل «مسألة» وكل مادة - يمكن تحديد حقيقتها أو زيفها - تختص «بأشياء مركبة» تتألف طبائعها من مزيج من أشياء «أبسط» أو أسهل في فهمها واستيعابها. وتحديد الأشياء البسيطة مسألة تتعلق بوصف الأشياء المركبة - والضوء والمغناطيس مثالان من أمثلته - بألفاظ عامة جدا تجرد وحسب سماتها الكمية.
يعتمد حديث ديكارت عن «المطلقات» على نظرية الطبائع «البسيطة» و«المركبة». وإذا لم نتعرف على هذه النظرية بقدر أكبر، فلن ينفعنا أن نطلع على «السر الأساسي» لمنهجه. السؤال: ما حجم الخلفية الضرورية التي يقدمها ديكارت في هذا الشأن؟ هناك جزء في «قواعد لتوجيه الفكر» عن تنويعات التركيب التي تتعرض لها الطبائع البسيطة (10 : 422 والصفحات التالية)، وثمة شيء عن التركيب باعتباره مصدر الخطأ (10 : 424 والصفحات التالية). كما يعدد أيضا الطبائع البسيطة نفسها.
يقسم ديكارت الطبائع البسيطة إلى ثلاث فئات (10 : 419 والصفحات التالية)؛ الأولى: هي الطبائع البسيطة «العقلية المحضة». ويضرب ديكارت مثلا بالمعرفة والشك والإرادة ضمن هذه الفئة، لكن هناك مسألة واحدة وحسب نوقشت في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» - المعنية بتحديد نطاق المعرفة البشرية وطبيعتها (10 : 395) - هي التي تظهر لنا بالكامل الطبائع العقلية البسيطة. ورغم أن ديكارت يطلق عليها اسم «أدق مثال» لمسألة على الإطلاق، ويزعم أنها «أول ... ما يجب تمحيصه باستخدام القواعد»، نجد أنها في حقيقة الأمر شاذة عن المسائل التي يطبق عليها منهجه. المسائل التي يركز ديكارت عليها يمكن حلها بالاستعانة بالفئتين الأخريين للطبائع البسيطة، اللتين يسميهما الطبائع البسيطة «المادية المحضة»، والطبائع البسيطة «المشتركة» بين الأشياء العقلية والمادية.
ويعني ديكارت بالطبيعة البسيطة «المادية المحضة»، على سبيل المثال، أي شيء لديه شكل وامتداد (طول وعرض وعمق)، أو أي شيء متحرك (10 : 419). فهذه الطبائع لا تنتمي إلا للأشياء المادية أو الفيزيائية، وبمعرفة علاقات بعضها ببعض، وتحديدا أنواع الأشياء المادية، من المفترض أن يكون المرء قادرا على الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بالقوى وسمات الأشياء المادية عموما. على سبيل المثال، يزعم ديكارت أنه بالإمكان الكشف عن طبيعة الصوت من معلومات مفادها: أن «ثمة ثلاثة أوتار أ، ب، ج تصدر الصوت نفسه؛ ولكن الوتر ب يبلغ سمكه ضعف سمك الوتر أ ولكنه ليس أطول منه، ويخضع لشد بفعل ثقل يبلغ وزنه ضعف الثقل الذي يتعرض له الوتر أ. أما الوتر ج فيبلغ طوله ضعف طول الوتر أ، ولو أنه ليس بسمكه، ويخضع لثقل يبلغ وزنه أربعة أضعاف الثقل الذي يتعرض له الوتر أ» (10 : 431). تتعلق هذه البيانات جميعها بالعلاقات بين الأطوال والسمك والأوزان باعتبار أنها قابلة للقياس بالوحدات؛ فالأطوال والسمك أمثلة على الطبائع المادية البسيطة، والقياس بالوحدات أحد «الطبائع المشتركة» (10: 419)؛ قارن: (10 : 440، 449).
يلاحظ ديكارت استنادا إلى مثال الأوتار ومسائل الصوت أنه يمكن أن نرى كيف يمكن اختزال أي مسألة مفهومة فهما وافيا، أو على الأقل أية مسألة تجرد بقدر كاف من أي اعتبارات غير ذات صلة، إلى «شكل ما بحيث ... نتعامل ... فقط مع أبعاد معينة عموما ونقارن بينها» (10 : 431). يستحق هذا، على نحو ما، أن يطلق عليه اسم «السر الأساسي» للمنهج المنصوص عليه في مؤلف ديكارت «قواعد لتوجيه الفكر». ما رآه ديكارت هو أن الكثير من المسائل العلمية القابلة للحل يمكن أن تبدو «عصية» على الحل بسبب الطريقة التي تشكلت بها، وظن أنه عثر على طريقة لحل أية مسألة تتعلق بالأرقام والأعداد؛ ولذلك فقد انصب تركيزه على إجراء لتحويل المسائل العلمية التي «لم» تكن تتعلق ظاهريا بالأرقام والأعداد إلى مسائل تتعلق بالأرقام والأعداد. ومع وضع المسائل الفيزيائية بشكل أساسي في الاعتبار، قدم ديكارت قواعد تفصيلية لإعادة التعبير عن تلك المسائل في هيئة مصفوفات من النقاط والخطوط: (10 : 450 والصفحات التالية)، أو عند الحاجة للاختصار، في هيئة معادلات بين الأرقام (10 : 455 والصفحات التالية). وبالتعبير عن تلك المسائل بهذه الطرق، يمكن اختزالها في شكل يمكن فيه ملاحظة العلاقات بين الأبعاد بسهولة أو حسابها آليا.
ولو أن عملية التحويل هذه كانت يمكن أن تكون ابتكارا وافيا، لم يكتف ديكارت بإعطاء توجيهات حول تحويل قضايا غير رياضية غامضة إلى لغة رياضية أكثر وضوحا؛ فقد كان يعتقد أن مجموعات الترميز الموجودة في الجبر والهندسة يتعين توضيحها وتوحيدها. ويذكر ديكارت في «مقال عن المنهج» كيف استطاع بسهولة في مطلع شبابه أن يجد أوجه قصور في الطرق التقليدية لتمثيل المسائل الرياضية. واشتكى ديكارت من أن التحليل الهندسي كان «مقيدا بشدة بالتحقق من الأعداد» لدرجة أنه لم يفسح المجال لإعمال الفكر «دون إنهاك الخيال بشدة» (6 : 17-18). أما الجبر فكان «مقيدا جدا بقواعد ورموز بعينها لدرجة أن المحصلة النهائية [كانت] علما مرتبكا وملغزا» (6 : 18).
لإضفاء وضوح ووحدة على العلمين السابقين، اقترح ديكارت العديد من أدوات التمثيل الرمزي التي ما تزال قيد الاستخدام في الجبر؛ فقد كان ديكارت هو الذي اخترع تمثيل المجاهيل في المعادلات بالرموز س، ص ، ع ؛ والمعروف منها بالرموز أ، ب، ج. وكان ديكارت أول من وضع التمثيل الرمزي القياسي للمكعبات وأس الأرقام، وكذا التمثيل الرمزي لجذورها المقابلة. والأهم من ذلك نظرا لتجاوز الأمر مسألة التمثيل الرمزي وحسب، كان ديكارت هو الذي أثبت كيف أن جميع الكميات التي توجد بينها علاقات قابلة للتمثيل بأرقام يمكن تمثيلها في مجال الهندسة بخطوط، وأنه يمكن تمثيل الخطوط، بما في ذلك المنحنيات، برموز جبرية. إن القراء الذين يألفون تمثيل حلول المعادلات باستخدام المحورين السيني والصادي لرسم الإحداثيات يعرفون الأساليب التي إن لم يكن ديكارت هو مخترعها فهو الذي طورها وقام بتطبيقها بطرق مبتكرة في مؤلفه المعنون «الهندسة».
تنبأ ديكارت في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» ببعض الابتكارات الواردة في مؤلفه «الهندسة»، على الأقل الخطوط العريضة منها، ومرة أخرى فقد أخذ مؤلفه الأول مستندا إلى الخطوط العريضة بعض أساليب الجبر والهندسة المنقحين من أجل حل المسائل الموجودة في علوم أخرى. وكانت نية ديكارت أن يثبت في القواعد الاثنتي عشرة الأخيرة، في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر»، كيف يمكن ترجمة أية مسألة على الإطلاق، مهما بلغت بساطة صياغتها الأولى، إلى مسألة يتسم فيها التحول من المعلوم إلى المجهول بالوضوح تماما كما في الرياضيات. من الواضح أنه لم يؤلف القواعد الاثنتي عشرة الأخيرة، ولكنه في القواعد الإحدى والعشرين تقريبا التي جمعها، توصل إلى نظرية شديدة التميز عن البحث والاستقصاء عموما، سنتعرض لأجزاء قليلة منها عند مناقشة الكتابات التي تبعت مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر».
الفصل الخامس
التجول حول العالم
لتسع سنوات منذ أن رأى ديكارت رؤياه في ألمانيا، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج»، «لم يفعل شيئا سوى التجول في العالم ...» (6 : 28). كانت تلك الفترة حافلة في المقام الأول بالأسفار خارج فرنسا؛ فقد كان من المفترض أن يساعده التعرض للتقاليد والمعتقدات الأجنبية على أن ينأى بنفسه عن أي تحيزات وأخطاء اكتسبها في شبابه. وكان يهدف إلى اكتساب الخبرات، والوصول إلى النضج الضروري «لأهم مهمة على الإطلاق»؛ ألا وهي الكشف عن المبادئ اليقينية في مجال الفلسفة ، أو على الأقل هكذا يصف «مقال عن المنهج» رحلات ديكارت في سياق تطوره الفكري.
ولا يأتي مؤلفه «مقال عن المنهج» على ذكر شيء بخصوص وجهة ديكارت في أسفاره، أو الأحداث التي شهدها خلال الطريق؛ فهو لا يتبنى هذا الضرب من السير الذاتية، فهو أقرب ما يكون إلى وصف لهيكل العلوم على هيئة قصة تطور رجل عن طريق تعليم الذات، منه إلى سرد لأحداث وقعت في حياة مؤلفه. وكما رأينا، يبدأ ديكارت القصة بذكر عدم رضاه عن التعليم المدرسي الذي يتلقاه، واكتشافه لمنهج من شأنه تصحيح جميع الأخطاء التي تشوب هذا التعليم. ويواصل ديكارت وصفه كيف طبق لأول مرة المنهج محققا نجاحات لا بأس بها في مجال الرياضيات، وكيف - قبل أن يمضي قدما - اكتشف أنه يجب أن يعرج على الفلسفة، الأمر الذي دعاه إلى اكتساب المزيد من الخبرات. تم تناول هذا في جزأين من أجزاء الكتاب الستة. وفي أجزاء لاحقة، يصف ديكارت ما حدث عندما صار أخيرا على استعداد للخوض في مجال الفلسفة؛ فقد نجح في العثور على المبادئ التي كان يبحث عنها، وواصل عمله بتطبيق المنهج على العلوم الأخرى؛ كالفيزياء والميكانيكا، وأخيرا العلوم الإنسانية.
على الرغم من أن «مقال عن المنهج» في ظاهره يسرد الأشياء بترتيب زمني، فإن النمط الحقيقي في رواية ديكارت هو في الواقع ترتيب مثالي لتلقين أي شخص العلوم. فيوجد أولا «المنطق»، الذي يتخذ هيئة المبادئ الأربعة للمنهج الجديد، ومن بعده الرياضيات، تليها الفلسفة، ثم الفيزياء، فالميكانيكا، والطب، والأخلاق. ويناسب ذكر ديكارت لأسفاره منطق هذه القصة لا من منطلق كونها تقريرا عن الأحداث التي وقعت خلال الفترة من 1619 إلى 1628، بل انطلاقا من كونها محاولة للتدليل على الحدود التي سعى في إطارها ديكارت لتطبيق المنهج الذي اختاره لتصحيح معتقداته السالفة. لقد رأينا بالفعل في مؤلفه «مقال عن المنهج» أن الإجراء الذي اتبعه يقضي برفض أي شيء يداخله أدنى شك في تعلمه. وكان هذا الأسلوب عرضة لسوء الفهم. وإذ كان حريصا على تبديد أي انطباع بأنه خلال محاولته التخلص من تحيزاته كان يسير ببساطة على درب الفلاسفة المتشككين، ويتبنى موقف الشك المدمر الذي «لا» يترك معتقدا على حاله، والذي من شأنه شل حركته في الشئون العملية، يشرح ديكارت في مؤلفه «مقال عن المنهج» كيف عاش في الوقت نفسه حياة المسافر النشط، وهدم أفكاره السابقة. استطاع ديكارت أن يحقق المعادلة الصعبة ويفعل الأمرين معا؛ لأنه استثنى، من فترة تعليمه الذاتي المدمرة، مسلمات ميثاق أخلاقي مؤقت، وأركان عقيدته، وإيمانه بالامتثال لقوانين وعادات بلده؛ فقد كان بحاجة للتمسك بكل هذه الأشياء حتى يتسنى له أن يتصرف بفاعلية في الوقت نفسه الذي ينخرط فيه في استقصائه الذاتي العميق.
شبه ديكارت ميثاقه الأخلاقي المؤقت وعقيدته بالملجأ المؤقت الذي يحتاج المرء أن يلوذ إليه خلال الفترة التي يجري فيها هدم بيته وإعادة بنائه (6 : 22). ويجب أن نأخذ ذلك التشبيه على محمل الجد إن أردنا ألا ننبذ مشروع ديكارت لنقد معتقداته، بحجة أنه يفتقر للحماس والهمة. إن الملاجئ المؤقتة هي الأشياء التي يمكن تدميرها، أو على الأقل هجرها فور أن يقيم المرء بيته الدائم: وكان الميثاق الأخلاقي المقنن بشدة لديكارت بالمثل عرضة لإعادة النظر والنقد، بل وحتى الرفض فور إقامة الهيكل الرئيسي للعلوم. وبالنسبة لحقائق العقيدة، فستعامل هذه الحقائق «في البداية» بيقين على أن يجري إثباتها لاحقا أثناء وضعه للمبادئ اليقينية في الفلسفة. ولكن بداية، وبحسب ما جاء في «مقال عن المنهج»، فقد قبل ديكارت أخلاقياته وعقيدته دون نقد، وطفق يفكك آراءه الأخرى. «ولما توقعت أنني سأكون قادرا على إنجاز ذلك بسرعة أكبر بالتحاور مع الآخرين مما لو قبعت في غرفتي ذات الموقد حيث جالت بخاطري كل هذه الأفكار، شرعت في أسفاري مرة أخرى في نهاية فصل الشتاء [شتاء 1619-1620]» (6 : 28). قام ديكارت بعدد من الرحلات خلال السنوات التسع التالية، لكنها لم تكن فترة ترحال وحسب بأي حال من الأحوال، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج». وحتى استقر لبعض الوقت في باريس، بين عامي 1626 و1628، ليس من الواضح أنه أخضع أفكاره للاختبار فعلا عن طريق «التحاور مع الآخرين ». على أية حال، من الصعب أن نحدد كيف آمن ديكارت بأن التحاور سيساعده على تصحيح أفكاره إذا كان يؤمن أيضا بأن الآخرين ما هم إلا أبواق لتعليم لا يقل إثارة للشكوك عن تعليمه الشخصي. علاوة على ذلك، فهو يصف دائما عملية استبعاد الأخطاء باعتبارها حكرا عليه وحده. وهذا يطرح السؤال: لماذا لم تكن الإقامة في غرفته ذات الموقد مناسبة لأغراضه بنفس قدر العودة للمجتمع؟ في نهاية المطاف، يجب على المرء أن يتعاطى مع مزاعمه العديدة الواردة في «مقال عن المنهج» عن الأشياء التي قام بها، ومرات قيامه بها، وأسبابه للقيام بها، مثلما يتعاطى مع المزاعم المتضمنة في أية قصة خيالية؛ فقد قدم ديكارت كتابه لقرائه على أية حال باعتباره قصة خيالية (6 : 4).
ولعله «لم» يغادر الغرفة ذات الموقد وفي ذهنه خطة لتأجيل أبحاثه في مجال العلوم. ورغم أن كتابه «مقال عن المنهج» يفيد بأنه حدد مهمة في مجال الفلسفة كان بحاجة إلى إنجازها قبل أن يتمكن من تطبيق منهجه خارج نطاق الجبر والهندسة، فليس من الواضح أنه أجل حقا تطبيق منهجه، أو أنه حدد لنفسه أي مشروع في الفلسفة. فمن المحتمل أن الحاجة لاستقصاءات ميتافيزيقية لم تتضح له إلا في باريس، بعد أن رحل عن ألمانيا بست أو سبع سنوات. أما بالنسبة لتأجيل تطبيق منهجه خارج إطار الرياضيات البحتة، فتوحي المفكرة الوحيدة التي وصلت لنا عن تلك الفترة بأن المنهج كان قيد التطبيق بالفعل عام 1620 في أعمال ديكارت عن مبادئ صنع عدسات تليسكوبية. ومرة أخرى، من المعروف أن ديكارت كان يطارده في شبابه خوف من أن توافيه المنية قبل أن يكمل مشروع حياته. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا الخوف جعله يتعجل لا يتلكأ. وحقيقة أنه لم ينتج سوى عمل مبتور على مدار تسع سنوات من المرجح أن يكون مردها إلى المحاولة والفشل في استكمال شيء ما، لا إلى سياسة متعمدة للانتظار لحين نضج أفكاره.
ليست لدينا معلومات كافية ومؤكدة عن أسفاره بعد شتاء عام 1619-1620 المحوري في حياته. ولعله واصل خدمته العسكرية كمتطوع وسافر لفترة من الوقت بصحبة جيش دوق بافاريا، وربما انتقل إلى جيش آخر عام 1621، وعرج على سيليزيا وبولندا. تسرد مفكرته الخاصة بتلك الفترة واقعة درامية حدثت خلال رحلة فرعية قام بها ديكارت وخادمه إلى جزر فريزيا؛ حيث تواطأ البحارة الذين استأجر قاربهم على سرقة أمواله وقتله، لكن ديكارت سمع مؤامرتهم واستل سيفه وهدد بقتلهم إذا حاولوا إلحاق أي ضرر به، فتراجع مهاجموه عن كيدهم.
وفي عام 1622، عاد ديكارت إلى فرنسا حيث أمضى بعض الوقت في باريس، وبصحبة معارفه في بريتاني. ويسجل خطاب بتاريخ مايو 1622 بيع الكثير من العقارات في هذا العام التي تركها له أبوه. ووفرت عليه أرباح استثمار تلك الأموال عناء البحث عن عمل لكسب العيش. وفي مارس 1623، انطلق إلى إيطاليا حيث تجول لأكثر من عامين، ومن أولى وجهاته التي قصدها مزار البيت المقدس بلوريتو. لقد أقسم ديكارت أن يذهب إلى هذا المكان تقديرا للرؤيا التي رآها عام 1619. ولاحقا زار روما وفلورنسا، ومنها عائدا إلى فرنسا، ربما في مايو عام 1625، عن طريق جبال الألب. ويزعم أنه في طريق عودته سنحت له الفرصة أن يشتري رتبة فريق شاتيليرو، لكن سعرها أذهله فرفض المسألة برمتها. وفي العام التالي، 1626، استقر في باريس، وباستثناء بعض الرحلات للريف، ظل في باريس ثلاث سنوات.
الفصل السادس
باريس
كان ديكارت قد بلغ قرابة الثلاثين من عمره عندما انتقل إلى باريس. وخلال السنوات الست أو السبع التي انقضت منذ أن ترك ألمانيا لم يقم بالكثير من أجل بناء أركان علمه الرائع؛ ففي باريس ظل نشاطه الفكري مشتتا وفاقدا لبوصلته. ولا يميز الجزء الثالث في كتابه «مقال عن المنهج» صراحة بين الأيام التي عاشها في باريس وتلك التي أمضاها في أسفاره، لكن ثمة فقرتين ربما تتعلقان بفترة إقامته في تلك المدينة. في واحدة من الفقرتين، يقول ديكارت إنه خلال سنوات التجوال التسع:
واصلت ممارسة المنهج الذي وصفته لنفسي، وإلى جانب حرصي بوجه عام على تحكيم جميع أفكاري لقواعد المنهج، فقد خصصت بضع ساعات بين الفينة والأخرى لتطبيقه أكثر على المسائل الرياضية بخاصة، ولقد قمت بتطبيقه أيضا على مسائل أخرى محددة، والتي استطعت صياغتها في شكل رياضي. (6 : 29)
ربما كانت «المسائل الرياضية» هي تضعيف المكعب وتثليث الزاوية. عرضت حلول ديكارت في باريس، وإن لم يكن قد توصل إليها هناك، على الرياضيين كلود ميدورج وسباستيان هاردي. ولعل «المسائل الأخرى المحددة» كانت تتعلق بالتقوس الأمثل لأنواع بعينها من العدسات. ومن المعروف أن ديكارت درس البصريات النظرية والتجريبية أثناء إقامته في باريس، وأحيانا بالتعاون مع ميدروج. ولقد أقام صداقة أيضا مع صانع أدوات بصرية يدعى فيرييه، وحاول الاستعانة به لاحقا كمساعد شخصي له.
تأتي الفقرة الثانية المستخلصة من «مقال عن المنهج»، والتي ربما تتعلق بأيام ديكارت في باريس، قرب نهاية الجزء الثالث، ويذكر فيها ديكارت أنه التزم ضربا من الحياد في المسائل الفكرية؛ حيث استقر رأيه، على حد قوله، على أن يكون مشاهدا بدلا من أن يكون فاعلا في أسفاره؛ فضل أن يكون ناقدا لأفكاره على أن يكون واضعا لنظريات خلال تأملاته الخاصة:
مرت هذه السنوات التسع ... دون أن أتحيز إلى أي جانب فيما يختص بالمسائل التي يناقشها المثقفون، أو دون أن أشرع في البحث عن أسس أية فلسفة أكثر يقينا من الفلسفة المتفق عليها؛ فالمثال الذي كان أمامي للمفكرين الكبار الكثر الذين سبق أن خاضوا في هذا المشروع، ولم تكلل جهودهم بالنجاح على حد علمي، جعلني أتخيل أن الصعوبات ستكون كبيرة جدا لدرجة أنني لن أجرؤ على البدء في المشروع في مرحلة مبكرة جدا لو لم ألاحظ أن البعض يروجون إشاعات بأنني انتهيت منه بالفعل. (6 : 30)
ويواصل حديثه قائلا إنه لم يفعل شيئا يشجع على ترويج تلك الشائعات، ولكن فور أن راجت حاول أن يرقى إليها، ويضع أسسا لفلسفة جديدة.
إلام كان ديكارت يشير عندما كتب عن «المسائل التي يشيع نقاشها بين المثقفين»؟ من المعلوم أنه في أغسطس عام 1624، تجمع أكثر من ألف نسمة في قاعة كبيرة في باريس للاستماع إلى دحض عام من أربع عشرة أطروحة ضد أرسطو ، لكن تم حظر النقاش بموجب مرسوم رسمي. ولاحقا نزولا على طلب السوربون، فرض حظر على تدريس أية قضية تنتقد العلماء المثقفين القدامى. وتصاعدت نبرة النقد الموجه إلى أرسطو، والمحتوى التعليمي بأكمله الذي تلقاه ديكارت وغيره من عامة الفرنسيين المتعلمين في عشرينيات القرن السابع عشر. وفي باريس، وجد هذا النقد ترحابا من شعب شهيته مفتوحة على كل ما هو شاذ وخليع في الأدب، وربما على الأفكار الثورية أيا كان نوعها في الفلسفة واللاهوت. دارت رحى محاكمة طويلة لأبرز الشعراء الساخرين في تلك الفترة، ويدعى تيوفيل دي ڤيو، بينما كان ديكارت في إيطاليا، وظلت عالقة بأذهان الناس في عام 1626 عندما انتقل إلى فرنسا. لقد جعلت المحاكمة من الشاعر بطلا شعبيا، وربما خلفت مجموعة كبيرة من أنصار الفنون الفاضحة والمتحررة، والنزعة التجديدية في الفلسفة.
وأيا كان الموقف الذي تبناه على الملأ، لم يستطع ديكارت أن يتجاهل الانتقادات الموجهة لأنصار الفكر المدرسي، أو يتجاهل الأثر المتنامي للأفكار الإلحادية بين معاصريه المثقفين. وكان ديكارت نفسه غير مهتم بالتعليم المدرسي. وربطت بينه وبين عدد كبير من رجال الكنيسة الكاثوليكية علاقة صداقة، ممن كانوا يتوقون لجعل الإيمان بالله موقرا فكريا، ومن بين هؤلاء مارين ميرسين، وهو راهب كاثوليكي ينتمي لأخوية مينيم، ويكبر ديكارت قليلا، وتصادفت أيام دراسته في لافليش مع أيام دراسة ديكارت هنالك. وفي الفترة بين عامي 1624 و1625، نشر ميرسين مجادلات له بحجم الكتب العادية ضد الكفر والإلحاد «الإباحي» من ناحية، والشك الفلسفي في إمكانية العلم من ناحية أخرى. وجاء الكتاب الأول الموجه ضد الإباحيين كردة فعل ضد الدعم الشعبي الواسع لتيوفيل أثناء محاكمته. أما المؤلف الديني المناوئ للشك؛ فقد حاول أن يفت في عضد نوع واحد محدد من النقد الموجه للتعليم المدرسي، والذي يفيد بأن الفيزياء والمنطق والرياضيات التي يتم تدرسيها في المدارس عقيمة؛ لأن العلم نفسه - ويراد المعرفة الثابتة المنتظمة - تتجاوز قدرات البشر. ورد ميرسين على هذا النقد ببيان أن الرياضيات، على أية حال، تقع ضمن نطاق قدرات البشر، وهي بذلك تستحق أن تسمى «علما». وكما سيتضح لنا ، فقد كرس ديكارت أفضل مؤلف له على الإطلاق، وهو بعنوان «تأملات في الفلسفة الأولى»، للموضوعات التي ناقشها ميرسين في مجادلاته، لكن هذا كان في مرحلة لاحقة جدا.
خلال الفترة التي عاشها ديكارت في باريس، لا بد أنه كان على دراية بالجدل الدائر حول الإلحاد ومذهب الشك، ولكن الأرجح أنه لم يشارك في أي نقاشات متعلقة بالأمر. ولاحقا، وتحديدا بعد أن غادر باريس، حرص ميرسين على إطلاع ديكارت على التطورات الجديدة في النقاشات الدائرة، خاصة فيما يتعلق بمذهب الشك. بداية من أواخر عشرينيات القرن السابع عشر، لعب ميرسين دور مراسل ديكارت الأساسي، إضافة إلى أدوار المروج والباحث والوكيل الأدبي والسكرتير الاجتماعي والمساعد العلمي المؤقت له. ولعل ميرسين ساعده أيضا في التعرف على العلماء والرياضيين المحليين خلال الفترة التي أمضاها في باريس. ولقد أقام ديكارت صداقات أيضا إبان تلك الفترة برجال آخرين من الكنيسة، ولا شك أنه تأثر بهم. وساعد جيوم جيبيوف، العضو بالجمعية الدينية الفرنسية التابعة للكنيسة الكاثوليكية والتي تأسست آنذاك في باريس، على تشكيل بعض آراء ديكارت عن البشر والإرادة الإلهية. وبتدخل من بيير بيرول، الكاردينال المؤسس للجمعية الدينية الجديدة، قطع ديكارت على نفسه عهدا أن يكرس حياته لتصحيح مسار الفلسفة.
وجاء تدخل بيرول استجابة لخطبة مبهرة ألقاها ديكارت عندما دعي لعرض آرائه عن محاضرة انتقدت فيها الفلسفة المدرسية. ألقى كيميائي، يدعى شاندو، هذه المحاضرة على جمهور تضمن ديكارت وبيرول بمقر السفير البابوي في باريس، ربما في خريف عام 1627. وتحدث شاندو بأسلوب مقنع، وحصل على استحسان الجميع فيما خلا ديكارت. ودعا بيرول ديكارت للرد، فجاء رد ديكارت في خطبة بديعة جدا لدرجة أنه استمال الجميع إلى وجهة نظره الشخصية. وبينما اتفق ديكارت مع شاندو على أن الحاجة تستدعي وجود ما يحل محل الفلسفة المدرسية، حاجج ديكارت بأن أي شيء يحل محلها يجب أن يسترشد بمنهج للاستدلال قادر على أن يفضي إلى اليقين لا الخلوص إلى نتائج محتملة وحسب. ومن الواضح أن ديكارت بين المنهج المأمول؛ فعندما استرجع خطابه في رسالة كتبها عام 1631، ذكر شخصا كان حاضرا، ويدعى إتيان دو فليبريسو، قائلا: «لقد شهدت ... نتيجتين من نتائج قاعدة المنهج الطبيعي الرصينة التي وضعتها في النقاش الذي أجبرت على خوضه في حضور ... هذا الجمع من المثقفين والمتعلمين بمقر السفير الباباوي» (1 : 212). ولعل استعراض ديكارت في خطابه هذا هو الذي أشاع أنه اكتشف أسسا جديدة للفلسفة.
بعد محاضرة شاندو بفترة وجيزة، التقى بيرول ديكارت على انفراد، وتأكد من أنه سيكرس نفسه لإصلاح الفلسفة استنادا إلى المنهج الجديد. ووفى ديكارت بالعهد الذي قطعه بأن عمل على مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر». لقد كانت مهمة وصف منهجه وتطبيقه خارج نطاق الرياضيات على أية حال ضمن أجندة أعماله لفترة طويلة؛ ولذلك لم يكن ديكارت يكرس نفسه لمشروع جديد بقدر ما كان يقرر أخيرا تنفيذ خطة مؤجلة منذ فترة طويلة. ومع ذلك، فقد قام ديكارت بشيء يؤهله للقيام بمهمته الجادة. خلال شتاء 1627-1628، قصد معتزلا خاصا تاركا الدوائر الباريسية المسايرة للموضة التي كان يستمتع بالعيش فيها كلما تحرر من انشغاله بمشروعاته العلمية. وافقت تلك الفترة بداية حقبة من الاعتزال بدأت فعليا برحيله إلى هولندا من باريس في خريف عام 1628.
الفصل السابع
كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
سريعا بعد أن رجع ديكارت إلى الدولة التي شهدت أول شرارة فكرية له عام 1618، ربما شعر بثقل توقعات الآخرين لما ستسفر عنه جهوده. لم يكن بيرول وحده الذي انبهر بموهبته، بل هناك كثيرون أيضا غيره في باريس، كانوا حينها بانتظار ما سيتفتق عنه ذهنه. كان ديكارت قد بدأ عمله وألف بعض الأطروحات في باريس دون أن يتمها (قارن: 1 : 135)؛ والآن شرع في تأليف كتاب قصير ظن أنه لن يأخذ منه سوى عدة أشهر.
وأخذ ديكارت احتياطات مكثفة ضد أية مقاطعات؛ حيث عكف على بناء منزله حتى سبتمبر عام 1629 في أقصى شمال هولندا على مقربة من مدينة فرانيكر. وهناك، بحسب ما ورد في خطاب كتبه في نوفمبر 1630 لميرسين (1 : 177)، بدأ «أطروحة صغيرة عن الميتافيزيقا ... شرعت فيها أساسا لإثبات وجود الرب، وأرواحنا عندما تكون منفصلة عن الأجساد، الأمر الذي يترتب عليه خلودها.» وكان مصير الأطروحة الميتافيزيقية الصغيرة مصير الكثير من المؤلفات السابقة له التي لم تستكمل قط. ولفترة من الوقت، وتحديدا في مايو 1630، بدا أن ديكارت كان يبحث فكرة جمع ما ألفه في رد على «كتاب خبيث» ربما كان يدعو للإلحاد، كان ميرسين قد ذكره له في مراسلاته، لكن هذه الخطة أيضا طواها النسيان.
ثمة مشروع آخر شرع فيه ديكارت بعد وصوله إلى هولندا بفترة وجيزة كان سيغنيه عن الحاجة إلى الكتابة لأغراض النشر، لكنه اعتمد على التعاون مع صانع الأدوات البصرية الباريسي جان فيرييه. حاول ديكارت جاهدا أن يغري فيرييه بزيارة هولندا؛ حيث أرسل إليه مواصفات لآلة مثيرة صممها لقطع العدسات التليسكوبية. لو كانت تلك الآلة وعدساتها قد أنتجت، لربما ذاع صيت ديكارت مبكرا، لكن فيرييه لم يقتنع بالانتقال إلى هولندا، وطرحت فكرة تصنيع الآلة جانبا.
كان المشروع الثالث الذي شرع ديكارت فيه أكثر طموحا. فمن أوجه عدة، شغله هذا المشروع حتى الممات. منذ عام 1629، انكب ديكارت على أطروحة واسعة النطاق من شأنها رسم الخطوط العريضة لتفسير موحد للظواهر الطبيعية كافة. ولم تنشر هذه الأطروحة إلا بعد وفاة ديكارت. وكان الجزء الأول منها تحت عنوان «العالم أو كتاب النور»، والجزء الثاني بعنوان «كتاب الإنسان». بينما كان ديكارت على قيد الحياة، كانت النظريات في مجال الفيزياء التي توضع على غرار ما جاء في الجزء الأول من أطروحته الطويلة محظورة بأمر الكنيسة. ولقد أدى قراره بسحب هذا الجزء إلى امتناعه عن استكمال «كتاب الإنسان» أيضا، لكنه لم يتخل قط عن مشروعه الثالث. إن الفترة التي لم يمضها ديكارت من حياته العملية في كتابة أطروحته واسعة النطاق قضاها في التأكد من أنه لا ضرر من نشر نسخة منقحة من الفيزياء التي تحتوي عليها.
وعندما شرع ديكارت في كتابة كتابه «العالم» في عام 1630، لم يظن أنه سيأخذ فترة طويلة لوضع الخطوط العريضة لنظريته الخاصة بالطبيعة؛ فقد خطط لتجهيز الأطروحة وإعدادها للعرض على ميرسين في أوائل عام 1633، لكنه لم يكملها في الوقت المحدد؛ حيث كان لا يزال يعدل فيها في يوليو 1633. والأدهى أنها عندما كانت جاهزة للطبع، سمع ديكارت أن محكمة التفتيش في روما أدانت جاليليو لتدريس (في مؤلفه «حوار حول النظامين الأساسيين للعالم») مبدأ حركة الأرض. احتوت أطروحة «العالم» على «فرضية» عن حركة الأرض لم يكن من السهل تنقيحها دون إفساد بقية الكتاب. وإذ تملكه الخوف من أن يلقى مصير جاليليو، راسل ديكارت ميرسين عام 1634 قائلا ما معناه إنه لن ينشر أطروحته.
أعاد ديكارت الروح لمؤلفه «العالم» بعد ذلك. فالجزء الخامس بأكمله من «مقال عن المنهج» يتناول وصفا لهذا المؤلف وعمله المصاحب له «كتاب الإنسان». وكان ديكارت فيما بعد يعتزم تضمين مادة إضافية من «العالم» في مؤلفه «مبادئ الفلسفة».
يتضح من نسخة النص الأصلي الذي بقي دون مساس ونشر بعد وفاة ديكارت، أنه في كتابه «العالم» امتنع عن تأكيد مبدأ حركة الأرض. ولقد ساعده في ذلك الشكل الأدبي للأطروحة. وكما هو الحال في كتابه «مقال عن المنهج» الذي خرج للنور بعد قراره بعدم نشر أطروحة «العالم» بثلاث سنوات، زعم ديكارت أنه يقص قصة خيالية وحسب؛ قصة عن طبيعة عالم خيالي، ولو أنه كان مطابقا من جميع الأوجه للعالم المادي الحقيقي.
يقدم لنا الفصلان السادس والسابع من كتابه «العالم» وصفا لهذا العالم الخيالي والقوانين التي تحكمه، ويدعو ديكارت قراءه في البداية إلى النظر للعالم كما لو كان من نقطة ما في فضاء أو خلاء خيالي يمتد بعيدا في جميع الاتجاهات، كالمحيط عندما ننظر إليه من نقطة ما فيه بعيدة جدا عن اليابسة. وبعد ذلك، على المرء أن يتخيل الرب وهو يخلق نوعا مجهولا من المادة التي تملأ كل ركن من أركان الفضاء. لقد كانت فكرة العالم الممتلئ عن آخره واضحة جدا في فيزياء ديكارت. وكان ديكارت يعلم أن هذه الفكرة تصطدم بالعلم التقليدي، وتتعارض مع المنطق السليم؛ فقد أدت به، على سبيل المثال، إلى افتراض وجود مادة دقيقة في أي جزء من الفضاء لا تحتوي على شيء مرئي أو محسوس يمكن إدراكه بالحواس. ورغم ذلك، ظن ديكارت أنه من الأسهل تبني فرضية الشكل غير المحسوس للمادة على التأكيد على مبدأ عدم قبول الطبيعة لوجود الفراغ، الذي دعت الحاجة إلى استدعائه لتفسير ظواهر بعينها في حالة رفض فكرة العالم الممتلئ بالكامل. من المفترض أن تشغل المادة كل الفضاء، وأن تكون أجزاؤها في حالة حركة دائمة. والحركة في أي جزء من العالم تعني تبادل أجزاء المادة الأماكن لحظيا في هذا الجزء من العالم. وظن ديكارت أنه في هذه التبادلات اللحظية، تتحرك المادة في شكل دوائر أو حلقات. والفكرة أن الجسم المتحرك لن يدفع كل المواد الأخرى بعيدا، بل سيدفعها فقط بقدر حاجته لملء الفراغ الذي تركته، واستكمال المسار الدائري بداية من موضع الجسم المتحرك الأصلي. في كتابه «العالم»، شبه ديكارت تلك الحركة الدائرية بحركة سمكة تسبح في أعماق بركة: تحل حركة زعنفة السمكة محل المياه المحيطة بها، لا كل المياه الموجودة في البركة. وتملأ المياه المزاحة الفراغ الذي كانت السمكة تخليه باستمرار.
وذكر ديكارت أن طبيعة المادة في عالمه الخيالي لا بد أن تكون واضحة كليا: فلا يستقيم أن يفترض أن لها أية خصائص أو أية أشكال ليست جلية للعقل البشري. واستنادا إلى هذا، افترض ديكارت أن عالمه الخيالي ليس له صورة:
التراب أو النار أو الهواء أو أي شكل آخر أكثر تحديدا كالخشب أو الحجر أو المعدن. ولنفترض أيضا أنه يفتقر إلى خصائص السخونة أو البرودة أو الجفاف أو الرطوبة، أو الخفة أو الثقل، أو أن يكون له مذاق أو رائحة أو صوت أو لون أو إشعاع أو غير ذلك من الخصائص التي يمكن القول بأن في طبيعتها شيء لا يميزه أحد بوضوح. (11 : 33)
في استثنائه لكل هذه الأشياء، يعتمد ديكارت على حجج يفتتح بها كتابه «العالم»، وهي مصممة بحيث تثبت أن الكثير من الغموض يحيط بالأفكار البديهية حيال الأشكال والخصائص والأفكار المدرسية المرتبطة بها.
بعد أن صرح ديكارت بالسمات أو الأشكال غير الموجودة في طبيعة المادة في عالمه الخيالي ، حدد السمات أو الأشكال الموجودة فيها. فمن «الممكن تقسيمها إلى أكبر عدد ممكن من الأشكال التي يمكننا تخيلها، و... كل من أجزائها قادر على إتيان أكبر عدد من الحركات التي يمكننا تصورها» (11 : 34). يطلب ديكارت من قرائه أن يفترضوا معه أن المادة التي يصفها ليست قادرة وحسب على الانقسام والتمايز، بل وأن الرب هو الذي يقسمها، وأن أي اختلافات يخلقها فيها تتألف من «تنوع الحركات التي يخلعها على أجزائها»؛ أي التنوع من حيث السرعة واتجاه الحركة في الأجزاء.
شكل 7-1: صفحة العنوان لكتاب «العالم»، الذي وضعه ديكارت في الفترة بين عامي 1629 و1633، لكنه لم ينشر حتى عام 1664.
1
ويواصل ديكارت حديثه فيصف «قوانين الطبيعة» الثلاثة التي يجب أن تتصرف المادة بناء عليها، بحيث يكون لها طول وعرض وعمق وأجزاء ذات أشكال محددة، تتحرك بسرعات مختلفة. وينص القانون الأول على أنه ما لم يحدث اصطدام بجزء آخر، فإن كل جزء من أجزاء المادة يظل على شكله وحجمه وحركته، أو خلاف ذلك من السمات التي يتمتع بها أصلا (11 : 38). وينص القانون الثاني على أن جزءا واحدا من المادة يمكن أن يكتسب حركة بفعل الاصطدام بنفس القدر الذي يمكن أن يفقده الجزء المصطدم به (11 : 41). وينص القانون الثالث على أن حركة أي جسم متحرك «تميل» إلى أن تكون مستقيمة، حتى ولو كانت في واقع الأمر دائرية أو منحنية بفعل الاصطدام (11 : 43). وحسب كتاب «العالم»، لا يجب نسبة أية خصائص بخلاف التمدد المكاني والحركة إلى المادة لتفسير الظواهر الملحوظة في عالم الجمادات؛ ولا يجب تحديد أي قوانين أخرى إضافة إلى القوانين الثلاثة الأساسية لوصف الآثار الأكثر عمومية في الطبيعة: ألا وهي انقسام المادة وتشوهها وتراكمها عبر الاصطدام وزيادة الحركة أو نقصانها (قارن: 11 : 47).
ورغم أن ديكارت نسب التمدد والحركة إلى المادة، فالتمدد وحده - المخطط المكاني ثلاثي الأبعاد - كان من المفترض أن يكون محوريا، لكنه لم يقل قط إن المادة يجب أن يكون لها أجزاء متحركة، بل زعم أنه إذا كان للمادة أجزاء متمايزة بالحركة، فلا بد أن نتوقع الآثار الطبيعية التي نلاحظها فعليا. وتحديدا، زعم ديكارت أنه إذا كانت أجزاء المادة الموجودة في فضاء خال من الفراغ تتمايز بتنويعات من الحركة الدائرية (قارن: 11 : 19)، فإن الآثار ستبدو على هيئتها التي نلاحظها بها. ولقد درس ديكارت الظواهر الفلكية، كمسارات الكواكب وسرعاتها، وانتهى إلى أنها تتحرك حركة دائرية على غرار حركة الدوامة في المادة السماوية؛ ولذلك أطيح بالكواكب في دوامة تدور حول الشمس. وإذا اقتربنا أكثر، سنجد أن ثمة دوامة أخرى ألقت بالقمر في مساره حول الأرض. وفسرت حركة دوامة الأرض علة عدم الإطاحة بالأشياء الموجودة على سطح الأرض أثناء دوران الأرض: فالحركة الدوامية ستجعل كل الأشياء الموجودة على السطح تنجذب إلى مركز الدوامة «مركز الأرض». وبالمثل، فبدلا من أن يطاح بالكواكب في الفضاء بفعل حركتها حول الشمس، فهي تنجذب ناحية مركز دوامتها.
لقد كانت هذه الأطروحات عن حركة الكواكب هي التي خشي ديكارت أن تصطدم بمحكمة التفتيش في روما؛ فالمبدأ الوحيد الذي كان مقبولا آنذاك للتدريس من قبل الكنيسة هو الذي ورثه الفلاسفة المدرسيون من أرسطو. وأفاد هذا المبدأ بأن الأرض هي المركز الثابت للقبة الزرقاء. احتوى مؤلفه «العالم» على مزاعم أخرى أيضا لم تكن لترضي المسئولين بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ فقد نصت، على سبيل المثال، أنه فور أن خلع الرب على المادة حركاتها الأصلية، لم يتدخل بأي حال من الأحوال في مسار عمل الطبيعة، وسيحافظ على عملياتها بواسطة القوانين الثلاثة للطبيعة وحسب. وبتعبير آخر، لن تكون هناك أية معجزات تعرقل مسار الطبيعة (11 : 48). وأمر كهذا كان من الممكن أن يعطي النقاد سببا كافيا لإدانة صاحبه بالكفر.
كان على ديكارت كي يجعل فيزياءه مقبولة إما أن ينقحها بطريقة ترضي الكنيسة، أو أن يخفي نتائجها، أو أن يقيم المذهب بأسره على مبادئ لا يتسنى لأعتى نقاده الكنسيين معارضتها. في نهاية المطاف، وفي مؤلفيه «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة»، تبنى ديكارت الخيار الثالث. وحاول أن يثبت أن المعرفة العلمية للعالم المادي تعتمد على وجود عقل أو روح متمايزة عن الجسم، عقل أو روح عرفت الرب قبل أن تعي مبادئ الفيزياء السليمة. ولكن بعد فترة قصيرة، لجأ ديكارت إلى التصريح الانتقائي بمحتويات مؤلفه «العالم» وبوصف دال، وإن كان غير كامل، لمنهجه العلمي.
هوامش
الفصل الثامن
ثلاثة نماذج للمنهج
فور أن استقر رأيه على ألا ينشر أبحاثه الفيزيائية، تعين على ديكارت أن ينحي جانبا «كتاب الإنسان» الذي كان ينوي أن يكون متمما لمؤلفه «العالم». وكان يناقش طبيعة البشر، أو نظراء البشر على كوكب الأرض الخيالي الذي وصفه في أطروحته الفيزيائية. وكانت خطة الكتاب بسيطة؛ خطط ديكارت أن يصف أولا «الجسد [البشري] وحده، ثم الروح وحدها، وأخيرا كيف يمكن أن تمتزج الطبيعتان وتتحدان لتشكيل الإنسان الذي سيشبهنا» (11 : 120).
كانت أجزاء من وصف «الجسد وحده» مستندة إلى أطروحة في علم البصريات عمل عليها ديكارت منذ عام 1630. فقد نفض الغبار عن تلك المادة، وربما توسع فيها؛ فبحلول عام 1635، صاغها في شكل مقال والذي نشر تحت عنوان «مبحث انكسار الضوء». وأعد ديكارت مقالا آخر، خطط له منذ عام 1629، يناقش بين أمور أخرى «أسباب هبوب الرياح ودوي الرعد» و«ألوان قوس قزح» (قارن: 1 : 338 والصفحات التالية). وكان المقال تحت عنوان «الظواهر الطبيعية». اعتزم ديكارت نشر المقالين باعتبارهما نموذجين لمنهجه. وسيقدم «مقال عن المنهج» - المؤلف سالف الذكر والأقرب ما يكون للسير الذاتية - المنهج نفسه وتطبيقاته في المقالين. وبينما كان مقاله «الظواهر الطبيعية» لدى دار النشر، ربما في أواخر عام 1636، كان ديكارت من المفترض أن يكون قد انتهى من تأليف مقاله «الهندسة» كمثال ثالث على المنهج. وكان «مقال عن المنهج» آخر ما كتب ديكارت. وجمعت المؤلفات الأربعة ونشرت في عمل واحد عام 1637.
حل الشكل الأدبي لمؤلف ديكارت «مقال عن المنهج» كثيرا من المشكلات التي حالت بين ديكارت ونشر أعماله في السابق؛ فقد وجد صعوبة في كتابة أعمال ضخمة: ذلل الشكل المختار المزج بين عدد من الأعمال الأقل حجما في ضرب من الألبومات أو الملفات التي تحوي أفضل نتائج ديكارت. لم يكن ديكارت على استعداد للمخاطرة بالإساءة إلى الكنيسة. فقد سمحت له خطة إماطة اللثام عن نماذج متنوعة من أعماله بالترويج لمنهجه دون أن يكشف عن تطبيقاته المثيرة للجدل فيما يتعلق بحركة الكواكب. وأخيرا، علم ديكارت أن المعجبين بأعماله في باريس توقعوا أن يخرج عملا شهدوا لمحات منه في عشرينيات القرن السابع عشر؛ فلم يخيب أملهم بالمقالات التي أنتجها عن البصريات والهندسة وعلم الأرصاد الجوية. تعاون ديكارت مع ميدروج وميرسين في باريس في دراسة انكسار الضوء، ومضى ديكارت قدما محققا نتائج مثمرة في هذا المجال في مقاله «مبحث انكسار الضوء». وورد في هذا المقال أيضا ذكر الآلة المستخدمة في قطع العدسات التليسكوبية، والتي وصفها ديكارت في رسائله إلى فيرييه. وجاء تفصيل المسائل في مجال الهندسة في مقاله «الهندسة»، والتي عرض ديكارت حلولها سرا على ميدروج وهاردي في باريس. وأخيرا، أعلن ديكارت في مقاله «الظواهر الطبيعية» على الملأ فرضيات من الواضح أنه صاغها قبل أن يشرع في وضع كتابه «العالم»، ربما بينما كان في باريس.
ويوضح خطاب بتاريخ فبراير 1637 (1 : 347) أن ميرسين حث ديكارت على نشر أفكاره في الفيزياء مع مؤلفه «مقال عن المنهج» أيضا؛ خشية أن يظل العامة في حالة ترقب للمزيد من أعماله إلى الأبد، لكن ديكارت رفض اقتراحه بلطف؛ فهو لم يقنط من فكرة نشر أفكاره في الفيزياء، لكنه أراد أن يكون المناخ الفكري مواتيا للنشر، وظن أن مؤلفه «مقال عن المنهج» سيساعد على خلق الظروف المناسبة. في رسالة تفسيرية ملحقة بالنسخ التي كان يوزعها سرا، كتب ديكارت أن «الغرض الأساسي» من نشرها هو تمهيد الطريق أمام أبحاثه في الفيزياء.
علام كانت تحتوي المقالات الأخرى؟ تعاطى مقال «مبحث انكسار الضوء» مع موضوعات الضوء والرؤية والسبل الاصطناعية لتحسين قدرات البشر البصرية. وترجع تسمية المقال بهذا الاسم إلى أنه يناقش انكسار الضوء بدلا من انعكاسه («مبحث المرايا»). وقد نوقشت طبيعة الضوء باستفاضة في نهاية كتاب «العالم». وفي «مبحث انكسار الضوء»، شغلت طبيعة الضوء الفصل الأول من الكتاب. والتمس ديكارت تعليقات وأسئلة واعتراضات فيما يتعلق بالمقالات الثلاثة كلها، ولعله عقد الآمال على تلقي طلب لتفسير نظرية الضوء في مؤلفه «مبحث انكسار الضوء»، بحيث تكون لديه ذريعة لإصدار مادة علمية من مؤلفه «العالم»، ردا على طلب التفسير.
ونرى أن الفصل الافتتاحي من «مبحث انكسار الضوء» يكاد يتحرج متى تعلق الأمر بإجلاء طبيعة الضوء: «لست بحاجة إلى التصريح بطبيعته الحقيقية. أعتقد أنه يكفيني استخدام مقارنتين أو ثلاث مقارنات ...» (6 : 83). وشبه ديكارت حركة الضوء عبر أجسام شفافة كالهواء بحركة الأجسام المقاومة على عصا رجل كفيف، وشبه سبب ظهور الألوان بالحركات التي يمكن أن تكتسبها كرة وهي ترتد عن أسطح متباينة الملمس. كانت هذه التشبيهات وسيلة لتغليف تبنيه لشكل من أشكال التفسير التي ترجع جميع المظاهر الحسية إلى التماس بين الأجسام المتحركة. وكانت تشبيهاته في بعض الأحيان غير موفقة؛ فقد ألزمته بالزعم، خطأ، أنه كلما زادت كثافة الوسط الذي يمر عبره شعاع الضوء، كان مروره أسرع. وسارع الفيلسوف الإنجليزي، هوبز، والرياضيان الفرنسيان؛ فيرما وروبرفال، إلى الاعتراض على هذا التلميح في النظرية البصرية لديكارت، وانهالت انتقادات أخرى بخصوص فرضيات أخرى تتعلق بطبيعة الضوء.
ورغم ذلك، كانت التشبيهات الموجودة في بداية مقال ديكارت «مبحث انكسار الضوء» دقيقة بالقدر الكافي لإنتاج صيغة قانون جيب الانكسار، الذي يحدد عامة الطريقة التي ينحرف بها شعاع الضوء بحسب كثافة الوسائط التي يخترقها. (من غير الواضح ما إذا كان ديكارت قد اكتشف هذا القانون من تلقاء نفسه أم اقتبسه من العالم الهولندي، سنيل، الذي ينسب إليه القانون عادة.) تتناول الفصول التالية من هذا المقال خلقة العين، وإدراك المسافات، وأفضل أشكال العدسات وترتيباتها للرؤية بعيدة المدى والميكروسكوبية.
وينقسم مقاله «الظواهر الطبيعية» إلى عشرة مباحث حول مجموعة متنوعة من الموضوعات: الأجسام الأرضية، والأبخرة والزفير، وطبيعة الملح والرياح والسحاب، وأقواس قزح، والثلج والبرد والعواصف، وغيرها من الظواهر. وبعيدا عن نظريته المتعلقة بقوس قزح؛ فإن مقال «الظواهر الطبيعية» والذي يعد الثاني من المقالات الثلاثة مميز جدا نظرا لبلاغة تفسيراته ووحدته. وفي الفصل الخامس من مؤلفه «العالم»، شرع ديكارت في بناء عالم خيالي من نوع من المادة التي خلع عليها وحسب خصائص الحركة والحجم والشكل والترتيب المحدد لأجزائها (11 : 26). وفي هذا المقال ، اقترح ديكارت تفسير مجموعات محددة من ظواهر أكثر خصوصية على الأساس نفسه. ولم يكن وحده الذي خاض في ذلك؛ فجاليليو ومن بعده بويل ونيوتن عملوا بالكيفية نفسها؛ ولذلك كان «الظواهر الطبيعية» درسا تطبيقيا بين دروس أخرى في التفسير بواسطة المادة والحركة، لكن ديكارت مال إلى اعتبار هذا الشكل من أشكال التفسير خاصا به وحده. وكما وضح في رد له على الاعتراضات الموجهة لهذا المقال من قبل جون-بابتيست مورين، الأستاذ بكلية فرنسا في باريس، قال ديكارت:
لا بد أن نتذكر أنه في تاريخ الفيزياء بأسره، لم يحاول الناس سوى تخيل بعض الأسباب لتفسير الظواهر الطبيعية دون أن تكلل محاولاتهم بالنجاح قط. قارنوا فرضياتي بفرضيات الآخرين، وقارنوا جميع سماتهم الحقيقية وأشكالهم الضخمة وعناصرهم وغير ذلك من فرضياتهم التي لا حصر لها بفرضية واحدة من فرضياتي القائلة بأن جميع الأجسام تتألف من أجزاء ... قارنوا الاستنتاجات التي توصلت إليها من فرضيتي - المتعلقة بالرؤية والملح والرياح والسحاب والثلج والرعد وقوس قزح وما إلى ذلك - بما استنبطه الآخرون من فرضياتهم حول الموضوعات عينها. (2 : 196)
وبذلك زعم ديكارت أنه سيتخلى بشكل منفرد عن الفيزياء المدرسية التي عفى عليها الزمان.
كان الشكل التفسيري الذي نبذه ديكارت يتألف من إرجاع الخصائص الملحوظة للأشياء المنفردة إلى الطبائع أو الأشكال التي تجعل تلك الأشياء تنتمي إلى نوع دون الآخر. والنظرية المستند إليها والمناسبة لهذا الشكل من التفاسير افترضت أن الطبيعة منظمة ومستقرة أساسا، وأن كل نوع من الأشياء يتمتع بضرب ملائم ومميز من السلوك والنمو نظرا لطبيعته؛ ولذلك كان من المناسب أن تسقط الأحجار باتجاه مركز الكون لأن طبيعتها تملي عليها ذلك. ومن طبيعة الأجرام السماوية أن تدور بانتظام وإلى الأبد في مكانها، ومن طبيعة جوزة البلوط أن تنمو لتصبح أشجار بلوط كبيرة. وفيما خلا ما حدث بمحض الصدفة للأشياء الملحوظة، فإن سلوكها يمكن إرجاعه إلى طبيعة أو شكل أساسي مستقر يختلف لكل نوع من الأشياء المميزة بالملاحظة. وإذا تعذر الجمع بين سلوك شيء ما وشكله ، فلا بد أن السبب يرجع إلى المادة التي صنع منها، أو الغرض الذي من المقرر أن يخدمه عندما يصبح نموذجا فريدا من نوعه مكتملا بشكل ملائم. وتعين تفسير الخصائص الملاحظة حديثا للمواد بشكل خاص، وذلك بالرجوع إلى السمات أو الأشكال التي من المفترض أن تتمتع بها هذه المواد بطبيعة الحال. لقد كان هذا هو النوع من التفسير الخاص الذي قوبل بالسخرية في قصة موليير عن الطبيب الذي شرح قدرة الأفيون على تنويم البشر بذكر فائدته الخفية المسببة للنعاس. شرح ديكارت لأحد المراسلين عام 1642 أنه بدون إنكار أو نبذ هذه الأشكال أو السمات في مقاله «الظواهر الطبيعية»، فقد «وجدتها ببساطة غير ضرورية في بيان تفسيراتي» (7 : 491).
شكل 8-1: رسم توضيحي لتفسير ظهور قوس قزح كما ورد في مقال «الظواهر الطبيعية».
كانت «الفرضية الوحيدة» التي استخدمها ديكارت أكثر فاعلية من الفرضيات المدرسية عن الأشكال والسمات بحسب ما بين لنا في «الظواهر الطبيعية». ففي بداية المقال، يشرح ديكارت، بالإشارة إلى شكل وترتيبات أجزاء المادة وحدها، كيف يمكن أن تتشكل الأجسام الصلبة والسائلة. ولشرح انتقال الضوء، يفترض ديكارت وجود نوع من المواد دقيق جدا لا تدركه الحواس، لكنه موزع بين كل الأجزاء الدقيقة أو «المسام» الموجودة لدى كل الأجسام السائلة منها والصلبة. وتنتج هذه المادة حرارة بالتناسب مع وطأة إثارتها بفعل أشعة الشمس. ويستشهد ديكارت بهذا لتفسير علة شعور المرء بدفء خلال النهار أكثر مما يحسه خلال الليل، وعلة إحساس المرء بحرارة أكبر كلما اقترب من خط الاستواء. وتستدعي الفرضيات الأخرى التي طرحها ديكارت هذه المادة الدقيقة المحكمة نفسها. فإثارة المادة الدقيقة في مسام الأجسام، على سبيل المثال، يؤدي إلى انفصال أجزاء من تلك الأجسام وارتقائها في الهواء؛ مما يفسر وجود الأبخرة. يتكون الملح من جسيمات طويلة صلبة لا تتبخر عندما تكون في الماء؛ فهي أثقل وأقل مرونة من أن تظل محمولة جوا. ومن الممكن تحلية مياه البحار إذا تم تمريرها عبر الرمل؛ وذلك لأن جسيمات الرمل تعوق الجسيمات الطويلة الصلبة للملح، بينما تسمح لجسيمات الماء بالمرور. هذه عينة من الظواهر التي يفسرها ديكارت بشكل منهجي في مقاله «الظواهر الطبيعية».
وهذا لا يعني أن كل ما جاء في هذه الأجزاء من الكتاب صحيح. على العكس تماما! إن «حقيقة» أن الماء يتجمد بسرعة أكبر حال غليانه أولا ليست بحقيقة على الإطلاق، وبعض «تفسيرات» ديكارت يسهل تفنيدها بالتجربة. أبلى ديكارت بلاء أفضل عندما ناقش موضوع قوس قزح؛ وذلك لأنه كان في موقف يسمح له باستغلال معرفته بقانون الانكسار لتفسير الشكل الدائري للقوس، وإن لم يفسر ترتيب الألوان وانسجامها.
وعندما وصف الغرض الذي يخدمه كل من مقالاته (9ب:15)، يقول ديكارت إن «مبحث انكسار الضوء» لفت الانتباه إلى فن مفيد - فن صناعة التليسكوب - جعلته علومه ممكنا، بينما كان الهدف من مقال «الظواهر الطبيعية» أن يبين - في سياق الموضوعات التي عادة ما تخضع في مناقشتها للفيزياء المدرسية - حجم الإنجازات الإضافية التي يمكن أن تتحقق باستخدام الفرضيات الجديدة. «أخيرا، في مقال «الهندسة»، كان هدفي بيان أنني اكتشفت أشياء عدة ظلت حتى وقتنا هذا غير معلومة ...» (9ب:15).
ظن ديكارت أن أفضل نتائجه يمكن العثور عليها في ثالث مقالاته؛ فبعض تصحيحاته للرموز الرياضية والمفاهيم السائدة لعمليات التربيع والتكعيب وما إلى ذلك ذكرت بالفعل في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر». وهناك ابتكار آخر يتمثل في وصف آلة تستخدم لرسم المنحنيات، التي ساد الاعتقاد في الماضي أنه يتعذر وصفها بأساليب هندسية بحتة، ومن ثم أطلق على تلك المنحنيات وصف «الميكانيكية» بدلا من «الهندسية». أثبت ديكارت أن الكثير من الأشكال «الميكانيكية» يمكن في حقيقة الأمر تمثيلها بأشكال هندسية. ووضع ديكارت أيضا نظرية متكاملة الأركان للمعادلات، ولأساليب تمثيل الخطوط والأشكال بواسطة المعادلات. وصارت العلاقة بين نظرية المعادلات لديكارت ونظريات أسلافه مثارا للجدل الطويل بين ديكارت وغيره من الرياضيين.
من المتفق عليه عموما أن ديكارت جعل مقاله «الهندسة»، ومنهجه يبدو أكثر تعقيدا من اللازم؛ فقد كان بمثابة ضمانة ضد سرقة أساليبه، ولكن تعقيده أيضا حال دون تقدير الكثيرين للإصلاحات التي جاء بها. إذا كان ديكارت قد بسط من أسلوبه، لكان قراء «الهندسة» - بلا شك - سيؤمنون بأن ديكارت عبقري في الرياضيات؛ فقد نجح - من بين أمور أخرى - لأول مرة، في حل مسألة أرقت عالم الهندسة القديم بابوس، لكن المنهج العام الذي كان ديكارت يقترحه في الكتاب كان مطمورا ببراعة، فحير كل الرياضيين البارعين بما فيهم الرياضيون الذين اقترحوا في البداية فكرة أن يحاول ديكارت حل مسألة بابوس.
الفصل التاسع
«منطق» جديد
لم تكن المقالات «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» و«الهندسة» مستقلة، بل كانت بمثابة إعلان عن منهج جديد للاستدلال في العلوم. آمن ديكارت بأن المنهج سيكون وافيا لإنتاج فيزياء كاملة، لكنه لم يبذل قصارى جهده ليصرح بذلك. وعقد ديكارت الآمال على أن تتجلى إمكانات المنهج من تفسيره العام لها وتطبيقاتها في مقالاته، لكنه كان مغاليا في التفاؤل؛ فقد ثبت أن المقالات مثيرة للجدل، وبدا تفسيره للمنهج لبعض القراء واهنا ومحتويا على افتراضات غير محسومة. وكما سيتضح لنا، في نهاية المطاف رأى ديكارت أن الحاجة تدعوه لملء الفجوات التي تشوب منهجه بمبادئ من الميتافيزيقا.
جاءت معالجة منهج ديكارت في شكل مقدمة للمقالات، وعرفت باسم «مقال عن منهج التصرف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم»، واشتهرت بعنوان «مقال عن المنهج». وكان من المقرر أن يحمل هذا العمل عنوانا مختلفا مثيرا بعض الشيء: «خطة لعلم كلي قادر على الارتقاء بطبيعتنا إلى أعلى درجات الكمال». وبعد أن نصح ميرسين ديكارت بأن يسمي كتابه ببساطة «أطروحة عن المنهج»، استقر ديكارت أخيرا على كلمة «مقال» مصرا على أن عمله أقل من أن يكون أطروحة، وأقرب إلى «البيان» أو «الإعلان» البسيط عن المنهج الذي سيرد في المقالات.
كان «البيان» ذا شكل غير تقليدي. وحيث كان الغرض منه الوصول إلى «غير الدارسين»، فقد كتب بالفرنسية بدلا من اللاتينية، وكان في ظاهره سيرة ذاتية، ولكنها لمفكر غير معروف. ونشر «مقال عن المنهج» دون ذكر اسم مؤلفه؛ لذا فإضافة إلى معرفة أن الأحداث الواردة في حياة المؤلف تسرد وكأنها أحداث قصة خيالية، فإن قارئ «مقال عن المنهج » كان يترك لتخميناته بخصوص هوية القاص (وسرعان ما أميط اللثام عن أن مؤلفه هو ديكارت). وغير ذلك الكثير جاء تلميحا لا تصريحا في «مقال عن المنهج»، بما في ذلك، كما اعترف المؤلف نفسه، آليات عمل المنهج الذي يتناوله الكتاب. في رسالة تفسيرية مصاحبة لنسخة أولى من الكتاب قال ديكارت إنه اقترح في كتابه «منهجا عاما لا أبادر بتفسيره بشكل مفصل» (1 : 368).
ولعله كان بانتظار تأليف «قواعد لتوجيه الفكر» أو أطروحة ما تالية لها لكي يورد بيانا شاملا للمنهج؛ ففي «مقال عن المنهج» لم يتجاوز ديكارت ذكر أربعة من مبادئه:
أولا: ألا أقبل أي شيء قط إذا لم يكن لدي معرفة قطعية بحقيقته؛ أي أن أحرص كل الحرص على تفادي التسرع في استنباط النتائج وتفادي المفاهيم المسبقة، وألا أضمن أحكامي على الأشياء أكثر مما يعرض على عقلي بوضوح وتمايز شديدين بما لا يدع مجالا للشك.
ثانيا: أن أقسم كلا من الصعوبات التي أمحص فيها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء حسبما يستدعي الأمر لحلها بصورة أفضل.
ثالثا: أن أوجه أفكاري بطريقة منظمة، بالبدء بالأشياء الأبسط والأسهل في معرفتها كي أرتقي شيئا فشيئا إلى معرفة الأكثر تعقيدا على الإطلاق، وبافتراض وجود ترتيب ما حتى بين الأشياء التي ليس لها ترتيب طبيعي بحسب أسبقيتها.
وأخيرا: أن أحرص طوال الوقت على أن يكون ما أورده كاملا، ومراجعاتي وافية جدا لدرجة تجعلني متأكدا من عدم إغفال أي شيء مهما كان. (6 : 18-19)
وتناظر المبادئ الثلاثة الأخيرة بالضبط القواعد الخامسة والسادسة والسابعة في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» السابق مناقشتها من قبل. فنجد التأكيد نفسه على تحويل المسائل إلى مكونات، وأولوية «البسيط»، وعلى المراجعات الشاملة للبيانات ذات الصلة.
ماذا عن أولى القواعد الأربعة؟ تذكرنا هذه القاعدة أيضا بمؤلف ديكارت «قواعد لتوجيه الفكر» الذي تنص ثاني قاعدة فيه على أنه أثناء البحث «ينبغي أن نعنى فقط بالأشياء التي من الواضح أن عقولنا تدركها إدراكا أكيدا لا يداخله الشك» (10 : 362). عرف ديكارت في «قواعد لتوجيه الفكر» «الأشياء» بأنها الأرقام والأشكال الحسابية والهندسة والبراهين المرتبطة بها (10 : 364-365)، ولكن في مؤلفه «مقال عن المنهج» تبدو حتى براهين الرياضيات أنها من ضمن الأشياء التي يمكن أن تكون محل شك (6 : 32). ويطرح ذلك سؤالا عما إذا كان ديكارت يعمل وفقا لمعيار جديد لما هو جلي وغير مشكوك فيه عندما ذكر المبدأ الأول لمنهجه في «مقال عن المنهج». ألم يعد يظن أنه عندما شرع الناس في تأمل المسائل الرياضية كان نصب أعينهم أكثر الأشياء وضوحا وأدناها ريبة؟ من الواضح أنه ظل يعتبر الرياضيات واضحة ولا يداخلها الشك، لكنه ظن أن اليقين الرياضي لا يمكن إدراكه إدراكا صحيحا إلا في ضوء الحقائق المتعلقة بالرب والروح. لم ينكر «مقال عن المنهج» أن الرياضيات واضحة أو حتى واضحة جدا؛ بل أوحى بأن الأشياء الميتافيزيقية ما زالت أكثر وضوحا. بالنظر إليها في سياقها إذن، سنجد أن القاعدة الأولى في «مقال عن المنهج» تنحرف فعلا عن «قواعد لتوجيه الفكر»، وتسلم تسليما بمفهوم منقح لما هو واضح ولا يداخله الشك.
لقد أعلن عن المبادئ الأربعة للمنهج بشيء من الترويج في مؤلف ديكارت «مقال عن المنهج»؛ ففي البداية يعرضها ديكارت باعتبارها تجسيدا «لمنطق» جديد كليا يجب القياس المنطقي الأرسطي (6 : 17)، وبعدها يبارك لنفسه استبدال المنطق القديم بمجموعة موجزة جدا من القواعد. وكما رأينا بالفعل، فقد ثبت أن هذا الإيجاز في حد ذاته محرجا لديكارت؛ حيث ألقى بظلال الشك على زعم ديكارت برسم الخطوط العريضة لمنهج متكامل، ومصدر تباهيه الآخر يطرح مشكلات أخرى.
ماذا كان يعني ديكارت إذ زعم بأن منهجه يشكل «منطقا» جديدا؟ إنه يعني على الأقل أنه إذا لم يستنبط أحد أية نتائج في بحثه سوى التي تجيزه مبادئ ديكارت، فإن هذه النتائج يمكن إثباتها والتدليل على صحتها حقا. شكلت المبادئ منطقا جديدا؛ لأن ديكارت - على النقيض من نظرية البرهان الأرسطية - لم يربط قطعية مسألة استدلالية بالعلاقات بين المقدمات والنتيجة - تأليف المقدمات والنتيجة من التجميعات الصحيحة من الموضوعات والمحمولات - بل بأثر القضايا التي تعرض على العقل الذي تمرس بالقدر الكافي الذي يضمن الوصول إلى مستويات مثالية من الانتباه والمصادقة المنضبطة. إن استحداث المعايير النفسية للقطعية والحقيقة في المنطق ينظر إليه الآن غالبا باعتباره خطوة انتكاسية. ولكن ثمة مشكلة تتمثل فيما إذا كانت البراهين الواردة في المقالات يمكن أن تعتبر قطعية استنادا إلى معايير المنطق الجديد.
وردت تلك المسألة في مراسلات ديكارت؛ فقد سأله ميرسين عما إذا كان يعتبر ما كتبه عن الانكسار برهانا، فأجابه ديكارت قائلا:
أعتقد أنه كذلك، طالما يمكن تقديم برهان في هذا المجال دون إثبات سابق لمبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا - وهذا شيء آمل أن أقوم به يوما ما لكنني لم أنجزه بعد - وطالما أنه بالإمكان برهنة حل أية مسألة في مجال الميكانيكا أو البصريات أو الفلك أو أي مجال آخر بخلاف الهندسة أو الرياضيات البحتة، ولكن طلب البراهين الهندسية في مجال يقع ضمن نطاق الفيزياء ضرب من المستحيلات. (2 : 134)
حقيقة الأمر أن «مقال عن المنهج» نفسه هو الذي يوحي بتوقع وجود براهين في مجال الفيزياء شبيهة بالبراهين الهندسية؛ وذلك لأنه يتناول احتمالية أن «كل الأشياء التي تقع ضمن نطاق المعرفة البشرية مترابطة بعضها ببعض بالطريقة نفسها» التي «تترابط بها تلك السلاسل الطويلة المكونة من كل الاستدلالات البسيطة والسهلة التي يستخدمها علماء الهندسة عادة» (6 : 19).
في الخطابات التي ترجع إلى الفترة التالية لنشر «مقال عن المنهج»، يقول ديكارت إن هناك أكثر من نوع واحد من الأدلة أو البراهين في العلوم، وإنه في مؤلفيه «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» كان بصدد تجربة البرهان الذي يمكن فيه إثبات الفرضيات نفسها أو برهنتها بموجب قوتها التفسيرية (قارن: 1 : 558 و2 : 196). من المنطقي جدا الزعم بأن الفرضيات يمكن «إثباتها» أو «برهنتها» بهذه الطريقة طالما أن المرء لا ينشغل أكثر من اللازم بمسمى الإثبات أو البرهان، لكن ديكارت وضع منطقا جديدا؛ نظرية تدعي تحديدا لا بطريقة بحتة ما يعتد به كبرهان، وليس من الواضح أن مبادئها تترك مجالا لهذا النوع من البرهان «التجريبي».
على المرء، لكي يقبل الكثير من البراهين الواردة في كتاب «الظواهر الطبيعية»، على سبيل المثال، أن يقبل أن الضوء يتصرف بموجب إثارة نوع دقيق جدا من المادة موزعة في المسام المتناهية الصغر للأجسام، لكن لا شك أنه من غير الواضح أبدا أن هذه المادة الدقيقة موجودة، وأن الأجسام الأرضية لها مسام متناهية الصغر، أو أن الضوء ينتقل بفعل المادة الدقيقة. تملي القاعدة الأولى لمنطق ديكارت على الناس قصر أحكامهم وحسب على كل ما هو واضح وضوح الشمس ولا مجال فيه للشك. ومن الواضح أن هذه القاعدة تبطل البراهين الواردة في مؤلفه «الظواهر الطبيعية» قبل أن تحقق تقدما.
لقد استطاع ديكارت أن يحدد المشكلة التي تواجه منهجه؛ ألا وهي أن الاستدلال الرياضي وحده وحسب هو الذي يمكن أن يعتبر غير قابل للشك. فما إن يعول الاستدلال على الفرضيات المتجاوزة للرياضيات، كما في كتاب «الظواهر الطبيعية» أو «مبحث انكسار الضوء»، حتى يفقد صلابته التي تجعله لا يقبل الجدل. وكما رأينا، فقد كتب ديكارت إلى ميرسين أن شيئا لن يحل هذه المشكلة عدا «إثبات مبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا».
وكان ديكارت يعني برهانا نظريا. لقد قدمت مقالات ديكارت بالفعل شكلا أدنى من البراهين لمبادئه؛ فالأبحاث في مجالي البصريات وعلم الأرصاد الجوية التي عولت على تلك المبادئ فسرت ببساطة وسلاسة مجموعة كبيرة من الظواهر، لكن هذا كان إنجازا دون ما يصبو إليه ديكارت، طالما أنه على الأقل من المتصور أن ثمة مبادئ أخرى بخلاف مبادئ ديكارت لها أن تقدم لنا تفسيرا لا يقل بساطة وسلاسة لمجموعة الظواهر نفسها؛ ولذلك يستحب وجود محاجة مستقلة لقبول المبادئ.
الفصل العاشر
الحاجة إلى الميتافيزيقا
يرسم الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» الخطوط العريضة للمحاجة التي كان الهدف منها تقديم دعم مستقل لفيزياء ديكارت. وفي قلب المحاجة، نجد قضية أن البشر خلق لرب كريم جليل منحنا نسخة من ذكائه. وحشد الرب العقل البشري بعدد من الأفكار «البسيطة» التي يستحيل أن تكون خاطئة، على افتراض خيرية الرب. وتتضمن هذه الأفكار تلك الضرورية لفهم عام صحيح للمادة؛ أي لفيزياء صحيحة. في الجزء الرابع من «مقال عن المنهج»، يصف ديكارت الاستدلال الذي توصل من خلاله إلى نتيجة أن الرب موجود، وأنه كامل، ومن ثم فإنه لا يخدعنا. ويبدأ استدلال ديكارت باكتشاف علاقة حتمية بين تفكيره ووجوده، وينتقل بعد ذلك إلى الموضوعية الضرورية لفكرة الرب، ويخلص أخيرا إلى نتائج حول القدرات الفكرية للكائنات التي تثق بأن الرب الكريم لا يضع أفكارا بسيطة مضللة في عقولها.
لم يرض ديكارت عن الطريقة التي صور بها الاستدلال الميتافيزيقي في «مقال عن المنهج». وكما فسر في عدد من مراسلاته (قارن: 1 : 347 و558)، فإن عمله أنجز في عجالة. وكان الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» قيد التأليف بعد طباعة الأجزاء السالفة له واثنتين من المقالات، وكان ديكارت واقعا تحت ضغوط من ناشره لتسليم الأوراق النهائية. ومن مصادر الغموض أيضا في الجزء الرابع، على حد قول ديكارت، تردده الشديد في توظيف حجج بعينها ظنها ضرورية لتأهيل العقل لاستقبال الحقائق الميتافيزيقية. كتب ديكارت مخاطبا فاتييه في رسالة بتاريخ 22 فبراير 1638:
لم أجرؤ على الخوض في تفاصيل حجج المشككين، ولا على التصريح بكل ما هو ضروري «لعزل العقل عن الحواس»؛ فلا يستقيم أن يعرف يقين ودليل محاجتي على وجود الرب بحق دون استدعاء الحجج التي تعرض الشك في جميع معارفنا عن الأشياء المادية، ولم تبد تلك الأفكار مناسبة لتضمينها في كتاب أردت أن يكون مفهوما حتى للنساء، مع اشتماله في الوقت نفسه على مادة فكرية لأفضل العقول وأكثرها نبوغا. (1 : 558)
لكن أمرا ما أكثر من خوفه من أن يعرض قراؤه لمثل هذه الأفكار هو الذي منعه من المضي قدما في عرض الحجج الضرورية: فلم يرد ديكارت أن يوصم بأنه من الفلاسفة المتشككين. ففي الجزء الرابع، اكتفى بإيضاح فكرة أن اليقين بوجود الرب أكبر من اليقين بوجود الأشياء المادية، فهو لم يشأ أن ينكر أنه يمكن أن يكون لدينا علم للمادة. لكن تفسير كل هذا يتطلب أكثر من أسطر قليلة مطبوعة. في «مقال عن المنهج»، اضطر ديكارت إلى أن يكتفي بنسخة مضغوطة وغير مرضية لما كان يلزم التصريح به.
وربما من المدهش، في ظل المحتوى الميتافيزيقي الضئيل لمؤلفه «مقال عن المنهج»، أن أحد قرائه - وكان عالما هاويا ومشرفا على أعمال التحصين في أقاليم فرنسية يعرف باسم بيير بيتي - قد خرج بمجموعة كبيرة من الاعتراضات على الجزء الرابع؛ فقد كان له رأي آخر بخصوص فرضية ديكارت بأن كل إنسان لديه فكرة عن الرب، وشكك في أن المعرفة بوجود الرب ضرورية لمعرفة أي شيء آخر. وأشار بيتي إلى أن أكثر الملاحدة تطرفا أحاطوا علما بوجود الأرض والشمس والكثير من الأشياء غيرهما. كان ديكارت يزدري بشكل علني اعتراضات بيتي، ولم يجشم نفسه عناء الرد عليها، لكنه لم ينس تلك الاعتراضات قط، ونجد أن ثمة إشارة ضمنية إليها في مقدمة مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» (7 : 8). ولاحقا، انهال عليه نقاد آخرون بالنقد بخصوص مسألة الملحد واسع الاطلاع.
لو كانت المقالات قد لاقت استحسانا كليا، لما كانت الضرورة لتستدعي أن يحسن ديكارت الجزء الرابع من «مقال عن المنهج». فقد كان الغرض منه خلق قاعدة عريضة من محبي فيزيائه التي نشرها في «مقال عن المنهج»، فالقراء الذين ثبت استحسانهم لنظريته عن الانكسار، أو لتفسيره لقوس قزح، سيمثلون بالفعل، ولو جزئيا، أنصارا لأفكاره الواردة في كتاب «العالم»، لكن تبين أن استمالة المؤيدين أصعب من المتوقع، فقد واجهت المقالات، وخاصة «الهندسة» و«مبحث انكسار الضوء»، اعتراضات كبيرة عجز ديكارت عن الرد عليها بشكل قاطع وحاسم. وطوال عام 1638، أي إثر نشر المقالات بعام، كان ديكارت منشغلا جدا بالجدليات الرياضية والعلمية التي تمخضت عنها.
وفي تلك الأثناء، نأى عنه علماء اللاهوت الذين عقد ديكارت الآمال على أن يدعموا مؤلفه «مقال عن المنهج» ومقالاته الأخرى. ولقد أرسل عددا من النسخ الأولى إلى اليسوعيين في لافليش دون أن تثمر هذه المبادرة عن أية نتائج. وكتب مدرس من لافليش إلى ديكارت أنه يجب أن يكون أكثر وضوحا حيال مبادئه الميتافيزيقية قبل أن يتوقع أية تعليقات أو اعتراضات. وقبلت النسخ التي أرسلت إلى أقطاب الكنيسة في روما شريطة ألا تدرس تلك المقالات مسألة حركة الأرض. وذاع خبر تأييد ديكارت للموضوعات المحظور تدريسها في روما رغم تكتمه على مؤلفه «العالم»، وصارت الحاجة إلى وجود أطروحة تثبت توافق فيزياء ديكارت مع الأركان الرئيسية التي تقوم عليها العقيدة الكاثوليكية، صارت أكثر إلحاحا لهذا السبب وحده.
وكانت بعض المواد المتعلقة بالأطروحة سالفة الذكر متاحة بالفعل في هيئة كتاب انتهى ديكارت من نصفه، وكان عن الرب والروح، لكنه هجره بعد أول تسعة أشهر أمضاها في هولندا. ولقد أشار ديكارت إلى هذا الكتاب المهجور، ولآماله في مراجعته واستكماله، في خطاب إلى ميرسين عام 1637 أقر له فيه أيضا بمواطن الضعف في الجزء الرابع من مؤلفه «مقال عن المنهج» (1 : 347). في الكتاب الأسبق، كان من المفترض أن يكون قد «اكتشف كيفية إثبات الحقائق الميتافيزيقية بطريقة أكثر وضوحا من حقائق الهندسة.»
ما المنهج الذي ابتكره ديكارت؟ وماذا ضمن تحت عنوان «الحقائق الميتافيزيقية»؟ لقد ألمح بالفعل إلى المنهج الذي يعرف عادة باسم الشك المنهجي. وبدأ هذا المنهج بإقرار أن أي شيء يداخله الشك ولو قليلا بالنسبة للعقل الباحث زائف، وأي شيء يستدعي التسليم والتصديق حتى في مواجهة أقوى جهود النيل منه ورفضه؛ فهو يقيني لا محالة. في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى»، وهي الأطروحة التي نشرها ديكارت في نهاية المطاف، تم تفعيل مبدأ رفض أي شيء يمكن أن يداخله الشك بالاستعانة ببعض فرضيات الشك الغريبة؛ فقد تخيل ديكارت نفسه واقعا تحت سيطرة شيطان عتيد قادر على التحكم في أفكاره، وجعله لا يؤمن بشيء سوى الباطل. ولكي ينجح الشيطان في خداعه، كان يجب ألا يكون هناك مراء في أنه يقحم أفكارا في عقل ديكارت فعلا. ولذلك كانت «تلك» الحقيقة - ويراد حقيقة أن ثمة أفكارا تراوده - يستحيل أن يخدعه الشيطان بشأنها. ولو كانت حقيقة أفكاره لا شك فيها، فكذلك ستكون حقيقة وجود فاعل للتفكير؛ أي «أنا» للإقدام على فعل التفكير. ومن ثم كان أول يقين في الميتافيزيقا «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» كان يجب أن تكون هذه الحقيقة صحيحة حتى ولو كانت بقية أفكار المرء الأخرى واقعة تحت سيطرة شيطان مخادع. ومن هذه الحقيقة ، بحسب زعم ديكارت، يمكن استنباط حقائق ميتافيزيقية أخرى (عن الرب).
بالنسبة للمحتوى الذي جعله ديكارت مادة الميتافيزيقا بصفة عامة، يجب أن نشير إلى مقدمة النسخة الفرنسية لمؤلفه «مبادئ الفلسفة». تقول المقدمة: إن «الجزء الأول من الفلسفة هو الميتافيزيقا التي تحتوي على مبادئ المعرفة، بما في ذلك الصفات الأساسية للرب، والطبيعة غير المادية لأرواحنا، وجميع الأفكار الواضحة والمتمايزة الموجودة بداخلنا» (9ب:14). وفي مواضع أخرى يتكلم ديكارت عن الأشياء «غير المادية أو الميتافيزيقية» (9ب:10)، كما لو كانت الميتافيزيقا تعنى بكل شيء لا يدخل تحت باب علم المادة. ومن الواضح أن ديكارت لم يكن مهتما بتعريف الميتافيزيقا بدقة شديدة، وفي سرده لموضوعاتها الأساسية ربما استرشد بما أسعفته به الذاكرة مما تعلمه تحت هذا العنوان في كلية لافليش، علاوة على محتويات أطروحات بعض أصدقائه التي ظهرت إبان الفترة التي عاشها في باريس؛ فقد نشر جون سيلون أطروحة عام 1626 تحت عنوان «الحقيقتان: الأولى عن الرب وعنايته الإلهية، والأخرى عن خلود الروح». وعندما نشر ديكارت مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» عن الفلسفة الأولى - كانت «الفلسفة الأولى» و«الميتافيزيقا» مترادفين بالنسبة له - حملت الطبعة الأولى عنوانا فرعيا من الواضح أنه استلهمه من سيلون: «عن وجود الله وخلود الروح». ولكي يسترضي الكنيسة، حاول ديكارت أن يعطي الانطباع بأن «تأملات في الفلسفة الأولى» كان دفاعا آخر - ولو أنه جديد ولا يقبل الدحض - عن حقائق الدين ضد الملحدين. وكنوع من المقدمة للكتاب، نشر ديكارت خطابا كان قد خطه إلى علماء اللاهوت في السوربون، عرض فيه «تأملات في الفلسفة الأولى» كردة فعل لنداء بابوي للفلاسفة المسيحيين من أجل دحض الزعم بأن الروح تموت بموت الجسد (7 : 3-4). ولقد صيغت عناوين التأملات الستة التي تألف منها الكتاب بحيث تشدد على هالة الكتاب الدينية، وأسر ديكارت لميرسين بأن تلك العناوين تذكر:
الأشياء التي أريد أن يلاحظها الناس بصفة أساسية، ولكنني أعتقد أنني أضفت أشياء أخرى كثيرة أيضا. ويسعني القول - بيني وبينك - إن هذه «التأملات» الستة تحتوي على جميع أسس الفيزياء الخاصة بي، ولكن رجاء ألا تخبر أحدا؛ لأن ذلك من شأنه أن يصعب على أنصار أرسطو قبولها. آمل أن يألف القراء تدريجيا مبادئي ويدركوا حقيقتها قبل أن يلحظوا أنها تهدم مبادئ أرسطو. (3 : 297-298)
ولذلك كانت الأطروحة الميتافيزيقية في ظاهرها تحتوي على نص ديني، ولكن في باطنها أسس فيزيائية مقنعة على نحو جيد، وبعيدة كل البعد عن الأسس الفيزيائية التقليدية.
الفصل الحادي عشر
كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
تشير خطابات ديكارت إلى أنه بدأ العمل على مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» في نوفمبر عام 1639؛ ففي ذلك الحين مر على حياته في هولندا عشر سنوات تقريبا دون أن يستقر في أي مكان طويلا. وتصوره الروايات الواردة عنه خلال تلك الفترة من حياته منعزلا تقريبا، حيث كان يعيش مع عدد قليل من الخدم بمنأى عن المجتمع، منكبا بالكامل على أعماله التجريبية والنظرية في العلوم، وعارجا على الفلسفة. لكن عادة ما بولغ في الحديث عن عزلته؛ فقد كان لدى ديكارت عدد من الأصدقاء المقربين، ومن بينهم زميل العمل المشهور في نظرية البصريات، كونستانتين هيوجينز، وفرانز شوتن، أستاذ الرياضيات بجامعة ليدن، وكذلك، قبل أن يتفرقا، بيكمان. تبادل ديكارت الزيارات والخطابات مع هؤلاء وغيرهم بانتظام، وفقا للمكان الذي كان يتخذه بيتا له.
إن المعلومات البسيطة المعروفة عن حياة ديكارت الخاصة تتعلق في أغلبها بالأيام التي عاشها في هولندا. وربما في مدينة ديفينتر، حيث حصل أحد تابعيه الشباب على وظيفة أكاديمية عام 1632، التقى ديكارت امرأة، تدعى هيلين، صارت عشيقته وأما لابنته غير الشرعية، والتي أطلق عليها اسم فرانسين في السابع من أغسطس عام 1635. وبعد عام 1635، بدا أن فرانسين وهيلين عاشتا بعيدا عن ديكارت، وكانتا تزورانه على فترات متقطعة. وحاول ديكارت أن يخفي على الدخلاء علاقته بهما، مدعيا كلما عرجتا عليه أن فرانسين ابنة أخيه. وعندما بلغت صغيرته خمس سنوات، في سبتمبر عام 1640، أصيبت بحمى شديدة أودت بحياتها. ووصف ديكارت هذا الحدث بأنه أشد بلية ألمت به في حياته.
وتوفيت فرانسين بعد بضعة أشهر من استكمال ديكارت لمؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». وطوال فصل شتاء 1639-1640، عني ديكارت بمؤلفه المهجور الذي وضعه عام 1629 عن الميتافيزيقا، وأمضى خمسة أشهر عليه حتى أضحى كتابا جديرا بالنشر. وكانت الحاجة لأطروحة يوافق عليها علماء اللاهوت تزداد إلحاحا. فبينما استقبلت كلية لافليش «مقال عن المنهج» والمقالات بشيء من الحذر، نجد أنها قوبلت بعداء شديد من الكلية اليسوعية في باريس، وفي صيف عام 1640، بدأ ديكارت يؤمن بأن اليسوعيين كلهم يناصبونه العداء. وحينئذ كان قد انتهى من كتابه المكون من «خمس أو ست صفحات» في مجال الميتافيزيقا دون أن ينشره.
علام كان الكتاب الجديد يحتوي؟ شأنه شأن «مقال عن المنهج» كان الكتاب الجديد يتمتع بأسلوب أدبي استثنائي؛ فكان من ناحية مناسبا لدعايته الرسمية كإثبات لبعض حقائق المسيحية، لكنه موافق أيضا، ولو ضمنا، للبرنامج السري لدحض مبادئ أرسطو؛ أي المبادئ التي يرتكز عليها التعليم المدرسي في مجال الفيزياء. كان كتاب ديكارت مذكرات عن فترة اعتزال فكري خيالي استمرت ستة أيام على غرار اعتزال القديس إغناطيوس في «تمارين روحانية» التي اقترحها لعمليات الاعتزال الدينية العادية.
ولكل يوم من الأيام الستة تأمله الخاص وصولا إلى ذروة التأملات في اليوم الثالث. وفي التأمل الثالث، يقنع ديكارت نفسه بأن فكرته عن الرب تتمثل في أنه كيان حقيقي وموجود. وهذه نقطة تحول ترتبت على تأمليه في اليومين المنصرمين. وفي التأمل الأول، يجعل ديكارت نفسه تتشكك في وجود «أي» شيء موجود بحق، ويرفض كل معتقداته عن الأشياء المادية باعتبارها زائفة، وحتى إيمانه بحقيقة الطبائع المادية البسيطة. هنا يعول ديكارت على فرضية الشك للمخادع الشيطاني. وفي التأمل الثاني، لاحظ ديكارت أنه لكي ينجح الشيطان في خداعه يجب أن يكون هناك وسط للخداع، ألا وهو الفكر؛ وإذا كان الوسط هو الفكر، فلا بد أنه هو نفسه مفكر حقيقي. ويقلص ذلك بقدر ضئيل مجال الشك الذي استحدثه في اليوم الأول من اعتزاله، لكن ديكارت لم يعمد إلى البحث عن أساس للإيمان بحقيقة الأشياء التي تتجاوزه وأفكاره أو خواطره إلا بعد أن أثبت وجود الرب.
ويدرك ديكارت أن الرب كامل، ومن ثم فهو خير إلى أقصى حد ممكن، ويستحيل أن يتصور المرء أنه يسمح للزيف بأن يبدو ظاهرا للعقل البشري الواعي المصر على إيجاد الحقيقة. والخطأ جائز عندما يشت انتباه العقل، أو عندما يتسرع في التوصل إلى النتائج، أو عندما تهيمن عليه العادات السيئة كعادة الخلط بين السمات الظاهرة للأجسام وخصائصها الجوهرية المتأصلة فيها. لكن لا يمكن أن يخطئ العقل، شريطة التحوط من أي خطأ، عندما يؤمن بوجود الأرقام أو الأجسام، أو يكتشف أن العلاقة بين كون الشيء ماديا وشغله أبعادا ثلاثة علاقة لا مراء فيها. وطالما أن الرب لم يخلقنا بحيث ننخدع بما لا يسعنا سوى تصديقه، فحقيقة أن الأشياء والعلاقات تخطر على العقل باعتبارها واقعا تدخل في تفسير كونها حقيقة في واقع الأمر. بحلول اليوم السادس من اعتزاله، يقرر ديكارت أنه من الحمق الشك في وجود الأشياء المادية وحقيقة الطبائع البسيطة. ويخلص ديكارت إلى أنه بينما قد لا تكون الأشياء المادية في الحقيقة كما تبدو للحواس، فإن خصائصها الرياضية واضحة ولا شك فيها، واللازمة المترتبة على ذلك أن الفيزياء الرياضية ممكنة.
توقع ديكارت أن يستغرق قراؤه في التأملات التي سجلها، وعقد الآمال على أن يعيدوا تصور الاستدلال الذي من خلاله استطاع استدعاء شكوكه وتبديدها ببطء. كانت التأملات مضنية، وقليلون ممن تصفحوا الكتاب، إن وجدوا، هم الذين يرجح أنهم انغمسوا في تفاصيله بالقدر الذي طالب به ديكارت؛ فقد نصح قراء التأمل الأول الذي قدم فيه أسبابا للشك في معظم الأشياء المسلم بصحتها دون تفكير بأن «يكرسوا شهورا، أو على الأقل أسابيع؛ لبحث الموضوعات الواردة فيه قبل المضي قدما» (7 : 130). ولقد قدر أن الأمر سيستغرق «على الأقل أياما قلائل»، ربما إضافة إلى الأشهر أو الأسابيع العديدة التي سيمضيها المرء في الاطلاع على التأمل الأولى، كي يعتاد القارئ على التمييز بين الأشياء العقلية والمادية بالسبل التي يستدعيها التأمل الثاني (7 : 131). كان ديكارت يعتقد أن هذه الأوقات الطويلة التي سيستغرقها القارئ في تدبره يبررها الأثر العلاجي للتأملات؛ فإذا استوعبت بشكل سليم فإنها على أقل تقدير ستكسر عادة أبدية؛ ألا وهي التسليم بالمعتقدات المتعلقة بطبيعة العالم المادي وطبيعة الإنسان المستخلصة من خبرته الحسية.
شكل 11-1: صورة لديكارت في صدر الطبعة التي صدرت عام 1701 لأعماله، ونشرت في أمستردام.
لكن المنوط بقراء «تأملات في الفلسفة الأولى» كان يتجاوز بذلهم الوقت والتركيز. كان الأمر يستدعي إجادة ضرب جديد من القراءة؛ فقد كان من الضروري في الأجزاء الأولى من الكتاب أخذ المزاعم على محمل الجد، والتي سيجري صرف النظر عنها لاحقا على اعتبار أنها غير معقولة. علق ديكارت على هذه الخصيصة في رد له على مجموعة من الاعتراضات على كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلا: «يسمح لنا الأسلوب التحليلي للكتابة الذي تبنيته في هذا الكتاب من آن لآخر بعمل فرضيات لم تحظ بالتمحيص الكامل؛ ويتجلى ذلك في التأمل الأول حيث طرحت العديد من الفرضيات التي أقدمت على دحضها في تأملات تالية» (7 : 249). استدعى الأسلوب التحليلي عادة ترتيبا محددا للطرح أو الجدل؛ فأي اعتبارات تعرض إما ستشرح نفسها، أو سيبررها ما تقدم عليها، على أن يكون التطور من الأشياء الظاهرة والسطحية إلى النقاط الأكثر عمقا وجوهرية. في «تأملات في الفلسفة الأولى»، أدخل ديكارت على الأسلوب «التحليلي» تعديلا جديدا؛ فالاعتبارات العميقة والجوهرية تجعل القارئ في واقع الأمر يعيد النظر، أو حتى يرفض ما تقدم.
الفصل الثاني عشر
الشك عند ديكارت
غالى ديكارت في تقدير إمكانات أغلب قرائه المؤيدين له؛ إذ توقع منهم أن يستطيعوا تتبع أسلوبه العجيب في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، فقد أساء أتباعه تفسير الفرضيات الأساسية الواردة في الكتاب. وجمهوره الذي كان معاديا لأفكاره بالفعل انقض على أفكاره التي طرحها بغية تفنيدها وحسب وكأنها مؤكدة بشكل قاطع. لدينا معلومات وافية على ردة الفعل الأولى للكتاب؛ حيث التمس ديكارت تعليقات القراء على النسخ الأولى - ونشرت لاحقا تلك التعليقات مع الكتاب. ولقد بادر ديكارت نفسه بطلب «تصحيحات» من عالمي لاهوت في هولندا وفي السوربون، وأقنع ميرسين بجمع تعليقات من رجال الكنيسة وفلاسفة وعلماء آخرين. وفي نهاية المطاف، جمعت سبع مجموعات من «الاعتراضات»، وشكلت تلك الاعتراضات و«ردود» ديكارت عليها ملحقا كبيرا لكتاب «تأملات في الفلسفة الأولى » نفسه عندما ظهر الكتاب عام 1641.
وأصيب ديكارت بخيبة أمل بسبب طبيعة الاعتراضات، وأحيانا ما كان يرد عليها بنفاد صبر، وغالبا ما كان يشكو من أنه أسيئ فهمه. ولعل أكثر ردوده حسما تلك التي وجهها للمجموعة السابعة من الاعتراضات من اليسوعي بيير بوردين. كان بوردين مسئولا عن النقد الموجه إلى مؤلف ديكارت «مبحث انكسار الضوء» بالكلية اليسوعية في باريس. والآن فهو يعارض، من بين أشياء أخرى، اشتمال التأمل الأول على قائمة بالأشياء التي يمكن التشكك فيها. ألم يثبت التأمل الأول أن ديكارت فيلسوف متشكك مستعد لأن يذهب بالشك إلى أبعد مدى؟ وردا على ذلك، قال ديكارت في نهاية التأمل الأول:
لقد كنت أتعامل وحسب مع الشك المطلق الذي يعتبر، كما أكدت كثيرا، ميتافيزيقيا ومبالغا فيه، ولا يجوز تطبيقه على الحياة العملية. لقد كان الشك من هذا النوع هو الذي أشرت إليه عندما قلت: إن كل شيء يمكن أن يثير ولو أدنى شك ينبغي أن يعد سببا وجيها للشك. (7 : 460)
استهل ديكارت التأمل قائلا إنه لمرة واحدة في حياته سيعمد إلى تطهير أفكاره من كل شيء يداخله الشك. ولكي يجعل نقده شاملا دون أن يكون لانهائيا، كان بحاجة إلى أن يبحث الاحتمالات التي يمكن أن تثير شكوكا في جميع أفكاره على اختلافها.
الاحتمال الأول الذي بحثه كان أن ما بدا وكأنه حياة يقظة ربما يكون حلما. ولقد لاحظ ديكارت أن الأحلام يمكن أن تكون حية جدا مثلها مثل تجربة اليقظة؛ فعندما نصحو من نومنا من الممكن أن نشعر بالذهول لعدم كوننا في المكان أو الظروف التي كنا نحلم بها. وفي الأحلام، نصدق أشياء عادة ما نجدها زائفة في اليقظة. وخلاصة القول إن الأحلام يمكن أن تضللنا، ولكن لا تستدعي الحاجة وجود شيء في الحلم أو اليقظة يدلنا على التمييز بينهما. كيف يمكننا الجزم إذن بأننا لسنا نحلم الآن؟ إذا لم يمكننا الجزم، فربما إذن أن المعتقدات التي تشكلت خلال تجربتنا الحالية كلها زائفة، وإذا كنا نعيش في عالم الأحلام دوما، فربما أن جميع المعتقدات التي آمنا بها «يوما ما» زائفة على الإطلاق. جل ما كان ديكارت بحاجة إليه هو إمكانية الزعم بأن التجربة الواعية تجربة حالمة، فإذا لم نستطع أن نستبعد تلك الإمكانية، فلا يمكننا النظر إلى التجربة الواعية باعتبارها مرشدا موثوقا للطبيعة الحقيقية للأشياء بمعزل عن التجربة. فما من أحد يستطيع أن يقول: «لقد حلمت بأمر ما؛ ولذلك فلا بد أنه حقيقي.» كيف لأحد أن يقول استنادا إلى أي مبرر: «لقد رأيته؛ ولذلك فلا بد أنه حقيقي.» إذا كان النظر، على حد علمنا، تجربة حالمة؟
استخدم ديكارت فرضية الحلم لإضعاف ثقته في مجموعة كبيرة من المعتقدات التي تمليها التجربة الحسية، لكن فرضية الحلم لم تلق بظلال الشك على كل شيء، حتى لو كان يحلم بأنه يجلس أمام النار وحسب، وأن عينيه مفتوحتان، وأنه يمد يديه، حتى لو لم يكن في الواقع أشياء كالرءوس أو الأيادي؛ فإن هذا لا يثبت لنا أنه لم تكن في الواقع أشياء مثل المادة والشكل والعدد والمكان والزمان وغيرها من «الأشياء الأكثر بساطة وشمولية» من الرءوس أو الأيادي. لقد تركت المعتقدات المرتبطة بهذه الأشياء الأكثر بساطة وشمولية دون مساس من قبل فرضية الحلم. ألم تكن هذه معتقدات إذن خالية من أي شك؟ أثبت ديكارت في فرضية أخرى أكثر مغالاة من فرضية الحلم أن حتى هذه المعتقدات محل شك (7 : 21). وكانت فرضيته الثانية تفيد بأن ثمة شيطانا خارق القوة والذكاء يكرس كل جهوده لحمله على الإيمان بما يخالف الحقيقة (7 : 22-23).
في التأمل الثاني، اكتشف ديكارت أن تصور شيطان قادر على خداعه بخصوص «كل شيء» يتعذر الإبقاء عليه. ومع ذلك، في الفقرات الختامية من «تأملات في الفلسفة الأولى» قال ديكارت إن «الشكوك المبالغ فيها خلال الأيام القليلة الماضية»؛ أي الشكوك التي أثارها في تفكره في الأحلام والشياطين، «ينبغي استبعادها باعتبارها مثيرة للسخرية» (7 : 89). ومن خلال توجيه بوردين إلى الفقرات ذات الصلة، اعتقد ديكارت أنه قادر على أن يبرئ ساحته من تهم الشك الموجهة إليه، لكنه سيكون مضللا إذا كان يوحي بأنه استبعد تماما ما يوحيه إليه التأمل الأول في نهاية كتابه. وفيما يتعلق بالمعتقدات الحسية، «لا» يقدم ديكارت فرضية شكية ليثبت وحسب مدى ضعف أساسها. صحيح أنه في نهاية المطاف يتراجع عن فرضية أن كل التجربة البشرية محض حلم، لكنه لا يتراجع عن الرسالة التي أعرب عنها في الفرضية؛ ألا وهي أن التجربة الحسية أساس واهن للوصول إلى استنتاجات بشأن الأشياء المادية.
ويدعم هذه الرسالة الواضحة بقدر معقول في نهاية «تأملات في الفلسفة الأولى» مؤلف ديكارت «العالم» الذي كان بطريقة أو بأخرى تتمة لأطروحته المتعلقة بالميتافيزيقا. ويستهل «العالم» بعدة فصول ناقدة لوجهة النظر البديهية للأشياء المادية؛ ناقدة لوجهة نظرنا عن العالم الفيزيائي التي تخطر على بالنا بشكل فطري، والمستندة إلى التجربة الحسية. ويحاول ديكارت أولا أن يخلص القارئ من المعتقد بأن حواسه أو خبراته مماثلة للأشياء التي تسببها. وبعدها يكرس فصلا كاملا (الفصل الرابع) من أجل تصحيح «خطأ وقعنا في أسره جميعا منذ الصغر عندما آمنا بأنه ما من أجسام من حولنا بخلاف ما يمكن إدراكه بالحواس» (10 : 17). ترسم هذه الفصول الخطوط العريضة لنوع من الشك في المعتقدات المستمدة من الحواس، والشك في مدى موضوعيتها، والذي أوضح ديكارت أنه متوافق مع إمكانية وجود العلوم الطبيعية.
وأحيانا ما تعرف وجهة النظر التي تمكن ديكارت من نقد المعتقدات المستمدة من الحواس، وفي الوقت نفسه الزعم بأن البشر قادرون على إنتاج علوم مادية، باسم «المذهب العقلاني». آمن ديكارت بأن البشر يملكون عقلا أو روحا أو نفسا، وأنه بينما عول العقل/الروح/النفس في بعض أفكاره وخواطره على عمل الأعضاء الحسية، فهو يحوي معلومات أخرى منفصلة عن الأعضاء الحسية، معلومات محتواها واضح «بموجب الطبيعة وحدها». وكان بواسطة أفكار من هذا النوع أن أكثر حقائق الرياضيات والفيزياء بدائية من المفترض أنها تخطر للبشر، وكان من المفترض بواسطة «الاستنباط» من الحقائق الأساسية هذه فهم أكثر الظواهر العامة في الطبيعة فهما أكثر موضوعية، دون التأثيرات المشوهة للتجربة الحسية.
الفصل الثالث عشر
علماء اللاهوت والرب الفيزيائي
كان من المفترض أن ترسي الحجج الواردة في كتاب ديكارت «تأملات في الفلسفة الأولى» أسسا لفيزياء تكون مقبولة لدى علماء اللاهوت. ولقد أفضت حجة من تلك الحجج إلى الانتهاء بأن القدرة البشرية على ممارسة الفيزياء هي في الأصل قدرة روحانية. وثمة حجة أخرى كان من المفترض أن تثبت أن على الروح أن تكون محيطة بالرب قبل أن تكتسب علم الفيزياء. تساعد حجج كهذه في الإجابة على تساؤلات أبرز الرجالات آنذاك الذين زعموا أن العلم الديكارتي الجديد إلحادي. ففي عام 1639، بدأ تسليم أطروحات تنتقد مقالات ديكارت إلى جامعة أوتريخت نزولا على طلب الأستاذ جيسبرت فوتيوس. وثمة أستاذ آخر بالجامعة نفسها، يدعى هنري دو روي أو ريجي، أخذ على كاهله مهمة الرد على فوتيوس، ولعب دور المتحدث الرسمي المحلي باسم الفلسفة الجديدة. لم يكن دو روي المؤيد الوحيد لأفكار ديكارت في أوتريخت؛ فهناك أستاذ آخر يدعى هنريكاس رينري أيد ديكارت لفترة من الوقت. وحقيقة الأمر أن ثمة خطبة ألقيت تقديرا لديكارت في جنازة رينري هي التي دعت فوتيوس الغيور إلى شن هجماته الانتقادية. وخلف ريجي رينري كأبرز المدافعين عن نظريات ديكارت، حتى إنه حصل على مساعدة ديكارت نفسه من أجل صياغة الحجج المؤيدة للفلسفة الديكارتية. ومن الواضح أن الخلاف بين ريجي وفوتيوس بدأ في شكل خلاف أكاديمي رسمي شيمته التحضر، ولكن في نهاية المطاف تحول إلى صراع شخصي مرير. وانتهى هذا الصراع في عام 1642 عندما أقنع فوتيوس مجلس جامعة أوتريخت بإدانة «الفلسفة الجديدة».
من وجهة نظر ديكارت، كان هجوم فوتيوس يرتبط على نحو قوي بنقد بوردين؛ لأنه جاء كجزء من محاولة لاستبقاء المنهج التقليدي بالمدارس، والحيلولة دون تدنيسه بأفكار جديدة. إن الطعن في ديكارت باعتباره متشككا أو ملحدا سيحول دون تدريس فيزيائه، ولم يتورع خصومه الكاثوليكيون في فرنسا ولا غرماؤه البروتستانتيون في هولندا عن القدح في ديكارت (ولقد ذكر فوتيوس شائعة أن ديكارت أب لطفل غير شرعي، لكنه أخطأ بشأن نوع الطفل؛ مما سمح لديكارت أن يرد بحسم: إنه لم يكن له «ابن» غير شرعي قط).
لكي يحظى بجلسة استماع على الأقل في المؤسسات اليسوعية الفرنسية، التمس ديكارت، متجاوزا رئيس بوردين، مساعدة الأب دينيه الذي كان مسئولا عن جمعية اليسوعيين في فرنسا كلها. واستهل ديكارت الخطاب الذي أرسله إلى دينيه، والذي بدا وكأنه ملحق للطبعة الثانية من مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» عام 1642، بأسئلة موجهة إلى بوردين، ثم انتقل إلى التعاطي مع اتهامات فوتيوس بترويجه لتعاليم مخالفة للدين في علومه. أصر ديكارت على أنه «ما من شيء يتصل بالدين لا يمكن تفسيره بمبادئي بكفاءة مضارعة للسبل الأخرى المعتمدة عموما، أو حتى بكفاءة أكبر منها» (7 : 581). وفي فقرة لاحقة، يرفض ديكارت السبب الثالث الذي أعربت عنه جامعة أوتريخت لإدانة فلسفته باعتباره سببا زائفا يقترب من السخف والخبث؛ فقد زعم مجلس الجامعة أن «هناك الكثير من الآراء الزائفة وغير المعقولة التي إما تترتب على الفلسفة الجديدة، أو يمكن أن يستنبطها الشباب دون تأن - والمراد آراء تتعارض مع مبادئ وتخصصات أخرى، وفوق كل ذلك أنها تتعارض مع علم اللاهوت الأرثوذكسي» (7 : 592).
زعم ديكارت أن فلسفته إما تركت المسائل المتعلقة بعلم اللاهوت الأرثوذكسي دون مساس، أو دعمتها دعما أفضل مما كان متاحا لها في الفلسفة المدرسية «المقبولة عموما»، لكن هذا التصريح كان مضللا مثله مثل التبرؤ المقتضب من تهمة الشك الذي كان يأمل أن يكون فيه الرد على بوردين. ورغم أن ديكارت زعم في رسالته لعلماء اللاهوت بالسوربون أن مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» يدعم الإيمان (7 : 2-4)، فالكتاب لم يكن يحتوي على معلومات كثيرة يمكنها هداية غير المؤمنين، أو مساعدة الكاثوليكيين الذين كانت لديهم شكوك - على سبيل المثال - في أن الفضيلة في الحياة الدنيا لها ثواب في الآخرة. وحقيقة الأمر أن الرب الوارد في مؤلف ديكارت «تأملات في الفلسفة الأولى» بعيد كل البعد عن الرب الموجود في الكتاب المقدس. أما بالنسبة لما يطلق عليه المؤلف «الروح»، فذاك أيضا يصعب الاستقرار على ما إذا كان هو الجانب الذي يشمله الرب برحمته، أم الذي ينزل به العقاب على آثامه في الحياة الدنيا. إن نظرية ديكارت بخصوص الروح حقا نظرية عن العقل الذي يمكن أن يحوي، بمعزل عن الحواس، أفكارا عامة عن ماهية المادة وكيفية تغييرها. فرب ديكارت هو الكيان الذي يضمن أن الأفكار العامة المتعلقة بالمادة صحيحة؛ وبذلك فهو رب فيزيائي، أو، ربما إن شئنا الدقة، الرب الذي تقتضيه فلسفة الفيزياء المناوئة للشك، أو الرب الذي يحاول أن يجعل القوانين العامة للفيزياء غير مشكوك فيها.
إن قوانين الفيزياء محصنة من الشك بحقيقة أنها تنسجم بإحكام مع ما تقدمه الميتافيزيقا باعتباره طبيعة المادة، أو، إن شئنا الصياغة الديكارتية، فإن القوانين لا يداخلها الشك بموجب كونها «قابلة للاستنباط» من نظرية واضحة عن طبيعة المادة، لكن الأمر يتطلب أن يضمن الرب طبيعة المادة نفسها، والتي وفقا لها؛ فإن ما يعد ضروريا ليتصف الشيء بأنه مادة ملموسة هو أن تكون ممتدة على نحو ثلاثي الأبعاد، وقابلة للانقسام، وقادرة على الحركة. ولا يتجاوز هذا الوصف الشك بموجب حقيقة أنه واضح، أو أن العقل يستوعبه بوضوح وتمايز؛ ذلك لأن الضرورة ما زالت تدعو لإثبات أن كل ما يدركه العقل البشري بوضوح وتمايز صحيح. وهنا يلجأ ديكارت إلى حجة عن الرب (قارن: 7 : 62 و8أ : 17): إذا كان بالإمكان إثبات أن الأفكار الواضحة والمتمايزة زائفة، فيمكن أن يخدع العقل البشري حتى لو احتاط كل الحيطة ضد الخطأ، لكن العقل لا يمكن أن يقع في أخطاء إذا لم يدع مجالا للخطأ؛ لأن العقل إذا وقع في الخطأ فإن ذلك يعني أنه يعاني من عيب يلقي بظلاله على كمال صانعه، وصانعه - الرب - كامل يتعالى على العيوب؛ ولذلك لا بد أن أفكار العقل الواضحة والمتمايزة صحيحة.
ولا يقدم ديكارت شرحا مستنيرا للوضوح والتمايز، بل يبدو أنه يعتبر أن الشيء الواضح هو الجلي للعقل الواعي (8أ:21-22)، بينما التمايز عنده هو وضوح الإدراك بالقدر الكافي بما يساعد على استبعاد أي تشوش يشوب المدركات. ويحدث الارتباك عندما يعتبر العقل أن شيئا ما ينتمي إلى طبيعة مدركاته، في حين أنه في واقع الأمر لا ينتمي إلى تلك الطبيعة. فعندما يتعرض العقل المشتت، على سبيل المثال، إلى النار، فمن الممكن أن يعتبر أن إدراكه للحرارة جزء من طبيعة النار، بينما الحرارة في واقع الأمر تعتمد على كل من طبيعة المدرك لها وطبيعة الجسم الخارجي المشتعل. وبصفة عامة، يمكن الحد من الارتباك وتحقيق الوضوح الإدراكي عندما تعرض على العقل الطبائع البسيطة، وعندما يعي العقل إسهامات الطبائع البسيطة في الأشياء «المركبة»؛ ولذلك فإن الإدراك الواضح والمتمايز يناظر ما يطلق عليه ديكارت اسم «الحدس» في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر»، والذي يقول عنه: «تصور العقل الواضح والواعي الذي يتسم بالسلاسة والتمايز الشديدين بما لا يدع مجالا للشك فيما نفهمه» (10 : 368).
في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» يستحضر ديكارت الرب لضمان حقيقة المفاهيم الواضحة والمتمايزة للعقل، لكن كان عليه، أولا، أن يثبت وجود الرب وتمتعه بالكمال. كانت هذه الاستراتيجية أحيانا ما ينظر إليها باعتبارها تدور بديكارت في حجة دائرية مفرغة (انظر على سبيل المثال 7 : 214)؛ لأنه لكي يثبت وجود الرب يجب أن يستخدم مقدمات منطقية يفترض أنها صحيحة في ضوء وضوحها وتمايزها، ولا يستقيم أن يتأكد أحد من صحة التصورات الواضحة والمتمايزة إلا بعد إثبات وجود الرب، لكن لا يجب أن تعطلنا تهمة الدوران في دوائر مفرغة؛ لأن المصاعب قائمة حتى لو كان ديكارت قادرا على التعاطي معها.
يقدم ديكارت حجتين لوجود الرب في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». وتثبت الحجة الأولى، الواردة في التأمل الثالث، أن الرب موجود بالرجوع إلى محتوى فكرة الرب، ونوع المصدر الذي ربما تنتج عنه فكرة لها هذا المحتوى. والحجة الثانية، الواردة في التأمل الخامس، تستنبط وجود الرب من ثبات أوجه الكمال التي تتألف منها طبيعة الرب، والوجود واحد منها. والحجتان مغرقتان في التجريد، وتستندان إلى مبادئ مستخلصة من الميتافيزيقا المدرسية.
في الحجة الواردة في التأمل الثالث، المبدأ الأساسي هو كالتالي: الفكرة التي تمثل شيئا ينتمي إلى فئة بعينها يجب أن تكون لها علة تنتمي للفئة نفسها أو لفئة أعلى منها. ولا يسري هذا المبدأ إلا على خلفية هرمية الفئات؛ وهي هرمية أنواع أي شيء حقيقي. ويعتقد ديكارت أن المادة اللامحدودة حقيقية أكثر من المادة الفانية، وأن الأخيرة حقيقية أكثر من صفة المادة، وأن صفة المادة حقيقية أكثر من الحالة التي تمتلك المادة في إطارها صفة ما. وفي حالة فكرة الرب، تمثل الفكرة مادة لامحدودة يستحيل تجاوز فئة أو درجة حقيقتها؛ ولذا فوفقا لمبدأ ديكارت، فإن علة الفكرة يجب أن تنتمي إلى الفئة نفسها موضوع الفكرة. وبشكل أكثر وضوحا، فإن فكرة الرب يجب أن تكون علتها مادة لامحدودة، لكن هناك مادة لامحدودة واحدة فقط، ألا وهي الرب؛ ولذا ففي سياق فكرة الرب، فإن الرب يجب أن يوجد لتعليل الفكرة. لدى ديكارت فكرة عن الرب؛ ولذلك لا بد أن الرب موجود.
وهذه الحجة يشوبها نقطتا ضعف يسهل الوقوف عليهما: مبدأ العلية الخاص بها، وافتراضها بأنه يمكن أن يوجد شيء كفكرة الرب. زعم ديكارت في «تأملات في الفلسفة الأولى» أن مبدأ العلية الذي يغطي أفكارا يستمد صحته من مبدأ علية أكثر تجريدا، والذي ينص على أن المعلولات يجب أن تكتسب صحتها من علل أكثر صحة منها (7 : 40-41). ولكن من المشكوك فيه ما إذا كان هذا المبدأ يتسق حتى والمنطق، طالما أنه من الصعب فهم حديث ديكارت عن درجات الصحة، أو عن اكتساب المعلول لصحته من مستوى أعلى من الصحة يمكن العثور عليه في علته. وكان على ديكارت أيضا أن يرد على معارضيه الذين قالوا إن العقل البشري قد يعجز عن أن تكون لديه فكرة مسبقة عن الرب. وعادة ما كان يجيبهم بالتمييز بين الأفكار في هذا السياق - والتي وصفها على نحو مرتبك بأنها «شبيهة بالصور» - والصور التي تخطر على الخيال. فعجز الناس عن تصور الرب ليست بحجة تصب في مصلحة استحالة وجود فكرة الرب؛ فقد كان يكفي لوجود فكرة الرب في هذا السياق أن يستطيع المرء الإلمام بواحدة من صفات الرب أو أوجه كماله.
في الحجة الثانية على وجود الرب، استغنى ديكارت عن مبدأ العلية، لكنه اتكأ بشدة على فرضية أن الناس لديهم في عقولهم فكرة عن الرب: «لا شك أن فكرة الرب أو الكائن الكامل كمالا ساميا، خطرت لي باليقين نفسه الذي خطرت لي به فكرة أي شكل أو عدد» (7 : 65). واستغل قاعدة أن ما يدرك بوضوح وتمايز فهو صحيح أو حقيقي. وأخيرا، فقد احتكم إلى قياس تمثيلي بين الأفكار الخاصة بالأشكال والأرقام وفكرته عن الرب، ولاحظ أن أفكاره عن الأشكال أو التكوينات كالمثلث هي في الواقع أفكار عن أشياء لم يخترعها أو يبتدعها، بل كانت أفكارا عن أشياء ذات طبائع حقيقية بشكل مستقل عن الفكر. ومن المنطلق نفسه، فإن فكرته عن الرب هي فكرة عن شيء له طبيعته الحقيقية بشكل مستقل. والطبيعة الحقيقية للمثلث تضفي صحة على قضايا كقضية أن الأضلاع الثلاثة له تساوي زاويتين قائمتين. وبالمثل، فالطبيعة الحقيقية للرب تضفي صحة على قضايا كقضية أن الرب عليم وقدير على كل شيء، وحي لا يموت، وما إلى ذلك، ولكن بينما الطبيعة الحقيقية للمثلثات لا توجب صحة وجود أي شيء له خاصية تساوي زواياه الثلاثة مع زاويتين قائمتين، فإن الطبيعة الحقيقية للرب توجب صحة وجود ما هو عليم وقدير على كل شيء وحي لا يموت؛ أي كامل إن شئنا الاختصار. فطبيعة الرب فريدة من حيث إنها تضمن وجود شيء له هذه الطبيعة (7 : 65-66).
كثيرة هي الأسئلة التي أثارها هذا الاستدلال الذي يعرف أحيانا باسم «الحجة الأنطولوجية» لوجود الرب، ومن بينها أنه كيف يمكن أن توجد الطبيعة الحقيقية المزعومة للمثلث دون أن يوجد المثلث نفسه؟ وهناك سؤال آخر يختص بمعنى القول بأن الاتصاف بالكمال يوجب الوجود. وثمة سؤال ثالث عن كيفية تقديم الحجة الأنطولوجية باعتبارها تأكيدا للحجة المطروحة في التأمل الثالث، وفي الوقت نفسه استغلال الحجة القائلة بأن كل ما يدرك بوضوح وتمايز فهو حقيقي. لا يعمد ديكارت إلى شرح أي من الحجتين باستفاضة ووضوح، ولا تحمل أي منهما في طياتها قدرة على الإقناع.
الفصل الرابع عشر
الأفكار
الكثير من الحجج الواردة في مؤلف ديكارت «تأملات في الفلسفة الأولى»، ولو أنها غير مقنعة، تلفت الانتباه بشدة باعتبارها أدوات لنظرية ديكارت عن الأفكار. والحجج التي ساقها لإثبات وجود الرب أمثلة على ذلك. عندما يقول ديكارت إن الخيال لا يمكن أن يكون لنا عونا على تصور الرب، بل إنه يمكننا صياغة تصور عن خالقنا بوسائل أخرى، فهو بذلك يطرح نظريته للأفكار بوضوح. ويفعل ديكارت الشيء نفسه إذ يستحضر مبدأ العلية في حجته الأولى لوجود الرب. ويوحي مبدأ العلية - من بين ما يوحي به - بأن مصدر الفكرة من الممكن أن يختلف من حيث فئته عن الشيء الذي تمثله الفكرة نفسها؛ أو بتعبير آخر: إنه يمكن أن يكون هناك بون شاسع بين محتوى الأفكار وعلتها في الواقع.
لا يجمع ديكارت قط جميع رؤاه الخاصة بالأفكار في مكان واحد، أو يقترح سؤالا يمكن أن تساعد نظريته المنشودة للأفكار في الإجابة عنه. ورغم ذلك، فمن الممكن تخمين مثل هذا السؤال، ويمكن أن نطرحه على النحو التالي: كيف نستطيع أن نمثل بداخلنا الأشياء الضرورية لفهم الطبيعة؟ قبل ديكارت، زعم الفلاسفة أن البشر يتمتعون بالحس والعقل، وأن التجربة الحسية تجعل العقل يتماس مع المواد التي هي موضوع العلوم. وكان الافتراض أن الأشكال التي تحدد مختلف أنواع الأشياء أو أجناسها محل الدراسة العلمية يمكن استخلاصها من أشكال تناظر السمات الحسية للأشياء: ألوانها وروائحها ومذاقها ودرجات حرارتها. والعقل يكتسب علما بالأشياء في العالم المادي بواسطة التعرف على الأشكال المناظرة للأنواع الطبيعية. فالفهم العلمي يتكون ببساطة من القدرة على التعرف على الشيء داخل منظومة الأنواع الطبيعية، منظومة الأجناس والأنواع. على سبيل المثال، فهم البشر علميا يستتبع الإحاطة علما بأنهم ينتمون إلى الجنس العقلاني من الحيوانات. وتأتي الأشكال الضرورية لفهم البشر من الحواس؛ ولذلك فالعقل يعول في معرفته العلمية على التجربة الحسية. أما بالنسبة لكيفية فهم الحواس للأشكال الحسية؛ كاللون والملمس وما شابه ذلك، للأشياء المختبرة، فيحدث ذلك بواسطة انتقال الأشكال من الأشياء المختبرة إلى الأعضاء الحسية.
في نظريته للأفكار، أطاح ديكارت بالتمييز بين الحس والعقل، وأنكر أن الفهم العلمي يعول على عمل أعضاء الحس، وحاول أن يطور المذهب القائل بأنه في عملية الإدراك تنتقل أشكال الأشياء بطريقة ما إلى أعضاء الحس، ثم تستخلص بواسطة العقل. وبحسب ديكارت، فإن وقع الأجسام بالنسبة لأعضاء الحس هي مسألة ترتهن بالأثر كليا؛ حيث تظهر تأثيرات لاحقة على الجهاز العصبي وفي غدة في المنطقة التي تعرف في المخ باسم «الغدة الصنوبرية». فأثر الشيء يتم تسجيله في الغدة الصنوبرية كحركات مختلفة، وتعمل هذه الحركات كإشارة لروح أو نفس عاقلة متصلة بالجسم عند الغدة الصنوبرية حتى تختبر نوعا معينا من التجربة الواعية أو «الفكرة». ما طبيعة التجربة الواعية التي تعول على نمط من الحركات المنقولة إلى الغدة الصنوبرية؟ إذا مثلت التجربة شيئا ما بدقة، فكان يقال إن لها «وجودا موضوعيا». أما إذا كانت تمثيلا دقيقا بشكل جزئي فحسب لشيء خارج العقل، فهذا يعني أن التجربة أو الفكرة كانت لشيء يحمل في طياته «شكلا» ما تحمله الفكرة في طياتها «موضوعا».
شكل 14-1: وفقا لديكارت، فإن الجسم والعقل يتفاعلان في الغدة الصنوبرية الموجودة في المخ. وتوضح الرسوم الفسيولوجية في أعماله كيف تتحكم هذه الغدة في الإدراك والحركة.
في التأمل الثالث، يقول ديكارت تحديدا إن الأشياء الموجودة في العقل التي تمثل أشياء أخرى ينبغي أن تسمى «أفكارا». وكانت تخطر له فكرة بهذا الشكل، بحسب قوله، كلما «فكر في إنسان أو وهم أو السماء أو في ملاك أو في الرب» (7 : 37). ويمكن أيضا إطلاق مسمى «الأفكار» على أشياء أخرى غير ممثلة لأشياء أخرى داخل عقله، ولو أن إطلاق هذا المسمى سيكون غير دقيق في هذه الحالة. ومثال على تلك الأشياء الإرادة أو الرغبة أو الحكم على الأشياء. أما الأفكار بمعناها الدقيق، فهي «تمثل» أشياء متمايزة عنها. لكنه لم يعرف تلك السمة التمثيلية للأفكار على نحو ضيق. فإذا كانت الفكرة متعلقة بشيء، فلا يشترط وجود تشابه تصويري بين الفكرة وما تمثله. قال ديكارت إنه لكي تكون الفكرة عن شيء محدد، لا بد أن يكون هناك «تماثل» بين الفكرة وما تمثله. ولكن لمواءمة ذلك، على سبيل المثال ، مع إنكاره أن فكرة الرب عبارة عن تصور عقلي، يتعين علينا التعاطي مع «التماثل» سالف الذكر بشكل غير تصويري. يمكن أن يكون «التماثل» بالمعنى المراد مسألة مطابقة الشيء كليا أو جزئيا لوصف أو توصيف يتصوره المرء في عقله. فعندما يفكر المرء في رقم 3 باستحضار عدد صحيح أكبر من 2 ولكن أقل من 4، فإن المرء لا تخطر على باله فكرة الرقم 3 الذي «يشبه تصويريا» العدد نفسه، بل ثمة توصيف في عقل الإنسان «يطابق» الرقم 3. وهذه طريقة لتكوين فكرة عن الرقم 3 في سياق «التماثل» مع الرقم 3.
استغنت نظرية الأفكار عن الفرضية المدرسية الخاصة بالوظائف المختلفة للحواس والعقل. ورغم أن الروح العاقلة لديكارت قد تبدو نظيرا للعقل عند الفلاسفة المدرسيين، فإنها تعمل في حقيقة الأمر بشكل مختلف تماما؛ فهي لا تستخلص الأفكار من تمثيلات حسية خالصة لأشياء خارجية؛ حيث لا تمثل الحواس الأشياء مطلقا في نظرية ديكارت؛ فالحواس تتلقى وحسب آثارا من المادة المحيطة بها، والروح العاقلة هي التي تمثل الأشياء وحتى الألوان والملمس ودرجات الحرارة. ونتيجة لذلك، فإن خصائص المادة الملحوظة لا تنقسم حقا إلى خصائص حسية وعقلية. ولذا فإن الأمر ليس أن كينونة تفاحة دانية تسجل من خلال العقل، أما حلاوتها واحمرارها فيسجلان من خلال الحواس. بدلا من ذلك، فإن حقيقة أنها تفاحة حلوة وحمراء تسجل في الروح العاقلة، وحدها دون غيرها. علاوة على ذلك، فإن الروح العاقلة لا تعول في عملها على الأعضاء الحسية؛ ذلك لأنها مرتبطة بالجسد ارتباطا عارضا وحسب. ويمكن للروح أن توجد من دون الجسد، هكذا حاول ديكارت أن يثبت عندما أجرى التجربة الفكرية لتصور نفسه تحت تأثير الخداع الشيطاني. اكتشف ديكارت أنه لو أخذ تصور الشيطان على محمل الجد، لكان عليه أن يتظاهر بأنه يفتقر للحواس والجسم، وعندما حاول أن يتصور هذا، نجح دون أن يشرع في الشك في أن نفسه أو روحه وأفكاره حقيقية. ومن ثم، جاءت إمكانية تصور روح عاقلة تعمل بشكل مستقل.
رسم ديكارت الخطوط العريضة لنظرية الروح العاقلة - والواقع أنها كانت نظرية للروح العاقلة كممثلة للأشياء، «و» كبادئة للأفعال - في «كتاب الإنسان»، و«مبحث انكسار الضوء »، وكذلك في آخر مؤلفاته المنشورة «انفعالات النفس». افترضت بعض حججه المعارضة لوجهة النظر القائلة بأن كل الأفكار منبعها الحواس صحة نظريته هذه، لكن ثمة حجج أخرى يمكن أن يقبلها حتى أحد أنصار نظرية الإدراك المدرسية. فوفقا للنظرية المدرسية، فإن الأشكال التي تدخل إلى الحواس ومنها إلى العقل من الأشياء الخارجية جعلت محتويات الحواس والعقل «تشبه» الأشياء الخارجية: فالأشياء والحواس والعقل كان من المفترض أن تحتوي بداخلها على الأشكال نفسها. ضرب ديكارت أمثلة لأفكار في العقل «لا» يمكن أن تشبه أي أشياء أخرى تثيرها الحواس: ففكرة الكائن العليم الحي اللانهائي الذي لا يموت، على سبيل المثال، لا يمكن أن تشبه شيئا صادفته الحواس. ولا يمكن للأفكار العامة عن الشكل والعدد والصورة أن تشبه الأشياء التي استحضرتها؛ وذلك لأنها كانت أفكارا عامة والحواس كانت تتعرض وحسب للتفاصيل. وبحسب ديكارت، فإن وجود مثل هذه الأفكار العامة في العقل لم يحتج تفسيرا بالإحالة إلى العلل الخارجية؛ تفيد نظريته بأن الأفكار غير مستقلة فعلا عن قوة التفكير نفسها، وأنها موجودة فطريا. والواقع أنه زعم في مرحلة ما أن «جميع» الأفكار، فيما خلا المحددة في محتواها، فطرية (8ب:358-359). وحتى فكرة الألم فهي ناتجة عن قدرة فطرية للروح العاقلة على التأثر بحركات لا تشبه بأي حال من الأحوال الألم نفسه (لكنه في مواضع أخرى يزعم أن العقل اختلق أو ابتكر بعض أفكاره (7 : 51)).
لقد ثبتت فائدة فرضية أن العقل لديه قدرات وأفكار فطرية في علم اللغويات المعاصر: فمن الحقائق المدهشة أن المتحدثين بلغة ما قادرون على إنتاج عدد من الجمل أكثر بكثير مما يتعلمونه. ومن الحقائق المذهلة أيضا أن جميع اللغات البشرية المعروفة تشترك في قسم كبير من تركيبها النحوي. يوحي ذلك بأن جزءا مما يستوعبه متحدث لغة بعينها هو نفسه ما يفهمه متحدث لأي لغة أخرى، رغم التفاوتات الشديدة في الطريقة التي يجيد بها الناس اللغة، والتنويعات الكبيرة في عقول البشر على اختلافهم. ولعل هذا العنصر المشترك بين المتحدثين بلغات مختلفة يرجع إلى قدرات يملكونها جميعا، قدرات لا يكتسبونها عندما يتعلمون لغة جديدة، بل توجد فطريا بداخلهم. من الواضح أن لدينا هنا نسخة معدلة من فرضية ديكارت صاغها باقتدار عالم اللغويات الأمريكي، نعوم تشومسكي، الذي يقر بأثر ديكارت على تفكيره.
الفصل الخامس عشر
العقل
ينعكس زعم ديكارت بأن الكثير من أفكارنا منفصلة عن التجربة الحسية في ادعائه بأن «العقل» يمكن تصوره باعتباره كاملا تماما حتى إذا كان يفتقر لملكة الإدراك الحسي (7 : 78). وبحسب نظريته عن طبيعة العقل، فإن القدرات الوحيدة التي «يجب» أن يمتلكها العقل هي قدرات فكرية بحتة، والقدرة على ممارسة الإرادة المطلوبة في إصدار الأحكام. ولا توجد أية قدرات إضافية مطلوبة لاستيعاب أغلب العناصر العامة للفيزياء، والنظرية ترى العقل ضمنا مالكا للقدرات الضرورية لاستيعاب علم تجريدي للمادة.
إن الروابط التي تصل ما بين نظرية الأفكار ونظرية المادة العقلية والفيزياء ليست جلية دوما في مؤلفات ديكارت؛ فمزاعمه عن العقل ومحتوياته يمكن حصرها حصرا وافيا في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» حيث أرسى مبادئ الفيزياء خلسة. ففي «تأملات في الفلسفة الأولى» يزعم ديكارت أنه بصدد وضع نظرية للروح، لا نظرية للقدرات العقلية والأفكار التي تجعلنا نتواصل مع جوهر المادة. وكنظرية للروح؛ أي لما يحرك البشر، فإن ما يطرحه في «تأملات في الفلسفة الأولى» يشوبه قدر من الاعتباطية. فمن الواضح أن الزعم بأن الروح هي شيء يحس ويتخيل بشكل عارض فقط، لكنه بضرورة الحال ذكاء متناه، زعم اعتباطي.
ولم تخف هذه الاعتباطية على أصحاب «الاعتراضات» (والتي وضعت هي وردود ديكارت عليها كملحق لكتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»)؛ فقد طلبوا من ديكارت تبرير نظرته لقدرات الإحساس والتخيل، بل ولأية قدرة تفترض وجود جسد باعتبارها غير ضرورية؛ فما كانوا يستفسرون عنه هو التمايز الشديد بين العقل والجسد الذي اشتهر لاحقا باسم «الازدواجية الديكارتية». بحسب ديكارت، فإن العقل يتألف من مادة، بينما يتكون الجسد من مادة أخرى؛ لأنه من الممكن تكوين تصور عن العقل وتصور عن الجسد بواسطة مجموعتين منفصلتين تماما من الصفات المدركة بوضوح وتمايز.
يدافع ديكارت في «تأملات في الفلسفة الأولى » عن ازدواجيته مرتين؛ الأولى أثناء سريان فرضية الشيطان المضلل (التأمل الثاني)، والثانية في نهاية الكتاب (التأمل السادس)، عندما يثبت وجود الرب، وعندما يتخلى عن فرضية الشيطان المضلل، وعندما يثبت صحة القاعدة الرابطة بين الوضوح والتمايز من جهة والحقيقة من جهة أخرى. في التأمل الثاني، يتساءل ديكارت عن القدرات التي يمتلكها، ويسرد قائمة طويلة تتضمن التخيل والإحساس (7 : 28). وبعدها يسهب مفسرا أنه يمتلك قدرة الإحساس من منطلق خاص وحسب؛ فهو يمتلكها من منطلق أنه «يبدو» بالنسبة له أنه يرى ويسمع ويلمس وما إلى ذلك من أحاسيس؛ فلا يستقيم الافتراض بأنه يرى ويسمع ويلمس فعلا؛ وذلك لأن المرء لا يستطيع أن يشك في حقيقة حواسه التي «يبدو» أنه يمتلكها. وفي التأمل الثاني، يعتبر ديكارت أن الصفات التي يستحيل الشك في حقيقتها هي التي يمتلكها (7 : 24)، وبما أنه لا يتجاوز قط ما «يبدو» أنه يسمعه ويلمسه وما إلى ذلك، فهو لا يزعم قط بأنه يملك الإحساس الكامل. ورغم أن الصياغة الخاصة بكل هذا في التأمل الثاني ليست واضحة، فيبدو أنه عندما ينسب الخيال إلى نفسه، فهو يفعل ذلك من المنطلق نفسه الذي ينسب به الإحساس إلى نفسه؛ ولذلك يتضح لنا أنه ما من قدرات تتعلق بالجسد يمتلكها ديكارت بالمعنى المحدد.
يستشهد أحيانا المعلقون على ديكارت بالتأمل الثاني باعتباره مصدرا لما يميز حقا فلسفة العقل الديكارتية، وفيها يعلن ديكارت أنه شيء مفكر بالفطرة. وفيها أيضا يشرح أنه «بالتفكير» يعني أية عملية يقوم بها العقل لا مجال للشك في أنها حقيقية من جانب صاحب العقل. واستنادا إلى التأمل الثاني، فيمكن تعريف كل ما هو عقلي بشكل أساسي بأنه كل ما هو غير قابل للشك في حقيقته وبأنه مدرك مباشرة من جانب النفس. ومن سبل إيجاز هذه الفلسفة القول بأن الخصوصية في فلسفة ديكارت هي العلامة المميزة لكل ما هو عقلي.
لا يتوافق هذا التفسير مع أجزاء لاحقة من «تأملات في الفلسفة الأولى» على النحو الذي يتوافق فيه مع الأجزاء السابقة منه، والأدهى أنه يصور فلسفة ديكارت عن العقل كمنتج ثانوي للشك المنهجي، حتى إنه يكاد لا يجد ما يدعمه إذا ما ثبت أن هذا الشك المنهجي يفتقر إلى الاتساق أو إذا أسيئ تصوره. ولكن هناك تفسيرا آخر محتملا يقيم ركائز النظرية على نحو مستقل بشكل أفضل، ويعطيها دورا محوريا في كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى» ككل.
ولعرض التفسير البديل، يجب أن أذكر متطلبا يتعين على النظرية الوافية للعقل تلبيته أولا؛ وهو أنه لا ينبغي أن تكون النظرية متعلقة بجنس معين. يبدو واضحا أن نظرية العقل لا يمكن أن تسري وحسب على العقل البشري؛ لأنه من الواضح جدا أن المخلوقات المختلفة عنا بيولوجيا يمكن أن يكون لديها قدرات حسية-إدراكية، وذاكرة وحركة ذاتية، وبديهة، بل وقدرات على التواصل مقابلة للقدرات المكافئة لدى البشر. ويلفت الخيال العلمي نظرنا إلى احتمالية وجود مخلوقات فضائية لديها قدرات لا يمكن التمييز بينها وبين قدراتنا، ويكشف لنا العلم نفسه عن مدى تعقيد وتطور القدرات العقلية للدلافين والشمبانزي. وبما أن مفهومنا عن العقل والقدرات العقلية يمتد إلى هذه المخلوقات، فلا بد أن تحقق النظرية الوافية عن العقل درجة معينة من الحياد البيولوجي.
ويفي ديكارت بهذا المتطلب تماما؛ فهو يدرك أن مفهوم العقل يمتد إلى كائنات أخرى خلاف البشر، لكن طريقة تفكيره في العقل - وهذا ما أراه مميزا في نظريته - منفصلة عمدا عن علم البيولوجيا، كما أنها أقل اعتمادا على السبل التي يمكن بها أن تقترب قدرات المخلوقات الأدنى منزلة من قدرات البشر بالمقارنة بالسبل التي يمكن بواسطتها أن توجد قدراتنا بشكل أكثر تطورا في الكيانات الفائقة للبشر، كالملائكة وما شابه. وحقيقة الأمر أن ديكارت يصنف العقول بحسب مدى قدراتها لا بالرجوع إلى الأنواع البيولوجية للكائنات التي تملك تلك العقول. فعقلنا ليس بشريا بقدر ما هو محدود، والرب ليس بشرا فائقا بقدر ما هو لا محدود، وامتلاكنا للعقول بالنسبة لنا «شأنه شأن» امتلاكنا لقدرات من النوع العام نفسه الذي يمتلكه الرب ، ولو أنها أكثر محدودية وقصورا من الرب بمراحل. والنقطة المحورية هي أن عقل الرب الكامل أو اللامحدود هو الذي يضع معيار أي شيء باعتباره عقلا.
استنادا لهذه الخلفية، من الممكن فهم تمييز ديكارت الاعتباطي بين القدرات الفكرية البحتة من ناحية وقدرات الإحساس والخيال المفترضة مسبقا وجود جسد من ناحية أخرى. ويمكن أن يعتبر ذلك تقسيما للقدرات إلى تلك التي يمكن أن تكون مشتركة بيننا وبين الرب، والتي بموجبها يمكننا أن نتمتع بشيء من فهمه الموضوعي للواقع، وتلك التي ليست مشتركة بيننا وبين الرب ولا تستدعيها الضرورة للفهم الموضوعي للأمور.
ويناسب هذا التفسير عددا من الفقرات الواردة في «تأملات في الفلسفة الأولى» يقارن فيها ديكارت بين البشر والرب، وهي فقرات عادة ما يتجاهلها النقاد. ففي التأمل الرابع، على سبيل المثال، يقول ديكارت:
أدرك أنني - على ما يبدو - شيء ما بين الرب والعدم، أو ما بين الكائن الأسمى والعدم: طبيعتي بقدر ما خلقها الكائن الأسمى توجب أنه لا يوجد شيء بداخلي يمكنني من أن أسلك الدرب الخاطئ أو أن أنحرف عن جادة الطريق، ولكن بالقدر الذي أشترك فيه مع العدم؛ أي بقدر ما أنني لست المخلوق الأسمى، وأنني قاصر في جوانب لا حصر لها، لا عجب أنني أقترف الأخطاء. (7 : 54)
يضع ديكارت نفسه على مسافة متساوية على ميزان الوجود الذي ينتهي إلى الكائن الأسمى، وبينما يزعم أنه لا شيء يعيبه فكريا طالما أن الذي خلقه هو الرب، فهو يوحي بأن ثمة شيئا يعيبه طالما أنه فان أو أدنى سموا. وتضع فقرة شبيهة للفقرة التي سلف الاقتباس منها، في التأمل الثالث (7 : 51)، قدرات العقل البشري لا في الترتيب الطبيعي للأنواع، بل في ترتيب يختص بالمواد من حيث كونها أكثر أو أقل كمالا.
وإذ يرسي ديكارت قواعد شيء فائق للبشر وغير بيولوجي كنموذج المادة العقلية، فهو يضع نظرية لا تعترف بوجود عقول في الحيوانات غير البشرية مطلقا، وهو ما يعيبها. (ولقد صدم هذا الوصف بعض قرائه إذ ألمح إلى أن حيواناتهم الأليفة ما هي إلا آلات غير مفكرة.) على الجانب الآخر، وهو ما يميزها، فالنظرية تنظر لحدود العقل البشري؛ وبذلك يبطل النزوع إلى اعتبار العقل البشري النموذج الأفضل من نوعه، دون أسلوب الشك المعتاد. العقل البشري محدود، ولكن بما أنه نسخة محدودة من العقل الإلهي، فمن المنطقي أن تكون ممارسة العلوم في مقدور البشر وضمن قدراتهم.
الفصل السادس عشر
الجسد
كما أن مفهوم العقل دون صفات تنطوي على وجود جسد من المفترض أن يكون كاملا، كذلك من المفترض أن يكون كاملا مفهوم الجسد الذي يستبعد جميع الخصائص التي تعتمد على عقل. إن صحة هذا المفهوم المتشدد عن الجسد، والذي يستبعد درجة الحرارة واللون والرائحة والملمس وما إلى ذلك، هي واحدة من أواخر المزاعم التي حاول ديكارت أن يرسيها في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى»؛ وهي واحدة من أوائل المزاعم التي حاول إثباتها في كتابه «العالم»؛ ولذلك من المنطقي أن نعتبر هذا المفهوم عن الجسد شيئا مصمما لتدعيم الأواصر بين ميتافيزيقا ديكارت وفيزيائه.
هناك تواز بين الطريقة التي تناول بها مفهومه عن الجسد والطريقة التي تناول بها مفهومه للعقل. فيبدأ ديكارت بوصف الرؤية الساذجة أو البديهية لكل مادة، ويمضي قدما مقسما الخصائص التي تعزوها البديهة إلى الجسد والعقل إلى تلك التي تنتمي حقا للمادة المعنية، وتلك التي تبدو وحسب وكأنها تنتمي لها، ثم يحاول أن يفسر كيف يمكن الخلط بين الخصائص التي لا تنتمي حقا وتلك التي تنتمي. وفي كل حالة، يفسر وجودنا المجسد الخلط ما بين الخصائص الظاهرية والحقيقية، أو إن شئنا التعبير عن الفكرة بشيء أكثر من التفصيل، فإننا نضل الطريق بفعل عادة وضع تصورات عن المواد بمساعدة الحواس وحدها. فعندما نعتبر الأجسام قاصرة دون خصائص كاللون؛ فإننا نعلي من قدر - عن طريق الخطأ - سماتها المدركة بالحواس؛ وعندما ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا قاصرين انطلاقا من كوننا عبارة عن عقول أو إرادات فقط؛ فإننا نتسرع في إصدار الأحكام على أساس شعورنا بأننا مندمجون مع أجسادنا أو لا ننفصم عنها.
إن التوازي بين معالجة ديكارت لمفاهيمنا عن العقل والجسد يتسع وصولا إلى الطريقة التي يوزع بها تعليقاته عنهما في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». يحتوي التأمل الثاني على تعليقات حول العقل أو الشيء المفكر، ويحتوي أيضا على تعليقات عن الشيء المادي وهو الجسد. ويؤكد التأمل السادس بقدر كبير الأفكار الأولى لديكارت عن الذي ينسب إليه بوصفه عقلا، ويؤكد أيضا على بعض تعميماته المبدئية عن المادة.
ومن بين هذه التعميمات التي استلهمها من تأملاته في طبيعة قطعة من الشمع (7 : 30) هي أن المرء لا يستطيع أن يحدد شيئا بعينه استنادا للأشكال التي يبدو بها للحواس. فالمادة المستخلصة حديثا من قرص العسل لها مذاق ورائحة وملمس مميز، وما إلى ذلك من الصفات المميزة. ولكن، إذا تعرض القرص للنار، يفقد كل هذه الأشكال ويتخذ أشكالا أخرى. وإذا اعتمدت هويته على الأشكال، فسيكون شيئا قبل التعرض للنار، وشيئا آخر تماما بعد التعرض لها، لكنه هو الشيء نفسه طوال الوقت. إذن ما نوع الشيء الذي يبقى رغم تغير أشكاله المدركة بالحواس؟ ربما أنه جسد وحسب، شيء ممتد مكانيا ومرن (قادر على تغيير شكله)، وقابل للتغير (عرضة لاتخاذ أشكال مختلفة). وإن صح ذلك، فإن ما يحدد هويته ليس ما تلاحظه الحواس، بل ما يستوعبه العقل باعتباره منتميا إلى الجسد؛ ولذا فإن الأشكال المدركة بالحواس ليست مفتاحا لطبيعة الشمع أو، إن شئنا التوسع، حتى مفتاحا لطبيعة أي شيء مادي.
النتيجة الأساسية المتعلقة بالأشياء المادية والمستخلصة في التأمل الثاني سلبية. وتبدأ الخيوط الأولى لوجهة نظر إيجابية في الاتضاح في التأمل الثالث؛ ففي هذا التأمل، وتحديدا في معرض المحاجة الرئيسية لوجود الرب، يبحث ديكارت محتوى عدد من الأفكار المختلفة التي لديه، فيتناول فكرة الأشياء الملموسة ويقول: إنه يلاحظ:
أن الأشياء التي أدركها بوضوح وتمايز شديدين فيها قليلة العدد جدا. وتتكون القائمة من الحجم أو الامتداد طولا وعرضا وعمقا، والشكل الذي يعتبر نتيجة لحدود هذا الامتداد؛ والموضع الذي يمثل العلاقة بين عدة عناصر تمتلك شكلا؛ والحركة أو التغير في الموضع؛ وربما أضيف إلى تلك القائمة المادة والزمن والعدد . (7 : 43)
في هذه المرحلة من محاجة ديكارت التي يضع فيها هذه القائمة، فإن حقيقة أن شيئا ما يدرك بوضوح وتمايز ليست بعد سببا كافيا للظن بأنه صحيح أو حقيقي. ولا يملك ديكارت أساسا متينا إلا في التأمل الخامس للزعم بأن «الشكل والعدد والحركة وما إلى ذلك» حقيقية لكونها مدركة بوضوح وتمايز (7 : 63-64). وحتى هذه النتيجة لا ترقى لما يرسيه التأمل السادس؛ ألا وهو أن ثمة بالفعل أشياء مادية لها حجم وحركة وعدد وما إلى ذلك مستقلة عن الفكر.
إن المحاجة المؤيدة لوجود أشياء مادية (7 : 78-80) تجريدية جدا، ومن الصعب عرضها في إيجاز. وهي كالتالي: الأشياء المدركة بوضوح وتمايز باعتبارها أشياء مختلفة «تكون» قابلة للانفصال عن بعضها - بقوة الرب غير المحدودة، فيمكنني بوضوح وتمايز أن أدرك نفسي منفصلا عن كل شيء خلا الفكر؛ ولذا فإنني مادة مفكرة. والتأمل في أوضاع نفسي باعتباري مادة مفكرة يكشف عن أن ثمة ملكة سلبية بداخلي (الإدراك) لتلقي الأفكار، لكن الملكة السلبية ستكون خاملة لو لم تكن هناك ملكة أخرى نشطة تحث الأولى على العمل. والملكة النشطة، أيا كانت، ليست ضرورية بالنسبة لي كشيء مفكر؛ فلو كانت ضرورية، لكانت ملكة نشطة أمتلكها، وسترتبط حينئذ بإرادتي، ولكن يستحيل أن ترتبط الملكة النشطة بإرادتي؛ لأن الأفكار الحسية تنتج في الغالب على غير رغبتي. علاوة على ذلك، الملكة النشطة لا تفترض وجود الفكر مسبقا، وأية ملكة نشطة أمتلكها ستفترض ذلك مسبقا: ستكون جميع أفعالي الإرادية واعية، وهذا يعني أنني أمتلك أفكارا عنها؛ ولذلك فلا بد أن الملكة النشطة توجد في مادة أخرى مختلفة عني.
ويمكن استنتاج ماهية هذه المادة من معطيات الملكة النشطة؛ أي الأفكار الكائنة في خيالي. لا بد أن لهذه الأفكار وجودا موضوعيا، ولا مراء أن لها عللا ذات وجود شكلي أكبر أو مساو. والعلل الوحيدة التي تستوفي هذا الشرط هي المادة الجسدية، والمادة العقلية، والرب. لم يهبنا الرب قدرة إدراك المادة العقلية أو الرب باعتبار أي منهما علة أفكارنا الفورية، لكننا في الواقع نميل بشدة إلى الإيمان بأن الأجساد تنتج الصور، وإذا لم تكن علتها الأجساد، فمن الممكن أن ننخدع بما لا يسعنا الحيلولة دون التفكير فيه، والرب لم يخلقنا بحيث يجعلنا عرضة لمثل هذا النوع من الزلل؛ ولذا لا بد أن علل الصور تنتمي إلى فئة المادة الجسدية. ومن ثم فإن الأجساد موجودة.
يستنبط ديكارت «وجود» الأجساد من وجود الصور الحسية، لكنه يحذر من التوصل لاستنتاجات عن «طبيعة» الأجساد من محتوى الصور الحسية. عندما يقول إنه من اعتبارات خاصة بمصدر هذه الصور «نستخلص أن الأشياء الملموسة موجودة»، فإنه يضيف:
إنها قد لا توجد بطريقة تناظر تماما إدراكي الحسي لها، ذلك أن استيعاب الحواس في حالات كثيرة غامض وملتبس جدا، لكن على الأقل تمتلك [الأشياء الملموسة] جميع الخصائص التي أفهمها بوضوح وتمايز؛ أي جميع الخصائص، بالنظر إليها عموما، المشمولة في مضمون الرياضيات البحتة. (7 : 80)
ويعني ديكارت «بمضمون الرياضيات البحتة» «الكمية المتصلة» للهندسة والقيم العددية للمتغيرات والثوابت في الجبر. هذه السمات الهندسية والعددية للأجساد هي السمات التي تمتلكها تلك الأجساد بمعزل عنا. والخصائص الأخرى التي تبدو متأصلة في الأجساد، كاللون ودرجة الحرارة والملمس المحسوس والصوت، ما هي إلا آثار معقدة للخصائص الكمية للأجساد - الأجساد الخارجية وأجسادنا - المنطبعة بطرق معينة في عقولنا.
لا يفصح ديكارت قط تحديدا كيف يستوعب التنوع الكمي التنوع النوعي في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». كل ما يقوله ديكارت إنه:
من حقيقة أنني أدرك بحواسي مجموعة كبيرة متنوعة من الألوان والروائح والمذاقات، علاوة على الاختلافات في درجة الحرارة والصلابة وما شابه ذلك؛ فإنني على صواب إذ أستنبط أن الأجساد التي هي مصدر هذه المدركات الحسية المتعددة تمتلك اختلافات تناظرها، ولو أنها ربما لا تشبهها. (7: 81)
يخوض ديكارت في التفاصيل في «كتاب الإنسان» (11 : 174 والصفحات التالية)، و«مبحث انكسار الضوء» (6 : 130 والصفحات التالية)، و«مبادئ الفلسفة» (8أ:318 والصفحات التالية). الفكرة العامة أن الألوان والروائح والمذاقات المختلفة وما إلى ذلك تناظر السبل المختلفة التي تستطيع بها الأعصاب الخاصة بأعضاء الحس المتنوعة التأثر بفعل الأجسام الخارجية المختلفة كما.
كيف يفترض ترجمة الحركات في الجهاز العصبي للجسم إلى تجارب العقل عن اللون والصوت والرائحة والمذاق وما إلى ذلك؟ إجابة ديكارت عن هذا السؤال غامضة؛ فهو يقترح أن ترجمة تلك الحركات تجري بواسطة الترتيب الإلهي. من الواضح أنه ما من قوانين في الطبيعة يمكنها تفسير العلاقة بين تجارب العقل من ناحية، والحركات في الأعصاب وتمثيلات الأشياء الخارجية في المخ من ناحية أخرى. إن العلاقة ليست حتى ضرورية. كان يمكن أن يرتب الرب مسبقا لنا أن تطرأ على عقولنا أفكار لأشياء مختلفة كل الاختلاف عن الألوان والأصوات والروائح في حالات الاستثارة الحسية (7 : 88).
لماذا ينبغي أن يحتوي العقل تمثيلات نوعية للأجساد على الإطلاق إذا كان بالإمكان استيعاب طبيعة الأجساد بإحكام من منطلق كمي؟ إن ديكارت ملتزم التزاما شديدا بالقضايا الثلاث التالية: الرب ليس بمخادع، والرب يرتب لنا نحن البشر بحيث تتجلى لنا تمثيلات نوعية للأجساد بين الحين والآخر كلما أثرت الأجساد على أعضائنا الحسية. وأخيرا، فإن الأجساد لا تمتلك فطريا الخصائص التي تتمثل بها إلينا. أيستقيم حقا ألا يكون الرب مخادعا إذا لم تصور لنا الأفكار التي يضعها بداخلنا عن الأجساد بدقة تلك الأجساد؟ الطريقة التي يخرج بها ديكارت من هذا المأزق هي القول أولا بأنه ما من شيء مضلل حيال أفكارنا في حد ذاتها، فهي تصور لنا الأجساد بشكل محدد، لكننا نحن من نتسرع في حكمنا بأن الأجساد تعرض علينا بموضوعية كما تصورها لنا الأفكار، ثانيا: من المفيد بالنسبة لنا أن يكون لدينا تمثيلات نوعية للأجساد؛ وذلك لأنه استنادا إلى جانبها النوعي نستنبط ما إذا كانت الأجساد ستضر بنا أو ستعود علينا بالنفع. وبتعبير آخر، فإن تمثيلاتنا النوعية لها أهمية في عملية البقاء حيث توجهنا إلى ما يجب أن نسعى إليه وما يجب أن نتفاداه لمصلحتنا (7 : 82 والصفحات التالية، 8أ:41).
تنطبق فكرة ديكارت الخاصة بفائدة وجود تمثيلات نوعية للأجساد على أجسادنا بقدر انطباقها على الأجساد الخارجية. لدينا تمثيلات نوعية لأجسادنا عندما نشعر بالجوع أو العطش أو الألم أو المتعة أو نتحرك، لكن هذه التمثيلات يمكن أن تضللنا؛ لأنها يمكن أن تجعلنا نزاعين للإيمان بأننا مدمجون مع أجسادنا بشكل أو بآخر، بينما نحن، إن صح زعم ديكارت، مجرد عقول أو أشياء مفكرة متحدة بأجساد متمايزة عنا. ورغم ذلك، فهناك أهمية واضحة متعلقة بعملية البقاء في تعاملنا مع الألم والجوع والعطش باعتبارها أحاسيس خاصة بنا لا منتمية إلى جسد منفصل عنا.
تساعدنا التمثيلات النوعية للأجساد على الحفاظ على حياتنا، بحسب ما يرى ديكارت، ولا «ينبغي» أن تعوقنا عن اكتساب علوم الطبيعة؛ وذلك لأن التمثيلات النوعية يمكن أن تتعايش في عقل يحوي أفكارا عن طبائع بسيطة كالحجم والشكل والعدد والمكان وما إلى ذلك، والتي تمكننا من الإمساك بتلابيب الأجساد بمعزل عن خصائصها.
الفصل السابع عشر
كتاب «مبادئ الفلسفة»
لم تظهر الأطروحة التي خطط لها ديكارت عن الفيزياء كتكملة لأعماله في مجال الميتافيزيقا في الوقت الذي أراده؛ فقد كان يأمل أن يشرع في كتابتها عام 1641، لكنه تأخر بسبب انشغاله «بالردود» على «الاعتراضات» الموجهة لمؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». وانشغل ديكارت طوال عام 1642، تقريبا، بالرد على الأطروحات المناوئة له ولزميل فرنسي له يدعى صامويل دومار، والتي نشرها غريم ديكارت بجامعة أوتريخت، فوتيوس. وفي واحدة من هذه الأطروحات اتهم ديكارت بممارسة الفلسفة على غرار لوتشيليو فانيني، الذي أحرق في مدينة تولوز بتهمة الإلحاد عام 1619؛ فقد ثبت أن فانيني حقر من شأن إيمان الناس؛ إذ أنتج براهين واهنة عمدا لوجود الرب. واتهمت أطروحة فوتيوس ديكارت بالاتهام نفسه، ورد ديكارت بقوة على هذا الاتهام وغيره من الاتهامات في أطروحة خاصة به. ولاحقا، عندما كادت مناورات فوتيوس الجديدة تفضي إلى طرد ديكارت من جامعة أوتريخت، دافع ديكارت عن موقفه بمساعدة بسيطة من أصدقائه رفيعي المستوى. وفي النهاية، ورغم أن فوتيوس كان رجل دين واسع النفوذ، نجح ديكارت في تقديم دليل إلى هيئة القضاة بجامعة أوتريخت يثبت فيه أن فوتيوس دبر حملة لتشويه سمعته. وكادت هيئة القضاة تتخذ إجراء ضد فوتيوس الذي سبق أن أيدته تأييدا صريحا، ولكن في يونيو 1645، أصدرت الهيئة مرسوما يحظر نشر أي شيء سواء أكان مؤيدا أو مناوئا لفلسفة ديكارت.
كان فوتيوس بروتستانتيا. وحقق ديكارت نجاحا أكبر مع علماء اللاهوت الكاثوليكيين؛ فقد كان أنطوان أرنولد، مؤلف المجموعة الرابعة من الاعتراضات اللاذعة على «تأملات في الفلسفة الأولى»، من المعجبين بديكارت حتى قبل أن يطلب منه تمحيص ميتافيزيقا ديكارت. ومن بعده جاء اليسوعيون. أثمرت أخيرا الجهود التي بذلها ديكارت في تعريفهم بأفكاره عندما نشر «مقال عن المنهج» والمقالات التالية له، واستطاع ديكارت أن يحظى باستقبال حميد لآرائه من جانبهم. وأنهى ديكارت رسالته إلى دينيه عام 1642 (ارجع للفصل الثالث عشر)
مشيرا إلى رغبته في نشر الأجزاء من فلسفته التي سبق أن احتفظ بها لنفسه حتى تاريخه؛ وكان يقصد فيزياءه. وأراد دينيه أن يرى فقط عناوين أقسام العمل المقترح قبل أن يبارك نشره، فأرسلها ديكارت له عام 1643. وإبان الفترة نفسها تقريبا، اكتشف ديكارت أنه حظي بتأييد يسوعي آخر ذي حيثية، وكان مسئولا في روما يدعى إتيان تشارليه. وفي نهاية المطاف، تصالح ديكارت حتى مع بوردين. وعلى الأقل، اقتبس عمل نشره أحد اليسوعيين عام 1643 مباشرة وأحيانا حرفيا من مؤلفي ديكارت «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية». لذلك، كان الوقت مواتيا آنذاك لنشر أعماله في الفيزياء.
من المستحيل أن يأخذ ديكارت ببساطة النص الذي هجره لمدة طويلة والخاص بمؤلفه «العالم» وينشره؛ فمذهب الكتاب عن الحركة الأرضية لم يزل محظورا، وأسلوب ابتكاره لعالم خيالي يتضح أنه مماثل لعالم الواقع كان من المتوقع أن يخلق سوء فهم لدى القارئ؛ ولذلك قرر ديكارت أن يضع كتابا يرسم الخطوط العريضة لفلسفته ككل، على أن تشكل الفيزياء جزءا من هذا الكتاب وحسب، واستدعى اختيار شكل جديد أسلوبا جديدا، كما شرح في خطابه إلى دينيه:
لن أعرض [آرائي] بالترتيب نفسه والأسلوب عينه المتبعين عندما كتبت عن موضوعات كثيرة سابقا، لا سيما في الأطروحة [ويعني «العالم»] التي رسمت خطوطها العريضة في «مقال عن المنهج»، لكنني سأستخدم أسلوبا أكثر مواءمة للممارسة الحالية في المؤسسات الأكاديمية؛ أي إنني سأتعاطى مع كل موضوع بمعزل عن غيره من الموضوعات في مقالات قصيرة، وسأعرض الموضوعات بترتيب معين بحيث يعول إثبات ما سيرد لاحقا على إثبات ما يسبقه فقط ، ومن ثم يرتبط كل شيء بغيره في هيكل واحد. (7 : 577)
كان ديكارت يصف كتابا انتهى من كتابة نصفه تقريبا على أن ينشر تحت عنوان «مبادئ الفلسفة».
ظهر هذا الكتاب باللاتينية عام 1644، وترجم إلى الفرنسية عام 1647، وجاء في أربعة أجزاء: الأول لخص النقاط الأساسية لميتافيزيقا ديكارت. ولم يكن هذا العمل بأي حال من الأحوال بديلا عن «تأملات في الفلسفة الأولى». ووجهت مقدمة النسخة الفرنسية القراء للكتاب السابق التماسا لبيان كامل عن الفلسفة الأولى لديكارت. وخصصت الأجزاء الثاني والثالث والرابع للفيزياء. وكان من المخطط وضع جزء خامس عن الكواكب والحيوانات، وسادس عن الإنسان، لكن من الواضح أن ديكارت لم يستكملهما.
هناك تداخل كبير بين الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة» والفصول السبعة الأولى من كتاب «العالم». يحاول ديكارت أن يصحح بعض المفاهيم المسبقة عن طبيعة الجسد، ويمضي قدما فيقدم ما يراه الوصف الصحيح، ثم يعرج على طبيعة الحركة، ومنها إلى قوانين الطبيعة، وسبع «قواعد للاصطدام». كانت قواعد الاصطدام جديدة في «مبادئ الفلسفة»، ولم تكن بضرورة الحال مهمة لبيان ديكارت لفيزيائه. وكان تعريف الحركة أيضا جديدا، وقدر أنه سيضع مسافة بين ديكارت وفرضية حركة الأرض. بحسب التعريف الجديد (8أ:53)، فإن الحركة ببساطة هي تغيير المكان بالنسبة للأجسام المحيطة على اعتبار سكونها عن الحركة. وبالنسبة لجسم محيط، ألا وهو غلاف الأرض الجوي، فإن الأرض ساكنة. لاحقا، لاقى هذا التعريف انتقادات من نيوتن استنادا إلى أنه يلمح - بما يجانب الصواب - إلى أن الجسيمات الموجودة داخل الجسم المتحرك ساكنة، بينما الجسيمات الموجودة على السطح غير ساكنة.
يقدم لنا الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة» وصفا لطبيعة الجسد يحتج في سياقها ديكارت بأنه «لا يوجد فارق حقيقي بين الفضاء أو الخلاء والمادة الملموسة» (8أ : 46). وتمهد هذه الحجة الطريق أمام إنكار ديكارت للفراغ في نظريته عن حركة المادة في دوائر، وتمييزه - الذي يعرف أحيانا باسم التمييز النوعي الأساسي/الثانوي - بين الخصائص التي تمتلكها الأجسام فطريا ، كالعدد والشكل، وتلك التي لا تمتلكها فطريا كاللون والرائحة. رغم أهمية الزعم بأن المادة الملموسة والفضاء يتعذر التمييز بينهما، أو أن المادة ما هي إلا امتداد، فهو لم يحظ بحجة قوية. يحدد ديكارت ما هو جوهري بالنسبة للمادة بالخصائص المتبقية بعد استبعاد الخصائص التي تعتبر الأجسام مفتقرة إليها.
وهي الطريقة نفسها المتبعة لتحديد جوهر المادة التي يوظفها ديكارت للعقل، وفي الحالتين نجد النتائج غير مرضية. من الواضح أن ديكارت يفترض أنه إذا بدأ المرء بتصور عن العقل أو الجسد، ثم استبعد الخصائص التي تعد غير جوهرية، تاركا صفات كافية لتحديد مادة ما، فإن هذه المادة ستطابق المادة التي تصورها في البداية. هناك مشكلات واضحة في طريقة التفكير هذه، يتجلى بعضها في أمثلة يناقشها ديكارت نفسه. ومن بين هذه الأمثلة (7 : 222)، هب أن المرء بدأ بتصور الجسد البشري، ثم استبعد كل خصائصه عدا تصور شيء قادر على التقاط الأكواب أو الضغط على العديد من مفاتيح البيانو مرة واحدة. ستظل فكرة المادة، ألا وهي اليد، في مخيلة المرء، لكنها ليست المادة التي بدأ بتصورها. وبالمثل، إذا بدأ المرء بمفهوم الشيء المادي، ثم استبعد منه جميع الخصائص فيما خلا الامتداد، فرغم أن المرء يمكن أن ينتهي به الأمر إلى تصور شيء ما، ألا وهو الفضاء، فربما لا ينتهي المرء إلى تصور الجسم أو الشيء المادي.
بعيدا عن الصعوبات المتعلقة بالمفاهيم، كان من الصعب إجراء عمليات حسابية بفيزياء ديكارت؛ فهي لم تأت على ذكر قياس للمقاومة، ولم تعرج على الكتلة. والأهم من ذلك، أن ثمة مآخذ صارخة كانت تعيبها كنظرية للجاذبية. سبق أن رأينا في الخطوط العريضة لمحتويات كتابه «العالم» أن ديكارت ظن أن الجاذبية تنشأ من حركة دوامية للمادة. وكان من المفترض أن حركات المد والجزر وحركة القمر حول الأرض وثقل الأجسام على الأرض تفسرها الدوامة المتمركزة على محور الأرض، لكن نظرية الدوامة لم تفسر جاذبية الأجسام الأرضية تجاه قطبي الأرض، وعند تطبيقها على المادة السماوية، تضاربت النظرية مع حقائق معروفة محددة عن حركات الكواكب. اقترح نيوتن الذي أوضح بعض هذه الصعوبات في ثمانينيات القرن السابع عشر نظرية حسابية لقوة جاذبة كونية تحل محل نظرية الدوامة. ولقد أدى نجاح هذه النظرية إلى تقويض أثر الفلسفة الديكارتية أكثر من أي نقد فلسفي وجه إليها في القرن السابع عشر. إن الجزء الذي تكتم عليه ديكارت أكثر ولفترة أطول من غيره من فلسفته، واحتاط كل الحيطة في الإفصاح عنه، اتضح أنه الجزء الذي جرى تفنيده أسرع. وحقيقة الأمر أن نظرية نيوتن ربما قوضت من المنظومة الديكارتية بقدر أكبر مما كان يمكن أن يحدث بسبب عدم اكتمال تلك المنظومة حال تكتم ديكارت عليها إلى الأبد.
ويقال أحيانا إن إخفاقات فيزياء ديكارت كان مقدرا لها أن تكون حادة؛ لأنها قامت على فرضية نظرية نادرا ما جشم نفسه عناء اختبارها بالتجربة. ففكرة أن ديكارت كان مغرما بشكل مبالغ بالتنظير الاستنباطي تعتمد في جزء منها على سوء تفسير الكيفية التي من المفترض بواسطتها استخلاص القضايا العامة في فيزيائه. في «مبادئ الفلسفة» (9ب:10)، وكذلك في مؤلفه «مقال عن المنهج» (6 : 40)، يبدو أن ديكارت يقترح أنه يمكن أن تكون ثمة سلسلة متصلة من الاستنباطات من مبدأيه الميتافيزيقيين («أنا أفكر؛ إذن أنا موجود» و«الرب موجود»)، وصولا إلى المبادئ المرتبطة بالأشياء المادية التي يستعرضها في فيزيائه. ومن الواضح أن الحقائق الميتافيزيقية يتم التوصل إليها بمعزل عن أي تجربة أو مشاهدة من أي نوع؛ لو كانت مبادئ فيزيائه قابلة للاستنباط من الميتافيزيقا التي وضعها، فمن الواضح أنها، هي الأخرى، لا بد وأنه يمكن صياغتها بالاستنباط، وتستنبط صحتها بمعزل عن أية جهود ساعية لإثباتها أو دحضها، على العكس من بعض مبادئ المنهج العلمي الشهيرة.
يمكن أن نسوق العديد من الملاحظات ردا على ذلك. أولا: سواء أكان يتفق مع نمط الاستنباط المتصل الذي يعتمد عليه ديكارت أم لا، أجري الكثير من التنظير العلمي المثمر بالاستنباط؛ أي بواسطة التجربة الفكرية. ثانيا، وفي سياق مغزى «القابل للاستنباط» من وجهة نظر ديكارت، فإن الزعم بأن بعض المبادئ «قابلة للاستنباط» من مبادئ أخرى ليس معناه أن المبادئ تنبع منطقيا من مبادئ أخرى، ومن ثم فهي صحيحة استنباطا. في سياق استخدام ديكارت ، يبدو أن «الاستنباط» وغيره من التعبيرات المتصلة تصف انتقالا ممتدا في الفكر من اعتبار إلى آخر دون تدخل الشك أو الغموض. ولا يبدو أن الاستنباط الديكارتي يستلزم أنه ينبغي أن «يترتب» اعتبار ما على اعتبار آخر بالأسلوب الذي يفسره المنطق؛ ذلك أن ديكارت يعرف الاستنباط عادة بما يطلق عليه اسم «الإحصاء»، ويعرف الإحصاء بما يفضي إلى إجابة عن «سؤال» أو «مسألة»، فور أن يتم تحليل هذا السؤال. ويمكن أن تكون إعادة تكوين الحل من مكونات السؤال هي نفسها إعادة تكوين الكلمات من الأشياء، والعلل من المعلولات، والإجماليات من الأعداد، والمواد من الخصائص (قارن: 10 : 433 و471-472). ولذلك فإن «الاستنباط» لا يفترض دوما أو يركن إلى شكل من أشكال الاستنتاج من مقدمات إلى نتائج. وكما رأينا سابقا فيما يتعلق ب «منطقه»، فإن مفاهيم ديكارت عن الإثبات والبرهان تقف في منتصف الطريق بين التنظير بالاستنباط والتنظير بالاعتماد على التجربة.
وأخيرا، من الخطأ أن ديكارت آمن بأن التجربة والمشاهدة لا يلعبان دورا في الفيزياء؛ فبينما كل ما عد «أكثر عمومية» في الفيزياء كان من المفترض التوصل إليه دون تجربة، هناك أشياء كثيرة، بل وفي الواقع مجموعة كبيرة من الفرضيات التي تفسر ظواهر «بعينها»، بحاجة إلى أن تختبر بالتجربة والمشاهدة. وحقيقة أن الأمر كان بحاجة إلى الكثير من التجارب ذكرها ديكارت ليفسر كونه شخصيا غير قادر على تقديم تفسيرات «لجميع الأجسام المحددة الموجودة على الأرض، ألا وهي المعادن والنباتات والحيوانات، والأهم من ذلك كله الإنسان» (9ب:17).
الفصل الثامن عشر
العلوم الأخرى
في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، شبه ديكارت الفلسفة بأكملها بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء، وفروعها «التي تنبثق من هذا الجذع هي العلوم الأخرى كلها التي يمكن اختزالها في العلوم الرئيسية الثلاثة؛ ألا وهي الطب والميكانيكا والأخلاق» (9ب:14). ومضى يزعم أن الفوائد الأساسية للفلسفة تستخلص من هذه الفروع لا من الجذع أو الجذور (9ب:15)، وقال : إنه، لفترة من الوقت، عقد الآمال على أن يقدم «مبادئ الفلسفة» للقراء أعظم الأجزاء نفعا من الفلسفة، لكن في النهاية اكتشف أنه يفتقر إلى الموارد الضرورية. ولم يستكمل بناء صروح الميكانيكا والطب والأخلاق قط، لكنه أحرز شيئا من التقدم في هذه العلوم في ثلاثينيات القرن السابع عشر وأواخر أربعينياته.
ولعله كان يقصد «بالميكانيكا» دراسة الطرق التي تشكل بها المادة أنواعا معينة من الأجسام، بما في ذلك النباتات والحيوانات والجسم البشري. والطب كان معنيا بأسباب الحياة في الجسم البشري وسبل الحفاظ عليها. أما الأخلاق فكانت دراسة النوازع البشرية واستراتيجيات السيطرة عليها، وسبل توجيه الإرادة نحو الخير والشر. وافترض علم الأخلاق «معرفة كاملة بالعلوم الأخرى»، وكان يمثل «أعلى مرتبة من مراتب الحكمة» (9ب:14). وعلى العكس من الميكانيكا التي بدا أنها تعول على الميتافيزيقا من طريق الفيزياء وحسب، استند علما الأخلاق والطب على مبدأ العقل والجسد المبين عموما في التأمل السادس. لم ينجح ديكارت قط في تقديم تفسيرات كاملة لأي من هذين العلمين. ففي ثلاثينيات القرن السابع عشر، جمع ديكارت ملخصا للمعارف الطبية الموجودة، لكن المصدر الأساسي لنظريته الطبية الخاصة يبدو أنه مؤلفه «وصف الجسم البشري» غير المكتمل الذي عمل عليه خلال شتاء 1647-1648. بالنسبة لآراء ديكارت عن الأخلاق، يجب أن يعول المرء على آخر أعماله المنشورة «انفعالات النفس» (1649) والتعليقات الموحية، ولو أنها متناثرة، في مراسلاته إلى السفير الفرنسي لدى السويد، بيير شانو، ورسائله إلى إليزابيث، أميرة بوهيميا.
يعرض الجزء الأول من كتاب «انفعالات النفس» - عبر سلسلة معقدة من التعريفات، ونظرية فسيولوجية ما وردت في أطروحات سابقة لديكارت - لتصنيف للانفعالات، وتشخيصا للصراع بين الأجزاء العليا والدنيا من النفس. بصفة عامة، الانفعال هو ما يحدث للنفس بالمقارنة بما تفعله هي. «الإدراكات أو أنماط المعرفة» تعتبر انفعالات في سياق هذا التعريف العام جدا (11 : 342). ولكن بالنظر إلى عبارة «انفعالات النفس» في سياق أكثر ضيقا، فإننا نجدها تغطي فقط الإدراكات «التي نحس بآثارها باعتبار أنها في النفس ذاتها» كالفرحة والغضب (11 : 347)، والتي نحس بأنها تأجج النفس وتعكر صفوها بشدة على نحو مميز.
وتجعلنا الانفعالات ننزع إلى الحركات الجسمانية، فتنتج تلك الحركات بواسطة إحداث حركات في الغدة الصنوبرية (11 : 361)، وتحدث تضاربات بين النزعات الطبيعية والإرادة (وهو موضوع حثت الأميرة إليزابيث ديكارت على تناوله بالكتابة مرارا) عندما تثير النفس والجسد حركات متعارضة في الغدة الصنوبرية في الوقت عينه (11 : 364). وتنتهي هذه التضاربات عندما تصدر النفس، وتصمم على أن تتبع، «أحكاما حاسمة وحازمة بناء على معرفتها بالخير والشر» (11 : 367)، لكن السيطرة على الانفعالات متاحة، بشكل غير مباشر، حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لا يملكون سيطرة عقلانية على النفس؛ وهؤلاء يمكن تدريبهم وتوجيههم على يد من يتفوقون عليهم في هذا الصدد.
وينطوي البحث عن الفضيلة على العيش بحيث لا يلوم المرء نفسه أبدا على الإخفاق في القيام بما يظنه الأمثل (11 : 422). وصف ديكارت الفضيلة بأنها «علاج فائق» للانفعالات. من الواضح أن المصطلحات الطبية مختارة عن قصد؛ ذلك لأنه يبدو أن ديكارت فكر في الأخلاق الشخصية باعتبارها صيانة لصحة النفس، بالضبط كالدواء لصحة البدن. وحقيقة الأمر أن ديكارت لم يعتقد وحسب أن هناك توازيا بين الأخلاق والطب، بل وأن الأخلاق تعول على الطب. تضمنت القياسات التي فضلها ديكارت للسيطرة على الانفعالات نظاما غذائيا متوازنا، وممارسة التمارين الرياضية، واستخدام العقاقير و«الماء». هناك، على سبيل المثال، خطابات متبادلة بين الأميرة إليزابيث وديكارت، من مايو ويونيو 1645، تتناول النصح بتناول ماء الينابيع الساخنة لعلاج السعال الجاف والحمى البطيئة. واستشهد ديكارت من قبل بالحزن باعتباره سببا للإصابة بالحمى البطيئة، وإذ صادق على علاجها بماء الينابيع الساخنة، فقد أوصى إليزابيث بالمزج بين هذا العلاج وشكل من أشكال التأمل التي من شأنها أن تزيح عن فكرها الأفكار الحزينة. وتتألف التأملات من «محاكاة الذين يقنعون أنفسهم - بالنظر إلى نضرة الشجر وألوان الزهور وطيران الطيور وما شابه ذلك من الأشياء التي لا تتطلب انتباها - بأنهم لا يفكرون في أي شيء.»
الأخلاق من وجهة نظر ديكارت لم تكن وحسب مسألة سيطرة على الانفعالات لدى البشر، بل توسعت لتحيط بفكرة المنفعة العامة. بصفة عامة، راسل ديكارت إليزابيث في الخامس عشر من سبتمبر عام 1645 قائلا إن المنفعة العامة يجب أن تتقدم على الخاصة، ودعم وجهة النظر هذه عمل أشبه بأطروحة ميتافيزيقية مفادها أن الكل أهم من الجزء، وأن الكون أهم من الأرض.
الفصل التاسع عشر
الأيام الأخيرة
ترك ديكارت هولندا قاصدا السويد عام 1649. وكان السفير الهولندي في ستوكهولم بيير شانو يراسل ديكارت بالنيابة عن الملكة كريستينا التي أرسلت - شأنها شأن الأميرة إليزابيث - أسئلة للفيلسوف عن الانفعالات، إضافة إلى موضوعات أخرى في الفلسفة الأخلاقية. ولكي يلمح لها تلميحا عن النظرية خلف آرائه التي أعرب عنها في خطاباته، قدم ديكارت لكريستينا نسخة من مؤلفه «انفعالات النفس»، وأعجبت الملكة بالكتاب أيما إعجاب، لدرجة أنها طلبت من ديكارت أن يزور بلاطها. تردد ديكارت لكنه قبل دعوتها في النهاية.
كان ديكارت لديه ما يجعله ينفر من هولندا؛ فصراعه الطويل مع فوتيوس في أوتريخت تبعه جدال آخر في ليدن، أطرافه مرة أخرى أنصار ديكارت من الفلاسفة وعلماء اللاهوت المناوئين له. كان ديكارت متهما بالهرطقة البيلاجية (إنكار الخطيئة الأولى والتأكيد على احتمالية الخلاص دون الغفران الإلهي) في أطروحات خطها أستاذ يعرف باسم ترايجلانديوس. وانضم ريفيوس، عميد الكلية اللاهوتية الملحقة بجامعة ليدن، أيضا إلى زمرة الذين اتهموا ديكارت بالكفر. (سبق أن أعرض ديكارت عن ريفيوس بعد محاولة الأخير إقناع ديكارت بأن يدين بالبروتستانتية، ويبدو أنه كان يحمل له ضغينة.) في مايو 1647، كتب ديكارت رسالة إلى الجامعة ومسئولين في المدينة للاعتراض على هجمات علماء اللاهوت الشرسة، وتحدى خصومه بتفنيد اتهاماتهم بفقرات من كتاباته. في النهاية، صدر قرار يحظر الإشارة إلى أفكار ديكارت في أية أطروحات أو دروس تدرس في ليدن. وفي هذه الفترة، بدأ ديكارت يفكر في الرحيل عن هولندا بلا رجعة.
وقرابة الوقت الذي نشرت فيه النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، حاول أصدقاء ديكارت في فرنسا أن يؤمنوا له حظوة لدى ملك فرنسا. منح ديكارت معاشا، عانى في استلامه لاحقا، وسافر إلى باريس عام 1648 ليرى إن كان بإمكانه الحصول على وظيفة لدى الملك. وكانت الرحلة محبطة؛ حيث اشتكى ديكارت من أنه لم يلفت انتباه الناس إلا باعتباره كائنا غريبا، كفيل أو نمر (5 : 329). شعر بالوحشة في باريس التي كانت تموج بالاضطرابات السياسية آنذاك ، هذا بالإضافة إلى أن ميرسين كان يحتضر. سافر ديكارت إلى هولندا في نهاية شهر أغسطس، وتوفي ميرسين في غرة سبتمبر، وأصبح مراسله الأساسي كلود كليرسيلييه.
ولذا عاد ديكارت إلى هولندا بخفي حنين ليواجه جدلا جديدا؛ فقد انقلب عليه ريجيوس الذي كان له حليفا في صراعه مع فوتيوس. وفي عام 1646، نشر ريجيوس، بالمخالفة لمشورة ديكارت، أطروحة في الفيزياء تحتوي في المقام الأول على أفكار مستعارة من ديكارت، علاوة على آراء ميتافيزيقية مشوهة لرؤى ديكارت. تبرأ ديكارت من أطروحة ريجيوس في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة» عام 1647، ورد عليه ريجيوس في أطروحة له، فأجابه ديكارت برد سريع يفند كل نقطة على حدة فيما عرف باسم «ملاحظات على برنامج محدد» عام 1648.
كان من المتوقع أن تجعل الإحباطات والنزاعات العديدة التي جرت في أواخر أربعينيات القرن السابع عشر من ديكارت شخصا منعزلا يعيش على مقربة من ألكمار في مدينة إجموند، لكنه ظل يستقبل زوارا، وكان من بينهم شاب يدعى فرانس بورمان. سجل بورمان حوارا فلسفيا طويلا دار بينه وبين ديكارت على العشاء في أبريل 1648. وكان بورمان قد أعد له مجموعة كبيرة من الأسئلة بدا أن ديكارت أجاب عنها بصراحة مدهشة وحضور ذهني يحسد عليه.
شكل 19-1: الملكة كريستينا ملكة السويد تصغي السمع إلى ديكارت وهو يلقي عليها درسا في الفلسفة في الصباح الباكر؛ الأمر الذي أدى إلى وفاته في سن صغيرة عام 1650.
1
عام 1649، تلقى ديكارت دعوتين للانضمام إلى بلاط الملكة كريستينا في ستوكهولم. واستغلت كريستينا فشل ديكارت في العثور على وظيفة عندما عاد إلى فرنسا عام 1648، وانتهزت الفرصة لتضيف إضافة جديدة رائعة إلى حاشيتها، لكن ديكارت الفيلسوف لم يقبل هاتين الدعوتين مباشرة؛ فقد كان يخشى أن تكون موافقته على السفر إلى السويد ليست محل قبول: فمن ناحية، كان ديكارت كاثوليكيا ولم يكن باستطاعته الانضمام إلى بلاط بروتستانتي بسهولة، ومن ناحية أخرى، فهو لم يرد أن ينظر إليه على اعتبار أنه يشتت الملكة عن القيام بشئون الدولة، ولكن في أواخر صيف عام 1649 تغلب ديكارت على تردده وسافر إلى ستوكهولم.
لكنه ندم على قراره منذ أن وصل تقريبا؛ فقد كانت الملكة تستعين بخدماته كفيلسوف فيما ندر، وفي أوقات غير مناسبة، فلم يكن يطيب لكريستينا أن تتلقى العلم إلا في الخامسة صباحا. وكان شانو صديق ديكارت، الذي عول ديكارت على صحبته، خارج ستوكهولم حتى ديسمبر 1649. اضطر ديكارت إلى كتابة أشعار لعرض باليه، ثم شرع في تأليف عمل كوميدي عن أميرين ظنا أنهما راعيا غنم. ولم يلائم شتاء السويد صحة ديكارت، فأصابه المرض وتوفي في الحادي عشر من فبراير عام 1650.
هوامش
الفصل العشرون
شبح ديكارت
أدرجت كتابات ديكارت في «قائمة الكتب المحرم قراءتها» من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية عام 1663، وظهرت بعد وفاته ادعاءات باستبعاده الرب من دراسته للعلوم الطبيعية، واليسوعيون الذين تجشم ديكارت عناء كبيرا من أجل استرضائهم كانوا في طليعة المطالبين بحظر أعماله. وكان قرار حظر أعمال ديكارت عام 1663 الأول ضمن سلسلة من قرارات الحظر، التي بلغت ذروتها عام 1691، في حظر ملكي يمنع تدريس أي شيء عن الفلسفة الديكارتية في أية مؤسسة في فرنسا. وبعدها ببضعة عقود، حلت فيزياء نيوتن محل فيزياء ديكارت. وفي فرنسا وغيرها من البلدان بدأت في الظهور تفسيرات منقحة لميتافيزيقا ديكارت، وشروحات منطقه وأخلاقه.
وطوال العقدين التاليين لوفاة ديكارت أو نحو ذلك، صارت صفة «الديكارتي» تطلق على كل من يتسق مع برنامج «الفلسفة الكاملة» الذي رسم ديكارت خطوطه العريضة في مقدمته للنسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة». قال ديكارت في المقدمة إن الأجزاء الثاني والثالث والرابع من «مبادئ الفلسفة» تحتوي على كل الأفكار الأكثر عمومية في الفيزياء (9ب:16)، ولكن الحاجة ما زالت ماسة لبيان علم كامل للمادة الملموسة. وتضمن «مبادئ الفلسفة» صياغات لقوانين الطبيعة، ونظرية كونية، أو وصفا لبنية العالم المادي وتكونه، وشرحا «للعناصر» أو الأجسام الأشهر على الأرض وخواصها، لكن فيما يتعلق «بالأجسام الخاصة»؛ ألا وهي المعادن والنباتات والحيوانات ، والأهم من ذلك الإنسان، فما زال هناك الكثير الذي يمكن قوله.
قال ديكارت إنه لاستكمال تلك النواقص، كانت الحاجة تستدعي مشاهدات وتجارب كثيرة جدا وباهظة التكلفة بالنسبة لشخص واحد (9ب:17). وكانت هذه هي التجارب والمشاهدات التي أخذ «الديكارتيون» الأوائل على عاتقهم تنفيذها. وإذ انشغلوا بالعمل على قوانين الحركة كما جاء بيانها في الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة»، ونظرية دوامات المادة في الجزء الثالث، ومبدأ المادة الدقيقة في الجزأين الثالث والرابع؛ حاول العلماء، أمثال جاك روهو وبيير ساليفان في فرنسا، ويوهانز كلاوبيرغ في هولندا وألمانيا، سد الفراغات في فيزياء ديكارت، لكن برنامجهم البحثي تراجع عندما صحح نيوتن انحرافات خطيرة في نظرية ديكارت للجاذبية، ونظريته لحركة الكواكب ومواضعها؛ نيوتن الذي اكتشفت نظريته، المختلفة كليا والتي لا يمكن إنكارها، وجود قوة معينة (قوة الجاذبية الكونية) والتي لم يستطع ديكارت استيعابها.
في الوصف الذي ذكره ديكارت لكيفية تلقين المرء نفسه الفلسفة في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، قال ديكارت إنه قبل التعامل مع الفيزياء، ينبغي أن ينغمس المرء في الميتافيزيقا، وقبل التعاطي مع الميتافيزيقا ينبغي على المرء أن يمارس المنطق:
أنا لا أعني المنطق الذي يجري تدريسه بالمدارس؛ لأن هذا النوع تحديدا ليس إلا أسلوبا جدليا يعلم طرقا تساعد المرء على شرح ما يعرفه بالفعل للآخرين أو حتى التحدث والنقاش - دون إصدار أحكام - حول أمور لا يعلم عنها شيئا ... بل أعني المنطق الذي يعلمنا توجيه عقلنا للكشف عن الحقائق التي نجهلها. (9ب:13-14)
تشكل لدينا بالفعل انطباع عن هذا «المنطق» من تعليقات سابقة على «قواعد لتوجيه الفكر» والمبادئ الأربعة الواردة في الجزء الثاني من «مقال عن المنهج». بعد وفاة ديكارت، وتحديدا عام 1664، أصدر أنطوان أرنولد وبيير نيكول كتابا بعنوان «المنطق أو فن التفكير»، تبنيا فيه «قواعد لتوجيه الفكر» الذي لم ينشر في حياة ديكارت، بل عثر عليه ضمن أوراقه بعد مماته، وتوسعا في تلك القواعد. لم يكن أرنولد ونيكول وحدهما من بين أنصار ديكارت اللذان حاولا عرض المنطق «الجديد»، كما لم يكونا من بين الأوائل الذين أقدموا على ذلك؛ فقد حاول يوهانز كلاوبيرغ، الذي ورد ذكره بالفعل فيما يتعلق بالحركة الديكارتية في الفيزياء، أن يقدم على الخطوة نفسها.
شكل 20-1: جمجمة ديكارت بمتحف الإنسان بباريس.
1
ويمكن قراءة أعمال الفلاسفة والعلماء وعلماء اللاهوت الآخرين المعاصرين لتلك الفترة أيضا باعتبارها إسهامات في برنامج ديكارت الذي لم يستطع استكماله. أصدر أرنولد خولينكس - فيلسوف فلمنكي - أطروحة عن الأخلاق تتسق مع المنهج الديكارتي عام 1655. وهناك أيضا قائمة طويلة من الفلاسفة - بمن فيهم خولينكس - ممن حاولوا إيضاح الصعوبات الكثيرة الموجودة في ميتافيزيقا ديكارت. وشغلت المشكلات المتعلقة بالأفكار، والعلاقة بين العقل والجسد، المعلقين الأوائل، وكذا نظرية ديكارت عن العلية، والنظرية الميتافيزيقية للعلاقة بين المادة والسمة. كان أرنولد ونيكولا ماليبرانش وسايمون فوتشر أبرز الشخصيات في المناظرات التي تمت حول الميتافيزيقا الديكارتية إثر وفاة ديكارت مباشرة. وطور لايبنتس وسبينوزا أنظمة كان من المقرر أن تكون، من أوجه بعينها، أكثر ديكارتية بكثير - أي أكثر اعتمادا على الاستنباط - من أنظمة ديكارت نفسه. وفي بريطانيا، رفض جون لوك الفرضية الديكارتية بأن العقل لديه قدرات وأفكار فطرية، والتي تعد من أسس نظرية ديكارت المعرفية، لكنه تقبل نظرية الأفكار. وبعد أن تأثر جورج بيركلي وديفيد هيوم بماليبرانش، انضما إلى زمرة نقاد ومنقحي النظرية الديكارتية الخاصة بالمادتين، وبمبدأ العلية في إثبات المادة الملموسة. وتعتبر أعمال هؤلاء الكتاب جميعا أقرب إلى دراسات عن ديكارت في عصرنا الحالي منها إلى أعمال لفيزيائيين وعلماء أخلاق ديكارتيين؛ ذلك أن ديكارت الذي ما برح يمثل هوسا لدى الناس هو مجرد شبح فيلسوف، لا فيزيائي ولا طبيب ولا معلم للأخلاق.
وفيما خلا الذين أثنوا على الفرضية الديكارتية بأن العقل لديه قدرات وأفكار فطرية في علم اللغويات، يتفق أغلب الفلاسفة المعاصرين المتحدثين بالإنجليزية على الحاجة إلى أن نصرف شبح ديكارت. ومما يستشهد به على قوة الفلسفة الديكارتية أن محاولات طمسها ما زالت جارية إلى الآن. وما زال الفلاسفة يعبرون عن رفضهم لنظرية الأفكار لديكارت والازدواجية الديكارتية، ورأيه أن العلم يجب أن ينطلق من مبادئ بديهية، وإيمانه بأن الاعتبارات المعرفية تمثل جوهر الفلسفة. وهناك نظام في هذه الأفكار، مما يساعد على شرح قدرتها على البقاء؛ فقد تم التوصل إليها جميعا في سياق تنفيذ مهمة واحدة ، ألا وهي إثبات أن الفهم الرياضي للعالم المادي أكثر حيادية من أي فهم توحي به الحواس، وأن العقل البشري قادر على صياغة هذا التصور الأكثر حيادية. ولا شك أن أسلوب ديكارت في إثبات هذه الأمور حافل بالمفاهيم المغلوطة. هذا ما أثبتته أجيال من النقاد. لكن النقد لم يكن ليستمر ما لم تكن مهمة ديكارت تأسر ألباب الفلاسفة؛ فهم ما زالوا مهووسين بأعماله، وما برحوا يميلون إلى الجدل بشأن الأفكار التي يمكن أن يكون هناك فهم موضوعي أكبر لها. وما يجعل هذه المجادلات ممكنة هو التصور الواضح الذي لدينا الآن عن طبيعة العالم «المادي». والنسخة الأولى التي لدينا عن هذا التصور تنسب إلى ديكارت. وهذا ما يجعل من الصعب علينا جدا أن نصرف شبحه.
هوامش
قراءات إضافية
مؤلفات ديكارت
The two-volume selection by Cottingham, Stoothoff, and Murdoch (see under Texts and Translations) is the most satisfactory collection of Descartes’s writings in English. Individual philosophical texts by Descartes are also widely available in paperback editions published by Penguin, Everyman, Mentor, and Nelson. A particularly useful translation by Stephen Voss of
The Passions of the Soul (Indianapolis, 1989) can also be mentioned in this connection. The selection of Descartes’s enormous correspondence translated by Anthony Kenny (see under Texts and Translations, p. ix) has now been corrected, enlarged, and incorporated as a third volume into the Cottingham, Stoothoff, and Murdoch edition of Descartes’s writings. Further correspondence, on psychology and ethics, has been translated by John Blom (see below). Also of interest is Descartes’s
Conversation with Burman , edited and translated by John Cottingham (Oxford: Clarendon Press, 1976).
Descartes’s scientific writings are usually excerpted rather than printed complete. The selections given in Cottingharn
et al . should meet the needs of the general reader. For the
Discourse and Essays
in its entirety, see the English translation by Paul Olscamp (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1965). See also T. S. Hall (trans.),
Treatise of Man (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1972), and the translation of
The Principles of
published by Reidel in 1984.
In French, besides the Adam and Tannery, there is an edition of Descartes’s writings by Alquié (Paris: Gamier, 1963-73).
السيرة الذاتية
The first biography of Descartes was Adrien Baillet’s
La Vie de Monsieur Descartes , published in 1691 (Paris: La Table Ronde, 1946), recently reprinted by Slatkine Reprints (Geneva, 1970). Modern accounts of Descartes’s life, which at times correct Baillet, include Charles Adam,
Vie et Œuvres de Descartes (1910; AT, vol. 12), on which I have relied heavily, and, in English, Jack Vrooman,
René Descartes: A Biography (New York: Putnam, 1970). Much more recent is Stephen Gaukroger,
Descartes: An Intellectual Biography (Oxford: Clarendon Press, 1995), which has a very full treatment of Descartes’s scientific writings.
النظرية العلمية لديكارت
Apart from Gaukroger’s biography of Descartes, one of the few recent books to cover Descartes’s philosophy and science is Daniel Garber’s excellent
Descartes’ Metaphysical Physics (Chicago: University of Chicago Press, 1992). Considerably older but still worth consulting is Jonathan Rée,
Descartes (London: Allen Lane, 1974). More on Descartes’s philosophy and science can be found in Desmond Clarke,
Descartes’ Philosophy of Science (Manchester: Manchester University Press, 1982), and the collection of papers edited by Stephen Gaukroger,
Descartes: Philosophy, Mathematics, and Physics (Brighton: Harvester, 1980).
Descartes’s science is considered in some depth in J. F. Scott,
The Scientific Work of René Descartes (London: Taylor and Francis, 1952). Also useful is the chapter on Descartes in volume 7 of Lynn Thorndike,
History of Magic and Experimental Science (New York: Columbia University Press, 1958).
For a more general survey, see Gerd Buchdahl,
Metaphysics and the Philosophy of Science: The Classical Origins- Descartes to Kant (Oxford: Blackwell, 1969).
فلسفة ديكارت
Among the many good books on Descartes’s philosophy, I mention: Anthony Kenny,
Descartes: A Study of his Philosophy (New York: Random House, 1968); Harry Frankfurt,
Demons, Dreamers and Madmen: The Defence of Reason in Descartes’s Metaphysics (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1970); Bernard Williams,
Descartes: The Project of Pure Enquiry (Harmondsworth: Penguin, 1978); E. M. Curley,
Descartes against the Sceptics (Oxford: Blackwell, 1978); Margaret Wilson,
Descartes (London: Routledge and Kegan Paul, 1978); John Cottingham,
Descartes (Oxford: Blackwell, 1986).
Recent collections of articles on Descartes’s philosophy include John Cottingham (ed.),
The Cambridge Companion to Descartes (Cambridge: Cambridge University Press, 1992), Stephen Voss,
Essays on the Philosophy and Science of Descartes (Oxford: Oxford University Press, 1993), and John Cottingham (ed.),
Reason, Will and Sensation: Essays on Descartes’s Metaphysics (Oxford: Clarendon Press, 1994). A collection of articles on the Objectors to the
Meditations
edited by Roger Ariew and Marjorie Grene (Chicago: University of Chicago Press, 1995) includes contributions from leading French Descartes scholars.
النظرية الأخلاقية وكتابات ديكارت في الطب
Texts, including letters, relevant to a study of what Descartes calls 'morals’, are assembled in John Blom (trans.),
Descartes: His Moral Philosophy and Psychology (Hassocks: Harvester, 1978).
Descartes’s medical writings are discussed and interpreted in Richard Carter,
Descartes’s Medical Philosophy (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1978).
تأثير ديكارت بعد وفاته
On Cartesianism in philosophy after Descartes’s death, see Norman Kemp Smith,
Studies in the Cartesian
(London: Macmillan, 1902), and Richard Watson,
The Downfall of Cartesianism
1673-1712 (The Hague: Martinus Nijhoff, 1966).
The influence of Cartesian innatism in linguistics is discussed in
Innate Ideas (Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 1975).
For an indication of reactions against Descartes in latter-day philosophy, see Rée (cited above), and Richard Rorty,
(Oxford: Blackwell, 1980).
نامعلوم صفحہ