مقدمة الكتاب
1 - تأسيس الدولة الأموية
2 - مأساة الحسين
3 - الحركة الزبيرية
4 - سياسة الشدة ومظاهرها
5 - الفتوح الأموية
6 - العدل والإصلاح في الدولة الأموية
7 - العمران الأموي
8 - أحوال الاجتماع الأموي
9 - الأدب الأموي
10 - سقوط الدولة الأموية
المصادر التاريخية التي اعتمدنا عليها
مقدمة الكتاب
1 - تأسيس الدولة الأموية
2 - مأساة الحسين
3 - الحركة الزبيرية
4 - سياسة الشدة ومظاهرها
5 - الفتوح الأموية
6 - العدل والإصلاح في الدولة الأموية
7 - العمران الأموي
8 - أحوال الاجتماع الأموي
9 - الأدب الأموي
10 - سقوط الدولة الأموية
المصادر التاريخية التي اعتمدنا عليها
الدولة الأموية في الشام
الدولة الأموية في الشام
تأليف
أنيس زكريا النصولي
من أحق بتاريخ أمية من أبناء أمية!
ومن أحق بتاريخ معاوية والوليد من أبناء معاوية والوليد!
فاقبلوا يا أبناء سورية الباسلة المتحدة المستقلة هذه الثمرة الصغيرة.
أنيس
مقدمة الكتاب
يتحقق الباحث في كتاب الدولة الأموية في الشام أننا لم نقسم فصوله حسب السنين أو الملوك أو الحادثات أو الفتن والحروب كما فعل غيرنا، ولم نهتم في جمع الحقائق حولها فنجعلها نقطة الدائرة أو المحور الذي يدور عليه كلامنا، بل رتبنا كتابنا هذا حسب حركات نعتقد أنها صورة حية للمبادئ والأفكار والأعمال التي قام بها الأمويون في العصر الذي سادوا فيه وتغلبت مدينتهم على العالم المعروف يومذاك، إننا أقدمنا على كتابة التاريخ على هذا النمط لأننا نعتقد أن التاريخ سلسلة حركات مستديمة متصلة مشتبكة يأخذ بعضها برقاب بعض، وهي تربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، وتظهر الصلة بينها في رقي الجماعات الإنسانية في البيئات المختلفة، وقد جعلنا هذه الحركات عناوين لفصول هذا الكتاب وهي: (1)
تأسيس الدولة الأموية (وقد لخصنا هذا الفصل عن كتابنا معاوية بن أبي سفيان). (2)
مأساة الحسين. (3)
الحركة الزبيرية. (4)
سياسة الشدة ومظاهرها. (5)
الفتوح الأموية. (6)
العدل والإصلاح في الدولة الأموية. (7)
العمران الأموي. (8)
أحوال الاجتماع الأموي. (9)
الأدب الأموي. (10)
أسباب سقوط الدولة الأموية.
وكان جل اعتمادنا على المصادر التي تراها فيما يلي: إنما رجعنا لدى تضارب الروايات إلى الطبري لصدق إسناده وتحريه الحقائق من ينابيعها، فهو من أولئك المؤرخين الذين ينقلون لك التاريخ كما تركه السلف، قال: «لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج ... وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره ... إنما هو على ما رويت من الأخبار ... والآثار التي مسندها إلى رواتها ... إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضيين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بأخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول ... وليعلم أنه لم يؤت ذلك قبلنا، وإنما أوتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا.»
1
ثم إننا جربنا أن نعمل العقل والبصيرة فيما كتبناه، فلم نشد بفضل أناس ليسوا من الفضل في شيء، ولم نجعل لعلاقاتنا الدينية والطائفية والسياسية والاجتماعية تأثيرا في تدويننا التاريخ، ولم نكتب هذه الصفحات والصبغة التقديسية للسلف هدفنا، والحق أننا أردنا أن نثبت الحقائق ونفسرها حسب اجتهادنا ونحن بعيدون جد البعد عن التعصب، فإن وفقنا في هذا العمل الصغير فحسبنا هذا التوفيق في خدمة تاريخ العرب.
مدينة السلام في 1 كانون الثاني سنة 1927
أنيس زكريا النصولي
الفصل الأول
تأسيس الدولة الأموية
(1) حياة معاوية
الرجال ذوو الشخصيات الكبيرة التي تطل على هذا العالم قليل، غير أن أنوارهم وضاءة فيظلون منارا يهتدى به، وباعثا قويا يدفع أبناء الأجيال المقبلة على استثمار نتاج قرائحهم ومجهوداتهم كما يكون جوهم العقلي والأدبي والسياسي والديني جوا راقيا صافيا لا تشوبه غيوم الظلمة والجهالة، من هؤلاء الرجال شاب عاش منذ اثني عشر قرنا ونيف، ربي في سهول الحجاز المقفرة وهو طفل، وأظلته سماء سورية وهو يانع، ذلك الشاب هو معاوية بن أبي سفيان.
ولد معاوية في مكة، وتهذب على أبيه أبي سفيان الزعيم الكبير في الجاهلية، ثم أصبح كاتبا لوحي النبي
صلى الله عليه وسلم ،
1
وحاز على ثقته لطموحه وذكائه وخصب آماله، إن هذا المنصب جعله يحتك برجال الإسلام الذين أصبحوا بعد ذلك إما من أخصامه وإما من دعاته في نزاعه المشهور مع علي بن أبي طالب، فعرف الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين، والدهاة المشهورين أمثال عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وكثيرا من الأنصار الذين كانت تغلو مراجل الحقد في صدورهم حسدا من أبناء قريش وغيرهم من الزعماء الذين جمعتهم المصلحة فتفيئوا ظل الراية الإسلامية، ولطالما اعترف معاوية بفائدة الاختبارات والدروس الجمة التي تلقاها من ذلك المركز، ثم نراه بعد ذلك قائدا بسيطا في جيش الفتح الذي اجتاح سورية بقيادة أخيه يزيد بن أبي سفيان،
2
فحاكما للشام والعراق نحوا من عشرين سنة، فخليفة يخضع له العالم الإسلامي لمدة لا تنقص عن مدة ولايته.
حقا إن حياته السياسية الطويلة تظهر لنا قوة الزعامة في الرجل وتمكنه من منصبه والمحافظة عليه دون أن يعتريه اليأس فينقلب خاسرا مدحورا، ويعترف أعداؤه السياسيون بقوة شخصيته التي تسحر النفوس فتجذبها، غير أنهم يتألمون منه لأنه جعل من الخلافة ملكا ضخما فخما، وحطم أساس الشورى في الإسلام بقيامه على علي بن أبي طالب وإقراره الملك في أعقابه. (1-1) لماذا ساعده أنصاره؟
أما مساعدوه في أعماله ومشيدو دولته فكانوا أشبه شيء بحلفائه منهم برجال خضعوا له، فعمرو بن العاص لم يسلك سبيله ويلتف حوله إلا حين شرط مصر والمغرب طعمة له،
3
ونسخة الشرط تقول أخيرا: «هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص، أعطاه أهلها - أهل مصر - فهم له جيوشه، ولا تنقصه طاعته شرطا»،
4
وكان عمرو لا يحمل إليه شيئا من الأموال، بل يفرق الأعطية في الناس، فما فضل من شيء أخذه لنفسه،
5
ويقول الفخري: «إنه لم يكن بينهما مودة قلبية، وكانا يتباغضان سرا، وربما ظهر ذلك على صفحات وجهيهما وفلتات ألسنتهما»
6
مما يدل على أن المصلحة المشتركة كانت العامل الأكبر في اتحادهما، فمعاوية كان يطمع في الخلافة والسلطة وعمرو في مصر السعيدة الخصبة. (1-2) أشهر قادته
ولا شبهة أن عبد الرحمن بن خالد وحبيب بن مسلمة الفهري وبسر بن أرطاة والضحاك بن قيس وأبا الأعور السلمي وحمزة بن مالك الهمداني وشرحبيل بن السمط الكندي كانوا من أعظم قواده ومدبري دولته وحكام أجناده،
7
فالأربعة الأول الذين ذكرنا أسماءهم آنفا هم مكيون ، أما أبو الأعور السلمي فهو من قيس، القبيلة التي ينتسب إليها معاوية نفسه، ولم يقع معاوية في غلط التحزب لقبيلة أو حزب ما فيقسم أهل البيت الواحد بعضهم على بعض، بل استثمر مواهب مواطنيه، سواء كانوا أنصارا أم يمنيين، أجل حين اعتلى معاوية عرش الخلافة أخذت القبائل القرشية تخفف من غلواء عدائها، فأسس في دمشق حكومة مادتها تشتيت الأحزاب، ولكنه لم ينتسب علنا إلى واحدة منها.
كل هؤلاء القادة قدموا شبانا إلى سورية حين الفتح سوى شرحبيل، وقد استخدموا عند يزيد بن أبي سفيان وظلوا في عداد رجال معاوية نحوا من ثلاثين سنة، ولقد كانوا قادة كبارا لم يتبوءوا مراكزهم إلا عن جدارة واستحقاق، فاستعملهم معاوية في الحروب التي أشعل نارها حبا باتساع المملكة الأموية، وقد أبلى حبيب بن مسلمة البلاء الحسن في العراق وأرمينيا وصفين،
8
ولعب كل من أبي الأعور السلمي وبسر بن أرطاة دورا مهما في فتح مصر وأفريقيا،
9
وبسر هذا رجل ذو شخصية غريبة وشجاعة نادرة، كان له في بث دعوة معاوية شأن، وهو من أولئك البدويين الذين لا تتخلل الرحمة قلوبهم، فيفتك بأعدائه إن تمكن منهم فتكا ذريعا، هؤلاء القادة هم الذين قاموا بمعظم مغازي معاوية في الأناضول وغيرها، فبينا نرى عبد الرحمن بن خالد وحبيب بن مسلمة يضربان المملكة البيزنطية الضربة تلو الأخرى إذا بأبي الأعور وبسر يقودان أسطول معاوية للانتصار في المواقع البحرية، ومن الغريب أن هؤلاء القادة الأشداء كانوا في بعض الأحايين رجال إدارة وسياسيين.
10
ومثلا على ذلك نقول: إن أبا الأعور وحبيبا تخابرا مع علي أثناء معركة صفين وهيآ الكتاب أو «البروتوكول» المبدئي لمؤتمر أذرح، وقد حكم حبيب بن مسلمة أخيرا جند قنسرين في شمال سورية إلى الحدود البيزنطية، وتولى أبو الأعور جند الأردن، وشرحبيل جند حمص. (1-3) اليمنيون والقيسيون
كان اليمنيون يؤلفون القسم الأعظم من الجيش السوري، ويشهد الطبري بذلك حيث يقول إنهم «أعظم جند أهل الشام».
11
وقد اعتمد عليهم معاوية في قتال البيزنطيين وأهل العراق، فكانوا سيوفه البتارة حين محنه، ومع ذلك فقد ذكروه أحيانا بأعمالهم المجيدة،
12
وكان اليمنيون أيضا ساعده الأيمن في تجهيز الأسطول وقيادته؛ ولذا عطف عليهم لإخلاصهم لقضيته، واستمالهم بكرمه، وجعل بعضهم من بطانته، ولما اعتنق هؤلاء الإسلام - ذلك الدين الجديد - ظلوا ينظرون إلى «مبدأ العربية الشامل»
13
المبدأ الجامع لشتاتهم، فلم تكن الحزبية معروفة تماما في بلاطه، وأصبحوا بتوالي الأيام شاميين ومن أعظم دعاته.
إن معاوية وإن كان قيسيا في انتسابه، فقد علم علم اليقين أن الاتفاق مع القبائل العربية المتوطنة سورية منذ أجيال دعامة كبيرة في سبيل دعوته، وركنا متينا في توطيد العائلة المالكة الأموية، وكان اليمنيون - أولئك الذين اعتادوا النظام والحياة الهادئة في ظل الحكومة البيزنطية - من أكبر مساعدي معاوية على إدارة سورية.
أما القيسيون فقد كانوا يسكنون التخوم في الجهة الشرقية من سورية وهم أقلية، نجد أغلبهم في قنسرين، والاعتماد عليهم دون سواهم غلط فادح لكثرة اليمانية، ويشهد بذلك أن معاوية حين ابتدأ في نزاعه مع علي أشير عليه باكتساب رضى اليمانية وعلى الأخص زعيمهم شرحبيل بن السمط.
إن اليمنيين والقيسيين بامتزاجهم مع سكان سورية رقت عقليتهم ونمت أفكارهم نوعا ما، فنزعوا عنهم ثوب البداوة، ومن المهم أن نقرر أن هؤلاء العرب - وخصوصا أبناؤهم - أخذوا ينسون وطنهم الأول ويرون في سورية وطنا ثانيا، وقد كانوا ذوي ليونة ومران قابلين لكل تجدد.
كان معاوية يستشير رجاله وذوي الرأي من نبلاء سورية في أموره، وطالما أبديت الآراء بصراحة أمامه دون رهبة أو وجل كما هو الشائع اليوم في المجالس النيابية عند الغربيين، ويقول الحصري: إنه «إذا أراد أن يفعل شيئا ألقى منه طرفا إلى الناس»، ويؤكد لامنس أن معاوية «جدير بأن يتربع في أيامنا هذه على كرسي الرئاسة في أي مجلس من مجالسنا التشريعية».
14 (2) الحرب الأهلية أو نزاع معاوية مع علي
لما قتل عثمان اجتمع أناس من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليا وبايعوه سنة 35 هجرية/655م، والأنصار هم أكثرية حزب علي، إن هؤلاء منذ وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم
لم يرضوا عن أبي بكر خليفة للمسلمين، بل اعترضوا واحتجوا على ذلك، ولو نظرنا إلى الأمر جليا لتحققنا أنهم لم يفوزوا في انتخاب علي خليفة في الفرص الثلاث التي سنحت لهم، بل تربع على عرش الخلافة أبو بكر فعمر فعثمان كما هو مشهور، على أن هذا لم يمنع بعضهم من التألم والحزن لمقتل عثمان كحسان بن ثابت والنعمان بن بشير وكعب بن مالك، ولو استثنينا النبلاء من أهل المدينة لوجدنا العدد القليل من أشراف بقية البلاد الإسلامية موالية لعلي، ويمكننا القول: إن أغلب سادة قريش وقفت على الحياد أو ظاهرت معاوية وكاتفته، فتأثر ابن أبي طالب كثيرا من عدائهم له،
15
أما مهاجرو مكة فقد تحزبوا لعلي وهم في أماكنهم وعن بعد، وكان الهاشميون أعوانه وقوام حزبه بطبيعة الحال، غير أن منهم من تخلى عنه كعائشة أم المؤمنين وأسامة بن زيد الذي تبناه الرسول وعقيل بن أبي طالب أخي علي، وهو شاب قبل الإسلام متأخرا ولم يشترك في أي معركة أو غزوة قبل فتح مكة. (2-1) المعتزلة
أطاعت خراسان ومصر والعراق عليا اسميا، ولم يكن له السلطة المطلقة البتة في هذه المقاطعات، واعتزل عن بيعته سعيد بن زيد وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن الخليفة عمر بن الخطاب وأبو موسى الأشعري،
16
أحد حكمي مؤتمر أذرح، فسموا المعتزلة - وهم غير الفرقة الفلسفية الإسلامية - وكان هؤلاء يعتقدون أنه لا يجوز دينا الاشتراك في الفتنة ومقاتلة السوريين إخوانهم في الإسلام، يدلنا على ذلك ما قاله أسامة معتذرا لعلي حين طلب منه الانضمام إلى صفوفه: «اعفني من الخروج معك في هذا الوجه، فإني عاهدت الله أن لا أقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله»،
17
وقول آخر: «أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم.»
18
وقد خاطب سعد عليا بقوله: «أعطني سيفا يفرق المسلم من الكافر»،
19
ثم انضم معظم هؤلاء الرجال المعتزلة إلى معاوية ومنهم تألف حزب العثمانية
20 «الذين يقدمون بني أمية على بني هاشم، ويقولون الشام خير من المدينة»،
21
وقد قعدوا عن علي بن أبي طالب ولم يشهدوا حروبه، واعتقدوا أن عثمان قتل خطأ، ولكعب بن مالك أحدهم مراث في الخليفة المقتول وتحريض للأنصار على نصرته قبل قتله، وتأنيب لهم على خذلانه،
22
فاتحاد هؤلاء الرجال مع معاوية أو اعتزالهم كاف لأن يؤكد لنا أن حقوق علي في الخلافة كانت أمرا مشكوكا فيه لم تثبت أصوله في صدور القوم أجمعين. (2-2) العثمانية
تدل كلمة «عثمانية» في الأصل على أقرباء عثمان الخليفة الثالث ومواليه، غير أنها أطلقت في الحرب الأهلية للدلالة على حزب الخليفة المقتول الذين قاموا يطلبون قصاص من سفك دم ذلك الشهيد المظلوم في عرفهم، وتطرف بعضهم فقالوا: إن لعلي يدا في الثورة التي نشبت في المدينة وكان من نتيجتها قتل عثمان؛ ولذا فهو غير جدير بتسلم عرش الخلافة، وإنه لمن الغلط الفادح أن نعتقد بأن العثمانية هم حزب معاوية ومريدوه، بل بالعكس، فإن كل من التف حول معاوية وناصره من أجل الاقتصاص لعثمان والأخذ بثأره هم من العثمانية.
23
أما القبائل فكان قسم منها مع علي وقسم آخر مع معاوية، لكن باهلة وبكر القبيلتان العراقيتان الصميمتان كانتا من أخلص المخلصين لدعوة ابن أبي طالب، ثم انضمت إليه تغلب في الجزيرة واشتركت معه، كما اتحدت قبلا مع غيره محافظة على مصالحها لقربها من العراق، ولم يكن بنو تغلب من الذين يضحون بأنفسهم في سبيله؛ لأننا نراهم بعد ذلك في صفوف معاوية في الكوفة، إلا أن المتوطنين سورية منهم كانوا من حزب ابن أبي سفيان، وتردد شاعرهم الأخطل الشامي - كما يسميه الفرزدق - على بلاط الأمويين قدما كاف للدلالة على ذلك.
ومهما يكن من أمر هؤلاء فإن اليمن ومصر والعراق كانت دعامة الحزب العلوي ومادته الحية، غير أنه كان بها كثير من العثمانية الذين تألموا لفاجعة المدينة وغيرهم من المعتزلة، ففي مصر كان عددهم نحوا من عشرة آلاف، وقد حسب علي هؤلاء من الخونة
24
لأنهم لم ينصروه، وحارب معظمهم بجانب معاوية في معركة صفين، ومن ثمة ساعدوه على فتح مصر والعراق والتغلب عليهما، ويعدد معاوية الأسباب التي جعلته يفوز على علي في نزاعهما فيقول: «أعنت على علي بثلاث: كان رجلا ظهره علنه، وكنت كتوما للسر، وكان في أخبث جند وأشده خلافا، وكنت في أطوع جند وأقله خلافا، وخلا بأصحاب الجمل فقلت: إن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وهنا، وإن ظفروا به كانوا أهون شوكة علي منه»،
25
ويزيد العقد الفريد أنه قال: «وكنت أحب إلى قريش منه»، أي من علي «فيا لك من جامع إلي ومفرق عنه».
26
هذا عدا عن تفوق سياسيي معاوية - وأغلبهم من الأرستقراطية المكية - على رجال علي الأنصار كما يظهر لنا من تتبع حوادث مؤتمر أذرح. (2-3) معركة صفين
حين قتل عثمان وهبت عواصف الآلام في صدور من تخلف عن بيعة علي وغيرهم من العثمانية تربص معاوية يتتبع سير الأحوال، فلم يتابع عليا نظرا لما جاش في صدره من الأطماع في السيادة والسلطة على العرب، سيما ولعائلة أبي سفيان مجد تالد في قريش، ولأنه خاف من علي إذ علم أنه متى استتب له الأمر عزله ولم يستعمله،
27
فاستشار معاوية عمرو بن العاص في القيام عليه، فأشار على معاوية «أشرب قلوب أهل الشام اليقين بأن عليا مالأ على قتل عثمان قبل أن يدعوهم إلى الخلاف، وأن يتقدم إلى ذلك بالتوطين للأشراف منهم، خصوصا رأسهم شرحبيل بن السمط.»
28
فدس إلى أهل الرضا عنده أن يخبروه بفاجعة عثمان، الواحد أثر الآخر حتى أشبعوا نفسيته بأنه قتل مظلوما، فأتى معاوية وقال: «والله لئن بايعته لنخرجنك من الشام»،
29
فأجاب: «ما كنت لأخالف أمركم، وإنما أنا واحد منكم»، إن معاوية بعد أن ذلل هذه الصعوبة وتأكد من إخلاص زعيم أهل الشام عمد إلى اكتساب قلوب العامة، فأرسل شرحبيل في مدائن سورية يبايعهم على النصرة والمعونة والأخذ بثأر خليفتهم المظلوم، ولطالما بكى واستبكى الناس مذكرا إياهم بمصاب عثمان؛
30
مما يدلنا أن معاوية لم يحرم من المواهب الخطابية التي تؤثر في النفوس فتستهويها وتضرب على وترها الحساس فتجتذبها، فأجابه الناس كلهم إلا نفرا من أهل حمص.
ثم بين معاوية للعالم الإسلامي الأسباب التي دعته للثورة ، وضمنها في رسالة بعث بها إلى مندوبي ابن أبي طالب، وهي أساس المبادئ العثمانية، وتقول: «أما بعد ... فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا، وأما الطاعة لصاحبكم فلا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وتأوى ثارنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة»،
31
إن معاوية أوجد لعلي بذلك مشكلة صعب حلها، إذ كيف يسلم قتلة عثمان وهم يده وعضده وأنصاره وبطانته؟
32
وإن لم يفعل ذلك تسرب الشك إلى صدر الأمة فتعتقد أن لعلي دخلا في فاجعة المدينة سواء كان مجرما أو بريئا، وقد أجاب ابن أبي طالب على ذلك بكلمات مبهمة غير محددة مما لا تبعث اليقين إلى النفوس؛ لأنه لم يدفع بها عن نفسه التهمة التي صوبها إليه معاوية وكانت السبب الأكبر في تزعزع أركان دعوته والتخلي عنه، وهاك جوابه: «وأما ما سألت من دفعي إليك قتلته فإني لا أرى ذلك؛ لعلمي بأنك إنما تطلب ذلك ذريعة إلى ما تأمل ومرقاة إلى ما ترجو، وما الطلب بدمه تريد.»
33
القتال بين جيش علي وجيش معاوية
ثم التقوا بصفين من أرض الشام على الفرات، فجرت بينهم مناوشات وحروب، وكان أولها أن معاوية وأصحابه سبقوا إلى شريعة الماء فملكوها ومنعوا أصحاب ابن أبي طالب من الماء، غير أنهم أجبروا على مغادرتها بعد مناوشة انجلت عن تقهقرهم،
34
والجدير بالذكر أنه حين كان يكف القتال تتوادع الجنود ويختلطون بعضهم ببعض، فلا يعرض أحد من الفريقين لصاحبه إلا بخير، ورجوا أن يقع الصلح،
35
وكانت طريقة القتال أن تخرج الجماعة من هؤلاء إلى الجماعة من أولئك فيقتتلون بين العسكرين، وقد كرهوا الالتقاء بجميع الفيلقين مخافة الاستئصال،
36
ولم تقع هزيمة ما على أحد الفريقين إلى أن كان يوم الهدير،
37
وهو أعظم يوم بصفين، وبه زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم وحمل الناس بعضهم على بعض حملة شعواء ، حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف ونفد النبل وتكادموا بالأفواه وتحاثوا بالتراب،
38
وذلك أن عليا أمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام؛ إلا أن تكون قبيلة ليس بالشام منها أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى كباهلة فإنه صرفها إلى لخم.
39
بروتوكول صفين
وحين ظهرت أمارات الفتح أشار عمرو على معاوية برفع المصاحف على الرماح
40
والدعاء إلى ما فيها من أمر الله، وغايته من ذلك: أولا: إيقاع الانقسام في أحزاب علي؛ لأن هذا أمر إن قبلوه اختلفوا وإن ردوه تفرقوا، ثانيا: رفع الحرب عن السوريين إلى أجل أو إلى حين على الأقل، ولقد أثر ذلك على عقلية الجنود إذ قيل لهم: «من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق»، إن ذلك العامل الذي أبان لهم ما يصيبهم من الضرر «مدموغا بطابع الدين» جعلهم يفترون عن القتال ويصيب سهم ابن العاص مرماه.
والحقيقة هي أن التفرقة وقعت في جند علي، فقام بعضهم وقال: إنها مكيدة، فأجابهم آخرون: «إنا قد بدأنا بدعاء أهل الشام إلى كتاب الله فردوا علينا فاستحللنا قتالهم، فإن رددناه عليهم حل لهم قتالنا»،
41
وأخيرا قر قراراهم بعد الجدال في مسألة الشك واليقين من صدق أمرهم على أن يرضوا بالتحكيم، وهيأ مندوبو كل من الفريقين الكتاب أو البروتوكول الآتي بيانه:
42
أولا:
ينزل الحكمان والفريقان عند حكم الله عز وجل وكتابه.
ثانيا:
الحكمان هما: أبو موسى الأشعري عن أهل العراق وعمرو بن العاص القرشي من قبل أهل الشام.
ثالثا:
يعتمد الحكمان على السنة العادلة الجامعة غير المفرقة فيما لم يجداه في كتاب الله.
رابعا:
الأمن والاستقامة ووضع السلاح جار بين أفراد الحزبين أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم.
خامسا:
الأمة لهما أنصار على ما يتقاضيان به، وليس لعلي ومعاوية أن ينقضا مما حكم به في كتاب الله وسنة نبيه، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهليهما وأولادهما.
سادسا:
مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة (العراق) وأهل الشام، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود.
سابعا:
أجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما.
نقد بروتوكول صفين
حقا إن معاهدات السياسيين بها شيء من الإبهام وعدم التحديد، ولعلهم أنفسهم يودونها أن تكون كذلك كيما يعلقوا المسائل تعليقا دون حل نهائي لها، إذ ربما تسنح الفرص بعد ذلك بتتميمها، ومن هذا القبيل نرى أن المادة الأولى من هذا الاتفاق غير محدودة، إذ ما معنى حكم الله؟ وما هي التفصيلات الدقيقة التي يجب أن يبحث فيها أعضاء المؤتمر حين يضعون أيديهم على «حكم الله» إذا وجدوه ووصلوا إليه؟
ثانيا: ترى هل كان أحد الحكمين أو كلاهما منتخبين من قبل الحزبين بتمامهما أم كان هنالك فئة غير راضية عن أحدهما أو كليهما؟ إلا أننا نعرف أن عليا نفسه لم يكن راضيا عن أبي موسى، ويثبت لنا ذلك رأيه فيه حيث قال: «إنه ليس لي بثقة، قد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر»،
43
وللنقادة الأحنف بن قيس رأي في أبي موسى وهو: «قد عجمت هذا الرجل وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر.»
44
ناهيك ثالثا بأن التحكيم نفسه لم تقبل به فئة كبيرة من الناس دعوا بعد ذلك بالخوارج، وتفصيل الخبر أنه لما خرج الأشعث يقرأ مواد الكتاب الذي عقد بين الطرفين على الناس قامت طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية حيث قال: «تحكمون في أمر الله عز وجل الرجال، لا حكم إلا لله»،
45
كذلك صرحت له تماما فئة من عنزة وبعض من أشراف مراد وغيرهم من بني راسب، إذ تنادوا: «لا يحكم الرجال في دين الله»؛
46
مما يدل أن عليا لم يصل إلى منصب الخلافة إلا بأمر الله، ومنصبه جليل سام لا رأي للناس فيه أو في انتخاب الرجل الذي يجب أن يتسنمه، إذ إن الله خصه به، ولقد قاموا على علي لأنه شك في صحة خلافته وجعل نفسه عرضة للحكم الذي يصدره الحكمان.
رابعا : إننا لو تصفحنا العقد لتحققنا أن عليا لم يلقب فيه بأمير المؤمنين
47
مما يبرهن لنا أن خليفة المسلمين رضي بأن ينزل نفسه منزلة معاوية حاكم دمشق، وأن يخضع وإياه لصوت القضاء، وهذا ضعف في سياسته كما لا يخفى. (2-4) مؤتمر أذرح
دومة الجندل وأذرح
كانت دومة الجندل البلدة التي صمم الحكمان على جعلها مقرا للمؤتمر في بادئ الأمر، إذ إنها في مركز وسط بين سورية والعراق، وقد انتخبت أذرح أيضا مكانا لاجتماعهما، وهي من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان
48
مجاورة لأرض الحجاز، تبعد نحوا من ميل عن الجرباء، ويستطاع القول إنها في منتصف المسافة بين معان وبطرا (وادي موسى) في أيامنا هذه.
وكانت أذرح محطا للقوافل القرشية التي أمت سورية أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقد لعبت دورا مهما في الأعصر الرومانية إذ جعلوها مخيما ومركزا للمواصلات مع البحر الأحمر، وهي غنية بمياهها في تلك البقاع الجرداء، ووريثة بترا في اجتذابها القوافل حين مرورها إلى شرقي الأردن، ولقد خسرت مركزها التجاري حين الفتح الإسلامي، وكان لمعان النصيب الأوفر في النمو والازدهار بعدها، وآخر ذكرى لها في التاريخ الأموي هو تنازل الحسن بن علي عن الخلافة فيها لمعاوية، والظاهر أنها خربت أيام الحملات الصليبية على سورية؛ لأن مؤرخيهم لا يذكرونها مع كثرة معسكرات اللاتين كوادي موسى
49
وغيرها في تلك الجهات، ومن الشائع المتعارف لدى المؤرخين العرب سوى الطبري
50
أن دومة الجندل كانت مركز المؤتمر، وذلك لإثباتهم الروايات دون غربلة وانتقاد، غير أننا لو تصفحنا أقوال الشعراء لأكدنا أن المؤتمر لم يعقد إلا في أذرح، ويشهد بذلك قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري:
أبوك تلاقي الدين والناس بعدما
تساموا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح
ورد حروبا قد لقمن إلى عقر
51
ولنا من شعر كعب بن جعيل في عمرو بن العاص ما يثبت ما نحن بصدده:
52
كأن أبا موسى عشية أذرح
يطيف بلقمان الحكيم يواربه
فلما تلاقوا في تراث محمد
سمت بابن هند في قريش مضاربه
وقال الأسود بن هيثم في المؤتمر:
لما تداركت الوفود بأذرح
وفي أشعري لا يحل له غدر
53
أدى أمانته ووفى نذره
عنه وأصبح غادرا عمرو
وإن كان المؤتمر لم يعقد في دومة الجندل فذلك يرجع إلى سلوك علي؛ لأنه أمل أن يؤخر تاريخ انعقاده لبينا يتسنى له ضم الخوارج إلى حظيرته بعد أن انشقوا عنه، ولربما لقطع العلائق ثانية مع معاوية، ثم إن عليا لم يدفع مندوبيه لحضور المؤتمر ويحرج عليهم في ذلك؛ ولذا تأخروا عن الميعاد المضروب له،
54
مما جعل أنصار علي نفسه يجبرونه على الوفاء بعهده، أما أهل الشام فقد قدموا للموعد الذي واعدهم إياه الحكمان.
أجل، قررت بعد ذلك دمشق والكوفة أن تكون أذرح مركزا لاجتماع الحكمين؛ نظرا لتوفر أسباب الحياة فيها وكثرة مياهها، مما فضلت به على دومة الجندل، وقد رجا معاوية المعتزلة حضور المؤتمر ليشهدوا ما يكون من أمرهما.
55
المقابلة بين حزب علي وحزب معاوية
لا بدع أن الحزبين لم يكونا متعادلين في المندوبين السياسيين اللذين مثلاهما؛ لأن عمرا ذلك الداهية المشهور يعلم من أين تؤكل الكتف في الأمور السياسية الخطيرة، عدا ما اتصف به من فصاحة اللسان، ولما كان معاوية يشك في حسن مقاصده فقد أرسل له أخاه عتبة مشيرا.
أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص
أما أبو موسى الأشعري فكان حاكما للكوفة يوم مثلت مأساة المدينة، إلا أنه حين اشتعلت نار الحرب الأهلية اعتزل الفتنة، وهو من أصحاب رسول الله، له شرف ونبل، لكنه لم يكن ليعد من أنداد عمرو في أساليب السياسة والدهاء، ولقد كان خطيبا ذا أفق عقلي محدود، ومهما يكن من أمرهما فإن المفاوضات التي دارت بين الاثنين تظهر لنا شخصيتهما وقواهما العقلية في الدفاع عن آرائهما.
وتفصيل الخبر هو أنه حين نظر الحكمان في أمرهما وما اجتمعا عليه «أراد عمرو أبا موسى على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمرا على عبد الله بن عمر فأبى عليه»،
56
ومن ثمة قررا أن يجعلا الأمر شورى بين المسلمين، فيختارون لأنفسهم من أحبوا، وعموما نرى جميع المؤرخين من العرب ينسبون إلى عمرو بن العاص أنه خدع أبا موسى بتثبيته صاحبه معاوية وخلعه عليا بعد أن خلع زميله الزعيمين، ترى هل من الممكن أن يعلو رجل عرش الخلافة إذا غش مندوبه مندوبا آخر فحسب؟ إن حيلة عمرو لا يقبلها المنطق، إذ إنه لو تسنى له أن يخدع أبا موسى لأثار الرأي العام عليه، ولحول الأنظار نحو علي، سيما وقد شهد المعتزلة المحايدون والأربعمائة مندوب من العراق قرارات المؤتمر،
57
ثم كيف تفسر ثورة الخريث بن راشد؟
58
ذاك الرجل الذي أخلص لعلي وشهد معه معركة صفين والنهروان، ولم يندفع البتة مع تيار الخوارج، لو خدع عمرو أبا موسى هل يعقل ان ينفخ الخريث في بوق الثورة وينشق على ابن أبي طالب بينا يعلم أن صاحبه خدع خدعا؟
لم تكن ثورة الخريث نتيجة لخدعة عمرو الخيالية، إنما لأنه أراد أن ينفذ إرادة الحكمين المتفقين، ويدعو إلى الشورى، ولأن عليا ضعف عن الحق إذ جد الجد،
59
فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة.
وصفوة القول أننا حين نضع المسائل في غربال الانتقاد ونقابلها بما وقع من الأمور بعد مؤتمر أذرح نتحقق أن حيلة عمرو العلنية لا تستند على أساس ثابت من الصحة، إذ كيف يرجو عمرو أن يرشح معاوية للخلافة بعد أن أمضى مع أبي موسى على خلعه،
60
ومما يدلنا أن حيلة عمرو باطلة هو أنه لم يرد شيء عنها في الاحتجاجات التي قدمها علي معترضا على مؤتمر أذرح، إنما اتهم الحكمين بأنهما لم يسيرا حسب ما في كتاب الله؛ ولذا وسعه الخروج عن حكمهما.
إن الحزبين لم يقتتلا في سهل صفين إلا لأن عليا لم يرض بتسليم قتلة عثمان للقضاء، فأبى أهل الشام - العثمانية - الاعتراف به خليفة للمسلمين؛ ولذا عقد مؤتمر أذرح، وحضور العراقيين هذا المؤتمر لم يكن إلا مجاملة يقومون بها قبل أن يكون النصر حليف ابن أبي طالب، أما السوريون فقد قدموا وفي أدمغتهم فكرة الشك في حق علي بالخلافة وترشيح معاوية لها مع أنه لم يدعها علنا، وود ابن أبي سفيان من صميم القلب أن يظهر مداخلة خصمه في فاجعة المدينة كيما لا يكون لنصير القتلة حق بالخلافة.
الغلط الفادح الذي ارتكبه الأشعري
والغلط الفادح الذي ارتكبه الأشعري هو أنه سوى بين علي أمير المؤمنين ومعاوية حاكم الشام في المنزلة، كما نص بذلك «بروتوكول» صفين،
61
مع أن ابن أبي طالب قد اعترفت به مصر واليمن والحجاز وخراسان، ولم يبق خارجا عنه إلا سورية،
62
هذا عدا أن معاوية لم يلتف حوله حزبه إلا كمنتقم لعثمان وليس كمدع للخلافة، فالأشعري لم يميز هذا التفصيل الدقيق الخطير، بل حكم على علي ومعاوية كمرشحين للخلافة، وبذلك حط من مركز ابن أبي طالب ورفع منزلة معاوية وأمله بتحقيق مطامعه الخفية، وحول أنظار الناس نحوه دون أن يشعر بما فعل.
ولو أمعنا النظر في سير المفاوضات بين الاثنين لرأينا أن الأشعري لم يكن متأكدا من حق علي بالخلافة، إذ أطلق العنان لعمرو أن يحدثه عن حقوق معاوية في أن يخلف عثمان،
63
هذا لم يكن موضوع المناظرة، ولعمري إن عمرا الداهية أبعد في مفاوضاته كثيرا عما أتوا من أجله، فجعل يرشح رجالا ضعافا للخلافة إلى أن أنهكه، وقر قرارهما على خلع الزعيمين والرجوع إلى الشورى؛ مما أدى إلى النتائج التي وصفناها آنفا، هذا ما نظنه الصحيح من مناقشات مؤتمر أذرح، أما الباقي من الروايات فعليه مسحة من روح التعصب والاختلاف في إثبات الحديث.
معاوية مؤسس الدولة الأموية في الشام
خرج معاوية من هذا المؤتمر خاسرا حقا ليس له، ورابحا عطف الناس، إذ إن عليا لم يعترف بما أقر عليه الحكمان، وهو تخليه عن المركز العظيم الذي تسنمه أعواما عديدة والرجوع إلى الشورى، وإن ظل علي بعد ذلك متمكنا من الحجاز والعراق وغيرهما من الأقطار، فقد بقي معاوية المسيطر على الشام والرجل الذي بدأ يرى فيه العالم الإسلامي الشخصية الكبيرة القادرة على توطيد السلام؛ ولذا نقول: إن مفاوضات مؤتمر أذرح السياسية أدت إلى نتائج عظيمة لم تكن لتأتي عن طريق صفين وغيرها من المعارك التي تسفك فيها الدماء الزكية.
ومما جعل لمعاوية النصيب الأوفر في النجاح إبان المفاوضات هو روح الطاعة التي تحلى بها الشاميون،
64
لكن الفوضى نشبت بين العراقيين حتى قال لهم العباس يوما: «أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم بما جاء به ويرجع لا يعلم بما رجع به، ولا يسمع لهم (للشاميين) صياح ولا لغط، وأنتم عندي كل يوم تظنون الظنون؟»
65
ويقول ذوو الرأي من العرب: إنه لو مضى علي بمن أطاعه - إذ عصاه من عصاه - فقاتل حتى يظفر أو يهلك لكان ذلك الحزم.
66
الإسلام يقول: إن النفوذ والقوة بعد الله هما في يد الجماعة الإسلامية، وليس من خطيئة بعد الكفر أكبر من خطيئة الخروج على الجماعة والثورة عليها، وللخليفة ممثلها وحامل عصاها أن يحكم بموجب كتاب الله والسنة والإجماع والقياس، وقد انتخب معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين عام الجماعة في إيلياء
67 (بيت المقدس سنة 41ه/661م)، ودعي هذا العام بعام الجماعة لاجتماع الأمة بعد الفرقة على خليفة واحد، وذلك حين بايع له الحسن - بعد مقتل أبيه - بالخلافة، وكان قد أرسل معاوية بصحيفة بيضاء للحسن مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه فما اشترطت فهو لك،
68
ثم اعترف العرب عموما بمعاوية خليفة للمسلمين.
الفصل الثاني
مأساة الحسين
(1) العوامل لتحطيم العرش الأموي في الشام بعد وفاة معاوية
عزم معاوية بن أبي سفيان عزما أكيدا طيلة أيامه على استئصال شأفة المعارضين للمركزية الأموية، فبذل الأموال ووهب المناصب وجيش الجيوش ونظم فرق العيون والأرصاد والشرطة في طول البلاد وعرضها، وقطع ألسنة الناس والشعراء بكرمه وحلمه ودهائه، وبما صرفه من الجهود القوية في سبيل استرضاء الناس والتودد إليهم والتحبب إلى زعمائهم، فتوفق في البلوغ إلى غايته بعض التوفيق، إذ سكنت الأحزاب إلى حكمه ورضخت لعدله، لكن كان هنالك عوامل جمة تعمل في الخفاء لتحطيم عرش الأمويين في الشام بعد وفاة معاوية الأول:
فالعامل الأول:
في عرفنا هو قيام الحزب العلوي برئاسة الحسين بن علي بن أبي طالب لاسترجاع ما فقده من السلطة في مؤتمر أذرح ونشاطه إلى ذلك نشاطا عظيما.
وأما العامل الثاني:
فهو طمع الزعماء من الصحابة إلى التغلب والسيطرة كعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهما.
وأما العامل الثالث:
فهو نفرة الحجازيين والعراقيين من الأمويين لاحتكارهم أعمال الدولة ومهام الأمور فيها، فلم تكن للحجازي والعراقي يد فعالة في تسيير دفة الأحكام كما كان للشامي، ولا ريب أن انتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق جعل زمام الأمور بطبيعة الحال تحت سيطرة النبلاء العرب الشاميين، ثم إن التجاء الزعماء الحجازيين إلى العراق وبثهم الدعوة ضد بني أمية حرك في صدور أبناء الرافدين أسباب الفتن التي أدت إلى المذابح الشائنة والحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، ففتك الشامي بالعراقي وأعمل العراقي السيف بالشامي، وإذا تتبعنا مصدر هذه الفتن لتحققنا أن محركها الأكبر هو استثمار الزعماء والأحزاب للعاطفات الدينية في سبيل الوصول إلى غاياتهم السياسية كما سيتبين معنا.
وأما العامل الرابع:
فهو قيام رجال من ولاة الأمويين الذين لجئوا إلى البطش وسياسة الدم والحديد، فنجحوا نجاحا باهرا في توطيد الأمن وتهدئة الثورات - مؤقتا - ولكن لم يكد كابوسهم يرتفع عن الصدور حتى قذفت تلك الصدور نيرانا وحمما. (2) الحزب العلوي ومأساة الحسين بن علي (2-1) لعن يزيد
اعتلى عرش بني أمية في دمشق بعد وفاة معاوية أبو خالد يزيد بن معاوية، وكان ذلك سنة ستين للهجرة (679م)، وهو شاب يلعنه معظم المؤرخين، فيتعرضون له بالسب والشتيمة والتكفير، وهم - حسبما رأيت - فئتان: فئة تقيم عليه النكير، لأن في أيامه قتل الحسين بن علي سليل العترة النبوية وحفيد الشجرة الهاشمية، ولأنه أمر بغزو الكعبة حينما التجأ إليها ابن الزبير في ثورته المشهورة، فاجترأ على أكبر مؤسسة إسلامية يحج إليها المسلمون، وفئة تصب جام غضبها عليه لسوء سيرته الشخصية وتمتعه بملاذ الحياة الدنيا، فتقول: إنه تعاطى كئوس الراح ولبس الحرير ولاعب الحيوانات الأليفة كالقردة، واستهوته أسباب المدنية البيزنطية فجد في أثرها، وروى الشعر واسترسل في التشبيب والغزل:
أما الفئة الأولى:
فهي مخطئة في اعتقادنا؛ لأنها ترجع أسباب الحادثات إلى الملوك، وترى أنهم هم الذين يكونون مجاري التاريخ، وما التاريخ إلا سلسلة حركات متصلة لا بد أن تعمل عملها، سواء أكان يزيد مستوليا على العرش أو غير يزيد، وسنفصل لك الأسباب التي دعت إلى مأساة الحسين تفصيلا مسهبا يريك أن لكل حادث سببا، وأن لكل سبب نتيجة هي مرهونة بأوقاتها، وأن اللعنة التي يلعنها المسلمون ليزيد هي ليست من الأهمية على شيء في نظر التاريخ العلمي الذي يستبصر بنور الحياد الصحيح ويترفع عن الحزبية وتعصباتها.
وأما الفئة الثانية:
فليس لها أن تحكم على شاب ربي في محيط شامي يختلف تمام الاختلاف عن المحيط الحجازي الذي عاش في كنفه الخلفاء الراشدون، فالمحيط الحجازي هو مركز الزهد والتقشف والتمسك برابطة الدين وتعاليمه، بينما دمشق هي عاصمة البيزنطيين الشامية وفيها من أسباب مدنيتها ما أدهش العرب وجعلهم مع الزمن ينسجون على منوالها ويقتبسون فوائدها، ومما لا ريب فيه أن المؤرخين يرتكبون خطأ فاحشا إذا جعلوا مقياس حكمهم على يزيد هو المقياس الذي يقيسون به أعمال عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة مثلا، وإن لكل زمن مقياسا، فلا يمكنك البتة أن تحكم على ابن القرن الثاني وتزن أعماله بميزان ابن القرن الأول، ناهيك أيضا باختلاف الأمكنة ومؤثراتها، فالشام هو غير الحجاز والحجاز هو غير العراق، وقس على ذلك. (2-2) وفاة معاوية، مراسم الدفن
أعلن الضحاك بن قيس الوزير الأول في الدولة الأموية إذ ذاك وفاة معاوية، فصعد منبر المسجد الجامع ومعه أكفان الخليفة الحليم وقال: «أيها الناس ... إن معاوية بن أبي سفيان كان عبدا من عباد الله، ملكه على عباده، فعاش بقدر ومات بأجل، وهذه أكفانه كما ترون، نحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، فمن أحب منكم أن يشهد جنازته فليحضر بعد صلاة الظهر.»
1
بمثل هذه الكلمات الموجزة البليغة ودع الضحاك معاوية وواراه الناس في مرقده الأخير، ولدى البحث والتدقيق وجدنا أن هذه الخطبة هي شبيهة كل الشبه برسالة بعث بها يزيد الأول لدى تسنمه عرش الخلافة إلى الوليد بن عتبة والي المدينة يخبره بوفاة أبيه فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام»،
2
مما يؤيد لنا أن الرسالتين صدرتا من دائرة مخصوصة في بلاط يزيد لها لون واحد وروح واحدة، ولعلها - ونحن هنا نتكهن - للضحاك نفسه. (2-3) يزيد الشديد
يتأكد طالب التاريخ لدى دراسته أحوال يزيد أنه كان يميل إلى الشدة في تثبيت دعائم ملكه، فلم يتوان ولم يكسل ولم يغض النظر عن الزعماء الذين أرادوا الوثوب به والتنكيل بحزبه، فأرسل إلى الولاة في الأطراف يطلب منهم البيعة له دون إبطاء ولا مماطلة، يثبت لنا رأينا هذا رسالته إلى الوليد بن عتبة حاكم المدينة، فهو يأمره بها أن لا يتساهل البتة مع الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وأن يكون لهم بالمرصاد إذا أرادوا العصيان والثورة.
ويروي لنا الطبري نص الرسالة كما يأتي: «... أما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام»،
3
وكان هؤلاء النفر قد أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته وأنه ولي عهده من بعده، ورأى مروان بن الحكم رأي يزيد في الشدة والحزم حتى لا يطمع طامع في بني أمية، فأشار على الوليد بن عتبة في المدينة قائلا: «أرى أن تبعث إلى هؤلاء ... فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل امرئ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه ... أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال ولا يحب أن يولى على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا.»
4
وقد أكد مروان ابن الحكم للوليد بن عتبة ضرورة استعمال الشدة مع الزعماء الذين لا يظهرون بيعتهم علنا، حتى إنه دعاه إلى الفتك بالحسين حينما أبى مبايعة يزيد، وأجاب «... فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تجتزئ بها مني سرا دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية ... فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا ...»
5
وعد مروان بن الحكم هذا الجواب دليلا على المماطلة والتبرم من الخضوع والاعتراف لبني أمية بالخلافة، لا سيما وأن الحسين لم يأت دار الإمارة في المدينة إلا ومعه مواليه وأهل بيته، ويروي لنا الطبري أنه قال لأصحابه لما انتهى إلى باب الوليد: «إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم»،
6
وهذا يبرهن لن جليا أن حبل الثقة كان قد انقطع بين الطرفين.
وتنص التصريحات التي أدلى بها الجانبان نصا صريحا على أن الفتنة آتية لا ريب فيها، وأن كلا من الحزبين قد أخذ يعد عدته ليناجز صاحبه الوقيعة، وأن الكلمة النهائية هي ليست للمفاوضات بل للسيف، ولما جبن الوليد أمام الحسين ولم يجبره على البيعة وترك أمامه السبل آمنة مطمئنة قال له مروان قوله المشهور: «والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه»،
7
وكان ضعف الوليد في عرف يزيد مدعاة لعزله عن منصبه. (2-4) مؤامرات الحزب العلوي في الكوفة
أبى الحسين البيعة ليزيد، فجمع أهل بيته وشيعته وانطلق إلى مكة، فاختلف الناس إليه والتفوا حوله حلقات حلقات، واحتفلوا به وانتصروا له، فكثر رجاله وانتشرت دعوته بينهم، وقد اتصل هناك برسل الكوفيين من الشيعة الغاضبين على يزيد فشجعوه على القدوم إليهم لينادوا به أميرا للمؤمنين بدلا من يزيد بن معاوية المغتصب لعرش أبيه علي بن أبي طالب ابن عم الرسول. (2-5) رسائل الكوفيين للحسين بن علي
حملت الأخبار وفاة معاوية، فنشط الحزب الشيعي في الكوفة وأنشأ يدبر المؤامرات ويهيئ الوسائل الفعالة لاسترجاع عرش الخلافة إلى أصحابه الشرعيين، فعقدوا الاجتماعات في بيت أكبر زعمائهم سليمان بن صرد، واندفعوا اندفاعا كليا في إلقاء الخطب الحماسية التي تظهر مساوئ الحكم الأموي وفضائحه ودسائسه، فاعتلى سليمان مرة منصة الخطابة وافتتح إحدى جلساتهم بقوله: «إن معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه»،
8
فأجاب القوم - والحماس آخذ منهم مأخذه: «لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه»،
9
وعمدوا إلى كتابة الرسائل، الواحدة إثر الأخرى وكلها توثق للحسين طاعتهم وإخلاصهم وتفانيهم في الدفاع عنه والذود عن حرمته، وإني مورد لك بعض هذه الوثائق لتلمس بيديك شيئا من حماس القوم وتهالكهم - ولو عن بعد - في نصرته ومحبته:
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك ... فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها واغتصبها فيأها وتآمر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا له كما بعدت ثمود، إنه ليس علينا إمام فاقبل، لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير - الوالي - في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك.
10
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
لحسين بن علي، من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أما بعد، فحي هلا فإن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل، والسلام عليك.
11
الرسالة الثالثة ... أما بعد، فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام ، فأقدم على جند لك مجند، والسلام عليك.
12
فترى مما تقدم أن الكوفيين قد حبسوا أنفسهم عليه، وأسرفوا في ذلك إسرافا شديدا، وغلوا في انتصارهم للحسين غلوا عظيما، حتى ليقول الدينوري صاحب الأخبار الطوال: إنه «ورد إليه خمسون كتابا من أشراف الكوفة ورؤسائها، كل كتاب منها من الرجلين والثلاثة والأربعة، وتتابعت عليه في أيام فملأ منها خرجين.»
13 (2-6) رسائل الحسين للكوفيين
أمام هذه الجهود العظيمة التي بذلها الكوفيون في بث دعوته، وتلك المواعيد الجميلة الجذابة التي تواردت عليه في أيام قلائل، لم ير الحسين رأيا أصوب من الالتحاق بهم، فمهد لذلك السبل، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب - وهو ثقته - وطلب إليه المسير إلى الكوفة لنشر الدعوة وتنظيم الحركة العلوية تنظيما يدعو إلى النجاح، وأخذ البيعة وجمع الرجال والأموال، وبعث معه رسالة يدعوهم بها إلى التكاتف والتعاضد، وهي ترمي إلى معرفة أحوالهم تماما قبل الإقدام على استلام مهام الزعامة فيهم، ووردت هذه الرسالة بنصوص عديدة، لكنها لا تختلف في مطالبها الجوهرية، وإليك نصين منها يثبتان دعوانا:
النص الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم، أما بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم، فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم عليكم إن شاء الله، والسلام.
14
النص الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين.
أما بعد، فإن هانئا وسعيدا
15
قدما علي بكتبكم، وكان آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله، والسلام.
16 (2-7) مسلم بن عقيل في الكوفة واجتماع الشيعة بحضرته
ثم رحل مسلم إلى الكوفة، فدعت إليه الشيعة وعقدوا اجتماعا في حضرته تجلت فيه آيات التأثر والحماس والغضب للبيت العلوي، وقد افتتح جلستهم مسلم فقرأ كتاب الحسين فبكوا خشوعا وحنانا لمقدمه، وتتابعت الخطب من أشهر المتفوهين والبلغاء، وكلها تؤيد الرسائل المتطرفة التي بعثوها للحسين، فزاد إيمان مسلم بالحركة العلوية، لا سيما وقد رنت كلمات التضحية مرارا في أذنه، فقام الزعيم عابس بن أبي شبيب يؤكد إخلاصه واستعداده للموت في سبيل الدعوة فقال: «... أما بعد، فإني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إن دعوتم أو لأقاتلن معكم عدوكم أو لأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله»،
17
وأيد حبيب بن مظاهر الفقعسي رأي زميله عابس بن أبي شبيب فقال مخاطبا إياه: «... رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ... وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه.» (2-8) ضعف النعمان بن بشير والي الكوفة
والغريب أن النعمان بن بشير والي الكوفة لم يقتلع جرثومة التآمر على الحكومة الأموية، ولم يضرب زعماء العلويين بيد من حديد فيخفت أصواتهم ويشل سواعدهم، ولا ريب أنه كان ضعيف الرأي في الحكم يميل ظاهرا إلى الحسين، يدلنا على ذلك قوله إلى أحد من يهوى هوى الأمويين لما أخذ يؤنبه ويتهمه بالضعف أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام في سلامتها «أن أكون ضعيفا وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله.»
18
ولنا من خطبه في الكوفة برهان آخر على أنه كان يرى الفتنة يقظى ولا بد أن تشتعل، وأنه لن يهاجم القائمين بها قبل أن يهاجموه، فجعل لأنصارها قوة وطيدة الأركان ويدا فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الأسس المتينة، قال من خطاب له في المسجد الجامع: «... أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجل وتسفك الدماء وتغصب الأموال، إني لم أقاتل من لم يقاتلني ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ ... بالظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم ببيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم مناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.»
19 (2-9) ولاية عبيد الله بن زياد العراق
عزل يزيد الأول النعمان بن بشير لتهاونه وحبه العافية وعدم فتكه بالمتآمرين، وولى مكانه عبيد الله بن زياد بإشارة سرجون مولاه. وكان عبيد الله واليا للبصرة إذ ذاك، فضمت الحكومة إليه المصرين، وفوضت إليه السلطة الواسعة وطلبت منه استعمال الشدة واتهام الناس على الظنة وإعدام من يرى في قلبه ضعفا في طاعة الخليفة أو الاشتراك في التدبير على المركزية الأموية، وبعبارة ثانية فقد خولته سلطة الحاكم المطلق أو الديكتاتور في العراق
Dictator .
أسباب نجاحه في قمع الثورة
وإني لأميل إلى الاعتقاد أن عبيد الله بن زياد نجح في مهمته وقضى على أركان الحزب العلوي لسببين رئيسيين: الأول اتباعه سياسة الشدة والإرهاب والإعدام لمجرد الظن والتهمة، وإعلان الأحكام العرفية من أقصى البصرة إلى أقصى الكوفة، واعتماده على القساة في تنفيذ خططه وانتهازه الفرص دون تردد ومراوغة، فثبت دعائم الخلافة الأموية بعد أن كادت تميد في أرض العراق، ثم إنه أحسن كل الإحسان إلى مريديه وأتباعه، فجعل منهم ألسنة شكر تسبح بحمده، وأولى من أطاعه نعمة الأمان على نفسه وأهله ومقتنياته، وأساء كل الإساءة إلى عشائر الذين يرون خذل الأمويين ووجوب التخلص منهم مبدأ قويما، فاستقامت له الأمور واستقرت الأحوال ، ولنا من بعض فقرات تلاها في خطبه في البصرة والكوفة ما يؤيد دعوانا، وهاك أهمها:
قال في المسجد الجامع في البصرة: «... يا أهل البصرة، إياكم والخلاف والإرجاف، فوالله الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خالف أو أرجف لأقتلنه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى والبريء بالسقيم حتى تستقيموا، وقد أعذر من أنذر.»
20
وقال في الكوفة: «... يا أهل الكوفة، إن أمير المؤمنين قد ولاني مصركم، وقسم فيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على عاصيكم ومريبكم، وأنا منته في ذلك إلى أمره، وأنا لمطيعكم كالوالد الشفيق، ولمخالفكم كالسم النقيع، فلا يبقين أحد منكم إلا على نفسه.»
21
وقال في الكوفة أيضا: «... إن أمير المؤمنين - أصلحه الله - ولاني ثغركم ومصركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبي عنك لا الوعيد»، ووجه خطابه إلى عرفاء الناس فاستطرد قائلا: «اكتبوا لي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة.»
22
بطش عبيد الله بن زياد في الكوفيين بطش الأسد بفريسته بعد أن صدرت إليه إرادة يزيد العليا في دمشق بأن لا يكف عن محبذي روح الثورة والفوضى أبدا، وأن يطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتى يظفر به فيقتله أو ينفيه لأنه داعية الحسين الأشد،
23
ثم قضى قضاء مبرما - حينما بلغه أن في نية الحسين القدوم إلى العراق - أن يضع ابن زياد «المناظر والمسالح، وأن يحترس على الظن ويأخذ على التهمة وأن لا يقاتل إلا من قاتله.»
24
وأما السبب الثاني الذي مهد السبيل لنجاح ابن زياد في العراق فهو بذله الأموال للأشراف من أهل الكوفة أنفسهم، ومعظمهم قد تعاهدوا وأقسموا الأيمان المغلظة على نصرة الحسين بن علي، فاستمال ودهم واستخلص نصيحتهم واستولى على قلوبهم؛ فصارت سيوفهم تضرب في جانبه بعد أن كانت مشهورة عليه، ولما أحدق الخطر بعبيد الله وحاصره الكوفيون بقيادة مسلم - كما سيأتي معنا - كان أشراف الكوفة هم الساعد القوي في تشتيت شملهم، واللسان البليغ في تفريق جموعهم، فقال كثير بن شهاب في الناس: «أيها الناس، الحقوا بأهليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير حربا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عيشتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام عن غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.»
25
وقال غيره من الأشراف: «يا أهل الكوفة اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة ولا تشقوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم وجربتم شوكتهم ...» وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه وأخاه وابن عمه فيقول: انصرف فإن الناس يكفونك، وتجيء المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى يرجع، فصلى مسلم العشاء في المسجد وما معه إلا زهاء ثلاثين رجلا.
26
وللفرزدق الشاعر شهادة في الكوفيين تؤيد لنا طمع الأشراف بالدرهم وعبادتهم الدينار واهتمامهم بمصالحهم قبل غيرها، فسأله الحسين عن أموال الناس في الكوفة فأجاب: «قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.»
27
والخلاصة أن الجماعات التي أقامت النكير على بني أمية وراسلت الحسين وأكدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم أعز دموعها هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بالدرهم والدينار. (2-10) فاجعة مسلم بن عروة المرادي
قدم مسلم إلى الكوفة وأمامه عدو ذو بأس شديد وحيلة واسعة، فلا بد له إذن من تجنبه والدعوة سرا كي لا يفسد عليه أمره فتفشل مساعيه وتذهب أدراج الرياح، فالتجأ إلى دار أحد زعماء الشيعة المعروفين وهو هانئ بن عروة المرادي، فبث ابن زياد العيون لمعرفة مقر مسلم واستطلاع أخبار الجماعات الذين بايعوه ليقبض عليهم، فيروي لنا الطبري أنه «دعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى، فلم يزل يتلطف ويرفق به حتى دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة فلقيه فأخبره ... فأدخله إليه فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره.»
28
فطلب ابن زياد من هانئ تسليم مسلم فأبى عملا بحرمة الشهامة العربية، واعتذر قائلا: «ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه علي»، فشدد عليه وهدده فأجابه: «أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان ... والله لو لم أكن واحدا ليس لي ناصر لم أرفعه حتى أموت دونه ... والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه.»
29
فأمر به فحبس في جانب القصر.
تألم مسلم تألما عميقا لهذه المعاملة وتأثر تأثرا بليغا، فاندفع مع أصحابه - ويقدرون بأربعة آلاف - ونادى بشعاره، وقدم مقدمته وعبأ ميمنته وميسرته، وسار في القلب، وهاجم قصر عبيد الله بن زياد، فكاد ينتصر لولا أشراف الكوفة الذين غرهم المال فأخذوا يرهبونهم تارة ويمنونهم الخير تارة أخرى إلى أن تسلل عنه جنده، وظل شريدا طريدا لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه سوى قلب امرأة عجوز فأدخلته إلى دارها، لكن ابنا لها وشى به، فأحاطت الشرطة البيت وقبضت عليه بعد أن أعمل فيها سيفه ودافع دفاعا مجيدا، أما وقد وقع مسلم وهانئ في قبضة عبيد الله فما كان منه إلا أن أمر بإعدامهما، فأصعد مسلم إلى أعلى القصر حيث ضربت عنقه وألقيت جثته إلى الناس، وأخذ هانئ إلى سوق الكوفة فصلب فيه، وهكذا ختم الفصل الأول من هذه المأساة.
فرثاهما الشعراء، وأبلغ ما قرأت الأبيات المنسوبة إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهي:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئ في السوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف أنفه
وآخر يهوى من طمار قتيل
أصابهما ريب الزمان فأصبحا
أحاديث من يسعى بكل سبيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه
ونضخ دم قد سال كل مسيل
30 (2-11) الحسين في العراق
وثق مسلم كل الوثوق قبيل مقتله من الحزب العلوي في الكوفة، إذ بايعه حسبما يروي لنا المؤرخون بين الاثني عشر ألفا والثمانية عشر ألفا، فكتب إلى الحسين يستحثه على القدوم، وتلخص رسالته كما يلي: «... أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى.»
31
فتحرك الحسين إلى العراق ومعه خمسة وأربعون فارسا ومائة راجل، فنزل كربلاء فوجه إليه ابن زياد عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف فارس ليصده وليأخذ ليزيد منه البيعة، وجعل ولاية الري والديلم جائزة له كيما لا يفتر عزمه ولا يتلكأ في المسير إليه، وأتبعه بالحصين بن نمير وشمر بن ذي الجوشن ليتغلبا على رأيه وعزيمته، وليرى فيهما منافسين ينتظران الوثوب إلى مقامه إن هو أهمل ما أوكل إليه. (2-12) واقعة كربلاء
أصر عمر بن سعد بن أبي وقاص على الحسين في البيعة ليزيد، والنزول على حكم ابن زياد فأبى، فاشتعلت نار الوقيعة بين الطرفين، فلم يزل أصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون ويتنافسون في الذود عنه حتى فنوا عن بكرة أبيهم، ولم يبق منهم أحد، وبقي الحسين ينتظر منيته وكل يهاب قتل ابن بنت رسول الله إلى أن أقدم شمر واحتز رأسه، ثم داست الخيل ظهره وصدره، والحقيقة التي لا غبار عليها أن أصحاب الحسين قاتلوا أعداءهم قتال المستميت، وأظهروا من ضروب الشجاعة ما يفوق الوصف، وقد قتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى.
أسباب سقوط الحسين
أما الأسباب التي أدت إلى سقوط الحسين فهي في عرفنا كما يأتي:
السبب الأول:
هو اعتماد الحسين اعتمادا كليا على الكوفيين الذين أثبت التاريخ ترددهم وشقاقهم وعبثهم بحقوق أبيه وأخيه من قبله، وعدم استعدادهم الاستعداد الحربي الكافي لطرد الجيش الأموي القليل العدد من العراق، فهم من الجماعات الذين يتهالكون في الحب والإخلاص - ولكن عن بعد، وفي عالم النظريات - فلا يبذلون درهما واحدا في تهيئة خطة منظمة يسيرون بحسبها ويجدون في تحقيقها، وكل ما لديهم من السلاح خطب حماسية وكلام جذاب ودموع سخية يذرفونها حينما يذكرون آلامهم وبؤسهم وظلامتهم، ولنا من نصائح المخلصين للحسين أكبر دليل على ما قدمناه، قال أحد أعمامه ينصحه: «إني أنشدك الله لما انصرفت، فوالله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ووطئوا لك الأشياء تقدمت عليهم كان ذلك رأيا.»
32
وقال عبد الله بن مطيع: «إذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، فإنك سيد العرب لا يعدل بك - والله - أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله إن هلكت لنسترقن بعدك.»
33
وقال عبد الله بن عباس وهو يؤكد تنفذ الأمويين في العراق وضعف أخلاق الكوفيين - ويستشهد التاريخ على ذلك: «أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع ... أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشد الناس عليك.»
34
ولابن عباس أيضا في نصيحة الحسين: «إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل ... قوم غدر فلا تقربنهم، أقم بهذه البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان ... يريدونك فاكتب لهم فلينفوا عدوهم.»
35
وقال أبو سعيد الخدري يرجو الحسين أن لا يستسلم لأهل الكوفة: «يا أبا عبد الله ... إني لكم ناصح وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملوني وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاء، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ولا صبر على السيف.»
36
ويظهر أن لمعاوية رأي الجماعات الذين تقدمت آراؤهم في أهل الكوفة، فعرف تخاذلهم وانقسام بعضهم على بعض، فقال ليزيد حين أوصاه: «انظر إلى حسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصل رحمه وأرفق به يصلح لك أمره، فإن يك منه شيء فإني أرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه (يعني بهم أهل الكوفة).»
37
السبب الثاني:
هو عدم اهتمام الحسين الاهتمام الكلي في تنظيم دعوته
ونشرها بين الناس، فظن أن القوم سيقدمون على بيعته ويتهالكون في نصرته لانتسابه إلى رسول الله، وقد فاته أن الحياة جهاد، والقوي القوي فيها هو السباق إلى اكتساب ولاء الناس، إما ببذل الأموال لهم وإشراكهم في بعض المطامع الدنيوية، وإما بإسناد المناصب العالية لأشرافهم وزعمائهم كما فعل الأمويون.
وقد نبهه أخوه محمد ابن الحنفية فأوصاه بقوله: «تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما يكون رأيا وأحزمه عملا حتى تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا.»
38
ونوه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى أهمية الدرهم والدينار وتأثيرها في النفوس، فقال للحسين: «قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه.»
39
السبب الثالث:
هو تخلي الحسين عن اليمن والحجاز وبهما أنصاره الحقيقيون وشيعة أبيه القوية المخلصة، وامتازت اليمن ببعدها عن مركز الخلافة ومناعة حصونها وكثرة شعابها، فكان بوسع الحسين أن يبث دعاته في الأقطار وهو آمن مطمئن، فإن فشل في حملته الأولى تلافى أغلاطه في الحملة الثانية، وهكذا كان بإمكانه المطاولة ولديه الوقت الكافي لإثارة الخواطر ضد المغتصبين، فذكر له ذلك ابن عباس فقال: «... فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.»
40
السبب الرابع:
هو تشجيع ابن الزبير للحسين من طرف خفي على الرحيل إلى العراق كيما يتخلص منه، فإنه استهوى الحجازيين وتمكنت محبته من قلوبهم، فما عادوا ليهتموا بابن الزبير أو يجتمعوا حوله ويستمعوا له، والبرهان على ذلك أنه لما نزل الحسين إلى مكة أقبل أهلها يختلفون إليه مع جميع المعتمرين والحجاج من آهل الآفاق، فعلم حق العلم أن الحجازيين لا يبايعونه ولا يتابعونه في طلب للخلافة، والجهاد من أجلها، ما دام الحسين زعيما في البلد الحرام، فكان يرسل رسله له ليقنعوه بأن الكوفيين هما مادة حزبه ونسيج قوته، ويظهر أن هذه الدعوى كان لها أثرها في نفس الحسين، ولطالما نشط ابن الزبير لئن يظهر بمظهر المخلص له خيفة أن يتهمه بالنفاق وخشية أن يفسد عليه تدابيره، فصرح له مرة: «أما لو كان لي بها (العراق) مثل شيعتك ما عدلت بها ... أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هنا ما خولف عليك إن شاء الله.»
41
وقال له أيضا: «لو أقمت بهذا الحرم وبثثت رسلك في البلاد وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيت عمال يزيد عن هذا البلد، وعلي لك المكاتفة والمؤازرة، وإن عملت بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار ولم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد ورجوت أن تناله.»
42
وكان المسور بن مخرمة يحذر الحسين من ابن الزبير ودعواه في تفاني الكوفيين في محبته فقال له: «إياك أن تغتر بكتب أهل العراق، وبقول ابن الزبير لك الحق بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة.»
43
ولما أزمع الحسين على مبارحة الحجاز إلى الكوفة تألم ابن عباس، ذلك الدماغ المفكر، وأنشد ابن الزبير الأبيات المشهورة الآتية:
يا لك من قنبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
44
السبب الخامس:
هو يقظة الأمويين وإرسالهم الأشداء من ولاتهم إلى المصرين، فسد ابن زياد دون الحسين وشيعته المذاهب، فمنع الناس من الدخول إلى الحدود العراقية أو الخروج منها إلا بإذن خاص، واحتل احتلالا عسكريا «ما بين واقصة إلى طريق الشام وطريق البصرة»، فضمن معرفة الصادر والوارد من الدعاة معرفة طيبة، ووجه ابن زياد الجموع الكثيرة لقتال الحسين، وكان يحكم بالموت على كل من يتخلف أو يرتدع عن خوض المعركة، فخافه الناس وجهز لنزاله نحوا من أربعة آلاف، بينا جنود الحسين - وهم أهله وأصدقاؤه - لا يتجاوزون المائة، فتأمل النسبة بين العددين، فهي كنسبة واحد إلى أربعين على وجه التقريب.
45
السبب السادس:
هو استيلاء الجيوش الأموية على الفرات ومواضع الماء في كربلاء، فمنعوا أنصار الحسين من الدنو منها، فكادوا يهلكون عطشا، وكانت أوامر ابن زياد شديدة بهذا الخصوص، فطلب إلى عمر بن سعد «أن امنع الحسين وأصحابه من الماء فلا يذوقوا منه حثوة»، فبعث خمسمائة فارس نزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فيستنتج من ذلك أن الموقع الحربي كان في قبضة الأمويين دون العلويين، وأنه لا بد للحسين من الهجوم إذا أراد الوصول إلى الماء، وهذا يعني ضرورة التضحية، وأنت تعلم قلة عدد جنوده وبؤسهم بعد رحلتهم الطويلة من الحجاز إلى العراق.
46
السبب السابع:
هو ارتياب الحسين في حقه بالخلافة واعترافه اعترافا صريحا ليزيد بإمارة المؤمنين، وقوله لعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن والحصين بن نمير أنه مستعد لمبايعة يزيد في دمشق، فيروي لنا الطبري: «لقي الحسين الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام، وكان بعث «ابن زياد» إليه عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين بن نمير فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين فيضع يده في يده فقالوا: لا، إلا على حكم ابن زياد.»
47
تألم يزيد لقتل الحسين
كل ما أوردناه لك من الأسباب قضى على سقوط الحسين، فكان مقتله يدعو إلى التألم لمصابه؛ خصوصا حينما ناشد قادة ابن زياد «الله والإسلام» أن يسيروه إلى يزيد قريبه ونسيبه ونده بدلا من إجباره على السير إلى رجل لا يعترف له بحكم وهو دونه بمراحل في الشرف والنبل، وتميل الناس بطبعها إلى نصرة الضعيف، لا سيما إذا كان لهذا الضعيف صلة برسول الله كصلة الحسين بجده المصطفى، وحمل رأس الحسين إلى ابن زياد فنصبه في الكوفة وطاف به في الأسواق وأرسله حالا إلى يزيد في الشام، فيروي لنا الكثيرون من المؤرخين أنه بكى لمرآه، وقال: «ويحكم، قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة - ابن زياد - أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه، رحم الله أبا عبد الله.»
48
ولم يتأخر ابن زياد عن احترام نساء الحسين، فأجرى عليهن الرزق، وأمر لهن بالنفقة والكسوة وبعثهن إلى دمشق، فدخلن البلاط الأموي وبنات أعمامهن الأمويات تستقبلهن باكيات نائحات على صريع كربلاء، وأقمن عليه المناحة والحداد ثلاثا.
لا شك أن يزيد لم يفكر البتة بقتل الحسين، ولم يأمل أن تتطور المسألة العلوية فتلعب هذا الدور المهيب، ويقدم ابن زياد على الفتك به، لكنه خضع للنتائج التي لم يحسب لها مثل هذا الحساب، فاستشهد قائلا لما وضع رأس الحسين بين يديه:
يفلقن هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
49
ومهما تحامل المتطوفون من المؤرخين على يزيد بقولهم: إنه أساء معاملة آل الحسين، فلنا من شهادة السيدة سكينة ابنته ما يرد عليهم قولهم ويخفف من غلوائهم، فقد قالت فيه: «ما رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية»،
50
فإنه كساهم وأوصى بهم وخرج معهم رسوله إلى المدينة مقر سكناهم.
رثاء الحسين
بكى المسلمون الحسين ولا يزالون يتألمون لفاجعته، وتعقد الشيعة في العاشر من محرم (ذكرى مقتله الواقع في 10 محرم 61ه/680م) الاجتماعات المؤثرة، فتراهم يضربون صدورهم بأيديهم، ويشجون رءوسهم بالحديد فيهلك بعضهم، ولعل العلم يصدهم في المستقبل عن مثل هذه العادة فيحولون مجرى أحزانهم إلى فعل الخير والإحسان وبث الفضيلة بين أبنائهم وبناتهم، وأبلغ ما قرأت من المراثي في الحسين مرثاة لزينب ابنة فاطمة أخته حين مرت به صريعا فنادت: «يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء مقطع الأعضاء، يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا.»
51
وبكته زوجته عاتكة بنت زيد بقولها:
وحسينا فلا نسيت حسينا
أقصدته أسنة الأعداء
غادروه بكربلاء صريعا
لا سقى الغيث بعده كربلاء
52
التهاويل الغريبة في مأساة الحسين
ولا يتوهمن بعض القراء أن العداء الشخصي كان متأصلا بين يزيد والحسين كما يدعي البعض، فوفد الأخير على معاوية، وكان جنديا في الجيش الذي توجه لغزو القسطنطينية بإمرة يزيد.
هذا ما نظنه الحقيقة من أمر هذه المأساة، ولا تغرنك التهاويل والمبالغات التي يدعي بها البعض، فهي خلو من البراهين الثابتة.
الفصل الثالث
الحركة الزبيرية
(1) الأسباب التي ساعدت ابن الزبير على النجاح
كان للزعماء من الصحابة مطامع سياسية عظيمة، فعمل أكابرهم على بذل الأموال والأرواح في سبيل الوصول إليها، ولم يتوان ابن الزبير في السعي وراء تسنم عرش الخلافة؛ خصوصا بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان، لكن أنى له النجاح وقد تطلب الزعامة ابن بنت الرسول والتف الناس حوله في الحجاز، أما الأسباب التي جعلته يلعب دورا كبيرا في التاريخ الأموي ويظهر بمظهر الزعيم القوي الشكيمة فهي كما يأتي: (1-1) السبب الأول: فاجعة كربلاء ومقتل الحسين
أعلن عبد الله ابن الزبير دعوته للناس وحقه في الخلافة بعد مقتل الحسين، وكان قبلا لا يجرأ على التصريح بطلبها، فاستفاد من فاجعة كربلاء وأخذ يحمل الحملات الخطابية الواحدة إثر الأخرى ضد بني أمية، فعرض بيزيد ووصف استهتاره وتمتعه بملاذ الحياة الدنيا، ثم رجع فبكى حسينا واستبكى الناس عليه، وعدد مزاياه الشريفة، فذكر ورعه وتقاه وشجاعته وفضله وإحسانه، ولام أهل الكوفة وعاب عليهم غدرهم بالحسين ورياءهم وحماسهم الفارغ من أجل قضيته، فأثر على الحجازيين خاصة وعلى الأحزاب المعارضة الغاضبة عامة، فالتفوا حوله ورأوا به الزعيم القادر على أن يثأر للدم الزكي المسفوك ظلما وعدوانا، فأنت ترى أن الرجل الذي كان يشجع الحسين على الرحيل إلى العراق ويمدح الكوفيين ويرفع ذكرهم، هو الرجل نفسه الذي كان يقف يومذاك على منابر مكة ليعرض بهم ويغمز من قناتهم.
وقد أثبت التاريخ لنا أيضا أن ابن الزبير كان يكره الحسين ويضمر له العداء، ويراه «أثقل خلق الله»،
1
فتحول كرهه للحسين إلى حبه بعد وفاته، ومديحه للكوفيين إلى ذمهم بعد خيانتهم، وكل هذا في سبيل تنفيذ مآربه السياسية، وإليك البرهان على صحة دعوانا، فقام يخطب في مكة بعد سماعه بمقتله: «أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا، ألا ولا نراهم لذلك أهلا، أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أحق بما هو فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام ، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد (يعرض بيزيد)، فسوف يلقون غيا.»
2 (1-2) السبب الثاني: الصحابة لا تنازع ابن الزبير
خلا الجو لابن الزبير بعد مقتل الحسين، فلم يتنازعه منازع من الصحابة ولا أبناء الصحابة، وقد كنا نأمل أن يقوم عبد الله بن عمر ويدعي الخلافة لنفسه فلم يفعل حبا بالسلام واتقاء للفتنة وحقنا لدماء المسلمين، ولا ريب أن عبد الله كان يحن إلى التربع في دستها، لكنه فضل العافية والسلامة على القتال والهلاك، وسعى سعيا حثيثا ليحمل ابن الزبير والحسين على جمع كلمة الأمة بدلا من تفرقتها، وطلب إليهما مبايعة يزيد الأول فأبيا، ويذكر الطبري أنه خاطبهما بقوله: «اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين ...» وأقام أياما فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه.»
3
وقد تألم لمقتل الحسين، فنوه حينما رثاه وترحم عليه بما صرح به مرارا من وجوب الاتحاد والتعاضد والانتصار لرأي الجماعة، فقال: «غلبنا الحسين على الخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير.»
4 (1-3) السبب الثالث: ضعف الحامية الأموية وتعدد الولاة في الحجاز
وساعد ابن الزبير على نشر دعوته ضعف الحامية الأموية في الحجاز، وتعدد الولاة الذين تقلبوا في إدارته لأمد قصير، فلم يتح لهم الحظ درس الأحوال الحجازية درسا دقيقا، وكان بعضهم ضعفاء الإرادة لم يجربهم الدهر ولم تحنكهم الأيام، فارتكبوا أغلاطا فادحة كبدت الأمويين كثيرا من الدماء، نستنتج هذا من دفاع عمرو بن سعيد أمير الحجاز عن نفسه يوم اتهم بسوء الإدارة، قال: «إن جل أهل مكة وأهل المدينة قد كانوا مالوا إليه - ابن الزبير - وحووه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا سرا وعلانية، ولم يكن معي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويتحرز مني، وكنت أرفق به وأداريه لأستمكر منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته في أشياء كثيرة لو تركته وإياها ما كانت له إلا معونة، وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا إلي باسمه واسم أبيه ومن أي بلاد الله هو، وما جاء به وما يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرا، وإن كان ممن لا أتهم أخليت سبيله.»
5
ويصف الطبري أحد الولاة وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان بقوله: «فتقدم فتى غر حدث غمر لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن ولم تضرسه التجارب، وكان لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله.»
6 (1-4) السبب الرابع: فقر الحجازيين واغتصاب الأمويين لأملاكهم وأراضيهم
لا ريب أن لاقتصاديات الأمة الشأن الأكبر في مجاري حياتها السياسية، فإن كانت المشاريع التجارية والزراعية والمعدنية وغيرها سائرة سيرا حسنا يضمن لأهلها ربحا جزيلا تظل تلك الأمة ناعمة البال قريرة العين لا تفكر في الثورة ولا في العصيان، ولو درسنا طبيعة الوسط الحجازي لوجدناها فقيرة قاحلة إلا فيما ينتجه نخيلها من التمور التي يصدرونها للخارج فيعيشون عليها، وكان معاوية يسعى لإضعاف الحجاز وتقوية الشام، فلم يبذل للحجازيين في العطاء فأجبروا على بيع أملاكهم فاشتراها منهم بأبخس الأثمان، فلما قام ابن الزبير عاضدوه آملين أن ينصفهم ويرد عليهم أموالهم وأملاكهم.
أما قلب الثورة الخفاق وعصبها النابض فكانت المدينة، ويقص علينا ابن قتيبة كيفية تألمهم من اغتصاب معاوية لأموالهم فيقول: «... وأقبل ابن ميثاء - قيم أملاك معاوية - بسراح له من الحرة يريد الأموال التي كانت لمعاوية، فمنع منها وأزاحه أهل المدينة عنها، وكانت أموالا اكتسبها معاوية ونخيلا يجد منها مائة ألف وسق وستين ألفا، ودخل نفر من قريش والأنصار على عثمان بن محمد - والي المدينة - فكلموه فيها فقالوا: قد علمت أن هذه الأموال كلها لنا، وأن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهما فما فوقه، حتى مضنا الزمان ونالتنا المجاعة فاشتراها منا بجزء من مائة من ثمنها، فأغلظ لهم عثمان في القول وأغلظوا له، فقال لهم: لأكتبن إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم وما أنتم عليه من كمون الأضغان القديمة والأحقاد التي لم تزل في صدوركم، فافترقوا على موجدة، ثم اجتمع رأيهم على منع ابن ميثاء القيم عليها.»
7
اغتصب معاوية أموال أهل المدينة وضيق على الحجازيين الخناق، وضربهم في صميم اقتصادياتهم كي لا تقوم لهم قائمة، أما يزيد فجرى على عكس سياسة أبيه فغمرهم بعطاياه وأكرم زعماءهم وأحسن إلى فقراءهم ووعدهم بإجراء العطاء عليهم مضاعفا إن هم أخلدوا إلى السكينة وارتاحوا إلى الحكم الأموي، ولم يكن لابن الزبير تجاه هذه المواعيد إلا أن يسرف الإسراف الكلي في ذم يزيد وانتقاده الانتقاد المرير، ومع أن الخليفة في دمشق أكرم وفادة الوفود الحجازية فهو لم يظهر أمامهم بمظهر الرجل المتحفظ في سلوكه الخاص وآدابه الشخصية، فشرب الخمر وعزف بالطنابير وجالس القيان والفتيان، وراح يلهو متنعما لا يعبأ بالتقاليد التي سنها القوم، فغضبوا وقالوا: هو ذا رجل يحطم تعاليمنا ويقوض أركان ديننا، وانتشرت الدعوة ضد الأمويين المغتصبين لأموال الأمة المعرضين عن الكتاب الكريم والسنة الشريفة والشريعة المطهرة السمحاء، وهاك الدليل على سياسة الكرم التي امتاز بها يزيد واستهتاره الذي وصفناه: قال ابن قتيبة: «فإن أقروا بالطاعة ونزعوا من غيهم فلهم علي عهد الله وميثاقه أن لهم عطاءين في كل عام، ما لا أفعله بأحد من الناس طول حياتي، عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف، ولهم علي عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا ... والعطاء الذي يذكرون أنه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو علي أن أخرجه لهم وافرا كاملا.»
8
وروى الطبري: «قدم وفد من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري ورجال كثير من أشراف المدينة على يزيد بن معاوية، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيها فأظهروا شتم يزيد وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب ويعزف بالطنابير ويضرب عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه فتابعهم الناس.»
9
ثار أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الغسيل ووثبوا على الأمويين وأحزابهم فيها، فأجبروا على الهرب والالتجاء إلى دار مروان بن الحكم - في ظاهر المدينة - وهي حصينة متينة الأركان، وأخذوا يرسلون الكتب إلى يزيد يسألونه بها المعونة والإمداد، فمن رسائلهم إليه: «... أما بعد فإنا قد حصرنا في دار مروان بن الحكم ومنعنا العذب ورمينا بالحبوب، فيا غوثاه يا غوثاه.»
10
فجهز إليهم يزيد جيشا قويا بقيادة مسلم بن عتبة المري، ويقول عنه الفخري: «إنه أحد جبابرة العرب وشياطينهم»،
11
واستمالت الحكومة الناس لقتال الحجازيين بما وهبته لهم من الأموال، فنادى مناديها في الشام: «سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل»،
12
ويقدر المؤرخون عدد هذا الجيش باثني عشر ألفا.
استعرض يزيد الأول الجيوش الأموية في دمشق قبيل خروجها لإخماد الثورة في المدينة، فأتى إلى الخيل يتصفحها وينظر إليها وهو متقلد سيفا متنكب قوسا عربية، وأخذت الفرق تمر أمامه ومعها راياتها، وكان واقفا على نشز من الأرض يحيط به الحرس الفرسان،
13
ولم يشأ يزيد إلا أن يودع جنده قبل مبارحتها العاصمة بكلمات حماسية، فوجه خطابه إلى القائد العام وقال: «إذا قدمت إلى المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف، ولا تبقي عليهم وانتهبها ثلاثا وأجهز على جرحاهم واقتل مدبرهم، وأنشأ يردد:
أبلغ أبا بكر
14
إذا الأمر انبرى
وانحطت الرايات من وادي القرى
أجمع سكران من القوم ترى
أم جمع يقظان نفى عنه الكرى
15
ويروي الفخري أنه استشهد بالبيت الآتي حينما بلغته ثورة المدينة:
لقد بدلوا الحلم الذي في سجيتي
فبدلت قومي غلظة بليان
16
التقى الجيش الأموي بثوار المدينة في الحرة، وهو مكان بظاهر يثرب، وقد استقتل أنصار ابن الغسيل واستماتوا في الدفاع عن حصونهم وأموالهم وأهلهم حتى كادوا يهزمون جيوش مسلم مرارا، فقام مسلم خطيبا يهز أوتار قلوبهم ببلاغته ويحضهم على القتال واكتساب أجر الشهادة وجزاء أمير المؤمنين، والغريب أنه كلما كانت تشد عليه خيول الأعداء تراه يغضب فتتردد على لسانه كلمات الإهانة أيضا شأن الكثيرين من القواد العسكريين، فهم يمدحون ويذمون في آن واحد، قال من خطاب له مرة: «يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها عددا ولا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم ... فتموا على أحسن ما كنتم عليه يتمم الله لكم حسن ما ينيلكم من النصر ... إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم ... إن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة وقد ساقها إليكم فاغتنموها، فوالله ما كلما أردتموها وجدتموها»،
17
وقال يؤنب جيشه لما حمل عليه أهل المدينة حملات منكرة: «يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم ويعزوا به نصر إمامهم، إن قبح الله قتالكم منذ اليوم ما أوجعه لقلبي وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تحرموا العطاء وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية ترح الله وجوهكم.»
18
هزم مسلم الثوار وأباح المدينة ثلاثا، فأرهب القوم وجعل الرعب يسود في قلوبهم، وقد قتل نحو من سبعمائة رجل من المهاجرين والأنصار وأبنائهم ومواليهم وخلفائهم، وعدد غير قليل من الأهلين بينهم النساء والأطفال، ويقدره بعضهم بعشرة آلاف،
19
وصالحهم على أنهم خول وقن ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.
20
انتصر مسلم لبراعته الحربية، فكان دائما يسرع إلى عدوه فيفاجئه ويضربه في قلبه قبل أن يمكنه من الاستعداد وتهيئة الخطط، ويعجل معه الوقيعة الفاصلة حتى يصدمه الصدمة الأولى فيوهن قواه المعنوية والمادية، ثم كان له إدارة منظمة لمعرفة أخبار أعدائه ونشر الدعوة ضدها وتنوير الأذهان لما يريد بثه من الأفكار والآراء التي ترتئيها الحكومة لخيرها، واعتمد اعتمادا تاما على أهل الشام، فكانوا مادة جنده القوية المخلصة، ولم يستعن بالزعماء القرشيين، فقال مرة للحصين بن نمير السكوني نائبه في قيادة الجيش: «لا تمكن قرشيا من أذنك ... ولا تردن أهل الشام عن عدوهم.»
21
تابعت الحملة سيرها إلى مكة بعد إخضاع الثوار في المدينة؛ وذلك لمناجزة ابن الزبير الوقيعة، فتوفي مسلم بن عقبة في الطريق في «قفا المشلل» أو «ثنية هرشا» في آخر المحرم سنة 64ه/683م، وكان شيخا مريضا، فاستولى الحصين بن نمير على قيادة الجند بعده، ويلقبه المؤرخون ببرذعة الحمار، والتجأ فلول أهل المدينة إلى ابن الزبير لينصروه ويثأروا لدمهم المهدور، فشدت الحملة عليه شدة منكرة فصابرها وجالدها أربعة وستين يوما، وهو محصور ضمن أسوار الكعبة، ويدعي الكثيرون من المؤرخين أن الأمويين حرقوا البيت، وفي هذا الادعاء شيء كثير من الصحة إذ قذفوه بالمجانيق، ولكن لا يغرب عن بالنا أنه كان للزبيريين نصيب طيب في إحراق الكعبة، فقال الطبري: «كانوا - أشياع ابن الزبير - يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شرارة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت.»
22
وروى ما سمعه من المشاهدين العيانيين عن أسباب اشتعالها فقال: «قد خلصت إليها - إلى الكعبة - النار ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قد اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير قالوا هذا احترقت بسببه، أخذ قبسا في رأس رمح له فطيرت الريح به فضرب أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود.»
23
ووصف العقد الفريد الضرر الذي أصاب الكعبة فقال: «احترق الخشب والسقف وانصدع الركن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض»،
24
والحقيقة التي لا مرية فيها أن ابن الزبير أحب أن يستفيد من حرمة الكعبة وقداستها فعاذ بها، كما أن الأمويين لم يتأخروا عن إحراقها في سبيل التخلص من عدوهم الجبار، وإن كان في ذلك إغضاب المسلمين، فاعتنى ابن الزبير في التحصن بالكعبة كيما يضع الأمويين تجاه أمر واقع فيعملون فيها نيرانهم، ويكون له من ذلك سلاح يطعنهم به، فنجح في خطته التي دبرها نجاحا باهرا.
بينما كان الأمويون يحاصرون ابن الزبير ويضيقون عليه الخناق إذ جاءت الأخبار بوفاة يزيد في حوارين من أعمال حمص 14 ربيع الأول سنة 64ه/683م، واختلاف الأحزاب الأموية فيما بينها من أجل العرش ، فنشط ابن الزبير إذ ذاك وجرب أن يفتح باب المفاوضات على مصراعيه آملا أن يجتذب خصومه المحاربين إلى حزبه، فأفلح وكف القوم عن قتاله - بعد وفاة يزيد بأربعين يوما - وسعى في عقد مؤتمر الأبطح، وإليك وصف المخابرات فيه ونتائجه.
كانت نقطة الخلاف والمشادة بين مندوبي الأمويين والزبيريين في مؤتمر الأبطح تنحصر فيما يلي: هل تكون الشام مركز الحركة الزبيرية أم الحجاز؟ وهل يظل الشاميون أصحاب الدولة والسيطرة والسلطان إذا انتقل ابن الزبير إلى دمشق ونشر دعوته هناك أم لا؟ تلك هي الأسئلة التي وجهها الحصين بن نمير إلى ابن الزبير فأبى الأخير الإجابة عليها والقبول بها؛ لأنه كان لا يثق بالشاميين وفيهم أبناء يزيد وآل مروان، ولأن الحجازيين ناصروه فكانوا جنده الأمين ورجاله المخلصين؛ ولذا لا يعدل بهم احدا، ولم يناصره أهل الحجاز إلا لتكون العاصمة عندهم فيستلمون زمام الأمور ويديرون دفة الأحكام ويودعون الفقر الذي أحاق بهم وكاد يقضي عليهم، وقد شجع الحصين ابن الزبير على قبول آرائه ووعده بأخذ البيعة له من وجوه أهل الشام في جيشه إن اتبع نصائحه فرفض، وإنا لنعتقد أن ابن الزبير ارتكب غلطا فادحا في عدم ثقته بالحصين؛ لأن الأمويين كانوا عازمين على بيعته لقيام القادة الشاميين في نصرته من أقصى فلسطين إلى أقصى قنسرين - كما سيأتي - معنا، وهاك ملخص المفاوضات والأحاديث التي دارت بين الحصين وابن الزبير.
الحصين يخاطب ابن الزبير: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة.
ابن الزبير :
أنا أهدر تلك الدماء؟! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة.
الحصين :
قبح الله من يعدك بعد هذه داهيا قط أو أديبا، قد كنت أظن أن لك رأيا ، ألا أراني أكلمك سرا وتكلمني جهرا، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة.
ابن الزبير :
إما أن أسير إلى الشام فلست فاعلا، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم.
الحصين :
أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هنالك أناسا كثيرا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس. (1-5) السبب الخامس: تخاذل الأمويين من أجل العرش
لو أتيح ليزيد الأول أن يعمر لعامل ابن الزبير معاملة شديدة، ولأرسل عليه الحملة تلو الحملة، يدلنا على هذا سياسة الإرهاب التي ما فتئ منذ ولايته الخلافة يسير بحسبها، وكان من نتائجها فاجعة الحسين بن علي وقد أسهبنا في وصفها، فما قولك بابن الزبير الذي أوصى معاوية ابنه بإعدامه وهو على فراش الموت، قال معاوية: «إن الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك عبد الله بن الزبير، فإن فعل وظفرت به فقطعه إربا إربا، إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه واحقن دماء قومك بجهدك وكف عاديتهم بنوالك وتغمدهم بحلمك»،
25
ولكن مات يزيد وهو في ريعان الشباب، فعقبه على عرشه ابنه معاوية الثاني، وهو شاب ضعيف ربعة في الرجال يعتريه صفار، غلب عليه الزهد والتقشف في الحياة، وكان من دعاة القدرية، ويعتقد هؤلاء أن معاوية نازع عليا بغير حق، وأن ولاية يزيد للخلافة ليست صادقة، فاعتزل وأعلن في خطاب العرش ما يؤيد فلسفته هذه فقال: «إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به وأحق، ثم تقلده أبي، ولقد كان غير خليق به، ولا أحب أن ألقى الله عز وجل بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم.»
26
ويروي لنا الطبري أنه قال: «أما بعد، فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم»،
27
ويظهر أن الرجل كان عاجزا عن القيام بالأمر ضعيف الإرادة، استهواه عمر المقصوص زعيم القدرية يومئذ فملكت تعاليمه عليه لبه حتى أفقدته معنى الرجولة والبطولة في مكافحة الحياة، ولعل هذا ناتج عن كثرة ما حمل نفسه من أنواع العبادة، إن تخلي معاوية الثاني عن عرشه وتصريحاته هذه آلمت الحزب الأموي فسعى لاغتياله، وتضاربت الأقوال في كيفية وفاته فقال بعضهم: إنه دس إليه فسقي سما، وقال غيرهم إنه طعن، ولم تدم خلافته أكثر من ثلاثة أشهر.
ومهما يكن من ضعف معاوية الثاني وعجزه عن استلام زمام الأحكام فإن تنازله عن العرش خلق مشاكل عظيمة كادت تفت في ساعد بني أمية، فصحت عزيمة الزبيريين على مهاجمة صفوف أعدائهم في كل قطر، فقام زفر بن عبد الله الكلابي والي قنسرين وبايع لعبد الله بن الزبير، كذلك فعل النعمان بن بشير الأنصاري بحمص، وكان الضحاك بن قيس الفهري حاكم دمشق يهوى هوى ابن الزبير ويدعو إليه سرا، وانتشرت دعوتهم بفلسطين فطردوا الأمويين منها، ولم يبق ثابتا على ولائهم إلا الأردن، وهي تحت أمرة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، فترى مما تقدم أن الشام شمالها وجنوبها تقريبا أخذ يدين لابن الزبير، هذا هو المشكل الأول في عرفنا.
وأما المشكل الثاني فهو اختلاف بني أمية بعضهم مع بعض وانقسامهم على أنفسهم، فتعدد المرشحون منهم للخلافة، وأشهرهم اثنان: الأول خالد بن يزيد الوريث الشرعي للعرش، وكان صبيا لم تحنكه الأيام ولم تعركه التجارب، والثاني مروان بن الحكم شيخ بني أمية، وأما المشكل الثالث فهو طلب الضحاك بن قيس للخلافة، فدعا قيسا وغيرها إلى البيعة لنفسه فبايعوه،
28
ويظهر أنه أراد استعمال ابن الزبير سلما يرقى عليه إلى أطماعه ومآربه؛ لأن مصلحته ومصلحة ابن الزبير واحدة في الشام، فالأمويون أعداؤهما على السواء، فإذا تمكن الضحاك من الاستعانة بالزبيريين على آل مروان وأبناء يزيد يسهل عليه بعد مناوأتهم والاستعداد لمنازلتهم.
لا بد للأمويين تجاه هذه الأخطار المحدقة بهم من التكاتف والاتحاد والتذرع بالصبر والتمسك بحبال المفاوضة، فاتفقت الأحزاب في الشام كلها على عقد مؤتمر يحلون به جميع العقد السياسية التي أوجدت الخلاف والضعف في جميع أنحاء القطر، فقررت الأحزاب المروانية «دعاة مروان بن الحكم» والأموية الشرعية «دعاة خالد بن يزيد» ومعظمهم من بني كلب مع الأحزاب القيسية الداعية إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك على الاجتماع في الجابية، وكان الضحاك يأمل أن ينال من الأمويين الكثير من مطالبه السياسية لعشيرته فيما إذا انضم إليهم، فيتربع رجالها في دست المناصب العالية، فرضي بالتخلي عن ابن الزبير إن أجابوه إلى ما يبغيه من المطامع، فاشتم دعاة الزبيريين منه ذلك فسعوا سعيا حثيثا لإحباط مفاوضات الجابية ونادوا أن السيف خير حكم بينهم وبين خصومهم، وبرهاننا على هذا ما قاله ثور بن معن بن يزيد الأخنس السلمي للضحاك: «... دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب «يعني حسان بن مالك» تستخلف ابن أخيه خالد بن يزيد»، فقال له الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر وندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها، فمال الضحاك بمن معه من الناس فعطفهم ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط،
29
فغلب الضحاك على أمره وسار بجيشه إلى مرج راهط بدلا من أن يبعث مندوبيه إلى مؤتمر الجابية.
اجتمعت الأحزاب الأموية على اختلافها في الجابية، وقررت - بعد جدال عنيف - مبايعة مروان بن الحكم لأمرين: الأمر الأول لسنه وشيخوخته،
30
وبلوه الحياة ومعرفته حلوها من مرها، ولأن العرب تميل بطبعها إلى الزعيم الشيخ المحنك، فقال أهل الأردن لمروان: أنت شيخ كبير وابن يزيد غلام وابن الزبير كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض فلا تباره بذا الغلام، وارم بنحرك في نحره ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة 64ه/683م.
31
والأمر الثاني لجهاده الدائم في نصرة قومه، وللصفات السياسية الباهرة التي تحلى بها، فكان من أكبر أنصار عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية، فعدد له مناقبه هذه أنصاره، فقال روح بن زنباع الجذامي: «أما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا وكان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نسري للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير.» يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية.
32
وقال ابنه عبد العزيز بن مروان: «ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان بن الحكم، إنه لكبير قريش وشيخها وأفرطها عقلا وكمالا ودينا وفضلا، والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر»،
33
فتعاونت الأحزاب كلها على الوقوف وقفة الرجل الواحد أمام الزبيريين وعلى رأسهم الضحاك بن قيس.
كان جيش الضحاك يتألف من جل أهل دمشق وحمص وقنسرين وفلسطين، ومعظمهم من قيس ومضر، ويقدرون جميعا بثلاثين ألفا وأكثرهم فرسان، أما مروان فكان في ثلاثة عشر ألفا من اليمن وكلب والسكاسك والسكون وغسان وسواهم،
34
والتقى الجيشان في مرج راهط، ودامت المعارك مستمرة بين الطرفين نحوا من عشرين يوما، والحرب يبنهما سجال إلى أن كادهم مروان ودعاهم إلى الموادعة والصلح، فلما اطمأنوا إلى ذلك «أخذهم على حين غرة وحمل عليهم حملة منكرة، وهم على غير عدة ولا أهبة»،
35
فتم النصر له، وقتل الضحاك مع ثمانين شريفا من أشراف الشام أصحاب القطيفة، وهؤلاء يأخذ كل منهم ألفين في العطاء.
36
ومما ساعد مروان على الانتصار اشتعال الثورة في دمشق بقيادة يزيد بن أبي النمس الغساني، فغلب عليها ووضع يده على الخزائن وبيت المال، وبايع مروان وأمده بالرجال والأموال والسلاح، فقطع على الضحاك سبل الإمداد والمخابرة مع العاصمة، ويقول المؤرخون: إن هذه الثورة فتت في عضد الزبيريين، وكانت أول فتح فتح على بني أمية.
أكثر شعراء اليمن من التفاخر على قيس في هذه المعركة فأنشد الفرزدق:
وقد جعلت للدين في المرج بالقنا
لمروان أيام عظام الملاحم
رأيت بني مروان سلت سيوفهم
عشا كان في الأبصار تحت العمائم
ولو رام قيس غيرهم يوم راهط
للاقى المنايا بالسيوف الصوارم
ولكن قيسا روغمت يوم راهط
بطود أبي العاص الشديد الدعائم
فترى أن العصبية القبائلية كانت داء وبيلا
37
يسري في مفاصلهم سريان الحمى الفتاكة في الجسم الإنساني، وسنصف لك الويلات والمصائب التي حلت في الدولة من جرائها.
لما رأى ابن الزبير ما أصابه من الانكسار في معركة مرج راهط أراد أن يطلق آخر سهم في كنانته صوب الشام، فبعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح له مروان عمرو بن سعيد بن العاص في جيش، فصده وهزمه وأرجعه على أعقابه، ففقد آماله في الشام.
وجه مروان وجهه نحو مصر الخاضعة لابن الزبير لفتحها وتثبيت أقدامه فيها بعد أن وطد نفوذه من أقصى الشام إلى أقصاه، فسير حملة على رأسها ابنه عبد العزيز، ورجا أن يكون الفتح عن طريق أيلة، فأجمع ابن حجوم والي مصر على حربه فحصن الفسطاط وحفر حولها الخنادق، وبعث أسطولا إلى السواحل السورية ليناوش المرابطين فيها ويشاغلهم، فيهتم مروان بإرسال الفرق من جيشه لهذه الجبهة الساحلية الجديدة، وجهز حملة لمقاومة الجيوش المهاجمة، أما الأسطول فنزل عليه عاصف غرق معظمه، وأما الحملة فانهزمت أمام الفاتحين واستسلم قسم كبير منهم.
38
دخل مروان مصر فوضع العطاء في الناس فبايعوه وأقدموا على نصرته، ثم بنى القصر المعروف: «بالدار البيضاء» في الفسطاط، وجعلها مقر الأحكام لنائبه فيها، وولى عليهم ابنه عبد العزيز، وأمره بالإحسان إليهم والمشورة في تدبير أمورهم وبذل الهمة في تفريق زعمائهم، نستنتج هذا من الوصايا التي أوصاه بها، فقال له مرة: «يا بني، عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكون عينا لك على غيره، وينقاد وقومه إليك»،
39
وقال له أيضا: «وأوصيك أن لا تعد الناس موعدا إلا أنفذته، وإن حملت على الأسنة، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير.»
40
كل ما قدمناه يؤكد لنا أن مروان لم يتغلب على ابن الزبير إلا بعد الجهد الطويل، فاستمال الزعماء وقبل شروطهم القاسية، وكان يعتقد بعضهم أنهم شركاء له في ملكه، فاشترط الحصين بن نمير جزاء نصرته له أن يجعل البلقاء مأكلة لكندة،
41
وقد ظل يوجس خوفا من آل يزيد لئلا يثب لهم رأي في التخلص منه، فتزوج أم خالد بن يزيد وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة ليسقط خالدا عن درجة الخلافة،
42
وكان مروان لا يعتبر خالدا ويجرب أن يصغر أمره عند أهل الشام، فينسبه إلى الحمق مع أنه كان فصيحا بليغا، فتآمر عليه مع والدته وأعدماه خنقا حسبما يروي لنا معظم المؤرخين. (1-6) السبب السادس: حركة التوابين، الثأر للحسين بن علي
كان اختلاف الأمويين بعضهم على بعض سببا كبيرا في نشاط الحركة الزبيرية كما أسهبنا في قولنا، لكن حركة التوابين التي قامت على أثر فاجعة الحسين بن علي أخذت تناوئ بني أمية وتسعى في إعدام من اشترك في التدبير على ابن بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وتنشر الدعوة ضد سياسة الشدة التي اتبعها عبيد الله بن زياد وأمثاله. وقد استفاد ابن الزبير من هذه الحركة واستعان بأكابر الرجال على تشجيعها سرا وعلانية حتى يشغل الأمويين في الساحة العراقية وينال الفرصة الكافية لتثبيت مركزه وتقوية جيشه.
دعت الشيعة الحسين إلى الكوفة، ووعده رجالها بالنصرة فلم يبروا بوعدهم وتخلوا عنه في الساعة الأخيرة، فوقع في معركة كربلاء مضرجا بدمائه، فرأت فئة منهم أنه لا يغسل عارهم ولا يمحو إثمهم وذلهم إلا إعدامهم قتلته، فأسسوا حزبا جديدا دعوه «بحزب التوابين» كان من أركانه سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة الفزاري وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وعبد الله بن وال التميمي ورفاعة بن شداد البجلي، عقد هؤلاء الخمسة مع دعاتهم اجتماعا خاصا في دار سليمان بن صرد زعيمهم، فأنبوا بعضهم البعض على تراخيهم في الذود عن حرمة الحسين، وأقسموا على الأخذ بثأره إلى النفس الأخير، وهيئوا الأسباب التي تؤمن لحركتهم النجاح، وكانت علائم الحماس والألم والتأثر لقتل الحسين بادية في خطبهم، فقام المسيب بن نجبة يحرض القوم على الاستشهاد في سبيل آل البيت، أولئك الذين قتلوا على مقربة منهم وهم عنهم لاهون، فقال: «... كنا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتى بلا الله أخيارنا، فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا
صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا وبدءا وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا ... حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جدلنا عنه بألسنتنا ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربنا وعند لقاء نبينا
صلى الله عليه وسلم ، وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، ألا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك ...»
43
فأمن رفاعة بن شداد على كلامه وقال: «... دعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسوغ منك مستجاب لك مقبول قولك ...»
44
ثم تكلم سليمان فشجعهم على الاستعداد لأعدائهم بالسلاح والأموال والرجال فقال: «... فإني والله ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ونمنيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا وأذهلنا وتربعنا وانتظرنا ما يكون حتى قتل فينا ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه؛ إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل ودربة للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه، ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله ... ألا لا تهابوا، فوالله ما هابه امرؤ قط إلا ذل ... اشحذوا السيوف وركبوا الأسنة وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا.»
45
تمكن حزب التوابين الركن المتين من أركان الشيعة من لم شعثه والالتفاف حول زعيمه لسببين.
السبب الأول:
لتبرع الزعماء بالأموال الكثيرة لأجل الدعوة، فمكنهم هذا من استنفار الناس للجهاد وتشويقهم للقتال، فقدم خالد بن سعيد بن نفيل كل أمواله وأملاكه ومزارعه في سبيل الحزب فقال: «أشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كل ما أصبحت أملكه - سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي - صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال الفاسقين»،
46
وقال غيره مثل قوله.
والسبب الثاني:
لاستعمالهم البلغاء من الرجال في نشر دعوتهم، فمثلوا مقتل الحسين تمثيلا محزنا مبكيا، فكانوا أينما حلوا ينالون من أعدائه الذين انتهكوا حرمته، فاحتزوا رأسه وداسوا بخيلهم على جسده، وحملوا على قتلته أولئك الذين لا تعرف الشفقة قلوبهم ولا المرحمة نفوسهم، فكانوا يبكون ويستبكون الناس على القتيل حفيد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وإليك خطبة عبيد الله بن عبد الله المري أشهر دعاتهم، فإنه كان يجوب الأنحاء العراقية ويلقيها على مسامع الناس: «... لله أنتم ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيكم، أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته واستضعافهم وحدته وترميلهم إياه بالدم وتجرارهموه على الأرض، لم يراقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول
صلى الله عليه وسلم ، اتخذوه للنبل غرضا وغادروه للضباع حزرا، فلله عينا من رأى مثله ولله حسين بن علي، ماذا غادروا به ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم، ابن أول المسلمين إسلاما وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه وخذله وليه، فويل للقاتل وملامة للخاذل، إن الله لم يجعل لقاتله حجة ولا لخاذله معذرة إلا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين، فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة ويقيل العثرة، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عند الله خير للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا.»
47
واستمال حزب التوابين سكان المدائن، فبثوا بينهم دعوتهم ورجوهم إلى قتال أعدائهم، فانتصروا لهم ووجهوا قواهم لتنشيط هذا الحزب ... ولو دققنا في الأسباب التي جعلت أهل المدائن ينضمون إلى الكوفيين لتحققنا أنها مبنية على الأسس المالية، فسكان المدائن وأرباب الثروة فيها هم شركاء لأهل الكوفة في نخيلهم ودورهم وعطائهم؛ ولذا لم يكن بوسعهم أن يتخلوا عنهم ويناضلوهم، فلما طلب إليهم سليمان بن صرد الالتحاق بالحزب في رسائله المشهورة إليهم سمعوا له وأجابوا، وإني مورد لك نص بعض الرسائل التي جرت بين الفريقين لتفهم روح المفاوضة ومعناها إذ ذاك:
رسالة سليمان بن صرد لأهل المدائن ... إن أولياء الله من إخوانكم وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيهم الذي دعي فأجاب ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه وعدوا عليه فقتلوه، ثم سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا ...
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
48 ... فلما نظر إخوانكم وتدبروا عواقب ما استقبلوا رأوا أن قد خطئوا بخذلان الذكي الطيب وإسلامه وترك مواساته ... ولا توبة دون قتل قاتليه أو قتلهم ... فقد جدوا إخوانكم فجدوا وأعدوا واستعدوا وقد ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إليه وموطنا يلقوننا فيه، فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة 65ه/684م، وأما الموطن الذي يلقوننا فيه فالنخيلة ... وإنكم جدراء بتطلاب الفضل والتماس الأجر والتوبة إلى ربكم من الذنب، ولو كان في ذلك حز الرقاب وقتل الأولاد واستيفاء الأموال وهلاك العشائر ... إن التقوى أفضل الزاد في الدنيا ... ولتكن رغبتكم في دار عافيتكم وجهاد عدو الله وعدوكم وعدو أهل بيت نبيكم ...
49
من رسائل أهل المدائن للتوابين ... نجيبهم ونقاتل معهم ورأينا في ذلك مثل رأيهم ... نحن جادون مجدون معدون مسرجون ملجمون، سننتظر الأمر ونستمع الداعي فإذا جاء الصريخ أقبلنا.
50
انتشرت دعوة التوابين انتشارا عظيما بعد وفاة يزيد الأول، فأصبحوا عددا رهيبا يخاف الناس جانبهم، وأخذت الدولة في دمشق تعد عدتها لمنازلتهم وإخماد ثورتهم، والناظر بعين بصيرة نقادة إلى حركتهم من أولها إلى منتهاها يرى أنها صارت إلى الانحلال لأسباب خمسة هي كما يأتي:
السبب الأول: «الدعوة تتطلب إعدام أشراف الكوفة لقتلهم الحسين، خوف التوابين من إعدامهم»: قرأنا فيما سبق أن أشراف الكوفة كانوا الساعد الأقوى في إعدام الحسين، ومع ذلك فقد تردد سليمان وأتباعه في قتالهم لأن بينهم إخوانهم وبني عمومتهم وأعز أقاربهم، ولأنهم إن علموا بنوايا التوابين نحوهم صمدوا لهم وقاتلوهم قتالا شديدا، ولا ريب أن التوابين ارتكبوا غلطا فادحا في استعدادهم لمنازلة الأمويين الأقوياء قبل اقتصاصهم من الزعماء الأشراف القتلة الذين كانوا يرتعون في بحبوحة من العيش بين ظهرانيهم، والذين كانوا على اتصال تام مع الحكومة الأموية، فمنحوا أعداءهم الأشراف بذلك فرصة الاستعداد لكيدهم والتدبير عليهم.
نستشهد على صحة هذه الفكرة من الأقوال التي صدرت من زعماء التوابين بذا الخصوص، قال أحد زعمائهم: «إنما خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فأنى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار.»
51
وقال سليمان بن صرد: «والله لو قاتلتم غدا أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه أو رجلا لم يكن يريد قتله»،
52
وروى لنا الطبري: «جاء إلى سليمان أصحابه من الشيعة فقالوا: قد مات هذا الطاغية - يزيد الأول - والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث - نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة - فأخرجناه من القصر، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ودعونا الناس إلى هذا البيت المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك فأكثروا فقال لهم سليمان بن صرد: رويدا لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل مكة وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون وعلموا أنهم المطلوبون كانوا أشد عليكم.»
53
السبب الثاني: «التوابون ضعاف في جيشهم وعدتهم»: ذكرنا أن التوابين تكاتفوا وتعاضدوا وأقسموا الأيمان على الفتك بقتلة الحسين وبذلوا الأموال في سبيل هذه الغاية، ولكن أموالهم كانت قليلة نسبة لأموال الأمويين، وجيشهم ضعيفا لا حول له ولا قوة على الثبات أمام الجيش الأموي، هذا عدا أولئك الذين تخلوا عنهم بتأثير الذهب الوهاج الذي كانت تدفعه الحكومة بسخاء، فيروي لنا الطبري: «دعا سليمان بن صرد إلى ديوانه لينظر فيه إلى عدة من بايعه حيث أصبح فوجدهم ستة عشر ألفا، فقال: سبحان الله! ما أرانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفا »،
54
ويروي أيضا: «أتى سليمان عسكره فداره ووجوه أصحابه فلم يعجبه عدة الناس.»
55
ويقول بذا الخصوص: «خاطب سليمان بن صرد حزبه فقال: ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يثنوا أنفسهم ولم ينكوا عدوهم ...»
56
وقد صرح التوابون أنهم فقراء، وأنه ليس عندهم مال يهبونه للناس كما تفعل الحكومة في دمشق، وأن لا غاية لهم سوى التوبة بثأرهم للحسين، وكان هذا اعتراف ظاهر على عجزهم وضعفهم، والناس لا يستهويهم الكلام الجذاب إلى أمد طويل، وإن استهواهم فإلى حين، قال سليمان بن صرد: «... أيها الناس من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها فوالله ما نأتي فيئا نستفيئه ولا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا خز ولا حرير، وما هو إلا سيوفنا في عواتقنا ورماحنا في أكفنا، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدونا، فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا.»
57
السبب الثالث: «المنافسة في طلب الزعامة تهيض جناحهم»: كان بين الشيعة رجال ينافسون سليمان بن صرد في طلب الزعامة والرئاسة، أشهرهم المختار بن أبي عبيد الثقفي - وسنتكلم عنه مفصلا - فخرج رجاله يثبطون همم الناس عن اللحاق بسليمان مدعين جهله في الأمور العسكرية وضعفه في قيادة الجند، وقالوا: إن المختار إنما يدعو لمحمد بن علي ابن الحنفية فهو وزيره وأمينه، فانقسم التوابون بعضهم على بعض، فئة تدعو لسليمان وفئة تدعو للمختار، فكان هذا الانقسام مما سهل على الحكومة الأموية ضرب سليمان وأتباعه ضربة قاضية، قال الطبري بهذا الشأن: «... فسليمان أثقل خلق الله على المختار، وكان المختار يقول لأصحابه: أتدرون ما يريد هذا - يعني سليمان بن صرد - إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصر بالحروب ولا علم بها.»
58
السبب الرابع: «التوابون يرفضون مساعدة ابن الزبير»: أراد ابن الزبير أن يستفيد من التوابين، فجرب أن يقنع زعماءهم في الانضمام إليه والانتصار له، فأبوا أن يقاتلوا في صفوفه لئلا يكونوا سلما يرقى عليه لمطامعه وآلة هنية لينة يديرها كيفما شاء، ولقد حاول أنصار ابن الزبير أن يؤكدوا للتوابين أن الأمويين أعداء لكلا الطرفين على السواء، وعرضوا عليهم المساعدات المالية فما أعاروهم أذنا صاغية ولا قلبا واعيا؛ لأن دعوتهم معينة مفهومة لا تتجاوز طلب الثأر للحسين وإرجاع الإمامة لأهلها من العلويين.
إن التوابين لم يفيدوا الزبيريين الإفادة الكلية إذا لم ينضموا إليهم، ولكنهم شاغلوا الأمويين في الساحة العراقية مدة ليست بالقليلة، استراح في خلالها ابن الزبير وهيأ الأسباب القوية لمناجزتهم في معركة فاصلة، فقال دعاة ابن الزبير للتوابين لإقناعهم: «أنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عدونا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقابلناهم.»
59
وذكر المؤرخون أن ابن الزبير لم يتأخر عن بذل الأموال لهم، فيروي الطبري: «عرضوا على سليمان أن يقيم معهم حتى يلقوا جموع أهل الشام على أن يخصوه وأصحابه بخراج «جوخي» خاصة لهم دون الناس»،
60
وكان يعتقد التوابون أن القتال مع ابن الزبير ضلال في ضلال، قال سليمان في ذلك: «... ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالا، وإن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا تائبين من ذنوبنا، إنا لنا شكلا ولابن الزبير شكلا.»
61
السبب الخامس: «أهل المدائن يتأخرون عن اللحاق بإخوانهم التوابين»: أجمع التوابون أن يكون معسكرهم في النخيلة، وموعد اجتماعهم في ربيع الثاني سنة 65ه/684م، وذلك لتعبئة صفوفهم ولتهيئة الخطط الحربية الضرورية قبل الزحف لملاقاة الجيوش الأموية القادمة بقيادة عبيد الله بن زياد، فلم يوافهم أنصارهم من أهل البصرة وأهل المدائن للميعاد المضروب بينهم، وقد أقعدهم عن اللحاق بهم قلة النفقة وسوء العدة، فأقاموا مدة يتجهزون، فانتهز الأمويون الفرصة وناجزوا التوابين الوقيعة في «عين الوردة» قبل قدوم الإمداد لهم فكسروهم شر كسرة.
المعركة
أقام التوابون يوما وليلة بالقرب من قبر الحسين قبل زحفهم للقتال، يثيرون أحقادهم ويشعلون نار الضغائن في صدورهم ويستفزون هممهم لطلب الثأر بالبكاء على الحسين، وقد ازدحموا حول قبره ازدحاما شديدا يترحمون عليه ويستغفرون له ولأنفسهم، فزادهم هذا حنقا على حنق وألما على ألم، ثم ساروا لملاقاة عدوهم الزاحف إليهم من دمشق بطريق الرقة، فانتهوا إلى عين الوردة، ورسم لهم حاكم قرقيسيا الخطة الحربية التي يجب أن يسيروا بحسبها، وهي تأمرهم بالانتباه إلى حماية خط الرجعة لئلا يفقدوا الماء والمادة والذخيرة من أيديهم، وأن لا ينازلوا أعداءهم في فضاء وسيع يتم لهم به الالتفاف حولهم، وأن يشاغلوهم بالكتائب بدلا من النزول إليهم دفعة واحدة في صف واحد.
وقد حفظ لنا التاريخ نص هذه الخطة وهاك هي: «... إن القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم له آمنون ... اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة، فإن القوم يسيرون سير العساكر وأنتم على خيول ... وإن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا بكم، ولا تقفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم، ولا تصفوا لهم حين تلقونهم فإني لا أرى معكم رجالة ولا أراكم كلكم إلا فرسانا والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان يحمي رجالها والرجال يحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجال يحمي فرسانكم فالقوهم في الكتائب ... ثم بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست كتيبة عنها الخيل والرجال، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة.»
62
بعث عبيد الله بن زياد الحصين بن نمير على مقدمته في اثني عشر ألفا لملاقاة التوابين، فاجتمع بهم في عين الوردة، فدارت المفاوضات بين مندوبي الفريقين لحقن دماء المسلمين، فلم يصلوا إلى نتيجة مرضية؛ لأن التوابين أصروا على خلع عبد الملك بن مروان - وكان قد ولي الخلافة - أولا، وتسليم عبيد الله بن زياد لهم ثانيا، ولم يتساهلوا إلا في طرد آل الزبير ودعاتهم من العراق على أن يكون حق الخلافة لآل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم .
أدت هذه المفاوضات حتما إلى القتال، فاشتبك الطرفان في معركة دامية انتصر بها التوابون في اليوم الأول، وأظهروا من ضروب الشجاعة والتضحية ما جعل أعداءهم يقرون لهم ببطولتهم، فشهدوا لهم وقالوا: «إنهم كانوا يقدمون على شوكة شديدة ويقاتلون فرسانا شجعانا ليس فيهم سقط رجل»،
63
لكن هبطت الأمداد على الأمويين في اليوم الثاني فأكثروا فيهم الجراح وأفشوها، فاستمات التوابون في اليوم الثالث فكسروا - جفون سيوفهم - فقتل أكثر زعمائهم وبينهم سليمان بن صرد، فتقهقروا بعد هذه الهزيمة في الظلام حاملين جرحاهم، وعبروا الخابور متجهين إلى بلادهم، وقد تركوا وراءهم فرقة من الجند لتحمي مؤخرتهم وتشاغل أعداءهم لدى ارتدادهم.
ويجدر بنا أن نذكر وصايا سليمان بن صرد للتوابين قبل دخولهم المعركة، وهي كلها تأمر بالرحمة والمواساة والعطف على الجرحى والمصابين والأسرى، قال: «لا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم؛ إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة إخواننا ... فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»
64 (1-7) السبب السابع: الأزارقة الخوارج يساعدون ابن الزبير
الخوارج في عرف الإسلام هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، - سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان،
65
ويطلق اسم الخوارج على جماعات عديدة تختلف في مبادئها ونواحي تفكيرها، ويهمنا من أمرهم في بحثنا هذا التعرف إلى طائفة الأزارقة وعلاقتها مع ابن الزبير.
قامت هذه الطائفة غاضبة على جماعة المسلمين لاختلافها وإياهم في بعض المبادئ الدينية السياسية، فهم:
أولا:
يكفرون عليا ويقولون: إن الله أنزل في شأنه ، وزادوا على ذلك تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار، ويحملون الحملات المنكرة على عثمان ويصمونه بوصمات بعضها بعيد عن الحق، ويبالغون في ذلك أشد المبالغة، فيقولون عنه: إنه «آثر القربى ... ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وحقر المسلم وضرب منكري الجور وآوى طريد الرسول - الحكم ... - وضرب السابقين بالفضل وسيرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقسمه بين فساق قريش ومجان العرب، فسارت إليه طائفة من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأولياءه برآء.»
66
ثانيا:
يوجبون على كل من ينضم إليهم أن لا يتأخر عن القدوم إلى ديار هجرتهم للذود عن بيعة دينهم، فهم يكفرون القعدة من رجالهم عن قتال أعدائهم، ويظهرون البراءة منهم أينما كانوا وحيثما حلوا.
ثالثا:
يأمرون بقتل نساء مخالفيهم وأطفالهم، وهذا غاية القسوة والهمجية، وهم يرون وجوب التخلص من أعدائهم باستعمال الشدة معهم وإعدام نسلهم.
رابعا:
يسقطون الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذكره، ويسقطون حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، ويوجبون الحد على قاذف المحصنات من النساء.
خامسا:
يأمرون بالتصريح في مبادئهم ونشرها، ويقولون: إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
سادسا:
يعتقدون أن جميع المشركين في النار.
سابعا:
يجوزون أن يبعث الله تعالى نبيا يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافرا قبل البعثة.
ثامنا:
يجمعون على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر ويكون مخلدا في النار.
67
وكان أول خروج هؤلاء الأزارقة في أربعين رجلا وذلك في خلافة يزيد الأول، أما مقرهم فكانت الأهواز، وهم يلقبون بالأزارقة نسبة لرئيسهم نافع بن الأزرق، والغريب أن ابن الزبير - حبا في توطيد سلطانه وتمكينا لسيادته ودعوته تجاه الأمويين - أظهر أنه على مبادئهم وآرائهم «فأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش»،
68
فقاتلوا في صفوفه واستماتوا في الدفاع عن البيت الحرام، وكانوا من أشد أعداء الأمويين، وقد وفدوا عليه ولحقوا به وانتصروا له،
69
فكانوا ركنا متينا من أركان جيشه، لكنه لما مات يزيد الأول تزحزح كابوس الأمويين عن صدر ابن الزبير، فأخذ يناقشهم في مبادئهم ويجرب أن يجلبهم إلى حظيرة الجماعة الإسلامية، حتى إنه صرح مرة لما جادلهم في عثمان بقوله: «إني ولي لابن عفان في الدنيا والآخرة وولي أوليائه وعدو أعدائه.»
70
حقا لقد جاء هذا التصريح سابقا لأوانه؛ إذ جعل هذه الطائفة تناصبه العداء وتكيده، مع أنه كان في حاجة ماسة إلى من يناصره ويأخذ بيده أمام الحكومة الأموية.
قلنا: خرجت طائفة الأزارقة في ولاية يزيد الأول، فعهد هذا إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة يومئذ أن ينازلهم ويعاملهم بالشدة، فكان لا يدع أحدا ممن يتهم برأي الخوارج إلا قتله حتى قتل بالتهمة والظنة تسعمائة رجل حسبما يروي لنا الدينوري،
71
والحقيقة أن هذه السياسة القائمة على الدم لم تمت حركة الأزارقة ولم تخنقها، بل زادتها قوة ونشاطا، خصوصا حينما توفي يزيد وأجبر ابن زياد على الهرب إلى دمشق خوفا على حياته، فبدلا من أن يكون الأزارقة في العراق وفارس رجال ابن الزبير وسيفه البتار أصبحوا عليه، يناوئونه ويضربونه الضربة تلو الضربة، فنستنتج أن الأزارقة بعد أن كانوا من أحزابه أخذوا يفتون في عضده ويخنقون دعوته في البصرة وفارس.
لما ضعفت الدولة الأموية عن القيام بحماية العراقيين خصوصا سكان الجنوب راسل أهل البصرة ابن الزبير يعلمونه أن لا إمام لهم، ويسألونه حمايتهم وصد الخوارج عنهم، وهم لقاء ذلك ينصرونه ويثبتون أقدامه ويجهزون له الجيوش، فبعث إليهم المهلب بن أبي صفرة القائد المشهور - وسنصف فتوحه في وقتها - من خراسان، فقدم البصرة وبث روح الإقدام والجهاد في القبائل والعشائر، واشترط عليهم الطاعة، وأن له ما يغلب عليه من البلاد فقبلوا ذلك درءا للأخطار المحدقة بهم وتخلصا من الفوضى، وكان المهلب نزر الكلام إلا فيما يختص بمصلحته، فصعد منبر المسجد الجامع في البصرة وألقى خطبته التي أملى بها شروطه وهي: «إنه قد غشيكم عدو جاهد يسفك دماءكم وينتهب أموالكم، فإن أعطيتموني خصالا أسألكموها قمت لكم بحربهم واستعنت بالله عليهم ... انتخب منكم أوساطكم لا الغني المثقل ولا السبروت المخف، وعلى أن لي ما غلبت عليه من الأرض، وألا أخالف فيما أدبر من رأيي في حربهم، وأترك ورائي الذي أراه وتدبيري الذي أدبره.»
72
بلغت الحملة التي قادها المهلب لقتال الأزارقة نحوا من عشرين ألفا، فواقعهم في نهر «تستر» فهزمهم، ثم في «نسلي» من أعمال الأهواز فهزمهم أيضا، وقتل زعيمهم نافع بن الأزرق، وما زال يلاحقهم من بلد إلى بلد حتى ضربهم في سابور من أرض فارس، وقد ضيق عليهم وسد السبل دونهم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان حتى قال أحدهم:
حتى متى يتبعنا المهلب
ليس لنا في الأرض منه مهرب
ولا السماء أين أين المذهب
73
والغريب أن هؤلاء الأزارقة كانوا يناضلون نضالا هائلا، وينتخبون الزعيم إثر الزعيم بعد مقتلهم، فترى قائمة من أسماء قادتهم بعد مصرع ابن الأزرق أشهرهم عبد الله بن ماحوز وقطري ابن الفجاءة وعبد ربه وغيرهم، والحقيقة التي نريد تأييدها من كلامنا هذا كله أن الأزارقة كانوا يدا قوية في نجاح دعوة ابن الزبير في أول أمرها، وكان بوسعه أن يحتفظ بهم لو أحسن أساليب السياسة فأجل المناقشة معهم في مبادئهم أو غض الطرف عنها، فيظلون جنده القوي في الساحة العراقية ومدده العظيم في قتال بني أمية، لكنه أخطأ في مناقشتهم ومجادلتهم في آرائهم، فحملوه أحمالا باهظة لا قبل له بها إذ أثاروا عليه حربا ضروسا في العراق وفارس كلفته دماء غزيرة وأموالا كثيرة كان بوسعه أن يتجنبها. (1-8) السبب الثامن: الحركة المختارية تنشط ابن الزبير
يتحقق الباحث عن الحركات الثورية التي قامت في صدر الإسلام أنها نهضت تدفعها عوامل سياسية جمة قد لا تظهرها في البدء إنما تجعل الدين ستارها، فتضرب على وتره فتهز عاطفات التعصب الكامنة في النفوس، وتستهوي عامة الناس فتجعلهم آلة تسيرهم حسبما تشاء ونعاجا تذبحهم على مذبح الجشع والمصلحة.
رأى المختار بن أبي عبيد الثقفي حبل الأمن مضطربا في الأقطار العربية، ومطامع الزعماء تقرض بمقراضها جسم المملكة الأموية، فغلب عبد الله بن الزبير على الحجاز والعراق، ونجدة الحروري على العروض، وعبد الله بن خازم على خراسان، فتحركت في نفسه محبة السيطرة والسيادة، فدعا القوم في العراق إلى الثورة فأجابوه، وسنبين لك الأسباب التي رفعت شأنه وقدرت لحركته النجاح نوعا.
حياة المختار السياسية
نرى المختار لأول مرة على مسرح التاريخ حينما نزل مسلم بن عقيل رسول الحسين في داره، وجعل يبايع له ويدعو الناس إلى معونته، وذلك قبيل التجاء مسلم إلى دار هاني بن عروة المرادي، ثم كانت فاجعة كربلاء فقبض عليه عبد الله بن زياد وضربه وسجنه وأهانه في كبريائه، فاستعطف عبد الله بن عمر صهر المختار يزيد الأول ورجا منه إخلاء سبيله مشترطا أن لا يتداخل في سياسة الحكومة، فأجابه إلى ذلك على أن يخرج من العراق، وإن لم يفعل برئت منه الذمة، فرحل إلى مكة وفي نفسه من الحقد والضغينة على ابن زياد ما جعله ينتهز كل فرصة للإيقاع به والانتقام لأنفته، حتى لقد قال: «قتلني الله إن لم أقطع أنامله ... وأعضاءه إربا إربا.»
74
أراد ابن الزبير أن ينتصر بالمختار، فرحب به وأوسع له وغمره بإحسانه وعطفه، فاشترى منه دينه على الشروط الآتية: أولا: يبايع المختار ابن الزبير على أن لا يقضي الأمور دونه، ثانيا: يكون المختار الوزير الأول في دولته، فلا يأذن لأحد قبله ويوله على أحسن عمله، وقد أبلى المختار البلاء الحسن في أعداء ابن الزبير، وشهد الحصار الأول يوم أحرق البيت وخدم رئيسه خدمة صادقة، والظاهر أن المختار تألم ألما شديدا من ابن الزبير، لأنه لم يوف له بالعهود التي أخذها على نفسه فلم يستعمله، وجعل يقدم عليه من هم دونه منزلة وكفاءة، فأقام يستطلع أخبار الكوفة ويتزود بالمعلومات الكثيرة عنها إلى أن انتهز فرصة قيام حزب التوابين فرحل إليها، وجعل يدس الدسائس بين أعضاء هذا الحزب حتى انشعبت إليه فرقة تؤيده وتعظمه وتبث دعوته.
قضت الدولة الأموية على حركة التوابين في معركة عين الوردة، ولكنها لم تقض على الأحقاد المتأصلة في نفوس الشيعة، فكانت تغلو مراجل الضغينة في صدورهم إذ لاقوا من المذلة والإهانة بعد معركة كربلاء وعين الوردة ما جعلهم مستعدين استعدادا تاما لقبول زعيم نشيط يدير دفة سياستهم ويستلم زمام أمورهم، وقد كان المختار شابا طموحا عالي الهمة
75
لم تفتر همته عن جمعهم تحت لوائه، فتكللت مساعيه بالنجاح، وإنا موردون لك الأسباب التي أعانته على الثورة وهاكها:
أولا: «المختار يطلب بثأر الحسين ويدعو لابن الحنفية»: لا ريب أن السبب الرئيسي الذي دفع المختار للثورة هو محبته للزعامة والتغلب كما نوهنا سابقا، وكان لا يتأتى له النهوض إن لم يجعل طلب الثأر للحسين وإرجاع الإمامة إلى آل بيت النبي غايته التي ليس وراءها غاية، فنشر هذه الدعوة بين الموتورين من الشيعة، فلاقت أرضا خصبة وجوا صالحا للنمو والحياة، ويؤكد لنا الشهرستاني أن أمره لم ينتظم إلا بانتسابه إلى محمد ابن الحنفية أخي الحسين علما ودعوة ولاشتغاله بقتال الذين أجمعوا على الفتك بآل البيت،
76
فدعا الناس قائلا: «إن المهدي ابن الوصي محمد بن علي بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.»
77
ومن أقواله يدعوهم أيضا: «إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر ومعدن الفضل ووصي الوصي والإمام المهدي بأمر فيه الشفاء وكشف الغطاء وقتل الأعداء وتمام النعماء ... إني إنما أعمل على مثال قد مثل لي وأمر قد بين لي، فيه عز وليكم وقتل عدوكم وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم - بكل ما تأملون - خير زعيم»،
78
ونشط في بث دعوته نشاطا عظيما بعد مقتل سليمان بن صرد ورجوع فلوله إلى أوطانها، فكتب للتوابين يعزيهم بمصرع أبطالهم ويهنئهم بما نالوه من الأجر والفوز عند ربهم، ويدعوهم إلى الانضمام إليه ليجرد في عدوهم السيف ويثأر لابن بنت الرسول، وهاك رسالته لشيعته: «... أما بعد ... فإن الله أعظم لكم الأجر وحط عنكم الوزر بمفارقة القاسطين ... فإني لو قد خرجت إليكم جردت ... في عدوكم السيف ... فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى ، ولا يبعد الله إلا من عصى وأبى»،
79
فانضم إليه قسم كبير منهم كانوا من أشد أنصاره في حركته وأعظم أحزابه في حروبه.
لقد كان المختار أعظم خطورة في دعوته من سليمان بن صرد، إذ اجتمعت فيه صفات الزعامة، فخافه ابن الزبير في الكوفة فقبضوا عليه وأودعوه السجن، والحقيقة التي لا شبهة فيها أن المختار أراد الوثوب على العراق والتخلص من النفوذ الزبيري، بينما كان سليمان يسعى لقتال بني أمية أعداء ابن الزبير، فشتان بين الزعيمين، فإن لكل منهما مبدأ كما ترى.
اتفقت الشيعة على القيام بتأييده، فصار دعاته يبايعون له وهو مسجون إلى أن أخلي سبيله، ولا شك في عرفنا أن المختار أخذ يدعو لابن الحنفية، وابن الحنفية جاهل تمام الجهل ما ينتحله باسمه، وذلك لضعفه وأثرته الخمول على الشهرة، إن هذا الضعف في زعماء آل البيت كان من أكبر المصائب على الإسلام، إذ جعل لأحزابهم وأصحاب النفوذ والمطامع من رجالاتهم الفرص الكافية لادعاء مبادئ باسمهم لم يفكروا بها ولم تخطر لهم على بال.
فاستثمر المختار بعض التصريحات التي صرح بها ابن الحنفية بعد مقتل الحسين وأخذ يقول للناس: إن إمامكم ابن الحنفية يدعوكم لطلب الثأر لآل بيت نبيكم. وقس على ذلك من الأقوال المأثورة المؤلمة، ومن هذه التصريحات ما قاله ابن الحنفية لأحد الوفود العراقية في الحجاز: «... وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه.»
80
وقد استمال المختار هذه الوفود فأكدت صدق دعوته للناس بقولها: «كنا أحببنا أن نتثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة، فقدمنا على المهدي ابن علي فسألناه عن حزبنا هذا وعن ما دعانا إليه المختار منها فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه، فأقبلنا طيبة أنفسنا منشرحة صدورنا، وقد أذهب منها الشك والغل والريب.»
81
وما فتئ المختار منذ ذلك الحين يلقي الخطب إثر الخطب في المجالس، وكلها ترمي إلى الدعوة لابن الحنفية بواسطته، فترى أن الرجل عرف كيف يستفيد من أقوال ابن الحنفية المبهمة الصادرة عن قلب طيب ونفس زكية تحب العافية وترجو السلام وتود أن لا تسفك الدماء باسمها، فأعلن عن رغبته هذه بكتاب بعثه له: «... وأن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعا والأعوان لي كثيرا، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.»
82
وأوصاه مرة بالكف عن القتال، فروى الطبري أنه ذكر: «قل للمختار فليتق الله وليكفف عن الدماء.»
83
ثانيا: «المختار يستميل كبار الزعماء إلى حزبه ويطمعهم بالفوائد المالية»: علم المختار حق العلم أن لا سبيل إلى اجتذاب قلوب الزعماء أرباب المصالح إلا بمنحهم ما تصبو إليه نفوسهم من المناصب، وما تتوق إليه ذواتهم من الأرباح المادية، فكتب رسالة عن لسان ابن الحنفية إلى إبراهيم بن الأشتر سيد الكوفة، وبها يؤكد على أنه إن نصره وأطاعه وطلب دماء أهل بيته فله كل ثغر ظهر عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، فاستماله وبسط له يده فبايعه على الجهاد في أعدائه. وليس بوسعنا أن نمر بهذه الرسالة دون أن نثبت أنها مزورة ليس عليها مسحة من الحقيقة، نستشهد على ذلك بما قاله الشعبي وهو يتهم المختار بأن الكتاب مزور، وأن من شهد بصحته كاذب.
قال الشعبي: «أنا والله لهم على شهادتهم متهم، غير أنه يعجبني الخروج، وأنا أرى رأي القوم وأحب تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك»،
84
أما نص الكتاب الذي ادعى المختار أنه من ابن الحنفية فهاكه: «بسم الله الرحمن الرحيم ... من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ... سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معي بنفسك وعشيرتك ومن أطاعتك، فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري، كان عندي بذلك فضيلة ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد أهل الشام، على الوفاء بذلك على عهد الله، فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله أبدا، والسلام عليك.»
85
ثالثا: «المختار يؤمن الأشراف ويعدل بين الناس»: لم يكد المختار يعلن عن عزيمته في طلب الثأر للحسين، وإرجاع الإمامة إلى ابن الحنفية حتى أحسن السيرة جهده، فقعد للعدل وأمن الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأدنى الأشراف فكانوا جلساءه وحداثه، فظنوا أنه صادق النية فيما رمى إليه فتهافتوا عليه، لكن العقد الفريد يقول: إن هذه كلها كانت مظاهر لإدراك بغيته، فلما أدركها بانت مقاصده السياسية.
86
رابعا: «الأمويون لا يحسنون صنعا بانتخاب عبيد الله بن زياد للاستيلاء على العراق، العراقيون يبغضون عبيد الله، يلتفون حول المختار»: كلنا يعلم سياسة الشدة التي جرى عليها عبيد الله بن زياد في العراق، تلك السياسة التي أدت إلى قتل الحسين بن علي، فكرهه الناس وأرادوا الفتك به بعد وفاة يزيد الأول، فتمكن من الهرب إذ التجأ إلى الأزد، وقد قدم به هؤلاء إلى الشام آمنا مطمئنا،
87
زد على هذا استعماله الدهاقين من الفرس لجباية الأموال؛ لأنهم أبصر بالمسائل المالية في عرفه من العرب، وأوفى بالأمانة وأهون بالمطالبة، وكان عبيد الله بن زياد بخيلا فجرب أن لا يبذل في العطاء إذا تمكن من ذلك. إن كل هذه العوامل دفعت العراقيين إلى الالتفاف حول المختار ومناصرته.
خامسا: «المختار يستفيد من ثارات العصبية القبائلية»: قلنا فيما سبق أن العصبية القبائلية كانت داء وبيلا، ولا نزال نذكر معركة مرج راهط وما أحلت اليمن فيها بقيس من المذلة الشنيعة، فلما قدم جيش عبيد الله بن زياد من قبل مروان بن الحكم لإخضاع العراق، ومر بالجزيرة أصلاه أهلها القيسيون نارا حامية؛ وذلك لأنهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، ولأنهم أرادوا الانتقام ليوم راهط، إن هذه الحرب التي أشعلها القيسيون على اليمنيين أنصار مروان كلفت عبيد الله ثمنا باهظا إذ سفكت فيها دماء غزيرة، وأخرته سنة كاملة عن القدوم إلى العراق، وقد تمكن المختار من الاستعداد خلال هذه المدة استعدادا كاملا.
سادسا: «المختار يداري ابن الزبير لئلا يصبح بين نارين»: ثار المختار في العراق وطرد الحامية الزبيرية وأعلن استقلاله، وهو متأكد كل التأكد أنه لا بد له من مناجزة عدوين قويين طامعين في تثبيت سلطانهما في بلاد الرافدين، الأول بنو أمية في الشام والثاني ابن الزبير في الحجاز، أما بنو أمية فمن الصعب المفاوضة معهم لكره الشيعة لهم وما ارتكبه ولاتهم من المظالم في المصرين حسب اعتقادهم، وأما ابن الزبير فقد تسهل المخابرة معه؛ لأن المختار سيقوم بقتال أعدائه الأمويين الذين كادوه كيدا عظيما، فإن انتصروا على المختار تخلص منه وإن انتصر عليهم كان أهون شوكة منهم عليه، فتوادعا حتى يستجمع لأحدهما الأمر فيثب بصاحبه، وهاك ما كتبه المختار لابن الزبير بهذا الشأن: «... أما بعد فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك، فلما وفيت لك وقضيت الذي كان لك علي خست بي ولم تف بما عاهدتني عليه ورأيت مني ما قد رأيت فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك.»
88
سابعا: «المختار يدعي مبادئ جديدة في الإسلام، كرسي علي عند شيعته كالتابوت عند بني إسرائيل»: أحب المختار أن يصبغ مبادئه السياسية بصبغة دينية تؤثر في قلوب العامة من أتباعه، فادعى أنه يوحى إليه، واخترع «مبدأ البدء»، ويفسره لنا الشهرستاني بقوله: «ومن مذهب المختار أنه يجوز البدأ على الله تعالى، والبدأ له معان: البدأ في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم، والبدأ في الإرادة وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم، والبدأ في الأمر وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك، وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبدأ لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونه قوله جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال قد بدا لربكم.»
89
ثم أتى بكرسي قديم قد غشاه وعصبه بالحرير والديباج وزينه بأنواع الزينة، وكان يخرج به على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، وادعى أن به قوة معنوية، فإذا حارب خصومه ووضعه في براح الصف فلهم الظفر والنصرة؛ لأن فيه «السكينة والبقية والملائكة من فوقكم ينزلون مددا لكم»،
90
وطالما ذكر لهم أن هذا الكرسي محله فيهم كمحل التابوت في بني إسرائيل، وإذا علمنا بعد ذلك أن المختار أخذ يعتمد على الأعاجم الفرس، فلا بدع أن يأتي لهم بمثل هذه المبادئ القريبة من أفهامهم والمغروسة في دمائهم.
وللشعراء العرب قصائد جمة في وصف هذا الكرسي، وهي كلها تقريبا تظهر لنا كفرهم به واستصغارهم إياه، قال أعشى همدان:
شهدت عليكم أنكم سباية
وأني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كرسيكم بسكينة
وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت
شبام حواليه ونهد وخارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق (المختار) إن جئته
أني بكرسيكم كافر
ذكرنا لك الأسباب التي وفقت المختار في حركته بعض التوفيق، وجعلته يستقل بالكوفة استقلالا لا شائبة عليه، ولقد كان بوسعه - لو أحسن السياسة في هاتيك الربوع - أن يتمتع زمنا طويلا بسيادته وسلطانه، فارتكب سلسلة من الأغلاط الفادحة رمت به من شاهق مجده إلى الحضيض، فقتلت حركته بعد أن كاد يقتطف ثمارها.
اعتمد المختار في دعوته على الفرس بدلا من العرب، فأخذ يقربهم ويسند إليهم المناصب ويبذل لهم في العطاء، وكان ذلك بعد أن اشتد ساعده وعظمت هيبته، فاغتاظ أشراف الكوفة من عمله وأضمروا له السوء، واجتهدوا في إعدامه واغتياله، فكادهم كيدا عظيما بعد أن غمرهم بإحسانه وعمهم بعدله، وطلب قتلة الحسين منهم، فثاروا به ثورتهم المشهورة والمعروفة بثورة أهل السبيع والكناسة
91
سنة 66ه/685م فأخمدها وضرب عنق كل من شهد مقتل الحسين أو اشترك في التدبير عليه، وقامت طائفة الموالي والعبيد تنتقم من أشراف الكوفة؛ لأن فئة كبيرة منهم آذتهم وعاملتهم - فيما سلف - معاملة قاسية، فاستفاد المختار من عداء طبقة الموالي لطبقة الأشراف، وبعبارة ثانية من عداء العرب الأشراف للفرس الموالي، فجعل يوسع شقة الخلاف بين الطرفين، ويوغر الصدور بالأحقاد لتكون له الطاعة العليا.
قال الدينوري: «... وأكثر من استجاب له - للمختار - همدان وقوم كثير من أبناء العجم الذين كانوا بالكوفة، ففرض لهم معاوية وكانوا يسمون بالحمراء، وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألفا ... وجمع ألف رجل من الفعلة بالمعاول، وتتبع دور من خرج إلى قتال الحسين بن علي فهدمها وجعل يستقصي من ظفر به منهم، وأمر أن يكون عطاءهم وأموالهم لأبناء العجم الذين كانوا معه ... ومكث المختار يطلب قتلة الحسين وتجبى إليه الأموال من السواد والجبل وأصبهان والري وأذربيجان والجزيرة ثمانية عشر شهرا، وقرب أبناء العجم وفرض لهم ولأولادهم الأعطيات، وقرب مجالسهم وباعد العرب وأقصاهم وحرمهم فغضبوا من ذلك.»
92
ويقول الطبري في هذا المعنى: «المختار معه عبيدكم - عبيد أهل الكوفة - ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم ... وانظروا كل من شهد منهم - من أشراف الكوفة - قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله فيقدمه فيضرب عنقه؛ حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلا قد كان يؤذيهم أو يماريهم أو يغريهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم ... وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين ... الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به ورمحا طعنهم به وطالب وترهم والقائم بحقهم، إنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لي ثم اتبعوهم حتى تفنوهم ... اطلبوا في قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم وأنقي المصر منهم.»
93
فترى أن الضعف الداخلي كان جليا كل الجلاء في الحركة المختارية، فالتجأ أشراف الكوفة إلى مصعب بن الزبير والي البصرة لأخيه عبد الله بن الزبير، وجعلوا يعينون الزبيريين بكل ما لديهم من مال وقوة، ويشجعونهم على تجهيز حملة ينتقمون بها لسيطرتهم المضاعة وأملاكهم المفقودة، فتربص ابن الزبير ليرى ما سيكون بين بني أمية والمختار.
وجه المختار لقتال عبيد الله بن زياد «يزيد بن أنس» مع ثلاثة آلاف فارس، فالتقى مع مقدمة الجيوش الأموية في «بنات تلي» من أعمال الموصل، فقتل وانهزم أصحابه، وأخذوا يتسللون ويرجعون إلى الكوفة، وقد أسقط في يد المختار آنئذ؛ إلا أن ابن الأشتر الشجاع جمع صفوفه وخرج إليهم بجيشه وأمعن في السير حتى جاوز الحدود العراقية وأوغل في الموصل، فالتقوا في «باربيثا» على الخازر - وبينها وبين الموصل خمسة فراسخ - وكانت جموع ابن الأشتر من الأعاجم، حتى لقد روى لنا الدينوري أن عمير بن الحباب - أحد قادة الشام - قال له قبل المعركة: «لقد اشتد غمي منذ دخلت عسكرك، وذلك أني لم أسمع فيه كلاما عربيا، وإنما ملك هؤلاء الأعاجم وقد جاءوك صناديد أهل الشام وأبطالهم، وهم زهاء أربعين ألف رجل، قال إبراهيم: وما قوم أشد بصيرة في قتال أهل الشام من هؤلاء الذين تراهم معي، وإنما هم أولاد الأساورة من أهل فارس والمزاربة»،
94
وقد انضم عمير هذا إلى ابن الأشتر وكان قيسيا ونادى في قيس: يا لثارات مرج راهط، فنكسوا أعلامهم وانهزموا، فأعمل ابن الأشتر ورجاله السيف في الأمويين، فدب الرعب في صفوفهم، فقتل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير وغيرهما من القادة المشهورين، وغلب ابن الأشتر على الموصل وبعث عماله على سنجار ودارا وما والاها من أرض الجزيرة.
95
سطع نجم المختار في الديار العراقية بعد معركة الخازر وتشتيت شمل الجيش الأموي ومقتل قائده عبيد الله بن زياد، ولم يبق أمامه لتأمين استقلاله إلا طرد الزبيريين من البصرة، وكانوا أصحاب الحول والقوة في الجنوب، كذلك ابن الزبير؛ فإنه بعد انكسار الأمويين أمام المختار رأى أن مجابهته واقعة لا بد منها، فأخذ كل من الفريقين يستعد للوثوب بصاحبه ولضربه ضربة قاضية لا يرجو الحياة من بعدها، فأرسل ابن الزبير أخاه مصعبا واليا على البصرة ليناظر أعمال المختار ويراقبها مراقبة شديدة، وقد كان الأشراف الكوفيون يستنجدون مصعبا على قتال المختار ويهيئون له أسباب الفتح، ويبثون الدعوة ضد المبادئ الدينية الجديدة التي قام يؤيدها، ويقولون: إنه من الذين يودون القضاء على النفوذ العربي واستبداله بالنفوذ الفارسي، أما يد الزبير البطاشة في قتال المختار فكان المهلب بن أبي صفرة صاحب الوقائع المشهورة مع الخوارج فاستقدمه من فارس ومعه الجموع العديدة والأموال الكثيرة، ويظهر لنا أن ابن الأشتر بعد فتحه الجزيرة أراد استثمار الأرباح التي وعده بها المختار في الموصل آنفا، فتقاعد عن مساعدته وتهاون في أمره، فأجبر على إسناد القيادة في جيشه لأحمر بن شميط، فالتقى الجيشان في «المذار» وتزاحفا ثم اشتبكا في معركة دموية قتل بها القائد ابن شميط وقسم عظيم من جموعه، وتراجعت البقية الباقية إلى الكوفة، ولو دققنا في الأسباب التي أدت إلى هذا الانكسار المريع لتحققنا أنها ترجع للمنافسة الشديدة بين العرب الأشراف أصحاب الإقطاعات الواسعة والموالي عبيدهم، فأحب الكوفيون أن ينتقموا لأنفسهم فاستمالوا عبد الله بن وهب بن أنس أحد قادة المختار - وهو من أشراف الكوفة أيضا - وأوعزوا إليه أن يوقع بالموالي والعبيد الفرس، فأشار على أحمر بن شميط أن لا يركب هؤلاء الخيل ليثبتوا في ساحة الوغي لدى اشتداد القتال، وليصابروا حين الأزمة فلا يولوا الأدبار على متونها، فعمل برأيه وكان لا يتهمه ففتكوا بهم فتكا ذريعا.
ويثبت لنا الطبري مناصحة عبد الله بن وهب بن أنس لابن شميط وقوله له، فيروي: «إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشي، فمرهم فلينزلوا معك فإن لهم بك أسوة، فإني أتخوف إن طوردوا ساعة وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على متونها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدا، وإنما كان هذا منه غشا للموالي والعبيد لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالا لا ينجو منهم أحد ولم يتهمه ابن شميط، وظهر أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا»،
96
وقد انتقم الأشراف الكوفيون من الموالي انتقاما هائلا، فلم يدركوا منهزما إلا قتلوه ولا أسيرا إلا ضربوا عنقه.
فلما علم المختار ما أصاب جيشه في «المذار» صمد لهم في «حروراء» أو «نهر البصريين»، وحال بينهم وبين الكوفة، وحصن قصره فيها وأدخل إليه المؤن والذخيرة، فحمل عليه أصحاب مصعب حملة شعواء وانقضوا على رجاله وأعملوا فيهم السيف، حتى ليصف بعض المؤرخين حالهم بقوله: «كأنهم أجمة فيها حريق.»
97
فلم يبق أمام المختار إلا التحصن في قصره ومناوشة أعدائه، ولكن كيف يتأتى له الفوز والثبات أمام مصعب، وأهل الكوفة أنفسهم من أعظم أعدائه وأشدهم بلاء عليه، فكانت لا تخرج فرقة من رجاله من القصر لقتال الزبيريين إلا رموهم بالحجارة وصبوا عليهم الماء القذر، ثم قطع مصعب عنهم الماء والمادة، أما جيشه فكان يأتيه الإمداد بواسطة السفن في الفرات.
ويروي لنا المؤرخون أنه كان يبني سفنه هذه من قصب واسط ولم تكن بنيت بعد،
98
واستحكمت الضائقة في صفوف المختار، حتى لقد كانت نساء الجند تأتي أزواجها ببعض القوت، فأجبر مصعب أن يضع الحرس لمنع النساء من القدوم نحو الحصن، ويذكر لنا الطبري ذلك فيقول: «... فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء قد التحفت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها فدخلت على زوجها وحميها بطعامه وشرابه ولطفه ... فجعل المصعب دوريا حتى يمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم ... وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر، ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه ليغير طعمه فشربوا منه.»
99
ثم استقتل المختار وخرج من قصره مع بعض جنده فخر صريعا، ونزلت بقية الجيش على حكم مصعب فأعدمها وجلها من العجم، وكان يود لو يبقي على العرب ويطلق لهم الحرية فتغلبت عليه العصبية الدينية دون العصبية الجنسية فساقهم جميعا للموت، وكان مقتل المختار في 14 رمضان سنة 64ه/683م، وذلك بعد أن ثبت في قصره نحوا من أربعة أشهر.
والخلاصة أننا قد أسهبنا لك في وصف الأسباب التي دفعت ابن الزبير لمطاولة الأمويين وكفاحهم كفاحا مستمرا، أما سياسة الشدة التي اتبعوها فيما بعد فقد جعلت ابن الزبير وأمثاله يسقطون أمامهم الواحد إثر الأخر، وسنأتيك في الفصل التالي على إيراد أشكال هذه السياسة وتطوراتها. ا.ه.
الفصل الرابع
سياسة الشدة ومظاهرها
(1) الأمويون والشدة
أقدم الأمويون على اتباع سياسة الشدة والاتهام على الظنة بعد أن سادت الفوضى في الأقطار العربية وعمت الثورة مختلف الساحات الشامية والعراقية والحجازية، فلو أجلت نظرك في خارطة البلاد الإسلامية لرأيت أن الزعماء كانوا ينازعون المركزية الأموية نزاعا عظيما، ويسعون جهدهم للاستقلال والمحافظة على نفوذهم، فوطد ابن الزبير أركان دولته في الحجاز والعراق، وساعد التوابين وأنصار المختار والأزارقة، فراح هؤلاء جميعا يلقون بذور الفتنة من أقصى فارس إلى أقصى مصر، ويحرضون الناس على خلع الأمويين واستئصالهم، ولطالما سعوا لأن يضربوا آل أمية بعضهم ببعض، فأزهرت جهودهم وكادت تثمر لولا سياسة الشدة التي اتبعها عبد الملك بن مروان وولاته. (2) مظاهر سياسة الشدة
تظهر سياسة الشدة الأموية حسب اعتقادنا في مظاهر أربعة لا بد لنا من تفصيلها وبيان حقيقتها، فالمظهر الأول هو بطش عبد الملك بن مروان بالزعماء الشاميين وعلى رأسهم عمرو بن سعيد بن العاص، أولئك الذين أرادوا الاحتفاظ بحقوقهم السياسية وابتغوا تحطيم التاج المرواني بأية وسيلة ممكنة.
وأما المظهر الثاني فهو الانتقام من الزبيريين وأحزابهم انتقاما هائلا يريك أن المصلحة السياسية لا ترحم صديقا ولا تشفق على خليل، بل تذبح كل من يقف عثرة في سبيلها.
وأما المظهر الثالث فهو إخفات الثورات الداخلية - وأشهرها ثورة ابن الأشعث - بالدم والحديد.
وأما المظهر الرابع فهو إخلاص الولاة الأمويين - وفي طليعتهم الحجاج بن يوسف - إخلاصا تاما في تنفيذ هذه السياسة.
تسنم عبد الملك بن مروان عرش الخلافة سنة 66ه/685م، فعول على البطش بأعدائه حيثما كانوا، وباشر الأمور بنفسه فلم يكلها إلى غيره، ومما لا ريب فيه أن اعتناء عبد الملك بمراقبة كل صغيرة وكبيرة من شئون دولته أيقظ النفوس الهاجعة وعرفها معنى التدبير والحزم. (2-1) عبد الملك وعمرو بن سعيد بن العاص
لم يكد عبد الملك يدير أحكام دولته حتى قام عمرو بن سعيد بن العاص - وهو من الزعماء الأمويين المعروفين الذين كانت لهم يد قوية في تثبيت دعائم الحكم المرواني - يطالب بالخلافة ويدعي أنها من حقه، وأن مروان بن الحكم أوصى له بها، وانقسمت الأحزاب الأموية إلى فرقتين، فرقة تؤيده وتناصره، وفرقة تهوى هوى عبد الملك وتسعى لنشر لوائه، فدخل العقلاء بينهما قبل أن تشتعل نيران حرب عديدة طاحنة، وبينوا لهما ما يصيب الأمويين من جراء هذه الفتنة، وأظهروا خطورة موقفهم تجاه الأعداء المحدقين بهم، فتوصلوا إلى عقد معاهدة بين الطرفين موادها ما يأتي:
المادة الأولى:
يتفق عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد أن يكونا مشتركين في الملك، فيكون مع كل عامل لعبد الملك شريك لعمرو بن سعيد.
المادة الثانية:
يتسمى عبد الملك باسم الخلافة، فإن مات عبد الملك فالخليفة من بعده عمرو بن سعيد.
المادة الثالثة:
لا يقطع عبد الملك شيئا دون عمرو بن سعيد ولا ينفذ أمرا إلا بمحضره.
1
لو درسنا هذه المعاهدة درسا دقيقا لتحققنا أن هذه الشروط التي عقدت بين الطرفين لا يمكن تنفيذها؛ إذ لم يسبق أن رأينا في التاريخ الإسلامي خليفتين لكل منهما عامل في الولايات، وهل من المعقول أن لا يشتبك أنصار الطرفين في معارضة بعضهما البعض، فتصبح الفوضى هي الحاكمة الناهية بدلا من السيدين المطلقين، ثم إننا لو أضفنا هذا إلى ما نعرفه من صلابة عبد الملك وحبه الشديد لإدارة زمام الدولة بنفسه لتأكدنا أن عبد الملك لم يقدم على تصديق هذه المعاهدة إلا ليطاول عدوه ويجد فرصة ينتهزها للوثوب به، قال الدينوري في هذا المعنى: «... وكان روح بن زنباع من أخص الناس بعبد الملك، فقال له - وقد خلا به يوما: يا أمير المؤمنين هل من رأيك الوفاء لعمرو؟ فقال: ويحك يا ابن زنباع، وهل اجتمع فحلان في هجمة قط إلا قتل أحدهما صاحبه»،
2
وكان عمرو بن سعيد رجلا معجبا بنفسه متهاونا في أمره مغترا بأعدائه، فساعد ذلك عبد الملك على كيده والتدبير عليه.
3
صمم عبد الملك على اغتيال عمرو بن سعيد بن العاص، فأدنى مجلسه وقربه وأحسن إليه، ولم يرد له أمرا فارتاح هذا لسياسته، فدعاه مرة إلى قصره فقدم آمنا مطمئنا، فغدر به وذبحه عبد الملك بيده ذبح النعاج، ولما قدمت فئة من أنصاره لتثأر له رمى عبد الملك ببدر الأموال إليها مع رأس القتيل فاهتموا بجمعها والتقاطها، فكان للأصفر الرنان التأثير الكبير على نفوسهم حتى أنهم لم يحفلوا بالرأس، وقد وصف لنا الطبري والدينوري هذا الحادث وصفا دقيقا، فقال الأول: «بعث عبد الملك إلى عمرو أن ائتني ... ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه وأذن له، فدخل ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك فإذا حوله بنو مروان ... فلما رأى جماعتهم أحس بالشر ... ثم أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك وقال: ها هنا يا أبا أمية يرحمك الله، فأجلسه معه على السرير وجعل يحدثه طويلا، ثم قال: يا غلام خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أوتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك، فأخذ السيف عنه ... أمر عبد الملك بعمرو فصرع وجلس على صدره فذبحه ... وانتفض عبد الملك رعدة فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره.»
4
وقال الثاني: «... وأحس أصحاب عمرو بذلك وهم بالباب فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمائة صرة قد هيئت وجعل في كل صرة ألف درهم، فأمر بها فأصعدت إلى أعلى القصر، فألقيت إلى أصحاب عمرو مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس ملقى وأخذوا المال وتفرقوا ... ثم أخذ عبد الملك من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلا فضرب أعناقهم وهرب الباقون فلحقوا بعبد الله بن الزبير.»
5
لم نفكر البتة أن يقوم عبد الملك بذاته ويصرع عمرو بن سعيد، ولكن هي سياسة الشدة والرهبة، فلا تبقي على أحد يقف في سبيلها، وقد اعترف عبد الملك بذلك فصرح لأبناء عمرو بن سعيد حين قدموا عليه بقوله: «إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم.»
6 (2-2) القضاء على الحركة الزبيرية في العراق والحجاز
صفت الأحوال لعبد الملك في الشام واستقرت له الأمور بعد مقتل عمرو بن سعيد وإعماله السيف في أتباعه، فوجه وجهه نحو العراق المضطرب بنيران الفتن والفوضى، وكان مصعب واليا عليه لأخيه عبد الله بن الزبير، فبذل جهده في تهدئة الثورات وإرضاء الزعماء، ولكن كان الخرق قد اتسع فأصبح العراق مقرا لمختلف الشيع السياسية المتضاربة في آرائها ومبادئها، فتمكنت الأزارقة من بث دعوتها في البصرة، ورتع أنصار المختار وفلول التوابين في الكوفة والمدائن، وقام الأمويون يسعون لاستجلاب أحزاب تؤيدهم؛ ولذلك كان حكم العراق على مصعب أمرا عسيرا، وقد أراد عبد الملك أن يضرب مصعبا ضربة قاسية، وأن يستفيد من الاضطراب السائد في بلاد الرافدين، فجهز جيشا قويا وسار به نحو العراق وناجز مصعبا في معركة «دير الجاثليق» على الدجيل، ففاز عليه وقتله واحتز رأسه سنة 71ه/690م.
وإنا لنعتقد أن عبد الملك فاز على مصعب وقضى على الحركة الزبيرية في العراق للأسباب الآتية:
أولا:
انتهز عبد الملك الفرصة وهاجم الزبيريين في العراق قبل أن يحملوا عليه في عرينه الشام «فتعشى بهم قبل أن يتغدوا به»، ويكون لهم الوقت الكافي للاستعداد، وقد أكد لنا الدينوري ذلك فقال: «... ولما صفا الأمر لعبد الله بن الزبير ودانت له البلدان إلا أرض الشام، جمع عبد الملك بن مروان إخوته وعظماء أهل بيته فقال لهم: إن مصعب بن الزبير قد قتل المختار ودانت له أرض العراق وسائر البلدان ولست آمنه أن يغزوكم في عقر داركم، وما من قوم غزوا في عقر دارهم إلا ذلوا، فما ترون؟ فتكلم بشر بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين: أرى أن تجمع إليك أطرافك وتستجيش جنودك وتضم إليك قواصيك، وتسير إليه وتلف الخيل بالخيل والرجال بالرجال والنصر من عند الله، فوجه رسله إلى كور الشام.»
7
ثانيا:
استمال عبد الملك الكثيرين من أشياع مصعب، فوعدهم بالصلات الحسنة والمناصب السنية، فالتحق قوم من جنده بعبد الملك يوم معركة دير الجاثليق، واعتزلت ربيعة عنه، ولم يثبت معه إلا أهل الحفاظ وإبراهيم بن الأشتر قائد المختار المشهور، وكان قد انضم إلى مصعب بعد أن اختلف مع المختار، وأسند هذا الأخير قيادة الجند المختارية لأحمد بن شميط، ولدينا من الوثائق التاريخية ما يؤكد لنا أن ابن الأشتر أحب الانضمام إلى عبد الملك والتخلي عن مصعب إذ وعده الأمويون بالعراق، وهاك اعترافه الصريح بهذا المعنى: «رأيي اتباع أهل الشام ... ولكن ليس قبيلة تسكن الشام إلا وقد وترتها.»
8
ثالثا:
أحب العراقيون الإخلاد إلى الراحة والسلام، خصوصا بعد ما رأوا ضعف الزبيريين أمام القوى الأموية، وما حل ببلادهم من الخراب والدمار حينما أصبحت ساحة للقتال، فهموا بغدر مصعب والاستسلام لعبد الملك، يدلنا على ذلك ما قاله قيس بن الهيثم يحرضهم على الثبات ويحذرهم من الشاميين بقوله: «ويحكم لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فوالله تطمعوا بعيشكم ... ليضيقن عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح أن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف واحدنا على ألف بعير، وأن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.»
9
رابعا:
كان مصعب بطلا، وقد شهد له بذلك عبد الملك نفسه، ولسنا بحاجة إلى إثبات شجاعته، فقد روى الفخري أن عبد الملك قال يوما لجلسائه: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: لا، لكن أشجع الناس من جمع في داره بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين (يعني مصعبا)،
10
ومع هذا كله فلم يستصحب معه القادة الأكفاء أصحاب البصر في الحروب والدربة في قيادة الجند كالمهلب بن أبي صفرة وغيره، فقد ذكر لنا الطبري أنه: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أفمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا، استعمله على الموصل . قال: أفمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة. فقال: وأنا بخراسان:
خذيني فجريني جعار وأبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
11
ولم يكن لمصعب علم بالفنون الحربية وإن ربي في بيت شجاعة وفروسية، بينما كان عبد الملك شابا مدربا مارس القتال وشهد المعارك وعرف أبواب الحيلة فيها على أنواعها.
خامسا:
قاد عبد الملك من الشاميين كل قادر على حمل السلاح، وقد أجبر - في بعض الأحيان - على استعمال القسوة مع الذين أرادوا التخلف عن القتال والانزواء في بيوتهم حبا بالعافية والسلامة. فكان له جيش عديد، حتى إنه «لما نظر أصحاب مصعب إلى كثرة جموع عبد الملك تواكلوا وشملهم الرعب.»
12
أما ساعد عبد الملك القوي في تجنيد الجند وتجهيز الجيوش فكان الحجاج بن يوسف، فاستعمل هذا الشدة مع المتقاعسين عن القتال. وقد أكد لنا ذلك العقد الفريد فقال: «لما استقرت البيعة لعبد الملك أراد الخروج إلى مصعب، فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلطني عليهم، فوالله لأخرجنهم معك. قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمر على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره، فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا.»
13
ولما تم لعبد الملك الاستيلاء على العراق بعث عماله على البلاد وأكثر الحامية في المصرين وبذل للناس في العطاء، وقد أقام حفلة كبرى في الخورنق بعد استيلائه على الكوفة دعى إليها الأشراف والوجوه، فجلسوا معه وتحادثوا وإياه، ثم مدت الموائد فأكلوا وشربوا، وطاف القصر يشاهد آثاره الباقية وأطلاله الدارسة. ويمكنا أن نعد هذه الحفلة من الوجهة السياسية الفصل الأخير من فصول الحركة الزبيرية في العراق. (أ) القضاء على الحركة الزبيرية في الحجاز
خفقت الأعلام الأموية على العراق بعد أن قتل عبد الملك صديقه وعشير صباه مصعبا، حبا بتوطيد ملكه وتنفيذا لسياسة الشدة التي اتخذها غايته الأولى وهدفه الذي لا هدف بعده في إدارة أحكام الدولة. نعم لم يبق أمامه إلا ابن الزبير في الحجاز، فوضع نصب عينيه مقاومته والقضاء على حركته، وقد ساعده على ذلك عوامل ثلاثة:
العامل الأول:
خضعت العراق لعبد الملك فأسقط في يد ابن الزبير إذ حرم منها الرجال والذخيرة والمادة، فأصبح جيشه في حال بائسة، لا سيما وكلنا يعلم فقر الحجاز ونضوب مواردها. وقد وصف مشاهد غنى الجند الأموي الذي وجهه عبد الملك إلى مكة فقال: «وأصحابه - للحجاج قائد الحملة - متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشام تحمل الطعام والكعك والسويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب. ولقد ابتعنا من بعضهم كعكا بدرهم فكفانا إلى أن بلغنا - الجحفة - وإنا لثلاثة نفر.»
14
العامل الثاني:
أحب الحجازيون - بحكم السابقة - الاستسلام للأمويين بعد أن هدأت العراق ورضخ سكانها للحكم الأموي، فتخلوا عن ابن الزبير وأعلموه أن مصيره للهلاك، إذ من العبث مقاومة عبد الملك وهم فقراء معدمون، فوصف لنا مشاهد عياني أيضا كيفية خذلان الحجازيين لابن الزبير فقال: «رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه، وخذله من معه خذلانا شديدا، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف. وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخبيب فأخذا منه لأنفسهما أمانا»،
15
وعاجل عبد الملك ابن الزبير ليضعف قوى الحجازيين المعنوية، فأرسل إليه الجيوش، وقد فعل ذلك عملا برأي الحجاج، فقال له: «إنك يا أمير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يعمل فكره ويستجيش ويجمع أنصاره وتثوب إليه فلاله كان في ذلك قوة له، فأذن في معاجلته لي.» فأذن له.
16
العامل الثالث:
بخل ابن الزبير على أصحابه ورجاله، فتفرقوا عنه وتقربوا من الأمويين الذين أسرفوا في شراء دين الناس واجتذاب قلوبهم. وقد ذكر لنا عبد الملك أنه تغلب على ابن الزبير لخصال ثلاث استحكمت فيه، وهي: «عجب قد ملأه واستغناء برأيه وبخل التزمه، فلا يسود بها أبدا.»
17
والحقيقة التي نود تقريرها أن بخل ابن الزبير جعل الأحزاب العراقية وغيرها تتخلى عنه وتنضم إلى الأمويين. وقد ذكر لنا العقد الفريد أن الوفود الكوفية كانت تقدم عليه ولا تحظى بشيء من المال. قال : لما قتل المصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد خرج حاجا فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق، فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل العراق، لم أدع لهم بها نظيرا لتعطيهم من هذا المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله، والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم بل لكل عشرة رجلا. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام كما قال أعشى بكر بن وائل:
علقتها عرضا وعلقت رجلا
غيري وعلق أخرى ذلك الرجل
أحببناك نحن، وأحببت أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك. ثم انصرف القوم من عنده خائبين، فكاتبوا عبد الملك ابن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.
18
كانت هذه العوامل كلها تعمل للقضاء على الحركة الزبيرية، فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف قائدا للحملة الحجازية وعددها سبعة آلاف، فسار من العراق حتى نزل بالطائف. وكانت رحى المعارك تدور على جبل عرفة بين الفريقين إلى أن تم للحجاج حصر ابن الزبير في الكعبة، ثم تحصن الأمويون في جبل أبي قبيس ورموا منه الكعبة بالمنجنيق، وجعلوا يدخلون عليه المسجد فيشد عليهم إلى أن قتل سنة 73ه/692م، وكان حصر الحجاج لابن الزبير نحوا من ثمانية أشهر.
وأظهر عبد الله بن الزبير من ضروب الشجاعة في ثباته على القتال ما ظل حديث العرب بعد مماته زمنا طويلا. وأثبت المؤرخون موقفه في ساعاته الأخيرة واجتماعه بأمه أسماء بنت أبي بكر وتحريضها إياه على الثبات في سبيل المبادئ التي قضى لأجلها أتباعه، وتدلنا الأحاديث المؤثرة التي جرت بين الأم وولدها على البطولة النسوية المشبعة بروح العروبة وحرارة الإسلام، وهاك حديثهما:
عبد الله بن الزبير :
خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟
أسماء بنت أبي بكر :
أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق؛ فلما وهن أصحابي ضعفت. فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن.
عبد الله بن الزبير :
هذا والله رأيي والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن يستحل حرمه، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فأنظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم يجره في حكم الله ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني.
أسماء :
إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك.
عبد الله :
جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد.
أسماء :
لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق، اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
19
وردد عبد الله بن الزبير في آخر أيامه هذا البيت:
لسنا على الأعقاب تدمي كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتمادى الحجاج في الانتقام من ابن الزبير، فإنه سلخ جلده وحشاه تبنا وصلبه،
20
فتخلص الأمويون بموته من عدو رهيب جبار. (2-3) إخفات الثورة الأشعثية
كان العراق مركز المعارضة ومحرك الثورات ضد الأمويين، فالتجأ إليه زعماء الأحزاب الغاضبة من مختلف الجهات، ولا بد لنا من القول إن العراقيين كانوا دوما يتوقون للاستقلال ويحنون إلى استلام زمام الأحكام، ويودون لو تنتقل الخلافة إلى مصرهم ليصبحوا اليد العاملة في الحكومة العربية، فصادفوا من تشجيع الأحزاب المعارضة ما جعلهم ينتهزون الفرص للقيام في وجه الدولة الأموية كلما كانت تسنح الأيام بذلك، فعلم عبد الملك ذلك فيهم حق العلم، فالتجأ إلى القوة في سياستهم وعزز الحامية الأموية في بلادهم وفتك بالمعارضين المشاغبين، إن هذه التدابير كلها لم تجده نفعا؛ لأن للقوة تأثيرا وقتيا لا بد أن يزول حين يرتفع كابوسها. (أ) الأسباب التي هيأت ثورة ابن الأشعث في العراق
إنا لنعتقد أن الأسباب التي دعت العراقيين للثورة ودفعتهم لنصرة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وغيره من الزعماء تنحصر في عوامل لا بد لنا من درسها وتدقيقها:
العامل الأول: «الأمويون يسوقون العراقيين دوما للقتال»: جند الأمويون أهل المصرين ودفعوهم إلى مجاهل البلاد الفارسية والتركستانية السحيقة لفتحها وإعلاء كلمة الإسلام فيها؛ كيما يأمنوا شرهم وقلاقلهم في بلادهم، فإنهم طالما التحقوا بالزعماء النافخين في بوق الانفصال عن المركزية الأموية والداعين إلى نصرة آل البيت والمطالبة بحقهم في الخلافة، وصرح لهم الحجاج - مندوب عبد الملك السامي في العراق - بهذه الحقيقة علنا، فذكر لهم أن الدواء الناجع لقتل جرثومة الفوضى والثورة هو إرسالهم للفتح والغزو، فتستثمر الدولة قواهم الكامنة في الأعمال الصالحة بدلا من تحميلها ما لا قبل لها به من الفساد فقال: «يا أهل العراق إني لم أجد لكم دواء أدوأ لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الراحة بكم، وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، إنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حملت نفسي مقاساتكم ، والصبر على النظر إليكم، والله أسأل حسن العون عليكم.»
21
اتبع الحجاج هذه السياسة فجهز من العراقيين جيشا قويا يبلغ عشرين ألفا لفتح تركستان ومناجزة الأتراك، وقد أسند قيادة هذا الجيش لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أحد الزعماء الطموحين، فسار إلى بلاد الترك وجعل يفتتح مدنها ويضمها إليه ويبعث إليها عماله ويضع الأرصاد على الشعاب والمسالح في الأمكنة المختلفة، وكان من رأيه أن لا يتقدم ويوغل في الفتح حتى يتعرف المسلمون إليها ويجترئون على طرقها، ثم يمعن فيها بعد ذلك غزوا ويضربها ضربة قاضية، فلا يجازف بأرواح المسلمين ولا يرمي بهم في التهلكة ولا يسوقهم إلى الموت، فغضب الحجاج لهذه الخطة التي سلكها ابن الأشعث فضعف رأيه وكتب له: «... إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم.»
22
ولم يبعث الحجاج على الكتابة لابن الأشعث بمثل هذه اللغة القاسية إلا السياسة التي تقول بالفتح مهما كلف هذا الفتح من الضحايا، لا سيما إن كانت «على حساب» العراقيين الغاضبين في عرف الحجاج، فعول ابن الأشعث على رفع راية العصيان ورمي أوامر الحجاج عرض الحائط، فاعتلى منبر الخطابة في جيشه وصرح لهم أنه لم يدفعهم إلى المجاهل السحيقة في تركستان حبا بالمحافظة على أرواحهم، وأن خطته التروي في درس أحوال البلاد وجغرافيتها قبل الإقدام على فتحها دفعة واحدة، ثم استنهض هممهم ووصف لهم ما قاساه أسلافهم من المذلة والمهانة، وما أصابوه من الجوع والبؤس، فقال من خطاب له: «يا أيها الناس، إني لكم ناصح ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولي التجربة للحرب منكم فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هلكت إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم، فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله ولا نسمع ولا نطيع.»
23
وقام أحد المفوهين من الزعماء المقربين لابن الأشعث وبين للجند طمع الحجاج واهتمامه بالغنائم قبل اهتمامه بأرواح المسلمين، ووجوب بيعتهم لقائدهم الشجاع وجهاد الحجاج بدلا من جهاد عدوهم، فقال: «... إن الحجاج - والله - ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء الذي لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع، فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.»
24
والغريب أن ابن الأشعث لم يقدم في البدء على خلع عبد الملك، بل ظل مترددا حتى قدم فارس، ثم تم رأيه على خلعه أيضا والمناداة بنفسه خليفة للمسلمين، يدلنا هذا أن ابن الأشعث حينما اقترب من فارس والعراق لدى رجوعه وجد الأفكار مهيئة للثورة ولقبول زعيم نشيط يعرف كيف يقود الأمة في جهادها ضد الأمويين وولاتهم العتاة، وقد بايعه الناس على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين.
العامل الثاني: «الولاة الأمويون في العراق وقسوتهم»: أسند الأمويون ولاية المصرين إلى رجال قساة لا يعرفون الرحمة ولا تتخلل الشفقة إلى قلوبهم، فاتبعوا سياسة الشدة بحذافيرها، وراحوا يتهمون الناس على الظنة، فجردوا السيف على الرءوس وأعملوا السوط في الظهور، وجعلوا السجن مقبرة للزعماء المعارضين، ولو تصفحنا تاريخ الولاة الأمويين في العراق أمثال زياد ابن أبيه وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وغيرهم لتحققنا أن ملك بني أمية لم يقم إلا على سيوفهم، ولا تتوطد أركانه إلا على أسنتهم، فمنعوا الشعب أن ينتقد سياسة الحكومة أو يندد بأعمال رجالها أو يسدد سهام غضبه إلى مبادئها، وكانوا يحرصون على ذلك حرصا شديدا، حتى إنهم أجبروا مرارا على ارتكاب كثير من الفظائع في سبيل تنفيذ هذه السياسة، وقطعا لألسنة الناس المريرة، وسادت سياسة القسوة في الحجاز أيضا فحرموا على الحجازيين إيواء العراقيين المعارضين للحكومة الأموية في بلادهم، وهددوا من يخالف هذه القوانين بالإعدام، وإني مورد لك أشهر الخطب التي عثرت عليها لهؤلاء الولاة لتتعرف تماما إلى ما نقصد بسياسة الشدة والإرهاب، ولتفهم معنى خنق الحرية الكلامية والسياسية خنقا لا حياة لها من بعده.
أشهر خطبة لزياد ابن أبيه في البصرة وتعرف بالبتراء ... أما بعد ... فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والعمى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، وتشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير ... ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم هذه المواخير المنصوبة والصفقة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل، ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار ... ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ... إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعيد فقد هلك سعد، أو تستقيم لي قناتكم ...
وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما أغرقناه، ومن حرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا، فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم أكف عنكم يدي ولساني، ولا يظهرن من أحدكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم ضربت عنقه ...
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة ... نسوسكم سلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحيينا، ولكم علينا العدل فيما ولينا ... واعلموا أن مهما أقصر فيه فلن أقصر عن ثلاثة، لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانة، ولا مخمدا لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك أسفكم ... وايم الله، إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.
25
من خطاب لخالد بن عبد الله القسري والي مكة في عهد الوليد
يا أيها الناس ... إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلا. أيها الناس ... فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات، فإني والله ما أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا ولا تقولوا كيت وكيت، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة ورآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قوما من أهل الخلاف يقدمون عليكم ويقيمون في بلادكم، فإياكم أن تنزلوا أحدا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هو البلاء الأعظم.
26
من خطاب لعثمان بن حيان المري والي المدينة في عهد الوليد
أيها الناس ... إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا أهل
27 ... هم أهل الشقاف والنفاق، هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه، والله ما جربتهم قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم الأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم، فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدا منهم أو أكراه منزلا ولا أنزله إلا هدمت منزله وأنزلت به ما هو أهله.
ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب - وهو مجتهد على ما يصلح رعيته - جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي، إني رأيت العراق داء عضالا وبها فرخ الشيطان، والله لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج وكيف ولم ... فإذا خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل، لم يصلحوا على عثمان فلقي منهم الأمرين، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة وانغلوا البلدان، والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم.
ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدا فبسط عليهم السيف وأخافهم فاستقاموا له، أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم، والله ما رأينا شعارا قط مثل الأمن ... والله ما أنتم بأصحاب قتال ... فدعوا عيب الولاة، فإن الأمر إنما ينقض شيئا فشيئا حتى تكون الفتنة وبين الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد.
28
أشهر خطب الحجاج بن يوسف
وجه كلمته هذه لبعض الثوار في العراق:
أما بعد ... فإنكم استخلصتم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون ولا عن منكر تنهون، وايم الله إني لأهم أن يكون أول ما يرد عليكم من قبلي خيل تنسف الطارف والتالد، وتدع النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خرابا، والسواد بياضا ... والسعيد من وعظ بغيره. والسلام.
29
ومن خطب الحجاج في الكوفة
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله إني لأحمل الشر محمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى قد شمرت عن ساقها تشميرا ... إني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء وجزيت إلى الغاية القصوى، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا ؛ فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن الغي، أما والله لألحونكم لحو العود ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعد إلا وفيت ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول، فيما أنتم وذاك، والله لتستقيمن على سبل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده.
30
وللحجاج أيضا:
شاهت الوجوه، إن الله ضرب مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وأنتم أولئك وأشباه أولئك فاستوسقوا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تذروا العصيان، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف ولتدعن الإرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر وما الهبر، أو لأهبرنكم بالسيف هبرا يدع النساء أيامى والولدان يتامى، وحتى تذروا السهمى وتقلعوا عن ها وها، إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا.
31
ومن خطب الحجاج في الكوفة
أما والله لا تقرع عصا بعصا إلى جعلتها كأمس الدابر.
32
وله أيضا:
يا أهل ...
33
يا أهل الشقاق، يا أهل النفاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتيكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي ويبتليني بكم فأجاب دعوتي، ولكنني سرت البارحة فسقط سوطي مني، فاتخذت هذا - وأشار إلى سيفه - مكانه، فوالله لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها ولأفعلن ولأفعلن ولأفعلن.
وقال الحجاج بعد معركة دير الجماجم في العراق - وسنأتي على وصفها: «يا أهل ... إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، ثم أفضى إلى الأسماع، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج فحشاكم نفاقا وشقاقا وأسعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعون ومؤامرا تشاورونه، فكيف تنفعكم تجربة أو ينفعكم بيان، ألستم أصحابي بالأهواز حتى رمتم المكر وأجمعتم على الكفر، وظننتم أن الله عز وجل يخذل دينه وخلافته ، وأنا أرمقهم بطرفي وأنتم تسللون لواذا، وتنهزمون سراعا، يوم الراوية ما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، ويراه الله فيكم وقلوص وليكم إذا وليتم، كالإبل الشاردة على أوطانها النوازع، لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الشيخ على بنيه حين عضكم السلاح ونخستكم الرماح، يوم دير الجماجم، وما يوم الجماجم، به كانت المعارك والملاحم.
ضرب يزيل الهمام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
يا أهل ... اللذات بعد الفجرات، والعقلات بعد الحزات، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم عللتم وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تتذكرون نعمة ولا تشكرون معروفا، هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استفزكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلا لبيتم دعوته وأجبتم صيحته ونفرتم إليه خفافا وثقالا وفرسانا ورجالا، يا أهل ... هل شغب شاغب أو نغب ناغب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره، يا أهل ... ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته ويذقكم حر سيفه وأليم بأسه ومثلاته؟!»
34
وله أيضا:
يا أهل ... وأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وعبيد العطاء وأولاد الإماء، ألا يرفأ الرجل منكم صلعة، ويخسر حمل رأسه وحقن دمه، ويبصر موضع قدمه، والله ما أرى الأمور تمضي حتى أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وتأديبا لما بعدها.
35
أما وقد أثبتنا لك هذه الخطب فيمكننا أن نقول: إنها لا تخلو من التهديد والوعيد والإهانة والتنديد. ثم إننا نشتم منها رائحة الدعوة المنظمة ضد العراقيين، فأحب الأمويون أن يظهروا ثوراتهم بمظهر الحركات الداعية إلى التدمير والتقتيل والتخريب، ولطالما استمسك بنو أمية بعروة الخلافة وبينوا جلالها وأهميتها الدينية، فادعوا أن الله ناصرها ومذل أعدائها، وأن الذين يسعون في الخلاف عليها هم الكفرة الفجرة، ولا غرابة في ذلك، فالعاهل الأموي كان خليفة رسول الله، ومن يخرج على الخليفة فإنما يخرج على رسول الله، ومن يخرج على رسول الله فإنما يخرج على الله ومقره جهنم وساءت مصيرا، ذلك هو تعلقهم بالحق الإلهي في حكم الأمم
Divine Right Theary ، فنرى أن سياسة الشدة والإرهاب كانت عاملا كبيرا في إشعال نيران الثورات ضد الأمويين في العراق.
العامل الثالث: «ابن الأشعث طموح يسعى للاستقلال»: لم يركب ابن الأشعث مركب الثورة الخشن ، ولم يقدم على العصيان إلا لما كان يجول في صدره من الأطماع، فود الانفصال عن الأمويين والسيطرة على العراق وغيره من الأقطار إن بسم له الزمن وساعدته الأيام، وقد عرف ذلك فيه الحجاج بن يوسف فبعثه إلى فتح تركستان، وكانت قد أنهكت جيوش الأمويين علة لا يئوب منها.
وروى لنا كل من الطبري والدينوري أن الحجاج كان يضمر لابن الأشعث حقدا هائلا ويرى إعدامه، والظاهر أيضا أن ابن الأشعث بادله هذا البغض، فاستلم قيادة الجند وفي نفسه ما في نفسه من الإيقاع بالحجاج والثورة عليه، قال الطبري: وكان الحجاج، وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله،
36
وذكر عن لسان ابن الأشعث أنه قال: «وأنا ... إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء»،
37
وقال الدينوري: «كان الحجاج يقول: ما نظرت إلى عبد الرحمن قط إلا اشتهيت أن أضرب عنقه.»
38
نفرت الناس إلى ابن الأشعث حينما اقترب من العراق، وهب الغاضبون من كل صوب إلى اللحاق به، فكثرت جموعه حتى قاربت المائة ألف، إنه مهما يكن من المبالغة في هذا العدد فلا شبهة أن مركز الحجاج أصبح مزعزع الأركان ضعيفا لا يلبث أن يسقط إن لم يتداركه الأمويون بالنجدات المتوالية. فعمد عبد الملك إلى مخابرة ابن الأشعث وسماع مطاليبه، وعرض عليه أولا نزع الحجاج عن العراق وإجراء الدولة العطاء على العراقيين كما تجريه على أهل الشام، ثانيا: الخيار لابن الأشعث في حكم أي مصر شاء من العراق ما دام حيا.
وقد أرسل عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان إلى ابن الأشعث ليتفقا معه، فتخلص له طاعته ويحقن دماء المسلمين، وكان من رأي ابن الأشعث أن يعقد الصلح مع الأمويين وينزل عند مطاليبهم، لكن عاملان اعترضا سبيله وجعلاه يرجع خائب الآمال. الأول: نشاط الحجاج إلى إقناع عبد الملك أن العراقيين لا يلبثوا أن يخالفوه ويسيروا إليه ويجدوا في حربه إن خلعه عنهم وأعطاهم ما شاءوا، ولا يزيدهم ذلك - في عرفه - إلا جرأة وعداء، وذكر له أن الحديد بالحديد يفلح، وقد وقف الحجاج هذا الموقف لأن منصبه أصبح على شفا جرف هار، فكان له ما أراد، والثاني: اعتقاد العراقيين أنه بوسعهم طرد بني أمية من العراق؛ خصوصا بعد أن تغلبوا على جيوش الحجاج في المناوشات الأولى وفازوا باحتلال البصرة والكوفة، فقالوا: «إن الله قد أهلكهم - جند الحجاج - فأصبحوا في ... والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة، ولا والله لا نقبل فأعادوا خلعه - لعبد الملك - ثانية.»
39
انسحب الحجاج من البصرة إلى الشمال بعد أن جعلها مقرا لأعماله الحربية، وذلك حينما وجد جموعه قليلة نسبة للجموع الأشعثية، ولم تكد البصرة تسقط بأيدي الثوار حتى وثبت الكوفة وطردت عامل الحجاج عنها فاحتلها ابن الأشعث، وقد طاول الحجاج ابن الأشعث إلى أن أتته النجدات المتواصلة من الشام، ثم التقى به في «دير الجماجم» - موضع قريب من الكوفة - وأخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وقد دامت المعركة نحوا من مائة يوم - 2 ربيع الأول إلى 15 جمادى الأخرى سنة 83ه/702م - حتى تم الفوز للحجاج، فهرب ابن الأشعث إلى الفلوجة ومنها للبصرة، وبدأت فلوله تأتيه من الأطراف وتجتمع إليه من الجهات، وراح يستعد لمناجزة الحجاج الوقيعة، فاشتبك الفريقان في «مسكن» على دجيل، فانهزم العراقيون ومضى ابن الأشعث إلى سجستان حيث قضى مسلولا، ويقال: إن رتبيل ملك تركستان احتز رأسه وأرسله إلى الحجاج بشرط أن لا تغزى بلاده مدة عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنة تسعمائة ألف، والمهم أن حركة ابن الأشعث التي أيدت لنا نفور العراقيين من الحكم الأموي أخمدت بالسيف، وتتبع الحجاج الزعماء الذين ناوءوه وجهدوا عليه الجهد كله، فأعدم معظمهم، وكتب إلى عماله في الجهات أن لا يبقوا على أحد منهم. (3) إخلاص الولاة الأمويين في العراق وتفانيهم في تنفيذ سياسة الشدة
إذا أردنا أن يكون لنا صورة حية تمثل خضوع الولاة الأمويين في العراق لسادتهم الأمويين وإخلاصهم لهم الإخلاص التام في السر والعلن ومحافظتهم على طاعتهم مهما كلفهم ذلك من التضحية؛ فلنأخذ الحجاج بن يوسف مثلا صادقا. (3-1) الحجاج بن يوسف: حياته، أعماله
ولد الحجاج بين سني تسعة وثلاثين وإحدى وأربعين هجرية، و659 و661م في قرية الكوثر من أعمال الطائف، وأمه الفارعة بنت همام، وكانت عند المغيرة بن شعبة فطلقها فتزوجها بعده يوسف أبو الحجاج،
40
وكان في صباه معلما يقرئ صبيان قريته القرآن الكريم، نستشهد على ذلك بقول الشاعر:
أينسى كليب زمان الهزال
وتعليمه صبية الكوثر
41
وغلبت عليه الفصاحة واشتهر بالخطابة والأدب، فعد من أشهر الخطباء والأدباء في العصر الأموي، وقد روى لنا الجاحظ أنه: «قال عبد الملك لخالد بن سلمة المخزومي: من أخطب الناس؟ قال: أنا، قال: ثم من؟ قال: سيد جذام (يعني روح بن زنباع)، قال: ثم من؟ قال: أخيفش ثقيف (يعني الحجاج)، قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين، قال: ويحك جعلتني رابع أربعة؟ قال: نعم هو ما سمعت.»
42
وقال أبو العلاء: «ما رأيت أحدا أفصح من الحسن ومن الحجاج»، وقال عتبة بن عمرو: «رأيت عقول الناس يقرب بعضها من بعض إلا الحجاج وأياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.»
43
وكان متين الأخلاق شريفا، فلم يتعاط الخمرة ولم يسكر، حتى إنه رفض أن يحتسيها مع الخليفة الوليد الأول، قال ابن عساكر: وتغدى الحجاج يوما مع الوليد، فلما انقضى غداؤهما دعاه الوليد إلى شرب النبيذ، فقال: يا أمير المؤمنين، الحلال ما حللت، ولكني أنهى عنه أهل عملي، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح: وما أريد أن أخالفكم لما أنهاكم عنه.
44
واشتهر باستحسانه للجرأة الأدبية وبغضه للنفاق، فيروى أنه خطب الحجاج يوما فقال: «أيها الناس، الصبر على محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال له: ويحك ما أصفق وجهك وأقل حياءك، تفعل ما تفعل ثم تقول مثل هذا، فأمر به فأخذ، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت علي، فقال له: يا حجاج، أنت تجترئ على الله تعالى ولا تنكره على نفسك ، واجترأت عليك فأنكرت علي، فخلى سبيله.»
45
وقال المدائني: «أتي الحجاج بأسيرين ممن كان مع ابن الأشعث، فأمر بضرب أعناقهما، فقال أحدهما: أصلح الله الأمير إن لي عندك يدا، قال: وما هي؟ فقال: ذكر ابن الأشعث أمك يوما بسوء فنهيته، قال: من يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر، فسأله الحجاج فقال: قد كان ذلك، فقال له: لم لم تفعل مثل ما فعل؟ قال: أينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم، قال: لبغضك وبغض قومك، فقال الحجاج: خلوا عن هذا لصدقه وعن هذا لفعله.»
46
وبلغت به الصراحة حدا أنه عدد عيوبه فقال: «أنا لجوج حقود حسود»،
47
وأولع الحجاج بتزيين نفسه وترتيب هندامه، حتى لقد قال فيه ابن بردة - أحد أشراف العراق: «كان عدو الله يتزين تزين المومسة، ويصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، فإذا نزل عمل عمل الفراعنة، وأكذب في حديثه من الدجال.»
48
أما فلسفته في الحياة فترمي إلى الحث على الأعمال الصالحة؛ لأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وكانت مواعظه كلها تحض على التقوى ومخافة الله واليوم الآخر، وهاك أشهرها: (1) «ألا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، رجل خطم نفسه وزمها فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وكبحها بزمامها عن معصية الله.» (2) «امرؤ زود نفسه، امرؤ اتهم نفسه على نفسه، امرؤ اتخذ نفسه عدوة، امرؤ حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرؤ نظر إلى ميزانه، امرؤ نظر إلى حسابه.» (3) «أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا على غائب الآخرة، وا قهراه، وأطول الأمل بقصر الأجل.» (4) «امرؤ غفل عن الله تعالى، امرؤ أفاق واستفاق فأبغض المعاصي والنفاق وكان إلى عند الله بالأشواق، امرؤ ذهبت ساعة من عمره لغير ما خلق لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.»
49 (5) «امرؤ زود عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجرا وعند همه ذاكرا، امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله قبله وتبعه وإن قاده إلى معصية الله كفه.»
50
وغالى بعض الناس في قولهم: إنه لم يعتقد بالله ولا بالإسلام، ولعل ذلك ناتج عن إسرافه في سفك الدماء حبا بتوطيد نفوذ الأمويين، والحقيقة أنه كان يرى في الإسلام بلسما وملجأ، نستشهد على رأينا هذا ببيتين من الشعر قالهما في أخيه محمد بن يوسف لما أتاه نعيه:
حسبي ثواب الله من كل ميت
وحسبي بقاء الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيا
فإن شفاء النفس فيما هنالك
51
وقال عمر بن عبد العزيز - وكان يبغض الحجاج: «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه للقرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يقولون إنك لا تفعل»، وقال حين حضرته الوفاة:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا
بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم
ما علمهم بكثير العفو غفار
52
وكان بدء حياته السياسية انخراطه في سلك الشرطة، فترقى فيها لنشاطه وجلادته حتى أصبح رئيسا لشرطة عبد الملك حينما خرج لقتال مصعب بن الزبير في العراق، وقد أبدى من المهارة والإخلاص والتضحية في خدمة الأمويين ما دعا عبد الملك إلى إسناد قيادة الحملة الحجازية لتأديب ابن الزبير إليه، فجرى على سياسة الشدة والإرهاب، فأعدم المتخلفين من الجند والزعماء، فهابوه ونفذوا أوامره بتمامها، وكان يقدم الشجعان والمخلصين ويغمرهم بعطاياه، فصار له حزب من الجند يأتمر بأمره ويسعى لاكتساب رضاه، وولي بعد ذلك مندوبا ساميا للخليفة على الحجاز واليمامة، ثم انتقل لمثل منصبه في العراق، وبقي فيه نحوا من عشرين عاما، ساس خلالها البلاد بيد من حديد، فأخفت الثورات وأرسل الجيوش لفتح تركستان والهند - وسنصف الفتوح في حينها - وقد مات الحجاج سنة 95ه/713م وله من العمر أربع وخمسون عاما.
جاهد الحجاج في أعداء الأمويين جهادا عظيما، فقتل وأسرف في القتل، حتى ليقال إنه قتل صبرا مائة وعشرين ألفا ومائة وثلاثين ألفا،
53
وأحصي بمحبس الحجاج في واسط ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين،
54
لسنا لنحاسب المؤرخين على هذه الأرقام الضخمة، لكننا نعتقد اعتقادا أكيدا أن الحجاج لم يتأخر عن إعدام المعارضين للأمويين ونفيهم وسجنهم، وصرح مرة أنه مستعد للتنكيل بكل من لا يطيع عبد الملك، فقال من خطاب له في البصرة: «اتقوا الله ما استطعتم، فهذه لله وفيها مثوبة، واسمعوا وأطيعوا فهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان، والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد وأخذوا في باب غيره لكانت دماؤهم لي حلالا من الله»،
55
ويذكر الطبري: «لما قرأ عليهم - أهل الكوفة - كتاب عبد الملك قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فقال له - أي قال الحجاج للقارئ: «اقطع يا عبيد العصا»، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام، هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب فلما بلغ إلى قوله «أما بعد، سلام عليكم» لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله.»
56
لم يخدم الحجاج الأمويين حبا بالثروة التي قد يجمعها من ورائهم، بل طاعة لهم ومحبة بهم، فقد مات ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ومضجعا وسيفا وسرجا ورحلا ومائة درع موقوفة. ا.ه.
الفصل الخامس
الفتوح الأموية
قام الأمويون بفتوحهم العظيمة حينما استتبت لهم الأمور في البلاد، وهدأت نيران الثورات، واستظل الناس في بحبوحة العيش الرغيد، فأقدموا على توسيع رقعة المملكة الأموية في ساحات ثلاث، هي الساحة البيزنطية والساحة الشرقية والساحة الإفريقية الأوروبية. (1) الفتوح في الساحة البيزنطية
أطلقنا على الساحة الأناضولية اسم الساحة البيزنطية لأنها كانت تخضع للبيزنطيين في القسطنطينية، ويدعوهم العرب في مصنفاتهم بالروم، ولأن الأمويين أشعلوا لهم في هذه الديار حربا ضروسا بقيت زمنا طويلا، ويمكننا أن نقول: إن هذه الحرب هي عبارة عن سلسلة من الغزوات المتقطعة امتدت من عهد معاوية الأول إلى سقوط الدولة الأموية في الشام، وقد تتابعت هذه السلسلة من الغزوات أيضا على عهد العباسيين. (1-1) ملطية، طرندة
فلما ولي معاوية الأول الشام فتح «ملطية» عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين، وشحنها بالجنود الشامية والجزرية، وأكثر فيها العدة والسلاح، وكل همه من ذلك أن يجعلها محطة يضرب بها المسلمون الروم دائما، فتبقى طريقا للصوائف العربية، وقد انتهز البيزنطيون الفرصة أيام الحركة الزبيرية فأغاروا عليها وشعثتها قواهم، وأنزلوها قوما من الأرمن والنبط وغيرهم من النصارى، فبذلت الجيوش الأموية جهدها في تثبيت أقدامها في الأناضول، فحصنت «طرندة» سنة 83ه/702م، وبنت بها المساكن وهي على بعد ثلاث مراحل من ملطية، وكانت الطوالع من جند الجزيرة والشام تقيم بها في الصيف، فإن نزل الشتاء وتساقطت الثلوج قفلوا عنها، ورحل عمر بن عبد العزيز أهل طرندة عنها وأباح لهم السكنى في ملطية، وحصنها وجهزها بالجند لاعتقاده أنها أكثر ثباتا على مقاومة العدو، وذلك لمناعة موقعها الحربي، ولم يتهاون البيزنطيون في أمر ملطية، فخرج إليها منهم عشرون ألفا سنة 123ه/740م فثبت العرب فيها واستقتلت النساء العربيات، فروى لنا البلاذري أنهن ظهرن على السور وعليهن العمائم فقاتلن. (2) الثغور الشامية أو العواصم
وكانت لمسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد اليد الطولى في هذه الفتوح، فسقطت أمام جهودهما حصون طوانة وقسطنطين وغزالة والأخرم وأذرولية وغيرها كسمسطية وماسة والحديد، وكلها من ناحية ملطية، وفتحا كذلك حصني سوسنة وبولس من أعمال المصيصة، وهي مدينة على شاطئ جيحان تقارب طرسوس، ويقول عنها معجم البلدان: إنها «من مشهور ثغور الإسلام، وقد رابط بها الصالحون قديما، وبها بساتين كثيرة يسقيها نهر جيحان، وكانت ذات سور وخمسة أبواب، ومن مصنوعاتها الفراء تحمل إلى الآفاق وربما بلغ الفرو منها ثلاثين دينارا.»
1
وبنى المصيصة على أساسها القديم عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ووضع بها سكانا من الجند فيهم ثلاثمائة رجل انتخبهم من ذوي البأس والنجدة المعروفين، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى فيها مسجدا فوق تل الحصن.
2
والمهم من كل ما قدمناه أنه كان للمسلمين على الحدود الأناضولية السورية ثغور تعرف بالثغور الشامية، وقد سماها الرشيد العباسي فيما بعد «بالعواصم » وهي أنطاكية وما جاورها، فكانت الجيوش الأموية تسير منها إلى الحصون والمسالح البيزنطية فتنهبها وتعمل فيها السيف والنار؛ خصوصا في المنطقة الواقعة ما بين الإسكندرونة وطرسوس اليوم، وكان أهلها يخلونها بأيام الصوائف أو يصمدون للأمويين إن عاونتهم حكومة القسطنطينية وشحنتها بالمقاتلة والذخيرة، وطالما كمن أهل هذه الديار للكتائب الأموية فأصابوا غرة المتخلفين والمنقطعين عنها، فخلف لذلك الولاة فيها الجند الكثيف إلى حين خروجهم. (2-1) معاملة الفاتحين لسكان سورية
ولا يغرب عن بالنا أن المسلمين لدى فتحهم البلاد السورية عاملوا أهلها معاملة طيبة، وأسندوا إليهم المناصب الجليلة، ولم يتداخلوا في شرائعهم، فأبقوا لهم محاكمهم وقضاتهم، فاستفادت بعض العناصر المغلوبة على أمرها من هذا التساهل وراحت تتواطأ مع الروم على المسلمين كالجراجمة واللبنانيين، أما الجراجمة فهم من الجرجومة، وهي مدينة على جبل اللكام بين بياس وبوقا، فلما فتح أبو عبيدة بن الجراح أنطاكية ثانية بعد غدرها ونقضها عهوده الأولى غزا الجرجومة، فبدأ أهلها بطلب الصلح والأمان ولم يقاتلوه، فعقد معهم صلحا تضمن الشروط الآتية:
أولا:
يصالح المسلمون الجراجمة على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام.
ثانيا:
لا يأخذ المسلمون الجزية من الجراجمة.
ثالثا:
ينقل الجراجمة أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حربا في مغازيهم.
رابعا:
يدخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح. وقد سمي هؤلاء بالرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم.
3
فنرى أن هذا الصلح لا يعقده غالب مع مغلوب لما هو عليه من التساهل وحسن المعاملة، ولا شبهة أن الجراجمة كانوا أقوياء الشكيمة شديدي المراس، فأحب أبو عبيدة أن يستفيد من صداقتهم، فعقد معهم هذا الصلح الشريف الضامن نوعا لاستقلالهم، غير أنهم كانوا لا يستقيمون للولاة الأمويين، فيثورون المرة تلو المرة ، ويكاتبون البيزنطيين ويمالئونهم، وإذا غزت الصوائف قطعوا على اللاحق والمتخلف من المسلمين وأعملوا فيه السيف، فأجبر معاوية الأول - اتقاء لشرهم - أن ينقل إلى السواحل السورية قوما من زط البصرة سنة 49-50ه/669-670م، وقد وهب لهم الأرضين وبذل لهم في العطاء كيما يكونوا شوكة في عين الجراجمة.
الجراجمة
لما استفحل أمر ابن الزبير ودانت له الحجاز والعراق، وقام عمرو بن سعيد يطلب الخلافة، هاجم البيزنطيون جبل اللكام، فحالفهم الجراجمة وراحوا يساعدونهم ويبثون دعوتهم، وقد تم لهم الفوز والغلبة حتى أخضعوا لبنان لسلطانهم وكادوا يستولون على دمشق، فاضطر عبد الملك بن مروان يومئذ إلى أن يؤدي للجراجمة ألف دينار في كل جمعة، وأن يصالح البيزنطيين على مال يؤديه لهم مخافة أن يخرجوا إلى عاصمته فيغلبون عليها.
عرف الأمويون أنه لا مناص لهم من التغلب على الجراجمة حفظا للتخوم الشامية الشمالية، واستبقاء للثغور التي افتتحوها في الساحة البيزنطية، فوجه إليهم الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك سنة 89ه/707م، فأناخ عليهم وخرب مدنهم وقراهم وأجبرهم على قبول الشروط الآتية:
أولا:
ينزل الجراجمة بحيث أحبوا من الشام ويجري على كل امرئ منهم ثمانية دنانير وعلى عيالاتهم القوت من القمح والزيت، وهو مديان من قمح وقسطان من زيت.
ثانيا:
لا يكره الجراجمة ولا أحد من أولادهم ونسائهم على ترك النصرانية.
ثالثا:
يلبس الجراجمة لباس المسلمين.
رابعا:
لا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية.
خامسا:
يغزون مع المسلمين فينقلون أسلاب من يقتلونه مبارزة.
سادسا:
يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال المسلمين،
4
فسكن بعضهم حمص وغيرها من الأمكنة المجاورة لها، واستجلب الوليد بن عبد الملك أيضا بعض الزط فبعث بهم الحجاج إليه ومعظمهم من الأسرى الذين قبض عليهم محمد بن القاسم في السند، فسار بذلك على خطة معاوية الأول، ولا ريب عندنا أن جماعات النصيرية في بلاد العلويين من أعمال سورية قد ورثوا كثيرا من العقائد النصرانية والهندية لاختلاط الجراجمة والزط بهم، وإنا لنوجه أنظار من يدرسون العقائد النصيرية إلى هذه النقطة في أبحاثهم.
اللبنانيون
كان اللبنانيون يحالفون الجراجمة ويكاتبون البيزنطيين، ويرجع ذلك في اعتقادنا للرابطة الدينية التي تربط هذه الجماعات بعضها ببعض، فعاملهم الأمويون بالرحمة والعدل، فأخلدوا للسكينة، فلما قامت الدولة العباسية أجلت الفئة الثائرة منهم عن بلادها، وكادت تبطش بالبقية الباقية، لولا نصيحة الإمام الأوزاعي ووساطته في حمايتهم، والأوزاعي مدفون في ضاحية بيروت.
قال البلاذري في هذا الصدد ما يأتي: «خرج بجبل لبنان قوم شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح بن علي بن عبد الله بن عباس من قتل مقاتلتهم، وأقر من بقي منهم على دينهم وردهم إلى قراهم، وأجلى قوما من أهل لبنان ...» فكتب الأوزاعي إلى صالح رسالة طويلة حفظ منها: وقد كان من أجلاء هذه الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف يؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى
ألا تزر وازرة وزر أخرى ،
5
وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإنه قال: «من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيره.»
6 (2-2) الحملة على القسطنطينية
صمم الأمويون مرارا على مهاجمة البيزنطيين في عقر دارهم، فيستولون على الأناضول والقسطنطينية وينشرون لواء الإسلام في أوروبا، ويقطعون كل أمل للعناصر الثائرة في سورية كالجراجمة وغيرهم من التطلع إلى الحماية الأجنبية، فيحبطون بذلك كل المؤامرات والدسائس الداعية لقتل نفوذهم في الشام، فجرد معاوية الأول حملته المشهورة بقيادة سفيان بن عوف فكان نصيبها الفشل، وقد أسهبنا في وصفها في كتابنا «معاوية بن أبي سفيان»، فعزم سليمان بن عبد الملك الخليفة الشاب على افتتاحها مهما كلفه الأمر، فجهز جيشا بلغ مائة وعشرين ألفا سنة 98ه/716م بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، فعبر الخليج وحاصر المدينة وضيق على أهلها كل التضييق؛ حتى أنهم قبلوا أن يعطوا عن كل رأس دينارا إن رجع عنها فأبى إلا فتحها عنوة، فالتجأ أحد زعمائهم - البطريق لاوون - إلى الحيلة، فوعد مسلمة أن يفتح له أبواب المدينة إن تنحى عنهم بجيشه وأمدهم بالطعام، واستوثق منه الأمان لنفسه ولذويه، فأمدهم وتنحى عنهم جانبا إلى بعض الرساتيق ليطمئنوا، وأعد البطريق لاوون السفن والرجال فنقلوا في ليلة ذلك الطعام ولم يتركوا منه إلا ما لم يذكر حسب رواية ابن العبري،
7
وأصبح لاوون محاربا. وقد ذكر المؤرخون أن لاوون خدع مسلمة خديعة يعاب عليها.
ومهما بالغ المؤرخون العرب في أمر هذه الحيلة، فالحقيقة كل الحقيقة أن البرد الشديد والثلوج الكثيفة والجوع وصعوبة المواصلات بين القيادة العامة للجيش والعاصمة دمشق والعصابات البلغارية التي استجاشها لاوون للفتك بالجند من ورائه والأسطول الذي سد دونهم سبل البحار، كل هذه العوامل سببت فشل الحملة وأنهكت قواها، وقد نزل مسلمة بفناء القسطنطينية ثلاثين شهرا، فشتى وصاف.
ووصف لنا ابن العبري والطبري ما أصاب هذه الحملة من الآلام والشدائد، فقال الأول: «ولقي جنده ما لم يلقه جيش آخر، حتى كان الرجل يخاف أن يخرج من العسكر وحده من البلغاريين الذين استجاشهم لاوون، ومن الإفرنج الذين في السفن، ومن الروم الذين يحاربونهم من داخل، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق»،
8
وقال الثاني: «وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب.»
9
ولم يفكر الأمويون بعد هذا الفشل بغزو القسطنطينية لما أصاب البلاد من الإحن الداخلية التي سببت سقوطهم وأدت إلى زوال ملكهم، وظلوا محافظين على ثغورهم في الساحة البيزنطية إلى أيامهم الأخيرة. (3) الفتوح في الساحة الشرقية
كان للأمويين القدح المعلى في الفتوح شرقا، فهم الذين مهدوا السبل لنشر المدنية العربية والتعاليم الإسلامية بين الأمم الفارسية والتركستانية والهندية والصينية، فسيروا جيوشهم إلى الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وبذلوا الضحايا الجسيمة في سبيل الاستيلاء على هذه الأقطار، وقد نجحوا في استجلابهم قسما كبيرا من هذه الأمم إلى الحظيرة الإسلامية نجاحا باهرا، غير أنهم لم يتمكنوا من التغلب على لغاتها المختلفة المتباينة تغلبا عظيما، فلم تمتصها اللغة العربية كليا، ولعل هذا ناشئ عن كثرة عددهم وارتحال قبائلهم وراء الماء والكلأ ، وقيام الدولة العباسية على سيوف الأعاجم أخيرا، فإنها اهتمت بنشر الإسلام أكثر من اهتمامها بنشر العربية وتعميمها، ولم يقم الأمويون بهذه الفتوح إلا حبا بالموارد الاقتصادية ودفعا لخطر الثائرين العراقيين وإعلاء لكلمة الله. (3-1) فتح طبرستان وجرجان
أما العراق فكان المركز العام للجيوش الفاتحة والمحطة الحصينة لتسيير الحملات الواسعة الواحدة إثر الأخرى إلى الشرق، وكان بدء المغازي في هذه الساحة على عهد عثمان بن عفان، فإنه أرسل سعيد بن العاص والي الكوفة سنة 29ه/649م إلى طبرستان فغزاها وصالح أهلها على مائتي ألف درهم، فكانوا يؤدونها إلى غزاة المسلمين، وكانت الجيوش الإسلامية لا تنفك عن غزوها، فربما أعطوا الأتاوة عفوا وربما أعطوها بعد قتال، وامتاز أهل طبرستان بالشجاعة وشدة البأس وممارسة القتال، فكانوا دائما يمتنعون من أداء الصلح، فظلوا يحاربون ويسالمون إلى أيام الدولة العباسية،
10
فلما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد تأديبهم، فأرسل مصقلة بن هبيرة على رأس جيش يبلغ عدده عشرة آلاف، فتوغل مصقلة بجيشه في بلادهم، فأخذ العدو عليه المضايق ورموا جنده بالصخور من أعالي الجبال، فهلكت الحملة عن بكرة أبيها وهلك مصقلة، فضرب الناس به المثل، فقالوا: حتى يرجع «مصقلة من طبرستان»،
11
فحذر قادة العرب من التوغل في البلاد الجبلية ذات المجاهل قبل التأكد من دراستها ومعرفة أحوالها معرفة تضمن لهم السلامة.
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة
لم تزل طبرستان ثائرة حتى قدمها يزيد بن المهلب في جند كثيف من أهل المصرين وأهل الشام، فأقام عليها وحاصر أهلها حصارا شديدا وقطع عنهم المادة والذخيرة، فكانوا يخرجون إلى يزيد ويقاتلونه قتال المستميت إلى أن عيل صبرهم فخضع دهقانهم المعروف «بصول» على أن يؤمنه على نفسه وأهل بيته وماله ويدفع إليه المدينة وما فيها وأهلها، فصالحه وقبل منه ووفى له، وقد أراد يزيد أن لا يقوم لسكانها الأتراك بعد هذا اليوم قائمة، فقتل منهم أربعة عشر ألفا دفعة واحدة،
12
وغنم جميع أموالها وكنوزها وسبيها.
ثم أتى جرجان فاستقبله سكانها بالأتاوة التي كان سعيد بن العاص صالحهم عليها، فقبلها وهابوه وأظهروا له الطاعة والخضوع، وكان من رأي يزيد أن يضرب أهل طبرستان وجرجان ضربة قاضية، فجعل يمهد فيها الطرق ويصلحها ويقطع الأدغال التي تعيق سير جنده ويتوغل في داخلها، فوثب به الجرجانيون ونقضوا عهودهم وغدروا به واستجاشوا بالديلم وحالفوا طبرستان فقطعوا عليه جميعهم مادته وطرق المواصلات بينه وبين العرب، فخرج منها وأصحابه كأنهم فل حسبما يذكر الطبري،
13
ولا ريب أن هذه الحملة شتتت شمل أهل طبرستان وجرجان، ولكنها لم تخضعهم إلى السلطة الأموية تمام الخضوع.
وكان أول من جدد البناء بجرجان يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، ونبغ بها رجال اشتهروا بالعلم والأدب وكتب الحديث والفقه، ويقول ياقوت الحموي: إنه يرتفع منها الإبريسم وثياب الإبريسم ويحمل إلى جميع الآفاق، كذلك الأحجار الكريمة.
14
أما يزيد بن المهلب بن أبي صفرة صاحب هذه الفتوح فكان واليا لخراسان بعد أبيه المهلب، وقد مكث فيها نحوا من ست سنين، فعزله عبد الملك بن مروان برأي الحجاج لمنافسة بين القائدين، وطالما خشي الحجاج من يزيد لما كان يرى فيه من النجابة والذكاء وعلو الهمة والكرم، وكيف لا يخافه وأهل العراق تميل إلى يزيد وترغب فيه وتوده لو يكون حاكمها وسيدها، فترصده بالمكروه فحبسه وعذبه، فتمكن من الهرب إلى الشام واستجار بسليمان بن عبد الملك فأجاره، وشفع له عند أخيه الوليد فأمنه وكف عنه.
ولا ريب عندنا أن أهل العراق كانوا ينضمون دائما إلى صفوف يزيد بن المهلب لأنه كان يكره سيطرة أهل الشام على العراق ويرى وجوب الانفصال عن الشام أو التغلب على الأمويين ورفع الإحن والمظالم التي سامها الحجاج للناس، فحث أهل المصرين مرة على مناصبة الشاميين العداء والتربص لهم، فقال من خطاب له بواسط: «... يا أهل العراق، يا أهل السبق والسباق ومكارم الأخلاق، إن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة قد رتبت لها الأشداق وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لهم بالمراء والجدال، فألبسوا لهم جلود النمور»،
15
فيمكنك إذن أن تميز بين هذه الخطبة وخطب الحجاج في العراقيين وما لها من التأثير في النفوس إن سيئا وإن حسنا.
قال ابن خلكان يصف المهلب: «وكان كريما جوادا، فقال فيه الأخطل الشاعر:
فما لسرير الملك بعدك بهجة
ولا لجواد بعد جودك جود
وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب ، كما لم يكن في بني العباس أكرم من البرامكة، وكان لهم في الشجاعة مواقف مشهورة»،
16
وظل يزيد واليا لخراسان إلى أن أفضت الخلافة لعمر بن عبد العزيز، وكان عمر يعتقد أن يزيدا أصاب أموالا كثيرة في فتوحه لجرجان وطبرستان ضمها لنفسه ولم يسلمها لبيت مال المسلمين، وقد مال إلى هذا الاعتقاد من قراءاته للرسائل التي بعث بها يزيد إلى سليمان، قال في بعضها: «قد فتحت طبرستان وجرجان ولم يفتحهما أحد من الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري، وإني باعث إليك بقطارات عليها أحمال الأموال والهدايا.»
17
ويظهر أن الخليفة عمر كان يكره آل المهلب ويقول: «هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم»،
18
وكان يزيد أيضا يبغض عمر ويظنه مرائيا، فترى أن البغضاء كانت متبادلة بين الطرفين، فحبسه الخليفة واستمر يزيد في سجنه إلى سنة 101ه/719م - أي إلى أيام عمر الأخيرة - ثم هرب مخافة أن يقع بين يدي يزيد بن عبد الملك المتزوج من آل أبي عقيل رهط الحجاج حالما يتسنم عرش الخلافة بعد وفاة عمر العادل، والحقيقة أن يزيد غالى في وصفه للغنائم وأسرف في ذلك كل الإسراف حبا بإعلاء كلمة سليمان بن عبد الملك سيده وصديقه واكتسابا للشهرة، فعاد هذا عليه بالوبال، وقد دافع يزيد عن نفسه بهذا المعنى دفاعا مجيدا، قال منه: «... كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت ولا بأمر أكرهه.»
19
ولحق يزيد بن المهلب بالبصرة فالتف حوله العراقيون، وطلب الخلافة وخلع يزيد بن عبد الملك، وأطاعه أهل الأهواز وفارس، فخرج في مائة وعشرين ألفا، فندبت له الحكومة الأموية مسلمة بن عبد الملك، فناجزه الوقيعة في عقر بابل ، وهي قرية تقع بالقرب من كربلاء،
20
فكسره وقتله وشتت شمل جيشه، وقال يزيد بن عبد الملك لما حمل إليه رأس يزيد بن المهلب: إن يزيد طلب جسيما وركب عظيما ومات كريما،
21
وهكذا قضى فاتح جرجان وطبرستان صريعا في العقر وهو يتطلب الاستقلال للعراق والسلطان لذاته.
وكان الحسن البصري إمام البصرة يومئذ يثبط الناس عن يزيد بن المهلب ويدعوهم إلى السلام والطاعة للخليفة والكف عن سفك الدماء ويزهدهم في النزاع والفتنة، وقد كان لأقواله تأثير كبير على الناس، فلم ينجدوا يزيد النجدة المطلوبة، بل أخذوا في إهمال أمره أخيرا، ومن أقوال الحسن البصري بهذا الصدد: «أيها الناس الزموا رجلكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضا على دنيا زائلة وطمع منها يسير ليس لأهلها بباق وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف النقي، فمن كان منكم خفيا فليلزم الحق وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفا، وكفى له به من الدنيا خلفا منكم، ومن كان معروفا شريفا فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك فواها لهذا ما أسعده وما أرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله، فهذا غدا - يعني يوم القيامة - القرير عينا الكريم عند الله مآبا.»
22 (3-2) فتح سجستان
وجه معاوية الأول ابن عامر واليا على البصرة، فأرسل هذا عبد الرحمن بن سمرة إلى سجستان فافتتح بعض مدنها عنوة والبعض الآخر صلحا، حتى بلغ كابل فحاصرها أشهرا ورمى حصونها بالمنجنيق فخضع أهلها.
23
وتشتهر سجستان برياحها الشديدة وطبيعتها الجبلية وجوها القاسي، ويمتاز أهلها بكبر الجثة والجلادة ومعظمهم من الفرس، وقد امتنعوا على بني أمية فلم يشتموا عليا على منابرهم ولم يلعنوه، ويقول معجم البلدان: «إن أهلها يعتمون بثلاث عمائم وأربع، كل واحدة لون، ما بين أحمر وأصفر وأخضر وأبيض وغير ذلك من الألوان على قلانس لهم شبيهة بالمكوك، ويلفونهم لفا يظهر ألوان كل واحدة منها، وأكثر ما تكون هذه العمائم إبريسم طولها ثلاثة أو أربعة أذرع، ولا تخرج لهم امرأة من منزل أبدا، وإن أرادت زيارة أهلها فبالليل، وبها كثير من الخوارج يظهرون مذهبهم ولا يتحاشون منه ويفتخرون به عند المعاملة.»
24 (3-3) فتح خراسان
تشتمل خراسان على أمهات من البلاد أشهرها نيسابور وهراة، ومرو - وكانت عاصمتها - وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس وما يتخلل ذلك من المدن التي هي دون نهر جيحون، فلما انتشر الإسلام فيها رغب الناس في تعاليمه ومبادئه، فأسرعوا إليه ودخلوا في حظيرته وصالحوا عن بلادهم، فلم يفتحها العرب عنوة ولم يتكبد سكانها الخسائر الجمة التي تأتي بها الحروب عادة، ولم يصابوا بالويلات التي أصيب بها أهل جرجان وطبرستان، فخف خراجهم ولم تسفك دماؤهم.
دخل المسلمون خراسان سنة 18ه/639م في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وقد تملك الأحنف بن قيس مدنها في مدة يسيرة، غير أن السيطرة الإسلامية لم يرسخ سلطانها في هذه الأصقاع إلا حينما وجه عثمان بن عفان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز إليها سنة 30ه/650م، ففتح ابن عامر «أبرشهر» عاصمة نيسابور صلحا بعد أن أمر أهلها وأكدوا له أن يؤدوا للخزينة كل سنة مليون درهم (1000000)، ثم احتل هراة وبادغيس وبوشنج وصالح أهلها، وحفظ لنا التاريخ نسخة من كتاب الصلح الذي عقده ابن عامر معهم وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ما أمر به عبد الله بن عامر عظيم هراة وبوشنج وبادغيس، أمره بتقوى الله ومناصحة المسلمين وإصلاح ما تحت يديه من الأرضين، وصالحه عن هراة سهلها وجبلها على أن يؤدي من الجزية ما صالحه عليه، وأن يقسم ذلك على الأرضين عدلا بينهم، فمن منع ما عليه فلا عهد له ولا ذمة.»
25
وكان الصلح على وصائف ووصفاء ودواب ومتاع وأن يوسعوا للمسلمين في منازلهم ... ولم يكن عند القوم يومئذ عين، ومضى بعد ذلك إلى طخارستان ومدينتها بلخ، ومرو الروذ فاحتلهما بعد قتال شديد ثم رمت الطالقان والفارياب والجورجان سلاحها وخضعت جميعها للمسلمين.
فلما كانت الحرب الأهلية المشهورة بين علي ومعاوية التاث أمر خراسان وانتقضت على العرب، وغدر أهلها بالحامية العربية في مختلف الحصون، ولم تزل كذلك حتى تم الأمر لمعاوية فحارب أرباب النكث وأخضعهم، وعمد إلى إرسال العيالات العربية إليها، فأمر زياد بن أبي سفيان أن يحول من المصرين زهاء خمسين ألفا إلى خراسان، فهدأت البلاد وأصبحت المقر العام للفتوح الإسلامية في الهند والسند والصين، وانتشرت المدنية العربية بين ظهراني سكانها، فكان منهم البرامكة والقحاطبة والطاهرية والساسانية وغيرهم من الجماعات المعروفة بالسخاء والجود، وقد نبع منهم رجال رفعوا للحديث والفقه والشريعة والأدب منارا عاليا كمحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وأحمد بن حنبل، وأبي حامد الغزالي، والفارابي، والزمخشري، وغيرهم من أرباب العلم والفضل.
26 (3-4) فتح ما وراء النهر
أسهب الجغرافيون العرب في وصف بلاد ما وراء النهر، وذكروا شيئا كثيرا من محاسنها وجمالها وأخلاق سكانها وطرق معايشهم، وفصلوا لنا تفصيلا تاما عن عمارة بلدانها وصادراتها، ولم أر وصفا دقيقا لهذه البلاد كوصف ياقوت لها، قال: «... ما وراء النهر من أنزه الأقاليم وأخصبها وأكثرها خيرا، وأهلها يرجعون إلى رغبة في الخير والسخاء واستجابة من دعاهم إليه ... مع شدة شوكة ومنعة وبأس وعدة وآلة وكراع وسلاح.
فأما الخصب فيها فهو يزيد على الوصف، ويتعاظم عن أن يكون في جميع بلاد الإسلام وغيرها مثله، وليس في الدنيا إقليم أو ناحية إلا ويقحط أهلها مرارا قبل أن يقحط ما وراء النهر، ثم إن أصيبوا في حر أو برد أو آفة تأتي على زروعهم ففي فضل ما يسلم في عرض بلادهم ما يقوم بأودهم حتى يستغنوا عن نقل شيء إليهم من بلد آخر، وليس بما وراء النهر من موضع يخلو من العمارة من مدينة أو قرى أو مياه أو زروع أو مراع لسوائمهم، وليس شيء لا بد للناس منه إلا وعندهم منه ما يقوم بأودهم ويفضل عنهم لغيرهم.
وأما مياههم فإنها أعذب المياه وأخفها، فقد عمت المياه العذبة جبالها ونواحيها ومدنها، وأما الدواب ففيها من المباح ما فيه كفاية على كثرة ارتباطهم لها وكذلك الحمير والبغال، وأما لحومهم فإن بها من الغنم ما يجلب من نواحي التركمان الغربية.
وأما الملبوس ففيها من الثياب القطن ما يفضل عنهم فينقل إلى الآفاق، ولهم القز والصوف والوبر والإبريسم، وفي البلاد من معادن الحديد ما يفضل عن حاجتهم في الأسلحة والأدوات ، وبها معادن الذهب والفضة والزئبق، وأما فواكههم فإنك إذا تبطنت الصغد وأشروسنة وفرغانة والشاش رأيت من كثرتها ما يزيد على سائر الآفاق.
وأما الرقيق فإنه يقع عليه من الأتراك المحيطة بهم ما يفضل عن كفايتهم وينقل إلى الآفاق، وهو خير رقيق بالمشرق كله.
وبها من المسك والزعفران ما ينقل إلى الأمصار الإسلامية وكذلك الأوبار من السمور والسنجاب والثعالب وغيرها.
وأما سماحتهم فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه دخل دار صديقه، لا يجد المضيف من طارق في نفسه كراهة، بل يستفرغ مجهوده في غاية من إقامة أوده من غير معرفة تقدمت ولا توقع مكافأة، بل اعتقادا للجود والسماحة في أموالهم.
والغالب على أهل ما وراء النهر صرف نفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوه الخيرات، وبما وراء النهر زيادة على عشرة آلاف رباط في كثير منها إذا نزل الناس أقيم لهم علف دوابهم وطعام أنفسهم.
وأما بأسهم وشوكتهم فليس في الإسلام ناحية أكبر حظا في الجهاد منهم، وذلك أن جميع حدود ما وراء النهر دار حرب، فمن خوارزم إلى أقصى فرغانة هم القاهرون للأعداء يمنعونهم من دار الإسلام.
وهم أحسن الناس طاعة لكبرائهم وألطفهم خدمة لعظمائهم؛ حتى دعا ذلك الخلفاء إلى أن استدعوا من وراء النهر رجالا، وكانت الأتراك جيوشا ذات بأس وإقدام وحسن طاعة، فقدم إلى الخلفاء «العباسيين» منهم جماعة صاروا قوادا وحاشية للخلفاء، ثم قوي أمرهم وتوالدوا وتغيرت طاعتهم حتى غلبوا على الخلفاء مثل الأفشين وآل أبي الساج، وهم من أشروسنة والإخشيد من سمرقند.»
27
ويراد بكلمة ما وراء النهر في عرف العرب كل المقاطعة الواقعة شرقي نهر جيحون، فهي تشتمل على بلاد الصغد وأشروسنة وفرغانة وألشاس وبخارى وغيرها، وكان معاوية أول من وجه وجهه نحو بلاد ما وراء النهر، فاستعمل عبيد الله بن زياد على خراسان وأوصاه بغزوها، فعبر النهر وعمره خمس وعشرون سنة ومعه جيش يتألف من أربعة وعشرين ألفا، ففتح بخارى وصالح أهلها على ألف ألف درهم (1000000)، ثم دخل بيكند - مدينة التجار - وتقع بين بخارى وجيحون ولها ذكر عظيم في الفتوح، قال صاحب كتاب الأقاليم: «... إن بها من الرباطات ما لا أعلم ببلد من البلدان من وراء النهر أكثر منها، بلغني أن عددها نحو ألف رباط، ولها سور عظيم ومسجد جامع به محراب ليس أحسن زخرفة منه.»
28
وولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان خراسان، فقطع النهر سنة 55ه/674م، وأقبل إليه أهل الصغد وكس ونسف في مائة وعشرين ألفا، فهزمهم وأفشى فيهم الجراح بمعركة بخارى، ودخل مدينة بخارى نفسها ظافرا كما دخلها عبيد الله بن زياد من قبله، وصالح أهلها على سبعمائة ألف درهم، وأخذ رهنا من أبناء عظمائهم لئلا ينقضوا عهودهم.
المهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم
لما تولى الحجاج العراقين وخراسان بذل جهدا عظيما في إتمام الفتوح المشرقية، وكان المهلب بن أبي صفرة ومحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم الباهلي قواده الكبار وسيوفه البتارة، فهم الذين نشروا لواء بني أمية حتى الصين، فغزا المهلب سنة 99ه/717م مغازي كثيرة، فأدت إليه الصغد الأتاوة وخضعت له كس ونسف وخجندة، وقد مات بزاغول من أعمال مرو الروذ حزنا على وفاة ابنه المغيرة، ولا نعلم تماما السنة التي ولد فيها، إنما يمكننا أن ندعي أن مولده كان قبل وفاة النبي بسنين، ولا شبهة أنك تذكر وقائعه مع الخوارج في البصرة والأهواز وما قام به من جليل الأعمال في الحركة الزبيرية، وأسندت إليه ولاية خراسان قبل وفاته، ولم يزل واليا بها إلى سنة 83ه/702م، وهو من القادة المجربين في الحرب، حتى إن ابن قتيبة في كتابه «المعارف» عابه بالكذب، ولكن لنذكر أن الحرب خدعة كما قال الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وعرف بكلمات ووصايا تناقلها الأدباء من بعده؛ أشهرها:
أوصى المهلب ابنه يزيدا بقوله: «يا بني استعقل الحاجب واستظرف الكاتب، فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسان»، وله في حسن السمعة والثناء الجميل: «الحياة خير من الموت، والثناء الحسن خير من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا إذا مت.»
29
ورثاه نهار بن توسعة الشاعر بقوله:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى
ومات الندى والجود بعد المهلب
لمع نجم قتيبة بن مسلم الباهلي بعد وفاة المهلب، فولاه الحجاج خراسان، فأتى بخارى وبيكند وغزاهما مع أنهما صالحا قبل ذلك، فأصاب فيهما كثيرا من آنية الذهب والفضة، فقوي جيشه واغتنى جنده وتنافسوا بشراء الخيل وحسن الهيئة والعدة وغالوا بالسلاح، فقال الكميت:
ويوم بيكند لا تحصى عجائبه
وما بخارى مما أخطأ العدد
30
ثم أرسل جيشا يتألف من عشرين ألفا بقيادة أخيه عبد الرحمن بن مسلم إلى الصغد، وأتاه بعد ذلك بنفسه مددا، فتحالفت الشاش وفرغانة مع الصغد على العرب ففتك بهم فتكا ذريعا، ورمى عاصمة الصغد سمرقند - مدينة الفيل - بالمجانيق فرضخت وقبلت التسليم حسب الشروط الآتية: (1)
يقبض مسلم ألفي ألف ومائتي ألف في كل عام (مليونين ومائتي ألف). (2)
يعطى مسلم تلك السنة ثلاثون ألف رأس ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب. (3)
يخلي الصغد مدينة سمرقند لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، ويخلف فيها حامية من المسلمين. (4)
يتخذ المسلمون بسمرقند مسجدا. (5)
يقبض قتيبة على بيوت النيران وحلية الأصنام.
31
وحرق المسلمون معظم الأصنام وبيوت النيران وسلبوا حليها، ويقال إنهم وجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال،
32
والمهم أن قتيبة كان لا يطمع من الغزو بالغنيمة فقط كما فعل أسلافه، بل جعل يشحن المدن التي يفتتحها بالعدة والرجال ويستخلف فيها آلات الحرب، ويعلن بها الأحكام العرفية؛ حتى إنه أوصى أخاه عبد الله بن مسلم حينما ولاه سمرقند بقوله: «لا تدعن مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلا مختوم اليد ... وإن وجدت معه حديدة سكينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها أحدا منهم فاقتله.»
33
ووصف الشعراء فتح سمرقند وما ناله المسلمون من الفوز فقال نهار الشاعر:
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا
ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
أعم لأهل الترك قتلا بسيفه
وأكثر فينا مقسما بعد مقسم
وقال كعب بن الأشعري - وينسب بعضهم هذه الأبيات لغيره وهي:
كل يوم يحوي قتيبة نهبا
ويزيد الأموال مالا جديدا
باهلي قد ألبس التاج حتى
شاب منه مفارق كن سودا
دوخ السغد بالقبائل حتى
ترك السغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه
وأب موجع يبكي الوليدا
كلما حل بلدة أو أتاها
تركت خيله بها أخدودا
أما بلاد الصغد فقصبتها سمرقند، وهي مشهورة ببساتينها ومزارعها وأرجائها، ويحيط بها سور له اثنا عشر بابا، من الباب إلى الباب فرسخ، وفي أعلاه الأبرجة للحرب،
34
وأعجب الجغرافيون بجمال الصغد، ففضلها الإصطخري على الغوطة فقال: «إن صغد سمرقند أنزه البلدان، وتشتبك في أوديتها الخضرة والبساتين، وقد حفت بالأنهار الدائم جريها والحياض في صدور رياضها وميادينها، وهي أزكى بلاد الله وأحسنها أشجارا وثمارا، وفي عامة مساكن أهلها المياه الجارية والبساتين والحياض، قل ما تخلو سكة أو دار من نهر جار.»
35
ومن مدن الصغد مدينة كس (أو كش)، تقع بالقرب من سمرقند، وهي نحو ثلاثة فراسخ في مثلها، حصينة وتكثر فيها الأوبئة القتالة والحميات المخيفة لانخفاضها.
36
وأما بقية بلاد ما وراء النهر فأشهرها أشروسنة، تقع بين نهر سيحون وسمرقند، وهي طيبة الهواء عذبة المياه كثيرة الجبال.
37
ومنها فرغانة، وهي كورة واسعة كثيرة الخيرات عظيمة الرقعة تضم الرساتيق الكبيرة والبساتين الجمة، أكبر مدنها خجندة وبها الأعناب والجوز والتفاح والورد والبنفسج وأنواع الرياحين والفستق، وليس بما وراء النهر أكثر من قرى فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم وزروعهم.
38
ومنها الشاش، وهي الثغر الكبير في وجه الترك، وبها الرباطات القوية، وتمتاز بعمران قراها ووفرة مساجدها.
وقد افتتح قتيبة كل هذه المدن التي وصفناها بعد عناء شديد، وكان ذلك سنة 94ه/712م، ولم يتمكن المسلمون من بلاد الصغد أو خوارزم إلا حينما اشتدت الحرب الأهلية بين سكانها، فذكر لنا كل من البلاذري والطبري أن شابا من العائلة المالكة يعرف ب «خرزاذ» أو «خرزاد»، أسس حزبا قويا في البلاد، وراح يظلم الشعب ويغتصب أمواله وأعراضه حتى ضاق المليك به ذرعا، فأرسل إلى قتيبة يدعوه وبعث في ذلك رسلا، وقد هيأ له أسباب الفتح، فتمكن من الانتصار وانتقم من الأحزاب المعارضة ورفع لواء الأمويين في تلك الجهات. والظاهر أن قبائل الصغد كانوا ينزلون خوارزم، فعرفت خوارزم ببلاد الصغد، وتجد المؤرخين العرب لا يفرقون بين البلادين، فيقولون إن سمرقند هي عاصمة خوارزم، ويؤكدون أن الصغد كانوا نازلين بها.
39 (3-5) فتح الصين
عزم قتيبة بن مسلم بعد أن وطد نفوذه في بلاد ما وراء النهر على افتتاح الصين، فهيأ لذلك الأسباب وأرسل كتائبه الكشافة لتمهد له الطرق لاحتلال كاشغر، فتم له فتحها وسبيها سنة 96ه/714م، ثم حالت الاضطرابات الداخلية في العاصمة دمشق - وسنفصل لك ذلك - دون التوغل في الصين، فرضي ابن مسلم - بعد المفاوضة مع ملوكها - على قبول ما قدموه له من الأموال والهدايا، وكان من نتائج احتكاك الجيوش الإسلامية بجماعات الصينيين انتشار الإسلام في ربوعهم، وإني مورد لك ما يرويه الطبري بخصوص المفاوضات التي دارت بين قتيبة والصينيين، وهي كلها تؤكد لنا أن العرب لم يتقدموا في فتوحهم إلى أقاصي الصين كما يقول بعض الغلاة من المؤرخين، قال الطبري: «... وغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلينا رجالا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسائله عن دينكم، فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلا لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس ... فكلمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم ودواب يركبونها، وأمرهم بقوله: فإذا دخلتم فأعلموه أني قد حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم، فدعا ملك الصين بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمة وردهم ووطئ التراب.»
40
أسباب نجاح قتيبة بن مسلم
مهما يكن من أمر هذه الرواية فإن فتوح قتيبة بن مسلم تكللت بأكاليل النجاح للأسباب الآتية:
السبب الأول: «القادة يبذلون الأموال»: كان قتيبة يبذل الأموال عن سعة لجنده فلا يبخل أبدا، ويرجع الفضل في ذلك للحجاج، فإنه لم يتأخر يوما عن إمداد المسلمين في دار الحرب بكل ما لديه من الوسائل الفعالة، ويعتقد الترك أن هذا هو السبب الأول في انتصاره عليهم، نستنتج ذلك من كلام أحد ملوكهم - المعروف برتبيل - لقومه، فقال لهم مرة: «كان الحجاج رجلا لا ينظر فيما أنفق إذا ظفر ببغيته، ولو لم يرجع إليه درهم، وأنتم لا تنفقون درهما إلا إذا طمعتم في أن يرجع إليكم مكانه عشرة.»
41
السبب الثاني: «الطلائع الكشافة تعينه حربيا»: بعث قتيبة الطلائع الكشافة من أهل البلاد العجم والترك ممن يستنصح لدرس أحوال أعدائه درسا مفصلا، فكانت تأتيه التقارير عن جغرافية الأصقاع التي سعى لفتحها مع وصف شعابها ونجادها وطرقها ومدنها وأدغالها، كما لا يتوغل المسلمون فيقعون في أغلاط يمكنهم اجتنابها، وامتحن طلائعه هذه ليعرف درجة إخلاصها له في أعمالها، فذكر الطبري أنه إذا «بعث بطليعة أمر بدوح فنقش ثم يشقه شقتين، فأعطاه شقة واحتبس شقة لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة أو تحت شجرة معلومة أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق طليعته أم لا.»
42
السبب الثالث: «الحث على الجهاد»: اعتمد قتيبة في فتوحه على إشعال نيران الحمية الإسلامية وإيقادها، فأشار لجنده في خطبه عما يجده المجاهد في اليوم الآخر من الثواب الطيب والفوز العظيم، وما يلاقي عند ربه من العفو والرحمة والأجر، وما الجنات التي تجري تحتها الأنهار إلا مقرا للشهداء الأبرار، فكان يستنهض هممهم ويستثير عزيمتهم بمثل هذه الوعود، قال يحثهم على الجهاد: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استغاضة والعدو وقما، ووعد نبيه
صلى الله عليه وسلم
النصر بحديث صادق وكتاب ناطق فقال:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ،
43
ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال:
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله
إلى قوله:
أحسن ما كانوا يعملون ،
44
ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق فقال:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ،
45
فتنجزوا موعد ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم وإياي والهوينا.
46
السبب الرابع: «دربة قتيبة والقادة الذين سلفوه في الساحة الشرقية»: كان قتيبة والقادة الذين سلفوه في الفتوح المشرقية من الرجال العمليين، فإذا وجدوا فرصة سانحة تمكنهم من أعدائهم انتهزوها، وطالما وعدوا ونقضوا وعودهم حينما رأوا القدرة في جانبهم والقوة في صفوفهم، فكان العجم يعيرون قتيبة بالغدر فيذكرون أنه وعد بإخلاء سمرقند ولم يف بوعده، ووصف أحدهم المهلب بن أبي صفرة - وهو كقتيبة - بهذا المعنى بقوله: «كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دهمته الطخمة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا ماده القوم صبر صبر الدهر.»
47
أغلاط القادة العرب
أما الأغلاط التي وقع بها القادة العرب فأشدها فظاعة تشجيعهم روح العصبية بين القبائل، فطمع بها أهل البلاد المغلوبة على أمرها، وجعلوا يفرقون بين العرب ويوغرون صدور بعضهم على بعض بالأحقاد، فتمكنوا بهذا من التضييق عليهم عندما تضعضعت قواهم وتفرقت صفوفهم، ولو فرق القادة يوم افتتحوا هذه البلاد بطون القبائل في مختلف الأنحاء وشجعوها على الاختلاط لما أصيب العرب بما أصيبوا به من التقتيل في أواخر الدولة الأموية في خراسان وما وراء النهر.
مأساة قتيبة بن مسلم
كان قتيبة سيفا من سيوف الأمويين البتارة، فقضى عمره خواضا للمعارك رافعا راية الجهاد حاملا بذور المدنية الإسلامية شرقا إلى الصين، فعقه جنده أخيرا وقتلوه، وإليك تفصيل الحادث:
سعى الوليد بن عبد الملك في بيعة ابنه عبد العزيز من بعده، ودفع الخلافة عن أخيه سليمان بن عبد الملك، فدس إلى القواد والشعراء وكبار الدولة لينشروا لعبد العزيز ذكرا وليصفوا مناقبه وما تحلى به من جميل الخصال، فأجابه الحجاج وقتيبة وغيرهما وجعلوا يبثون له الدعوة في البلاد، وقد طمع جرير بالجوائز والهبات عند ذاك فقال يمدح عبد العزيز:
إذا قيل أي الناس خير خليفة
أشارت إلى عبد العزيز الأصابع
رأوه أحق الناس كلهم بها
وما ظلموا فبايعوه وسارعوا
وقال يحض الوليد على بيعة عبد العزيز:
إلى عبد العزيز سمت عيون الر
عية إذ تحيرت الرعاء
إليه دعت دواعيه إذا ما
عماد الملك خرت والسماء
وقال أولو الحكومة من قريش
علينا البيع إن بلغ الغلاء
رأوا عبد العزيز ولي عهد
وما ظلموا بذاك ولا أساءوا
فماذا تنظرون بها وفيكم
جسور بالعظائم واعتلاء
فزحلفها بأزفلها إليه
أمير المؤمنين إذا تشاء
فإن الناس قد مدوا إليه
أكفهم وقد برح الخفاء
ولو قد بايعوك ولي عهد
لقام الوزن واعتدل البناء
48
فتألم سليمان من هذه الفئة وحقد عليها، وود لو يوقع بها إذا أتاحت له الأيام ذلك، فلما قضى الوليد الأول اعتلى عرش الخلافة مخافة قتيبة، وأعلن خلعه وجعل يذمه ويثير ضغائن العراقيين ضد بني أمية والشاميين، ودعاهم إلى الاستقلال والانفصال كما دعاهم يزيد بن المهلب من قبله، فلقب سليمان «بهبنقة العائشي»؛ وذلك لأنه كان يعطي ويصطنع أهل النعم واليسار ويدع من سواهم، وكان هبنقة وهو يزيد بن ثروان يؤثر سمان إبله بالعلف والمرعى ويقول: «أنا لا أصلح ما أفسد الله.»
49
وخطب مرة في أهل العراق بخراسان فقال: «... إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور، حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم؟ يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم عراقي الأب عراقي المولد عراقي الهوى والرأي والدين ... وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية، قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة»،
50
فأصدرت الحكومة الأموية أوامرها حالا للجيوش في الساحة الشرقية بالقفول وإعطاء الجند أعطياتهم والعفو التام عن المجرمين الذين كانوا في سجن قتيبة، وكان الناس قد سئموا القتال وودوا الرجوع إلى الأوطان وتطلعوا إلى السلام فلم يجبه أحد إلى خلع سليمان، فشتم كبار الزعماء ونسبهم إلى الغدر والمكر، فثاروا به بقيادة وكيع بن حسان بن قيس التميمي وهو أعرابي جاف، واتحدت العجم معهم عليه لبلائه فيهم فقتلوه مع أهله واحتزوا رأسه وهو لا يتجاوز الخامسة والخمسين، فارتاح سليمان لمقتله، لكنه فقدت به بنو أمية بطلها المغوار، فبكاه الشعراء وأسف لمقتله الناس، فقال عبد الرحمن بن جمانة يرثيه:
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر
بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله
وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه
وراح إلى الجنات عفا مطهرا
وشهد بقتيبة أحد الأعاجم فقال: «يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، ألا إنه قد غدر وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله.»
51 (3-6) فتح الهند والسند
قلنا فيما تقدم أن الفتوح المشرقية بدأت على عهد عثمان بن عفان، وكان عبد الله بن عامر بن كريز والي العراق إذ ذاك ساعده الأيمن ويده البطاشة، فأراد غزو الهند والاستيلاء عليها، فوجه كشافته إلى حدودها لاختبار أحوالها، فرجعوا وثبطوا همته اعتقادا منهم أن البلاد لا تخضع إلا لجيش قوي متين، فقالوا له: «إن قل الجيش فيها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا.»
52
ولم يقم بفتح الهند وتثبيت أقدام المسلمين فيها إلا محمد بن القاسم، وقد ولاه الحجاج في أيام الوليد الأول فارس، وعقد له على جيش يتألف من ستة آلاف وكلهم من الشام، وجهزه بكل ما يحتاج إليه، حتى الخيوط والمسال كما روى البلاذري.
53
وهنا يعدد لنا المؤرخون أسماء البلاد التي افتتحها، فيقولون: إنه سار مع «شيراز» المقر العام لجيشه إلى «مكران» ف «قنزبور» ف «أرمائيل» ف «الديبل» ف «البيرون» ف «سهبان» ف «مهران» ف «برهمناباذ» ف «ساوندري» ف «الرور» ف «الملتان»، ولا ريب أن أشهر المعارك التي خاض غمارها محمد بن القاسم هي معركة الديبل، فإنه خندق حول المدينة ورماها بالمنجنيق، فافتتحها عنوة، ومكث يقتل من فيها ثلاثة أيام، ثم اختط بها للمسلمين وبنى لهم مسجدا وأنزلها أربعة آلاف من جنده، وقد امتازت الديبل بمنارتها العظمى وبها الأصنام المقدسة وكانت تعرف عندهم «بالبد»، أما الملتان من أعمال السند فهي أيضا من المدن المقدسة عند الهنود، وكانت تهدى إلى بدها الأموال وينذر له النذور، وتحج إليه أهل السند فيطوفون به ويحلقون رءوسهم ولحاهم.
54
محمد بن القاسم
نصر محمد بن القاسم الوليد في دعوته لابنه عبد العزيز، فعزله سليمان بن عبد الملك وعين مكانه يزيد بن أبي كبشة السكسكي، وأمره بسجنه، فقبض عليه وعذبه ثم نقله إلى واسط العراق فأعدمه صالح بن عبد الرحمن والي المصرين، فقضى وهو يتمثل بهذا البيت:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
وقال يتألم من سجنه ويذكر ماضيه:
فلئن ثويت بواسط وبأرضها
رهن الحديد مكبلا مغلولا
فلرب فتية فارس قد رعتها
ولرب قرن قد تركت قتيلا
وقال:
وما دخلت خيل السكاسك أرضنا
ولا كان من عك علي أمير
ولا كنت للعبد المزوني تابعا
فيا لك دهر بالكرام عثور
وبكى الهنود محمدا لسماحته وعدله وكرم خلقه، ورثاه حمزة بن بيض الحنفي بقوله:
إن المروءة والسماحة والندى
لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سوددا من مولد
55
فترى أن ثلاثة من قادة الفتوح المشرقية وهم يزيد بن المهلب وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم ذهبوا ضحية المصالح السياسية، وهذا دليل كاف لأن يبرهن لنا أن السياسة لا ترحم أحدا. (4) الفتوح في الساحة الإفريقية، الأوروبية (4-1) إخضاع القبائل البربرية
كانت العراق هي المقر العام للفتوح المشرقية، أما الثغور الشامية فظلت دوما المحطة الرسمية للمغازي في الساحة البيزنطية، وأصبحت مصر بعد خضوعها للمسلمين المركز الحصين لجيشهم في اقتحام شمالي إفريقية.
فلما ولي عبد الله بن أبي سرح مصر على عهد عثمان بن عفان كان يرسل جرائد الخيل ويبعث السرايا فيفرقها في الأطراف، فيغزو القبائل البربرية ويستاق مواشيها ويصيب أموالها، فلم يختط للمسلمين بها بلدا بل كانت أعماله محصورة في الغزو والسلب ، وكان ذلك بين سنة 27ه وسنة 29ه و(647-649م). (4-2) القيروان
وفتح عقبة بن نافع الفهري إفريقية على عهد معاوية الأول - ونقصد بإفريقية البلاد التي كان يقطنها البربر حوالي القيروان اليوم - في عشرة آلاف من المسلمين، فاختط القيروان وبنى بها الدور والمساكن، وشيد المسجد الجامع فيها وأنزلها جنده سنة 50 للهجرة و(670م)، وتابع عقبة فتوحه حتى تم الاستيلاء على طرابلس، فأخضع قبائل لواته
56
ونشر بينها الإسلام. (4-3) فتح تونس وطنجة
أسند عبد الملك بن مروان ولاية مصر إلى أخيه عبد العزيز بن مروان، فحصر همه في إتمام الفتوح الإفريقية، فأخضع تونس، ثم وجه موسى بن نصير إلى طنجة، ففتحها واختط فيها للمسلمين وحصنها تحصينا تاما، وولاها طارق بن زياد مولاه، ووطئت جيوشه السوس الأدنى والسوس الأقصى، فأطاعت له قبائل هوارة وزناتة وكتامة وصنهاجة وسجوما،
57
وجعل ينشر الإسلام بينها بنشاط زائد وهمة لا تعرف الملل، فكان يتقرب منهم ويصلي بهم ويخطب فيهم،
58
وبذل الأموال في سبيل ذلك، فروى ابن قتيبة: «إن موسى إذا أفاء الله عليه شيئا اشترى من ظن منهم أنه يقبل الإسلام وينجب، فيعرض عليه الإسلام، فإن رضى قبله من بعد أن يمحص عقله ويجرب فطنة فهمه، فإن وجده ماهرا أمضى عتقه وتولاه»،
59
وقال ابن خلكان: «... وترك موسى خلقا كثيرا من العرب لتعليم البربر القرآن وفرائض الإسلام»،
60
ولذا لا نعجب أبدا إن رأيناه بعد ذلك مادة جيشه في فتح الأندلس.
موسى بن نصير
أسس موسى بن نصير في تونس دارا لصناعة السفن، وأجرى البحر إليها مسيرة اثني عشر ميلا، فأقحمه إياها فصارت ملجأ للمراكب إذا هبت الأنواء والرياح في فصل الشتاء ، وكانت هذه المراكب خفرا للسواحل الإفريقية، وبلغ عددها نحوا من مائة مركب حوالي سنة 84ه/703م، وغزا بها سرقوسة من أعمال صقلية وسردانية وافتتح جزيرة ميورقة.
أما فاتح إفريقية موسى بن نصير فقد ولد في خلافة عمر بن الخطاب سنة 19ه/640م، وكان أبوه مسيحيا من عين التمر، وهي بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة، تقرب من قرية يقال لها شفاثا ويجلب منها التمر إلى سائر الأمصار، وفتحها المسلمون على يد خالد بن الوليد سنة 13ه/634م عنوة، وكان والده نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان ومنزلته عنده مكينة،
61
وقضى موسى مغضوبا عليه منفيا في وادي القرى بالحجاز.
62
لسنا نبحث في كتابنا هذا عن الفتوح الأوروبية - فتوح إسبانيا وجنوبي فرنسا - فإننا أشبعناها درسا في كتاب الدولة الأموية في قرطبة.
63
فتحت الدولة الأموية هذه الأصقاع الشاسعة فأخذت في عمرانها ونشرت العدل في ربوعها، وسنت القوانين المختصة بالخراج والجزية، وجعلت للمجتهد نصيبا طيبا في استثمار الأرضين، وحرمت الكسول من تملكها كما لا تلعب يد الفساد والدمار فيها فتصبح قفراء لا تزدهي بالزروع النضرة ولا تزدهر بالثمار الشهية، وإليك أحكام أراضي الخراج في البلاد التي افتتحها العرب:
قال تلميذ أبي حنيفة المشترع الإسلامي الكبير أبو يوسف ما نصه: (1)
إنما أرض أخذت عنوة مثل السواد والشام وغيرهما، فإن قسمها الإمام بين من غلب عليها فهي أرض عشر وأهلها رقيق. (2)
وإن لم يقسمها الإمام وردها للمسلمين عامة - كما فعل عمر بالسواد - فعلى رقاب أهلها الجزية وعلى الأرض الخراج وليسوا برقيق. (3)
إذا أسلم كافر من أهل العنوة أقرت أرضه في يده يعمرها ويؤدي الخراج عنها ولا اختلاف في ذلك. (4)
إذا عطل أرضه قيل له ازرعها وأد خراجها وإلا فادفعها إلى غيرك يزرعها، فأما أرض العشر فإنه لا يقال له فيها شيء. (5)
وإذا أصابت الغلات آفة أو غرق سقط الخراج عن صاحبها، وزاد على ذلك مالك والشافعي بقولهما: «إذا كان في البلاد سنة أعجمية قديمة لم يغيرها الإسلام ولم يبطلها فشكاها قوم إلى الإمام لما ينالهم من مضرتها يغيرها وإن قدمت؛ لأن عليه نفي كل سنة جائزة سنها أحد من المسلمين فضلا عما سن أهل الكفر.»
64
الفصل السادس
العدل والإصلاح في الدولة الأموية
(1) عبد الملك بن مروان
ثبت الأمويون عرشهم على الجماجم، فأعملوا السيف والنطع، وراحوا يفتكون بأعدائهم فتكا ذريعا، وليست الأعمال الرهيبة التي قام بها مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان في العراق والحجاز والشام عنا ببعيدة، فلما استتبت لهم الأحوال جعلوا يبسطون الحق في الجهات المختلفة، ويحذرون من ارتكاب الأغلاط الإدارية الفاحشة التي قد تكلفهم نتائجها أضرارا جسيمة ومسئولية عظيمة، فكان عبد الملك يأمر بالرفق والتريث في الأحكام والاهتمام بالمشاورة وطلب النصيحة.
ذكر لنا المؤرخون أنه أوصى أخاه عبد العزيز حين مضى إلى مصر أميرا عليها فقال له: «ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك فليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده، وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام يأنسوا بك، وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته، فإنك على العقوبة بعد التوقف عنه أقدر منك على ردها بعد إمضائها.»
1 (1-1) قطع دابر الرشوة والتخلص من الموظفين الخونة
وقطع دابر الرشوة فعزل الموظفين الخائنين الذين لا يعرفون من الوظيفة إلا إملاء جيوبهم وتأخير مصالح الناس وعدم قضائها في أوقاتها، فكان بذلك شديد اليقظة كثير التعاهد لولاته شديدا في أحكامه عليهم، روى الجاحظ: «بلغه أن عاملا من عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال له: أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: لئن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم، ولئن أنلت مهديك - لا من مالك - أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه إنك لجائر خائن، ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك وبسط لسان عائبك وأطمع فيك أهل عملك إنك لجاهل، وما فيمن أتى أمرا لم يخل فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع نحيناه عن عمله.»
2 (1-2) اهتمام بكل صغيرة وكبيرة
ولم يكل الأمور في أعدائه وأهل حربه ومنافسيه إلى غيره حتى يباشرها بنفسه، وإن اهتمامه بكل صغيرة وكبيرة جعلته يركب الخطأ في بعض الأحيان، لكن ذلك أثار في جمهور الموظفين روح اليقظة والاهتمام بالمسئولية، فسار على سياسة الشدة التي اتبعها يزيد الأول ابن معاوية من قبله، فأمر ابنه الوليد وهو على فراش الموت ألا يتهاون في أمر بيعته، وأن يلبس جلد النمر لخصومه، وأن يتدرع بالصبر، فقال له: «يا وليد، لألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تقتصر عينك كالأمة الورهاء، بل ائتزر وشمر والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة ثانيا، فمن كان برأسه كذا فقل بالسيف كذا.»
3 (1-3) شخصية عبد الملك
توفى عبد الملك بن مروان سنة 86ه/706م، فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر تقريبا، وقد قضى وواروه التراب خارج باب الجابية في دمشق، ويحقق أنه ولد سنة 26ه/646م في خلافة عثمان بن عفان، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو غلام لا يتجاوز العاشرة من عمره، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وعرف منذ صغره برجاحة عقله وصلابة رأيه وقوة عزيمته، فكان يعتقد اعتقادا تاما حينما نازع أنداده في تطلب الخلافة أنه هو القادر دون سواه على ضبط زمام الدولة وتسيير دفتها نحو الإصلاح والعمران والسلام، فقال مرة: «ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني ... وإن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسا.»
4
وكان عبد الملك شابا أديبا ذكيا فاضلا، له إلمام واسع بعلوم الشريعة والحديث والفقه واللغة، قال الشعبي: «ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان، فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه وشعرا إلا زادني فيه»، واشتهر بمواقفه الخطابية، فقيل لعبد الملك: لقد أسرع إليك الشيب، قال: «شيبني صعود المنابر والخوف من اللحن»،
5
ويروى أنه لما اشتد مرضه وقاربته الوفاة قال: أصعدوني على شرف فأصعدوه إلى موضع عال، فجعل يتنسم الهواء ثم قال: «يا دنيا ما أطيبك، إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور»،
6
والخلاصة أنه كان معروفا بالصدق مشهورا بالفضل والعلم، لا يختلف في دينه ولا ينازع في ورعه.
7 (2) الوليد الأول
خلف عبد الملك ابنه الوليد الأول، وكانت ولاية العهد لعبد العزيز بن مروان، فأراد عبد الملك خلع أخيه وتولية الوليد لتصبح الخلافة في ولده، فراح ينشط الناس على استخلافه فتم له ذلك، وإنا لن نبحث لك عما أصاب الدولة من المحن من تسمية الخلفاء لمرشحين أو ثلاثة للخلافة يتلو الواحد منهم الآخر في ولاية العهد، إنما نحب أن نلفت نظرك إلى هذه المسألة التي لعبت دورا مهما في انحلال جسم المملكة الأموية، ولو لم يعجل القدر فيموت عبد العزيز في أيام أخيه عبد الملك لما تناول الوليد الخلافة بسهولة.
8 (2-1) الوليد تهون عليه الدماء في سبيل مصلحة الدولة
نهج الوليد على منهج أبيه عبد الملك، فحمل سيف النقمة والشدة في يد، وغار العدل والرحمة في اليد الأخرى، وكان عظيم السطوة، تهون عليه الدماء في تنفيذ مصالح الدولة.
9
ولما كان الخلفاء الذين تقدموه قد مهدوا له طرق الأمن، وأمنوا له سبل الطاعة؛ التفت إلى الفتوح والعمران وتشييد صرح العدالة على أسس متينة، فافتتح معظم المغرب والأندلس، واجتازت جيوشه نهر جيحون حتى بلغت ما وراء النهر، واختلط مع أفراد شعبه، فمنع الفقهاء والمجذمين من سؤال الناس وأعطى كل مقعد خادما وكل ضرير قائدا.
10
ولم يكن الوليد خطيبا فصيحا يحكم قواعد اللغة كأبيه، بل عرف بأنه لحان لا يحسن النحو، روى الطقطقي أن أباه عبد الملك عاتبه وقال له: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم، فدخل الوليد بيتا وأخذ معه جماعة من علماء النحو وأقام مدة يشتغل فيه، فخرج أجهل مما كان يوم دخوله، فلما بلغ ذلك عبد الملك قال قد أعذر.
11
ويذكرون أنه كان مغرما بنشر القرآن، فبذل الأموال في سبيل ذلك، قال الطبري: «أتاه رجل من بني مخزوم يسأله في دينه، فقال نعم إن كنت مستحقا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أكون مستحقا لذلك مع قرابتي؟ قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل: ضم هذا إليك فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن ... وقام إليه عثمان بن يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إن علي دينا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال وعشر آيات من براءة فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم ونصل أرحامكم على هذا.»
12
وكان كريما جوادا محبوبا من شعبه، حتى ليقال: «إنه كان يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل فيقول بكم هذه، فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها.»
13
وامتاز بعقل راجح وصدر رحب، فكان يسمع للناصحين نصحهم ولا يتأخر عن طلب المشاورة، فقال له أسيلم بن الأحنف قبل أن يستخلف: «أصلح الله الأمير، إذا ظننت ظنا فلا تحققه، وإذا سألت الرجل فسلهم عما نعلم، فإذا رأوا سرعة فهمك كما تعلم ظنوا بك ذلك فيما لا تعلم، ودس من يسأل لك عما لا تعلم»،
14
وتوفي في دمشق سنة 96ه/714م وهو لا يتجاوز السادسة والأربعين.
قلنا إن أيام الوليد كانت أيام فتوح وتوسع وعمران، فعقبه أخوه سليمان بن عبد الملك وأتم تلك السلسلة من الفتوحات العظيمة في الساحات الثلاث؛ البيزنطية والشرقية والإفريقية الأوروبية، وقد شعر الناس أنهم في بحبوحة من العيش في عهده فقالوا: «سليمان مفتاح الخير، ولي فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون وأحسن ... واستخلف عمر بن عبد العزيز»،
15
وذكر ابن العبري أنه رد المظالم وأخرج المحبسين.
16 (3) سليمان بن عبد الملك
نشأ سليمان بالبادية عند إخوانه بني عبس، فشب فصيح اللسان كثير الأدب، ولا ريب أنه كان من أجل شبان بني أمية، فيصفه المؤرخون بقولهم: «... وكان طويلا أبيض جميلا قضيفا جعد الشعر ... شديد العجب بشبابه وجماله»،
17
واعتنى بلباسه وهندامه، وتأنق في ذلك كثيرا حتى لقب نفسه «بالملك الفتي» «والملك الشاب.» (3-1) عيوبه
ويعاب سليمان بأمرين: الأول لغيرته وحسده، ففتك بموسى بن نصير فاتح المغرب والأندلس، وقد ذكرنا ذلك في فصل الفتوح، وعذب غيره من كبار الرجال أصحاب الخدمات الباهرات لمجرد سوء الظن أو لبادرة حسد تطرأ عليه، والثاني لكثرة نهمه وشغفه بالنساء، روى الفخري: «... وكان نهما، فيقال: إن الطباخ كان يأتيه بالشواء فلا يصبر حتى يبرد فيأخذه بكمه ...»
قال الأصمعي: كنت مرة أفاوض هارون الرشيد، فجرى حديث أصحاب النهم، فقلت كان سليمان بن عبد الملك شديد النهم، وكان إذا أتاه الطباخ بشواء تلقاه فأخذه بأكمامه، فقال الرشيد: ما أعلمك يا أصمعي بأخبار الناس؟ لقد اعترضت منذ أيام جباب سليمان فوجدت أثر الدهن في أكمامها فظننته طيبا، قال الأصمعي: ثم أمر لي بجبة منها،
18
وقال الطبري: «ولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري.»
19
ويبالغ المؤرخون في رواياتهم عن نهمه، غير أنها تظهر لنا ولا شبهة حقيقة ناصعة، وهي أن الخليفة الفتي أو الشاب كان يحب أن يتمتع بجميع الشهوات الجسمانية، وقد أسرف في تمتعه بها إسرافا زائدا؛ حتى إنها قضت عليه وعجلت في وفاته، قال ابن عبد ربه: «وكان سبب موت سليمان بن عبد الملك أن نصرانيا أتاه وهو بدابق - بالقرب من حلب - بزنبيل مملوء بيضا وآخر مملوء تينا، قال: قشروا، فقشروا فجعل يأكل بيضة وتينة حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله فأتخم فمرض فمات.»
20 (4) عمر بن عبد العزيز
لم يتمكن عبد الملك بن مروان والوليد الأول وسليمان من بسط العدالة بسطا تاما ترتاح له النفوس وتطمئن له القلوب، وكان ذلك لقسوة الظروف أولا، ولتغلب بعض الصفات الرديئة عليهم ثانيا، فألمعنا إلى ما اشتهر به سليمان من الغيرة والحسد، وإلى ما عرف به الوليد من إراقة الدماء في سبيل المصلحة، وإلى ما تغلب على عبد الملك من طبع السيطرة على كل صغيرة وكبيرة، وهذا لا ينفي أننا ننكر على هؤلاء الرجال ما تحلوا به من المزايا الشريفة والخصال الحميدة والمواهب العالية، والحق أن العدالة الأموية لم تظهر بمظهرها الجليل الكبير إلا في عصر عمر بن عبد العزيز خليفة سليمان بن عبد الملك. (4-1) نشأته
نشأ عمر في المدينة وتأدب بها على أشهر أساتذتها المتضلعين بعلوم القرآن والحديث والفقه والشريعة كصالح بن كيسان وعبيد الله بن عبد الله، ودرس العربية وتفرعاتها فأصاب منها سهما وافرا، وكان شابا ولوعا بتزيين نفسه، فتأنق في ملبسه، وتغلبت عليه الخيلاء فزها واستكبر في بعض الأحايين على الناس، قال ابن الجوزي بإسناده: «حدثني علي بن جذيمة قال: رأيته في المدينة وهو أحسن الناس لباسا، ومن أطيب الناس ريحا، ومن أخيل الناس في مشيته»،
21
ثم لم تطل به الحال على هذا المنوال، فنراه قد خلع عنه ثوب الصلف وارتدى رداء التواضع لما أسندت إليه المناصب الإدارية، وقد ولي الحجاز وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكان ذلك في أيام الوليد الأول، فبرهن على اقتداره في تدبير الأمور وتثبيت دعائم الحق والانتصار للضعيف، وأوسع المجال لعقلاء المدينة وفقهائها لأن ينبهوه على أغلاطه وأن ينيروا سبيله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، فدعا مرة عشرة نفر من علمائها وقال لهم: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه وتكونون فيه أعوانا على الحق، إن رأيتم أحدا يتعدى وبلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني.»
22
ولم يقبل عمر بن عبد العزيز منصب الولاية على الحجاز إلا بعد أن أقر له الوليد السلطة التامة ليقتص من أرباب العدوان وأهل الظلم وإن أجبر ألا يرفع للخزينة درهما واحدا، قال ابن الجوزي: «استعمل الوليد بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على الحجاز - المدينة ومكة والطائف - فأبطأ عن الخروج، فقال الوليد لحاجبه: ويلك ما بال عمر لا يخرج إلى عمله؟ قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج، قال: فعجله علي، فجاء به الوليد فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي، فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور، فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهما واحدا.»
23 (4-2) عمر شاب إداري عادل
اتصف عمر بشجاعته الأدبية وصراحته النادرة المثال، فكان ينتقد أعمال الخلفاء الذين سلفوه ويسلقهم بقوارص الكلام ولا يخاف في التنديد على من يشذون عن أحكام القرآن والسنة لومة لائم، فتألم منه بنو أمية، حتى ليقال: إنهم هم الذين دبروا الدسائس للخلاص منه، وهاك مثالا حيا على ما قدمناه: «دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده ابنه أيوب، وهو يومئذ ولي عهده وقد عقد له من بعده، فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء، فقال سليمان: ما أخال النساء يرثن في العقار شيئا، فقال عمر بن عبد العزيز: سبحان الله، وأين كتاب الله؟ فقال: يا غلام اذهب، فأتني بسجل عبد الملك بن مروان الذي كتب في ذلك، فقال عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف، قال أيوب: والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين ثم لا يشعر حتى يفارقه رأسه، فقال له عمر: إذن أفضي الأمر إليك وإلى مثلك مما يدخل على أولئك أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان لأيوب: مه، لأبي حفص تقول هذا؟ فقال عمر: والله لئن جهل علينا يا أمير المؤمنين ما حلمنا عنه.»
24 (4-3) عمر صريح الآراء، لا يخاف من النقد لومة لائم
وكان من الذين يقدسون الحرية الفكرية ويرون وجوب تشجيعها والمحافظة عليها، فجادل الخوارج من الحرورية وراسلهم، وطلب إليهم أن يحجوه ويقنعوه بالبراهين إن كانوا - في زعمهم ومبادئهم - صادقين، روى الطبري: «كتب عمر إلى بسطام بن يشكر وهو شوذب زعيم الحرورية في العراق يسأله عن سبب مخرجه، فكان في كتاب عمر إليه: بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا»،
25
فجاءه وفد منهم إلى الشام فأمنهم وطيب قلوبهم وجلس وإياهم وجها لوجه يتجادل معهم، ومما يبتهج له الخاطر أن المؤرخين حفظوا لنا أحاديثهم معه وهي كما يأتي:
رسولا الحرورية :
أخبرنا عن يزيد، لم تقره خليفة بعدك (يزيد بن عبد الملك)؟
عمر :
صيره غيري.
رسولا الحرورية :
أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك؟
عمر :
أنظراني ثلاثا.
وعلق الطبري على هذا الحديث بقوله: «خاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال وأن يخلع يزيدا، فدسوا إليه من سقاه سما .»
26
تسنم عمر بن عبد العزيز عرش الخلافة بعد وفاة سليمان بن عبد الملك، فجمع الناس في المسجد الجامع بدمشق وصرح لهم أنه أسند إليه الأمر دون أن يستشيروه أو يستشيروا الشعب فيه؛ ولذا فهم أحرار في خلع بيعته وانتخاب سواه، فصاح الناس صيحة واحدة: «قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك»، فلما هدأت الأصوات ولم يعترض أحد على ولايته الخلافة خطب خطبته العرش، قال من جملتها: أوصيكم بتقوى الله ... وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات ... وإني والله لا أعطي أحدا باطلا ولا أمنع أحدا حقا.
يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
27 (4-4) الاحتفال بتنصيب الخلفاء على العرش
ثم أرادت الحكومة الاحتفال بتنصيبه رسميا كما جرت العادة، فهيأت موكب الخلافة وهو يتألف من كبار رجال الدولة وعظمائها، وقد يركبون وراء الخليفة على البراذين والخيل والبغال، ولكل دابة سائس، فلما رأى تلك الأبهة قال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته وصرف تلك الدواب، ثم أقبل سائرا فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه،
28
نحن لا نرى دليلا أكبر من الذي قدمناه على ديمقراطية عمر وشدة تواضعه واستخفافه بمظاهر الحياة الفارغة.
ويذكر أن جاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال : «تنح عني ما لي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين»،
29
ولم يكد يستلم زمام الأحكام حتى أمر بستور دار الخلافة فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين،
30
وسرح عمر حرس الخلافة وكانوا حوالي ستمائة وقال لهم: إن بي عنكم لغنى، كفى بالقدر حاجزا، وبالأجل حارسا، ولا أطرحكم من مراتبكم، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله،
31
وكان عمر يقعد للناس على الأرض فقيل له: لو أمرت ببساط يبسط لك فتجلس ويجلس الناس عليه كان ذلك أهيب لك في قلوب الناس، فتمثل:
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى
له صبوة إحدى الليالي الغوابر
ولولا التقى من خشية الموت والردى
لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
32 (4-5) إصلاحات عمر
قام عمر بإصلاحات جمة عقب توليه الخلافة، فأصدر أمرا إلى قادة جيوشه في جميع الساحات والتخوم يطلب إليهم به أن تكون الرحمة من شعائرهم والشفقة قبلة أنظارهم، كتب عمر إلى الجراح أحد قادته: إنه بلغني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان إذا بعث جيشا أو سرية قال: «اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا»، فإذا بعثت جيشا أو سرية فمرهم بذلك.
33 (4-6) الحرص على أموال المسلمين
وحرص حرصا زائدا على دماء المسلمين، فأبى أن يجازف بأرواحهم أو أن يجشمهم من المشاق ما لا طاقة لهم به، فعهد إلى بعض رجال الحرب بهذه النصائح الثمينة: «أرفق بمن معك في مسيرهم، ولا تجشمهم مسيرا تتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، فإنكم تسيرون إلى عدو جام الأنفس والكراع، فلا ترفقوا بأنفسكم وكراعكم في مسيركم يكن لعدوكم فضل عليكم في القوة، أقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة ليكون لهم راحة يجمون بها أنفسهم وكراعهم، ولتكن عيونك من العرب وممن تطمئن إلى نصحه من أهل الأرض، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعضه، وإن الغاش عين عليك وليس بعين لك.»
34
والغريب أن عمر بلغت به العدالة إلى حد أنه أمر أن لا يكسى البيت الحرام، وأن تبذل الأموال المخصصة للكسوة في سبيل الفقراء والمحتاجين، «كتبت الحجبة إلى عمر أن يأمر للبيت بكسوة كما كان يفعل من كان قبله، فكتب إليهم: إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة فإنه أولى بذلك من البيت.»
35 (4-7) امتحان الحكام والولاة
وسعى لأن يمتحن نزاهة الرجال الذين أراد توليتهم حكاما وولاة على البلاد الإسلامية ليطمئن ضميره وليتخلص من جور الطغاة وعسفهم، فذكر ابن الجوزي أنه لما «ولي عمر الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه ... فجزاه عمر خيرا، ولزم بلال المسجد يصلي ويقرأ ليله ونهاره، فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثلة له فقال له: إن عملت لك في ولاية في العراق ما تعطيني؟ فضمن له مالا جليلا، فأخبر بذلك عمر فنفاه وأخرجه»،
36
وأبعد الولاة القساة السفاكين عن استلام زمام البلاد لئلا يفسدوا في الأرض، فكتب عمر إلى الجراح بن عبد الله عامله على خراسان: «بلغني أنك استعملت عمارة، ولا حاجة لي بعمارة ولا بضرب عمارة، ولا برجل قد صبغ يده في دماء المسلمين فاعزله.»
37
وكان عمر لا يفتأ يذكر عماله بواجباتهم، وما عليهم تجاه الله والأمة والبلاد من المسئولية الكبرى، فطلب إليهم أن يجمعوا الخراج الطيب الحلال، فلما كتب ميمون بن مهران أحد الولاة إلى عمر بن عبد العزيز أن يستعفيه من الخراج أجابه: «يا ابن مهران، إني لم أكلفك بغيا في حكمك ولا في جبايتك، فاجب ما جبيت من الحلال، ولا تجمع للمسلمين إلا الحلال الطيب»،
38
ثم أمرهم أن يلوا أرباب الخبرة وأهل الفضل في المناصب، وأن يرفعوا السنن الخبيثة التي أنهكت العامل والفلاح، وأن لا يعجلوا في أحكام الإعدام والصلب قبل استئذانه، وأن لا يستوفوا الضرائب التي لا يخولهم القانون حق استيفائها، وأن يسهلوا على التجار والمسافرين مصالحهم فيبنون لهم الخانات ويضيفونهم،
39
وإليك وثائق تثبت لك كل هذه الحقائق التي ذكرناها:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن بن نعيم والي خراسان: «أما بعد ... فكن عبدا ناصحا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئا من أمراء المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم أو التوفير عليهم وأداء الأمانة فيما استرعى، وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق فإن الله لا يخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه.»
40
وكتب إلى زرعة الكاوي وكان قد ولاه خراج خراسان: «إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم.»
41
وكتب رسالة إلى أمير الكوفة عبد الحميد ... وهذا نصها: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد ... سلام عليك ... أما بعد ... فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابا على عامر ولا عامرا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطلق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج ... أجور الضرابين ولا هدية النيروز والمهرجان ولا ثمن الصحف ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض فاتبع في ذلك أمري، فإني وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه ...»
42 (4-8) الاستئذان في أحكام الإعدام
وقال عمر في القصاص لولاته: «ادرءوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى في العقوبة.»
43 (4-9) الاهتمام بمصالح الشعب
ونصب نفسه للعدل فضرب على أيدي المغتصبين بيد حديدية، وجعل يضيق عليهم الخناق، فبدأ ببني أمية أنفسهم وأخذ ما كان تحت سيطرتهم من الغصوب، فردها على أهلها دون إبطاء ولا تأخير، فحمده الناس وشكروا له سعيه إذ ستر بيوتات كثيرة كان الظلم قد فضحها، وعائلات عديدة كان الفقر قد أخذ ينال من شرفها، وأطفال يتامى كان الجهل قد بدأ يهيئ لهم مستقبلا مظلما، وتمادى في تحري المغتصبين والظالمين والتفتيش عن سيئاتهم حتى خاف بعض خاصته عليه من الاغتيال والاعتداء، فقالوا: «يا أمير المؤمنين ... ألا تخاف غوائل قومك؟ فقال: أبيوم سوى يوم القيامة تخوفونني، فكل خوف أتقيه قبل يوم القيامة لا وقيته»،
44
وخاطب مرة أفراد الأسرة المالكة يؤنبهم على تمتعهم بالأموال الحرام والأملاك المغتصبة بلهجة شديدة فقال: «يا بني مروان، إنكم قد أعطيتم حظا وشرفا وأموالا، إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم.»
45
وأصدر عمر قانونا خول به الموظفين البارعين الأوفياء حق الزيادة في رواتبهم إن قاموا بما يفرضه عليهم الواجب خير قيام، وكان ذلك ليقطع دابر الرشوة ويجعل للمأمور مجالا للتقدم، فيعمل بنشاط وهمة ويسعى لاكتساب رضى رؤسائه بالإحسان إلى أرباب المصالح وقضاء حاجاتهم بسرعة ودقة، فانتقده أحد أخصائه على ما يتقاضاه عماله من المعاشات الباهظة بقوله: «ترزق الرجل من عمالك مائة دينار في الشهر ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك»، فأجابه: «أراه لهم يسيرا إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم وأهليهم»،
46
ولا ريب أنه متى كان المأمور مرتاح البال من جهة العيال فلا يفكر بخيانة الحكومة، بل يجرب أن يحافظ على مركزه جهد الطاقة. (4-10) إصلاح القضاء
وأصلح القضاء بصورة خاصة، فاشترط على القاضي أن يكون عالما بما نصت عليه السنة، حليما، ذا أمانة، عفيفا، مشاورا.
47 (4-11) محاربة المسكرات
ثم وجه عمر وجهه إلى تقويم الأخلاق ومحاربة العادات الفاسدة المبنية على التعصب والرذيلة، فنهى شعبه عن تعاطي المسكرات، وأبان لهم ما يصيبهم من الآفات والنكبات بواسطتها، وما يتكبدونه من الآلام والعذاب بما تحمله إليهم من المضار والفضائح، فهي هتاكة للأجسام مضنكة للعقول مضيعة للأموال.
كتب عمر إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: «أما بعد ... فإنه قد كان في الناس من هذا الشراب أمر ساءت فيه رعيتهم، وغشوا فيه أمورا انتهكوها عند ذهاب عقولهم وسفه أحلامهم بلغت بهم الدم الحرام والفرج الحرام والمال الحرام، وقد أصبح جل من يصيب من ذلك الشراب يقول شربنا شرابا لا بأس به ، ولعمري إن ما حمل على هذه الأمور وضارع الحرام لبأس شديد، وقد جعل الله عنه مندوحة وسعة من أشربة كثيرة طيبة ليس في الأنفس منها جائحة: الماء العذب الفرات واللبن والعسل والسويق ... وقد بلغنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نهى عن نبيذ الجر والدباء والظروف المزفتة، وكان يقول: «كل مسكر حرام»، فاستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه يشرب شيئا من هذه بعدما تقدمنا إليه أوجعناه عقوبة شديدة، ومن استخفى فالله أشد عقوبة وأشد تنكيلا، وقد أردت بكتابي هذا اتخاذ الحجة عليكم اليوم وفيما بعد اليوم، أسأل الله أن يزيد المهتدي منا ومنكم هدى، وأن يراجع بالمسيء منا ومنكم التوبة في يسر وعافية، والسلام.»
48 (4-12) منع الناس من شتم علي
ومنع الناس من شتم علي بن أبي طالب، وكان بنو أمية يسبونه علنا على المنابر منذ عهد معاوية الأول، ويرجع ذلك للخلاف الذي قام بين الأمويين والعلويين، وجعل مكان السب في خطبة الجمعة:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ،
49
فمدحه الشعراء على ذلك، قال كثير عزة:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي
فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها
وأبدت لك الدنيا بخد ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة
وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما
سقتك مذوقا من سمام وعلقم
وقد كنت منها في جبال أرومها
ومن بحرها في زاخر السيل مفعم
وقال الشريف الرضي يرثيه ويذكر منعه شتم علي:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي
ن فتى من أمية لبكيتك
أنت نزهتنا من السب والشت
م فلو أمكن الجزاء جزيتك
غير أني أقول إنك قد طب
ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك
دير سمعان لا عدتك الغوادي
خير ميت من آل مروان ميتك
50 (4-13) الرفق بالحيوان
وكان عمر يرفق بالحيوان ولا يأذن البتة في التثقيل عليه بالأحمال، وناشد مأموريه وخواصه وشعبه أن يهتموا بالعجماوات وأن يرحموها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولم يغض النظر عن أولئك القساة الذين يسرفون في ضربها وتعذيبها، قال ابن الجوزي: «كان لعمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه بدرهم ونصف، فقال ما بدا لك، قال: نفقت السوق؟ قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، أجمه ثلاثة أيام.»
51 (4-14) العوامل التي دفعت عمر للإصلاح والعدل
أما وقد عددنا لك ما قام به عمر من الإصلاحات الجمة فلنذكر العوامل التي دفعته للعمل الصالح واتباع سنن الخير والعدل والإحسان.
أما العامل الأول فهو تقريبه للعلماء والفقهاء أصحاب الورع والتقوى وأهل النصح والغيرة على العرب والإسلام، أمثال محمد بن كعب القرظي وميمون بن مهران والحسن البصري، وكان دائما يكاتب رجال الفضل ويستشيرهم ويطلب معرفة آرائهم في المسائل الحقوقية والتشريعية والسياسية، أرسل عمر إلى محمد بن كعب القرظي يسأله أن يصف له العدل فأجابه: «... كن لصغير المسلمين أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم، ولا تضربن لفضلك سوطا واحدا فتتعدى فتكون عند الله عز وجل من العادين.»
52
وقال القرظي ينصح عمر أيضا: «لا تصحب من الأصحاب من خطرك عنده على قدر قضاء حاجته، فإذا انقطعت حاجته انقطعت أسباب مودته، اصحب من الأصحاب ذا العلى في الخير والأناة في الحق، يعينك على نفسك ويكفيك مؤنته.»
53
وقال عمر لميمون بن مهران: كيف لي بأعوان على هذا الأمر أثق بهم وآمنهم، قال: «يا أمير المؤمنين لا تشغل قلبك بهذا، فإنك سوق، وإنما يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، فإذا عرف أن النافق عندك الصحيح لم يأتوك إلا بالصحيح.»
54
ووعظ الحسن البصري عمر فقال له: «أما بعد ... اعلم يا أمير المؤمنين أن الدنيا دار ظعن وليس بدار إقامة ... ولها في كل حين صرعة ... هي تهين من أكرمها وتذل من أعزها ... ولها في كل حين قتلى، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه ... فكن يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه بصيرا على شدة الدواء مخافة طول البلاد، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا، فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب ومشيهم بالتواضع، ومطعمهم الطيب من الرزق، مغمضين أبصارهم عن المحارم، فخوفهم في البر كخوفهم في البحر، دعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء ... واعلم يا أمير المؤمنين أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، وأن الندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يغني - وإن كان كثيرا - بأهل أن يؤثر على ما يبقى - وإن كان طلبه عزيزا - واحتمال المئونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئونة باقية وندامة طويلة ... وانظر يا أمير المؤمنين الدنيا نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر المبتلى العاشق ...»
55
وقل له أيضا: «يا أمير المؤمنين إن استقمت استقاموا، وإن ملت مالوا، يا أمير المؤمنين لو أن لك عمر نوح وسلطان سليمان ويقين إبراهيم وحكمة لقمان ما كان لك بد من أن تقتحم العقبة، ومن وراء العقبة الجنة والنار، ومن أخطأته هذه دخل هذه.»
56
وأما العامل الثاني فيرجع إلى فلسفة عمر في الحياة، تلك الفلسفة التي تقول بالزهد وتخاف حساب الله واليوم الآخر مخافة عظمى ... وتسعى لاجتناب الشر واتباع الخير والاهتمام بالمصالح العامة قبل الاهتمام بالمصالح الخاصة، وكانت فلسفة عمر توحي إليه بالقناعة والتضحية والتعبد والنسك واحتقار الدنيا والنظر إليها نظر الراحل عنها، فهو يخاف الساعة الأخيرة ويرهب عذاب الله، وكل شيء لديه في سبيل مرضاة الله سهل حلو المذاق.
وهاك بعض فقرات من خطبة ترينا مذهبه في الحياة: «أيها الناس ... إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض، ألا واعلموا إنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه وباع نافذا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض ، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم غني عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مراقبته، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم من أحد يسعه ما عندنا إلا وددت أنه ساواني ولحمتي حتى يكون عيشنا وعيشه سواء، وايم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطقة وسنة عادلة يدل فيها على طاعته وينهي عن معصيته.»
57
ومن خطبه: «من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها، الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب فإن في القنوع سعة وبلغة وكفافا، إن أجل الدنيا في أعناقكم وجهنم أمامكم وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق وبعد فراغه وقد ذاق الموت والقوم حوله يقولون قد فرغ رحمه الله، وعاينتم تعجيل إخراجه وقسمة تراثه، ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار ، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين.»
58
وله أيضا: «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرا مما انتزع منه،
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .»
59
وغلبت على عمر خصال طيبة، فكان صفوحا حليما كريما، حتى ليقال إنه عرض له رجل بيده طومار «فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين فخاف أن يحبس دونه، فرماه - الرجل - بالطومار والتفت أمير المؤمنين فأصابه في وجهه فشجه، فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو في الشمس، فقرأ الكتاب وأمر له بحاجته وخلى سبيله.»
60
ولطالما أكرم ضيوفه وجلساءه وعاملهم معاملة الأخ للأخ والصديق للصديق، روى ابن الجوزي أنه «سمر ضيف عند عمر فاعتل السراج فذهب الضيف ليصلحه، فأمره عمر بالجلوس ثم قام فأصلحه، ثم عاد فجلس فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، ولؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه.»
61
ولما رأى الناس كرم خلقه وشدة غيرته على مصالحهم واهتمامه بتثبيت دعائم العدل في مختلف الأقطار راحوا يطمئنون للحكم الأموي، فدخل الأعاجم زرافات ووحدانا في الإسلام حتى قل خراج الدولة، ورمى الثوار والخوارج والعصاة في البلاد سلاحهم وقالوا: لا يجوز قتال الإمام العادل.
توفي عمر بدير سمعان من أعمال حمص مسموما كما أجمع المؤرخون سنة 101ه/719م، ويقال: إن بني أمية هم الذين دبروا له هذه المكيدة؛ لأنه ضيق عليهم ووضع يده على ما اغتصبوه من الأموال والأملاك، فحزنت الأمة عليه ورثاه شعراؤها وأدباؤها كالفرزدق وغيره، قال الفرزدق:
كم من شريعة حق قد شرعت لهم
كانت أميتت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف اللاهفين معي
على العدول التي تغتالها الحفر
لم يبك عمر المسلمون فحسب، بل بكاه المسيحيون من رعيته وأعدائه، قال أحد الأنباط: «أبكي على نور كان في الأرض فطفئ»، وقال أحد كبار البيزنطيين: «إني لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا وترهب وتعبد، ولكن أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها وترهب.»
62
نهج بعض الخلفاء من أمويين وعباسيين منهج عمر؛ لأنه أصبح المثل الأعلى في العدل عندهم، وقد اشتهر من بني أمية بعد هشام بن عبد الملك، فراقب أمور الدولة مراقبة شديدة، ووضع العيون والأرصاد في سائر الأمصار، فأحصى أعمال ولاته وحفظ أقوالهم وأخبارهم، قال ابن قتيبة مبالغا: «فلا خبر يكون ولا قصة تحدث في مشرق الأرض ولا مغربها إلا وهو يتحدث به في الشام وينظر فيه هشام، وقد أقصر نفسه على هذه الحال وحببت إليه هذه الأفعال، فكانت أيامه عند الناس أحمد أيام.»
63
وكان هشام رجلا عاقلا مفكرا، لا يبت في أمر قبل فحصه واختباره ومعرفة ما يرمي إليه من النتائج، وقد وصف عقال بن شبة هشاما بقوله: «دخلت على هشام فدخلت على رجل محشو عقلا»،
64
وقال الطبري: «لم يكن أحد من بني مروان أشد حصرا في أمر أصحابه ودواوينه ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام»،
65
ويمتاز بدقة نظره وحبه المفرط لجمع الأموال والاحتفاظ بها، حتى إنه نعت بالبخيل، تلك هي إصلاحات بني أمية، وكلها ترمي إلى العدل وإعلاء كلمة الحق كما رأيناه. ا.ه.
الفصل السابع
العمران الأموي
(1) أسباب العمران
أخفت عبد الملك بن مروان نيران الحروب الأهلية، فقضى الشطر الأكبر من حياته وهو يطارد الزعماء ويلاحق أرباب العصيان، فمهد بذلك السبل للتوغل والفتوح في الساحات المختلفة والاهتمام في البناء والعمران، فأسست المدن الوسيعة وشيدت المساجد في الشام والحجاز والعراق، وزينت العاصمة دمشق بأنواع الزينة، فحفرت فيها الترع والأقنية لري المزارع والبساتين، وكان الوليد خلفه شديد الكلف بالعمارات والأبنية واتخاذ المصانع والضياع، فزاد ذلك في رغبة الشعوب الإسلامية على اقتفاء أثره واتباع خطاه، ولا ريب أن الأموال الكثيرة التي تدفقت على خزانة الدولة من مختلف الأمصار هيأت أسباب العمران، وكان السلام منتشرا فعمت الرفاهية وسادت الطمأنينة، فالتفت الناس إلى مجاراة ولاتهم وحكامهم في استحداث الأبنية التاريخية التي لا تزال أثرا شاهدا على علو كعب الأمويين في فن العمارة. (2) جغرافية سورية
قسم العرب الفاتحون سورية إلى خمسة أجناد وهي: (1) جند فلسطين (2) وجند الأردن (3) وجند حمص (4) وجند قنسرين (5) وجند دمشق أما جند فلسطين فأشهر مدنه بيت المقدس وغزة وعسقلان، وأما جند الأردن فكانت مدينته طبرية، وعرف به الغور واليرموك وبيسان، وأما جند حمص فكانت عاصمته حمص، وأما جند قنسرين فكانت عاصمتها مدينة قنسرين في ابتداء الإسلام، ثم قامت حلب مقامها في عصر الدولة الحمدانية ، وذلك حينما غلبت الروم - البيزنطيون - عليها سنة 351ه/962م وتفرق أهلها في البلاد، فطائفة عبرت الفرات وطائفة نقلها سيف الدولة ابن حمدان إلى حلب،
1
وأما جند دمشق فكان يشتمل على الغوطة وقراها وبساتينها.
ولما امتدت الفتوح أطلق العرب على البصرة والكوفة اسم المصرين أو العراقين، وجعلوا مصر مقاطعة بذاتها، وقد ذكر الجغرافيون أن أشهر مدنها كانت الفسطاط وعين الشمس والفرما والعريش وبوصير والإسكندرية وإيلة، وكانت الولايات العجمية كالأهواز وتستر وجور وأصطخر وحلوان وتلقب بفارس، أما خراسان فكانت تشمل الري ومرو وهراة وبلخ وخوارزم وجرجان وكابل وسمرقند وفرغانة ودينور وطبرستان وأصبهان وغيرها، وقد غير العباسيون هذه التعاليم الجغرافية ونظموها تنظيما أقرب إلى الكمال والدقة.
2 (3) جغرافية الدولة الأموية
ذكرنا لك هذه الأقسام الجغرافية لتتعرف إلى المملكة الأموية، وكل قصدنا من إيرادها أن نظهر أن الدولة الأموية اهتمت اهتماما كليا في عمارة سورية، وبذلت الأموال الطائلة في تشييد مدنها وتزيين أسواقها ومرافقها بالنسبة إلى غيرها من المقاطعات الإسلامية، وكانت الخزينة كريمة في صرف أموال الجباية والخراج المجلوبة من الولايات الفارسية والتركستانية والمصرية وغيرها في سبيل إنشاء المدن السورية وتنظيم العاصمة دمشق. (3-1) دمشق
أجمع المؤرخون والجغرافيون العرب على أن دمشق هي بلد قد وهبتها الطبيعة جمالا فائقا، فتراها كثيرة الأنهار وافرة الجنان، قال ياقوت: «قل أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدا ولا مدرسة ولا خانقاها إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسبح في منصته»،
3
وهي نضيرة البقاع تحيط بها من جميع جهاتها الجبال وأشهرها جبل قاسيون، وتمتاز بكثرة الفواكه، حتى إنها تحمل إلى مصر وحران، ويصف المقدسي دمشق فيذكر شيئا عن أحوال اجتماعها فيقول: «دمشق هي مصر الشام ودار الملك أيام بني أمية وثم قصورهم وآثارهم، بنيانهم خشب وطين، أكثر أسواقها مغطاة ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن ... وهو بلد قد خرقته الأنهار وأحدقت به الأشجار وكثرت به الثمار مع رخص أسعار، لا ترى أحسن من حماماتها ولا أعجب من فواراتها ولا أجزم من أهلها ... وهي طيبة جدا غير أن في هوائها يبوسة ... ولحومها عاسية ومنازلها ضيقة وأزقتها غامة وأخبازها ردية، والمعايش بها ضيقة.»
4 (أ) الصالحية
ويصفها القلقشندي ثم يذكر الصالحية فيقول: «وهي مدينة عظيمة البناء، ذات سور شاهق ولها سبعة أبواب: باب كيسان، باب شرقي، باب توما، باب الصغير، باب الجابية، باب الفراديس، الباب المسدود، وهي ... حسنة الترتيب، جليلة الأبنية، غوطتها أحد مستنزهات الدنيا العجيبة المفضلة على سائر مستنزهات الدنيا ... بها الجوامع والمدارس والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجليلة المذهبة السقف المفروشة بالرخام المنوع، ذات البرك والماء الجاري، وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها، والماء محكم عليها من جميع نواحيها، وغالب بنائها بالحجر، وعناية أهلها بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه، ويستعمل في عماراتها خشب الحور وأجل حاضرتها ما هو في جانبيها الغربي والشمالي.
فأما جانبها الغربي ففيه قلعتها، تحيط بها وبالمدينة جميعها أسوار عاليه، ويحيط بها خندق يطوف الماء منه بالقلعة، إذا دعت الحاجة إليه أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمها.
وبإزاء المدينة في سفح جبل قاسيون مدينة الصالحية، وهي مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى يشرف على دمشق، وغوطتها ذات بيوت ومدارس وأسواق وبيوت جليلة، ولكل من دمشق والصالحية البساتين الأنيقة يتسلسل جداولها، وتغني دوحاتها، ويتمايل أغصانها، وتغرد أطيارها، وفي بساتين النزهة بها العمائر الضخمة والجواسق العلية والبرك العميقة والبحيرات الممتدة تتقابل بها الأواوين والمجالس، تحف بها الغراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف والحور الممشوق القد والرياحين المتأرجة الطيب والفواكه الجنية والثمرات الشهية ...»
5
فترى أن ياقوت والمقدسي والقلقشندي أجمعوا على الاعتراف بجمال دمشق ولطف بساتينها وكثرة مدارسها وأبنيتها في مختلف العصور التي عاشوا بها، وهي بلا جدال بلد صحي أعجب الخلفاء الأمويين والعباسيين، حتى قال ابن عساكر: «لم تزل ملوك بني العباس تخف إلى دمشق طلبا للصحة وحسن المنظر، منهم المأمون، فإنه أقام بها، وبنى القبة التي في أعلى جبل مروان، وصيرها موقدا يوقد في أعلاه النار، ويقال: إن المأمون نظر يوما من بناء كان فيه إلى أشجار الغوطة وبنائها فحلف بالله إنها خير مغنى على وجه الأرض.»
6 (ب) جامع بني أمية
ولو أتيح لنا زيارة دمشق في أواخر عهد الوليد لاستجلب أنظارنا مسجدها الجامع المعروف اليوم بجامع بني أمية، فترى به القواعد الكبيرة والأساطين العظيمة والأعمدة الجميلة والمحاريب المزينة والقبب البديعة والأروقة المرصعة والفسيفساء الملونة والنقوش المتنوعة والفصوص المذهبة والمرمر المصقول، وقد جمع الوليد لدى عمارته أشهر البناة والمهندسين من الهند وفارس والمغرب وبيزنطية، ويقال: إنه أنفق عليه خراج الشام سبع سنين.
أسباب تشييد مسجد بني أمية
أما الأسباب التي دفعت الأمويين لتشييد المسجد الجامع فهي.
أولا:
مجاراة المسيحيين ومضاهاتهم في بناء معابدهم كما يؤثر الخلفاء على العامة، ولئلا يقال: إن بيع النصارى أحسن فنا وأدق بناء وأجمل زخرفة من مساجد المسلمين، نستشهد على هذا بما رواه المقدسي حينما سأل عمه معترضا على كثرة الأموال التي أنفقت على هذا الجامع قال: «وقلت يوما لعمي: يا عم لم يحسن الوليد حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو أصرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورم الحصون لكان أصوب وأفضل، قال: لا تفعل يا بني، إن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلد النصارى، ورأى لهم فيها بيعا حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها كالقمامة وبيعة لد والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدا شغلهم به عنهن وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»
7
ثانيا:
منافسة الأجانب البيزنطيين في بنائهم أيضا وحبا بالظهور أمام الأغيار بمظهر القوة والغنى، وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل يود لو ينزع الحلي التي زين بها الوليد المسجد الجامع لتصرف على قضاء حاجات المسلمين وتنفق في مصالحهم، فغير رأيه وقال: «لا أرى مسجد دمشق إلا غيظا على الكفار، فنزل عما كان هم به من نزع حليه .»
8
ثالثا:
ضيق فناء المسجد الذي اتخذه معاوية للمصلين، وكان موضع هذا المسجد كنيسة يصلي المسلمون في ناحية منها والنصارى في ناحية، فلم يزالوا كذلك حتى كثر عدد المسلمين في دمشق وتوافدت الناس إليها من كل صوب في أيام الوليد، فطلب إلى المسيحيين أن يعطوه النصف المختص بهم لقاء إضعاف ثمنه، وتعهد لهم ببناء كنيسة في دمشق حيث شاءوا، فأبوا عليه فهدمه مدعيا أن المسلمين الفاتحين أخذوه عنوة وأضافه للمسجد، وكان أول من هدم فيه حجرا.
قال ابن عساكر يصف هدم هذا النصف من الكنيسة: «لما عزم الوليد على الهدم قال له النصارى: لا يهدمها أحد إلا جن ... فخرج الوليد ومعه وجوه أهل البلد حتى ملئوا الكنيسة، فأتى بفأس وقال: إن هؤلاء يزعمون أن أول من يهدمها يجن وأنا أول من يجن في الله تعالى، وتناوله كل من حضر.»
9
ومما هو جدير بالذكر؛ أن الجند الإسلامي المحارب اشترك في نقل الأدوات اللازمة للبناء واستجلبها من مختلف الأصقاع، أخبرنا ذلك أحد الغزاة الشاميين فقال: «كنا معشر أهل الشام وإخواننا من أهل مصر وإخواننا من أهل العراق نغزو، فيفرض على الرجل منا أن يحمل من أرض الروم قسما من الفسيفساء وذراعا في ذراع من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب، ويستأجر من يحمله إلى دمشق، ويحمله أهل حمص إلى حمص ويستأجروا من يحمله إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق ومن ورائهم حصتهم إلى دمشق.»
10
أسهب المؤرخون والأدباء في وصف المسجد الأموي وذكر أروقته ومحاريبه ونقوشه وأعمدته، وإنني مقتطف لك فقرات بعيدة عن المبالغة، وهي لأشهر الثقات الذين كتبوا في هذا الموضوع:
قال المقدسي: «الجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يعلم لهم مال مجتمع أكثر منه، قد رفعت قواعده بالحجارة الموجهة كبارا مؤلفة، وجعل عليهم شرف بهية، وجعلت أساطينها أعمدة سودا ملسا على ثلاثة صفوف واسعة جدا، وفي الوسط إزاء المحراب قبة كبيرة، وأدير على الصحن أروقة متعالية، ثم بلط جميعه بالرخام الأبيض، وحيطانه إلى قامتين بالرخام المجزع، ثم إلى السقف بالفسيفساء الملونة ، في المذهبة صور أشجار وأمصار وكتابات على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة، وأقل شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان، وطليت رءوس الأعمدة بالذهب، وقناطر الأروقة كلها مرصعة بالفسيفساء، وأعمدة الصحن كلها رخام أبيض وحيطانه بما يدور والقناطر وفراخها بالفسيفساء نقوش وطروح، والسطوح كلها ملبسة بشقاق الرصاص، والشرافيات من الوجهين بالفسيفساء، وعلى الميمنة في الصحن بيت مال على ثمانية عمد مرصع حيطانه بالفسيفساء، وفي المحراب وحوله فصوص عقيقية وفيروزجية كأكبر ما يكون من الفصوص، وعلى الميسرة محراب آخر دون هذا للسلطان، وقد كان تشعث وسطه فسمعت أنه أنفق عليه خمسمائة دينار حتى عاد إلى ما كان، وعلى رأس القبة ترنجة فوقها رمانة كلاهما ذهب.
ومن أعجب شيء فيه تأليف الرخام المجزع كل شامة إلى أختها، ولو أن رجلا من أهل الحكمة اختلف إليه سنة لاستفاد منه كل يوم صنعة وعقدة أخرى ... ويدخل إليه العامة من أربعة أبواب: باب البريد عن اليمين، كبير له فرخان عن يمين وشمال على كل واحد من الباب الأعظم، والفرخان مصراعان مصفحة بالصفر المذهب، وعلى الباب والفرخين ثلاثة أروقة كل باب منهما يفتح إلى رواق طويل قد عقدت قناطر على أعمدة رخام ... وجميع السقوف مزوقة أحسن تزويق، وفي هذه الأروقة موضع الوراقين ومجلس خليفة القاضي ... يقابله عن اليسار باب حيرون وباب الساعات وباب الفراديس، وعلى كل من هذه الأبواب ميضأة مرخمة ببيوت ينبع فيها الماء وفوارات خارجة في قصاع عظيمة من رخام، ومن الخضراء وهي دار السلطان أبواب إلى المقصورة مصفحة مطلية ... وأنفق عليه ثمانية عشر حمل بغل ذهب.»
11
وقال ابن عساكر: «قال أبو يوسف يعقوب بن سفيان: قرأت في قبلة مسجد دمشق صفائح مذهبة بلازورد «بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم»
12
إلى آخر الآية، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، ربنا الله وحده، وديننا الإسلام، ونبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ، أمر ببناء هذا المسجد وهذه الكنيسة التي كانت فيه عبد الله الوليد أمير المؤمنين في «ذي القعدة من سنة ست وثمانين»، وهذه الكتابة في ثلاث صفائح منها وفي الرابعة سورة الفاتحة إلى آخرها ثم النازعات ثم عبس ثم التكوير الكل بتمامها، وقدمت بعد ذلك فرأيت هذا قد محي وكان ذلك قبل المأمون ... وكانت القناديل إذا أطفئت في مسجد دمشق يسد الواحد منا أنفه لما يفوح من رائحة المسك ... وكان في مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخم، ويقال: إن المرمر كان كثيرا.»
13
وروى ياقوت في معجم البلدان عن أحد الأدباء: «هو جامع المحاسن ... معدود من إحدى العجائب، قد زور بعض فرشه بالرخام وألف على أحسن تركيب ... صنعته مؤتلفة، بساطه يكاد يقطر ذهبا ويشتعل لهبا، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان، لكنها لا تجنى إلا بالأبصار ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار، بل باقية على طول الزمان»، وقال أيضا: «لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صنائعه واختلافها.»
وقال موسى بن حماد البربري: «رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورا سورة «ألهاكم التكاثر» إلى آخرها»، وحكى الجاحظ في كتاب البلدان: «مسجد دمشق مبني على الأعمدة الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار والتي فوقها صغار، في خلال ذلك صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا بالفسيفساء الذهب والأخضر والأصفر، وفي قبة القبلية المعروفة «بقبة النسر» ليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرا منها، ولها ثلاث منائر أشهرها المنارة البيضاء، ولم يزل جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة 461ه فذهب بعض بهجته.»
14
وذكر القلقشندي مساحته فقال: «وذرعه في الطول من المشرق إلى المغرب مائتا خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الشمال مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع.»
15 (ج) قصر الخضراء
وقد يستلفت نظرك أيضا لدى زيارتك دمشق قصر معاوية الأول ويعرف بالخضراء، فزاد عبد الملك عليه وحسنه واشتراه حسبما روى ابن عساكر بأربعين ألف دينار.
16 (د) أنهار دمشق
وإذا توغلنا في أنحاء العاصمة وزرنا بساتينها لرأينا أن مسقاها من بردى، وهو يقسم على سبعة أنهر: أربعة غريبة، وهي نهر داريا ونهر المزة ونهر القنوات ونهر بانياس، واثنان شرقية وهما نهر يزيد ونهر تورا، ونهر بردي ممتد بينهما،
17
وكان نهر يزيد صغيرا لا يسقي إلا قريتين من قرى الغوطة، فلما ولي أمر بحفره وعرضه فقام الفلاحون يعارضونه فلطف بهم، أخبرنا ذلك ابن عساكر فقال: «وولي يزيد فنظر إلى أرض واسعة ليس لها ماء وكان مهندسا، فنظر إلى النهر - نهر يزيد - فإذا هو صغير، فأمر بحفره، فمنعه من ذلك أهل الغوطة ودافعوه، فلطف بهم على أن ضمن لهم خراج سنتهم من حاله، فأجابوه إلى ذلك، فاحتفر نهرا سعة عرضه ستة أشبار في عمق ستة أشبار على أن له ملء جنبتيه.»
18
وكان يزيد الأول مهندسا، فأصلح مجاري الأنهار لينتفع بها الأهلون، وشاد السكان المباني على جانبي نهر تورا حتى دعاه القلقشندي بنيل دمشق، وتجد الناس منتزهاتها بالقرب منه وهو أشبه شيء بالزمردة الخضراء لالتفاف الأشجار عليه، والحقيقة أن هذه الأنهار ينتفع بها الدمشقيون وأهل الغوطة فيتوزع منها الماء إلى البساتين والمزارع من المواصي، ويدخل من بعدها إلى البلد في القنى، ثم يتفرق إلى البرك والحمامات، ويجري في الشوارع والسقايات.
19 (ه) رصافة الشام
نزع الخلفاء الأمويون إلى الترف والرفاهية والتمتع بملاذ الحياة الهادئة، فشاد هشام بن عبد الملك رصافة الشام، وهي في غربي الرقة وتبعد عنها نحوا من أربعة فراسخ، وكان ينزلها في الصيف فيضرب بها السرادقات، وإذا حل الطاعون في دمشق وفشا بها هرب منها وجعل الرصافة مكان إقامته، ويذكر المؤرخون أنها من عمل الغساسنة، فأتى هشام وعمر سورها وبنى بها قصوره، والغريب أنه ليس عندها نهر ولا عين جارية إنما يستقي أهلها من الصهاريج، وإذا فرغت هذه الصهاريج في مواسم الصيف الشديدة القيظ يرسل أغنياؤهم في طلب الماء من الفرات، قال ياقوت: «يمضي أحدهم إلى الفرات العصر فيجيء بالماء في غداة غد»،
20
ويدين سكان الرصافة بالنصرانية، أما معاشهم فتخفير القوافل وجلب المتاع وغزل الصوف ونسجه.
21
قلنا: إن هشاما كان يرتاد الرصافة لترويح الخاطر من عناء الأشغال وانتجاعا للصحة وهربا من الطاعون في بعض الأحيان، فقدمت عليه الوفود من الجهات لقضاء حاجاتها وأتت إليه أهل المظالم تطلب العدل والإنصاف من أرباب الجور والعسف، فأسس مجلسا للقضاء أدنى إليه الضعفاء والنساء واليتامى، وأقصى عنه المتنفذين والأقوياء، وقد طار صيت الرصافة فوصف لنا الكتاب والمتأدبون جمالها وأطنبوا في مديح هشام وعدالته.
فقال فيها أحد النبلاء من العراق: «قدمت على هشام وقد خرج منتدبا في قرابته وأهله وحشمه وحاشيته من أهله إلى بعض وادي الرصافة، فنزل في أرض قاع صحصح أفيح في عام قد بكر وسيمه - مطره - وقد ألبست الأرض أنواع زهرتها وأخرجت ألوان زينتها من نور ربيعها، فهي في أحسن منظر وأجمل مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، فلو أن قطعة دينار ألقيت فيه لم تثرب، وقد ضرب له سرادقات من حبرات اليمن مزرورة بالفضة والذهب، وضرب له فسطاطه في وسطه فيه أربعة أفرشة من خز أحمر مثلها مرافقها، وعليه دراعة خز أحمر وعمامة مثلها، وضربت حجر نسائه من وراء سرادقه، وعنده أشراف قريش وقد ضربت حجر بنيه وكتابه وحشمه بقرب فسطاطه.
وكان له موضع بالرصافة أفيح من الأرض يبرز فيه فتضرب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة بارزا للناس مباحا للخلق لا يفنى أيامه تلك إلا برد المظالم والأخذ على يد الظالم من جميع الناس وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته بذلك الموضع داعي السوام والأمة السوداء فمن دونهما، قد وكل رجالا أدباء عقلاء بإدناء الضعفاء والنساء واليتامى منه، وأمرهم بإقصاء أهل القوة والكفاية حتى يأتي على آخر ما يكون من أمره فيما دفع إليه، لا ينضم إليه رجل يريد الوصول إليه فينظروا أوضع منه إلا أدنوا الأوضع وأبعدوا الأرفع حتى ينظر في شأنه ويعرف أمره وينفذ فيه ما أمر، ولا يرفع إليه ضعيف ولا امرأة أمرا وظلامة على غطريف من الناس مرتفع القدر ... إلا أمر باقتضاء يمينه ... حتى لربما تمر به المرأة والرجل أو عابر سبيل لا حاجة له فيما مر به فيقال له: ما حاجتك؟ وما قصتك؟ وما ظلامتك؟ فيقول: إنما سلكت أريد موضع كذا أروم بلد كذا، فيقول له: لعلك ظلمك أحد من آل الخليفة تهاب أمره وتتوقع سطوته فذلك الذي منعك عن رفع ظلامتك إلى أمير المؤمنين؟ فيقول: لا والله لا أبغي إلا ما قلت، فيقال له: اذهب بسلام، حتى لربما أتت عليه تارات من الليل وساعات من النهار لا ينظر في شيء ولا يأتيه أحد في خصومة لاستغناء الناس عن المطالب وتعففا من المظالم ووقاية من سطواته وتخوفا من عقوبته، وقد وسع العباد أمنه وأشعرهم عدله وصارت البلاد المتنائية الشاسعة كدار واحدة ترجع إلى حاكم قاض يرقبه الناس في المواضع النائية عنه كما يرقبه من معه.»
22
وكان سليمان بن عبد الملك واليا على جند فلسطين في أيام أخيه الوليد، فنزل «لد» - أكبر محطة في فلسطين للسكك الحديدية اليوم - فلم تعجبه ولم ترق له الإقامة فيها، فقدم الرملة، وهي رباط للمسلمين منذ الفتح فمصرها وبنى بها قصره ودارا تعرف بدار الصباغين، واختط المسجد وعمره وزينه واحتفر لهم الآبار والأقنية، وكان بنو أمية ينفقون على آبار الرملة إلى أواخر أيامهم، وأصاب الرملة الدمار في خلال الحروب الصليبية، وهي تكاد تكون اليوم قرية، وكانت زاهية زاهرة في أيام المقدسي الجغرافي، فيقول عنها: «قصبة فلسطين بهية حسنة البناء خفيفة الماء مرية واسعة الفواكه جامعة الأضداد بين رساتيق جليلة ... وقرى نفيسة والتجارة بها مفيدة والمعايش حسنة، ليس في الإسلام أبهى من جامعها ولا أحسن ولا أطيب من حواريها، ولا أبرك من كورتها ولا ألذ من فواكهها، موضوعة بين رساتيق زكية ومدن محيطة ورباطات فاضلة، ذات فنادق رشيقة وحمامات أنيقة وأطعمة نظيفة وإدامات كثيرة ومنازل فسيحة ومساجد حسنة وشوارع واسعة ... قد خطت في السهل وقربت من الجبل والبحر وجمعت التين والنخل وأنبتت الزروع على البعل وحوت الخيرات والفضل، غير أنها في الشتاء جزيرة من الوحل وفي الصيف ذريرة من الرمل، لا ماء يجري ولا خضر ولا طين جيد ولا ثلج، كثيرة البراغيث عميقة الآبار مالحة وماء المطر في جباب مقفلة، فالفقير عطشان والغريب حيران.
وجامع القصبة في الأسواق أبهى وأرشق من جامع دمشق، يسمى «الأبيض» ليس في الإسلام أكبر من محرابه، ولا يعد منبر بيت المقدس أحسن من منبره، وله منارة بهية بناه هشام بن عبد الملك ... وأرض المغطى مفروشة بالرخام والصحن بالحجارة المؤلفة وأبواب المغطى من الشربين والتنوب مداخله محفورة حسنة جدا.»
23 (3-2) واسط العراق
يمكننا القول دون جدال: إن الأمويين شادوا الرصافة والرملة حبا بالنزهة وطلبا للراحة، أما تأسيسهم المدن في العراق فكان لمقصد غير المقصد الذي ذكرناه وأتينا على بيانه، كلنا يعلم أن العراق كان دوما متهيئا للثورة على بني أمية، وكلنا قد شعر بالضغائن التي كان يحملها أهل الكوفة وأهل البصرة على الأمويين وولاتها، فأقام الحجاج مدينة متوسطة بين البصرة والكوفة لا تبعد أكثر من خمسين فرسخا عن كل منهما؛ ولذلك كان بوسعه أن يشرف على أعمال سكان المصرين ويضربهم كلما حدثتهم النفس بالعصيان، وشرع الحجاج في عمارة واسط في سنة 84ه وفرغ منها سنة 86ه/703-705م، وتمتاز واسط بطيب هوائها وكثرة بساتينها ونخيلها، وقد أكد له أطباؤه وبعض ثقاته أنهم استطابوا ليلها واستعذبوا أنهارها واستمرءوا طعامها وشرابها.
24
أما أشهر المباني التاريخية التي شادها الحجاج في واسط فهي المسجد الجامع والقبة الخضراء والقصر والسور، وكان ذرع قصره أربعمائة في مثلها ، وذرع المسجد الجامع مائتين في مائتين، ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من الجهات المختلفة من العراق، فاحتج أهل هذه الجهات وضجوا وقالوا: قد غصبتنا على مدائننا وأموالنا، فلم يلتفت إلى قولهم ولم يغنهم احتجاجهم عليه فتيلا، وقد زار ياقوت واسطا فوصفها بقوله: «ورأيت أنا واسطا مرارا فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيلا يفوت الحصر، وكان الرخص موجودا فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف، بحيث إني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين، واثنتي عشرة دجاجة بدرهم، وأربعة وعشرين فروجا بدرهم ، والسمن اثنا عشرة رطلا بدرهم، والخبز أربعون رطلا بدرهم، واللبن مائة وخمسون رطلا بدرهم، والسمك مائة رطل بدرهم، وجميع ما فيها بهذه النسبة.»
25 (3-3) جامع بيت المقدس
جرت السنة لدى الخلفاء الأمويين أن يشيدوا المساجد ويعمروا بيوت الله لتكون زينة للمدن ومركزا وسيعا لاجتماع المسلمين وغيظا على الأجانب والأغيار، فأقام الوليد الجامع الأموي في دمشق، وقد أسهبنا لك في وصفه وبيان محتوياته، وبنى والده عبد الملك بمساعدته جامع بيت المقدس أو جامع الصخرة، وتباينت رواية الذين زاروه وشاهدوه من المؤرخين في العصور المختلفة في ذكر مساحته وعدد عمده ومحاريبه ومنابره والأموال التي أوقفت له.
قال المقدسي: «... وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقابل المحراب يسمى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهب ... والسقوف كلها إلا المؤخرة ملبسة بشقاق الرصاص، والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط وسطه دكة يصعد إليها من الأربع جوانب في مراق واسعة وفي الدكة أربع قبات، وطول المسجد ألف ذراع بذراع الملك الإشباني، وعرضه سبعمائة، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السطح خمسة وأربعون ألف شقفة رصاص، وخدامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خمس الأسارى؛ ولذلك يسمون الأخماس، لا يخدمه غيرهم، ولهم نوب يحفظونها، وكانت وظيفته في كل شهر مائة قسط زيت وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصر.»
26
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: «طول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعا، وعرضه أربعمائة ذراع وخمسة وخمسون ذراعا ، ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون بابا، وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عمودا، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب، وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلا بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس، وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعا في عرض خمسين ذراعا، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفا وفيه من المحاريب عشرة، وفيه أربعة وعشرون جبا للماء، وفيه أربعة منائر للمؤذنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مذهبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكا يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين، ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف.»
27
وقال الهمداني في كتاب البلدان: «يقال: إن طول مسجد بيت المقدس ألف ذراع وعرضه سبعمائة، وفيه سبعمائة عمود، وخمسمائة سلسلة نحاس، ويسرج فيه كل ليلة ألف وستمائة قنديل، وفيه من الخدم مائة وأربعون خادما، وله من الحصر كل سنة ثمانمائة ألف ذراع، وفيه خمسة وعشرون ألف جب للماء، وفيه ستة عشر تابوتا للمصاحف، وفيه أربعة منابر للمطوعة وواحد للمرتزقة، وله أربعة مياضئ ... وقبة الصخرة بناها عبد الملك بن مروان على اثني عشر ركنا وثلاثين عمودا ... هذا أيام خليفتنا المعتضد بالله.»
28
وقال ياقوت في معجم البلدان: «وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه، وهو على غاية الحسن والإحكام، مبني على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منه، لا جامع دمشق ولا غيره، في وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منعمة من برا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى قبة الصخرة التي تزار.»
29
أحببت أن أثبت لك هذه الروايات المختلفة المتباينة لتعلم معنى المبالغة وكم يجب أن نحذر منها في دراستنا التاريخ، ولو درست هذه الروايات تماما لوجدت أن الهمداني والمقدسي يعطيانك على وجه التقريب عين الأرقام فيما يختص بمساحة مسجد بيت المقدس وعدد عمده وأذرع الحصر التي تفرش فيه، لكن الغرابة كل الغرابة حينما تأتي إلى عدد الآبار فيعددها ابن عبد ربه فإذا هي 24 ويعددها الهمداني فإذا هي 25000 فتأمل! أليست هذه الحال من الفضائح في التاريخ فاجتنبها ما قدرت رحمك الله، وهاك قائمة تسهل عليك نوعا المقابلة بين هذه الروايات:
المقدسي
ابن عبد ربه
الهمداني
ياقوت
الطول والعرض
700 × 1000
455 × 784
700 × 1000
عدد القناديل
1500
1600
العمد
700
684
700
الأبواب
26
50
الحصر
800000 ذراع
800000
800000
الآبار
24
25000
25000
الخدم
280
140
140 (3-4) المسجد الحرام
واهتم الأمويون في تجديد المسجد الحرام في مكة وتوسيعه وإتقانه وتحسين كسوته، فزاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري من مصر في البحر إلى جدة، وحملت من جدة على العجل إلى مكة، ولما ولي الوليد زاد في حليته وزين سقفه بأطواق الياقوت والزبرجد المجلوب من الأندلس،
30
وكان أول من بناه عمر بن الخطاب، فلما كانت السلطة في الحجاز لابن الزبير جعل فيه عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسنها ... وطيب الأمويون الكعبة بأنواع الطيب وكسوها الديباج بعد أن كانت تكسى بالثياب اليمانية والقباطي،
31
ووصف لنا ابن عبد ربه البيت الحرام بقوله: «صحنه كبير واسع، ذرعه طولا أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرعه عرضا ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وله عمد رخام بيض عددها في طوله من الشرق إلى الغرب خمسون عمودا وفي عرضه ثلاثون عمودا، وجملة عمد المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون عمودا، طول كل عمود منها عشرة أذرع ودوره ثلاثة أذرع، المذهبة من رءوس العمد ثلاثمائة وعشرون رأسا، وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء، وله ثلاثة وعشرون بابا.»
32 (3-5) مسجد المدينة
اعتنى الأمويون أيضا في توسيع مسجد المدينة وتزيينه، فاشترى عمر بن عبد العزيز الدور التي حوله في عهد الوليد وزادها فيه وجدد بناءه، وبعث إلى بيزنطية يشتري الفسيفساء فوجهوا إليها منها أربعين وسقا فشحنها إلى المدينة ورصع بها المحاريب والسقوف، وأول من بنى هذا المسجد الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم ، وكان بناؤه باللبن وسقفه جريد وعمده خشب النخل، فأصلحه عثمان بن عفان حينما تولى وبناه بالحجارة المنقوشة.
33 (3-6) الأمويون والتماثيل
نحمد للأمويين اهتمامهم بالعمران وانصرافهم إليه وبذلهم الأموال الطائلة في سبيله، ولكننا لا نحمد لهم صنيعهم في تخريبهم التماثيل، فقد أساءوا بذلك إلى العلم والفن، أساءوا إلى العلم لأننا فقدنا بفقدها آثارا ناطقة عن الأمم التي سكنت هذا الشرق الإسلامي قبل العرب، وأساءوا إلى الفن لأن التماثيل تخبرنا عن مبلغ ما وصلت إليه تلك الأمم من رقة الشعور ومعرفة الجمال، فأمر يزيد بن عبد الملك سنة أربع ومائة (722م) بكسر الأصنام في أنحاء البلاد كلها فكسرت ومحيت التماثيل وخصوصا من مصر.
34
ا.ه.
الفصل الثامن
أحوال الاجتماع الأموي
أتحنا لأنفسنا في الفصل الذي سلف أن نزور دمشق في أواخر عهد الوليد، وأن نتمتع بمناظرها الجميلة الفتانة، وأن نشاهد عمرانها، فرأينا المسجد الجامع وقصر الخضراء، ثم تجولنا في أطرافها فكحلنا العيون بمرأى الغوطة الملتفة الأشجار ونهر بردى مع روافده السبعة، وإننا الآن نود لو نسير وإياك فنختلط مع سكانها كبيرهم وصغيرهم، شريفهم ووضيعهم؛ لنتعرف إلى أحوال اجتماعهم وطراز حياتهم وأساليب تجارتهم وأنواع نقودهم وشكل بريدهم ومعاني التربية والأخلاق عندهم، إننا بذلك نفهم ما ورثنا من عادات وتقاليد، وما طرأ عليها من التطور والتغيير خلال هذه العصور. (1) التجارة
اشتدت الحركة التجارية في الشام حينما كثرت الأموال وبدأ الأغنياء ينزعون للترف ويقلدون البيزنطيين في لبس الحرير واتخاذ الأثاث الغالي في بيوتهم، فكنت ترى التجار من الفرس والبيزنطيين والأندلسيين والصقالبة وبعض العرب يجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف، ثم يمضون إلى المشرق فينتابون السند والهند والصين فيحملون منها المسك والعود والكافور والدارصيني، وقبلتهم في ذهابهم وإيابهم دمشق عاصمة الخلافة، وكانوا يسافرون من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق برا وبحرا، أما الطرق التي يتبعونها في رحلاتهم الطويلة فكانت إما من فرنسا إلى مصر - من فرنجة إلى الفرما - ومنها يركبون البحر الأحمر - القلزم - إلى جدة، ثم يمضون إلى الصين والهند ، وإما من فرنسا إلى أنطاكية فالجابية، ثم يركبون في الفرات فالدجلة إلى بغداد فالبصرة، ومنها يبحرون إلى عمان فالهند.
1
واشتهر لدى الدمشقيين جماعات التجار الصقالبة، وكان يحمل هؤلاء جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف من أوروبا، فيبحرون إما من فرنسا وإما من الأندلس إلى السوس الأقصى، فيصيرون إلى طنجة ثم إلى تونس فمصر فالرملة فدمشق فالكوفة فبغداد فالبصرة فالأهواز ففارس فكرمان فالسند فالهند فالصين، وكان يصحبهم في رحلاتهم الخدم الصقالبة المستعربة وغير المستعربة فيترجمون لهم.
أما البلاد الشامية فكانت تصدر الزيت والصابون والفواكه والحبوب والكاغد والثياب والسكر والزجاج والقطن والحديد والحوارة - وبه تبيض السقوف والسطوح - والحجارة البيضاء والرخام وغيرها، وقد ذكر المقدسي ما تصدره كل بلد في الشام، فقال: «يرتفع من فلسطين الزيت واليقطين والزبيب والخرنوب والملاحم والصابون، ومن بيت المقدس الجبن والقطن والتفاح والمرايا وقدور القناديل والإبر، ومن بيسان النيل والتمور، ومن عمان الحبوب والخرفان والعسل، ومن طبرية شقاق المطارح والكاغد، ومن القدس الثياب المنيرة والبلعيسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللون، ومن بيسان الأرز، ومن دمشق المعصور والديبا ودهن البنفسج والصفريات والكاغد والجوز، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة وقصب السكر والرطب والزيتون والنارنج والجوز والهليون والموز والسماق والكرنب والكمأة والترمس.»
2
وتعامل التجار الأجانب في المملكة الأموية بواسطة النقود البيزنطية والفارسية، وقد عرفها العرب منذ الجاهلية، فقال البلاذري: «كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية وترد عليهم دراهم الفرس البغلية، فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر»،
3
وكانت مختلفة الأوزان فوزن بعضها عشرين قيراطا واثني عشر قيراطا، والبعض الآخر عشرة قراريط.
ولا يغرب عن بالنا أنه كانت لقريش في مكة أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام فأقرها وثبتها، فكانت تزن الفضة بوزن تسميه درهما، وتزن الذهب بوزن تسميه دينارا، وكان عندهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزن الدرهم، والأوقية وتزن أربعين درهما، والنش وتزن عشرين درهما، والنواة وتزن خمسة دراهم. (2) النقود
قلنا إن النقود المتداولة بين أيدي الناس في المملكة الأموية كانت بيزنطية وفارسية، فلما استولى عبد الملك بن مروان على زمام الأمور نقل السكة والنقود إلى العربية، ويروى أن خالد بن يزيد بن معاوية أشار على عبد الملك بقوله: «يا أمير المؤمنين حرم دنانيرهم، فلا يتعامل بها، واضرب للناس سككا ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير ...» وكانت الأقباط تذكر المسيح في رءوس الطوامير وتنسبه إلى الربوبية وتجعل الصليب مكان «بسم الله الرحمن الرحيم»،
4
فضرب الدنانير وأمر عماله بضربها، فأنشأ الحجاج دارا لضرب السكة في العراق وجمع فيها الطباعين، فكان يضرب المال للخليفة مما يجتمع له من التبر، وختم أيدي الطباعين وشدد النكير عليهم ووضع قانونا يقضي بالقصاص الصارم والعذاب الشديد على المزيفين، ويذكر البلاذري أن عمر بن هبيرة وخالد بن عبد الله القسري ويوسف بن عمر ولاة العراق بعد الحجاج أفرطوا في الشدة على الطباعين وأصحاب الغيار، فقطعوا الأيدي وسجنوا المزيفين؛ لذلك كانت الدراهم الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، وكتب الحجاج على النقود التي سكها «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكتب أيضا بعد ذلك «الله أحد الله الصمد.» (3) دواوين الحكومة
قد تعجب فئة منا كيف أن الحكومة الأموية لم تعجل حالا لدى استلامها زمام الأحكام في ضرب نقود عربية باسمها تقوم مقام نقود الأغيار، وقد تستغرب هذه الفئة إذا قلنا لها: إن دواوين الحكومة الأموية ظلت تكتب باليونانية في الشام، وبالفارسية في العراق، وبالقبطية في مصر، حتى عهد عبد الملك بن مروان، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى العجب والاستغراب، فكان الفرس والآراميون والقبطيون يفوقون العرب في إدارة الدواوين وضبط حسابات المالية وتدقيق المسائل الكتابية، هذا عدا أن العربية كانت تصارع اللغة القبطية في مصر والآرامية واليونانية في سورية والفارسية في العراق ولم تتغلب عليها، فلما كانت سنة 81ه/700م اشتدت حركة التعصب للعربية ومقاتلة اللغات الغريبة عن العرب، وكثر عدد المتعلمين من الشبان الأمويين الذين أخذوا ينافسون الأجانب، فأمر عبد الملك بنقل جميع دواوين الحكومة إلى العربية في جميع الأقطار، وألف لجنة للقيام بهذا العمل الخطير عهد رئاستها إلى سليمان بن سعد، وأمده بالمال فأعانه بخراج الأردن سنة كاملة - ويقدر بمائة ألف وثمانين ألف دينار - فلم تنته السنة إلا ونقلت جميع الدواوين إلى العربية، فتأثر الكتاب البيزنطيون من ذلك إذ فقدوا وظائفهم وأجبروا أن يتطلبوا العيش من غيرها، روى ذلك البلاذري فقال: «فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله وأتى به عبد الملك، فدعا بسرجون كاتبه فعرض ذلك عليه فغمه وخرج من عنده كئيبا، فلقيه قوم من كتاب الروم فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.»
5
وقد بذل الموظفون الفرس مالا كثيرا لصالح بن عبد الرحمن رئيس اللجنة التي أوكل إليها نقل الديوان من الفارسية إلى العربية في العراق فلم يفلحوا؛ لأن الحجاج كان من ورائه يشرف على كل صغيرة وكبيرة، ولأن صالح بن عبد الرحمن يصبح رئيسا لشعبة كبرى من هذه الدواوين إن نجح في إتمام تعريبها، فلم يزل مكبا على تعريبها مع زملائه حتى تم له ما أراد، واعترف أحد الكتبة الفرس عما أصابهم من الألم من نقل هذه الدواوين إلى العربية فقال: «بذلت لصالح مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك فأبى ونقله.»
6
ولم ينقض عام 87ه/705م حتى أمر عبد الله بن عبد الملك بالدواوين فنسخت بالعربية، وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية، وصرف الأمير عبد الله أشناس عن الديوان.
7 (4) الموازين
أما الموازين التي كان يستعملها التجار فكانت تختلف باختلاف البلاد الأموية، وقد عرفنا منها: (1) القفيز (2) الويبة (3) المكوك (4) الكيلجة (5) والقب (6) والمدى (7) والغرارة (8) والرطل (9) والأوقية (10) والدرهم (11) والحبة (12) والدانق.
فأما الكيلجة فهي نحو صاع ونصف، والمكوك نحو ثلاث كيالج، والويبة مكوكان، والقفيز أربع ويبان، والمدى نحو ثلثي القفيز، والغرارة قفيز ونصف، وكل رطل اثنا عشر أوقية، والدرهم ستون حبة، والحبة شعيرة واحدة، والدانق عشر حبات، وهذه الأوزان تتفاوت في البلاد. (5) البريد
ولا شبهة لدينا أن البريد كان يسهل على التجار أمورهم، فكانوا دوما على اتصال مع زملائهم في بقية الأقطار الأموية، وديوان البريد مصلحة تختص بالحكومة رأسا، فيبعث صاحبها بتحارير الخلافة وأوامرها ومراسيمها إلى مواضعها، ويتولى عرض الكتب من جميع النواحي على مقام الخلافة، ويحسن بصاحب البريد أن يكون عالما بأسماء البلدان والمواضع والمنازل وعدد الأميال والفراسخ التي بينها، قادرا على وصفها وبيان عمرانها وطبيعتها وطرقها ومسالكها، وهو الذي يعين المأمورين الضليعين في هذا المسلك في المحطات المختلفة.
قال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي: «ويكون إليه - لصاحب البريد - النظر في أمر المرتبين في السكك وتنجز أرزاقهم وتقليد أصحاب الخرائط في سائر الأمصار، والذي يحتاج إليه في صاحب هذا الديوان هو أن يكون ثقة إما في نفسه أو عند الخليفة القائم بالأمر في وقته؛ لأن هذا الديوان ليس فيه من العمل ما يحتاج معه إلى الكافي المتصفح، وإنما يحتاج إلى الثقة المتحفظ، والرسوم التي يحتاج إليها من أمر الديوان ما يضبط بها أعماله وأحواله، ولا غنى بصاحب هذا الديوان أن يكون عارفا بأمر الطرق ومواضع السكك والمسالك إلى جميع النواحي، ولا يحتاج في الرجوع بهذه المعرفة إلى غيره، وما أن سأله عنه الخليفة وقت الحاجة إلى شخوصه وإنقاذ جيش يهمه أمره وغير ذلك مما تدعو الضرورة إلى علم الطرق بسببه وجده عتيدا عنده ومضبوطا قبله ولم يحتج إلى تكلف عمله والمساءلة عنه.»
8 (6) العلم والتربية
عرفنا شيئا عن تجارة الدولة الأموية وأحوال تجارها والطرق التي سلكوها، ونقودهم وموازينهم والبريد الذي سهل عليهم سبل مواصلاتهم ومخابراتهم، وإنا سنجرب الآن أن نفهم شيئا عن العلوم التي اشتغل بها الأمويون وأصول التربية التي استناروا بنورها.
اعتنى العرب منذ الجاهلية بأحكام اللغة ونظم الشعر وتأليف الخطب ومعرفة الأخبار والسير، وكان لهم بعض الاطلاع بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وبأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم،
9
وكانت العرب في صدر الإسلام لا تهتم بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام الشريعة وصناعة الطب لاحتياج الناس إليها في جميع الأدوار.
10
كانت الدولة الأموية دولة فتوح وتوسع، فلم تعتن الاعتناء اللازم في إنشاء المدارس وتهيئة المناهج العلمية ليسير الطلاب بحسبها، بل جل ما نعرفه أن الخلفاء والنبلاء والقادة كانوا يأتون بمؤدبين ليؤدبوا أطفالهم، ويعرف هؤلاء المؤدبون عادة بسمو أخلاقهم وغزير علمهم وشدة ورعهم وتقاهم، ولو درسنا الوصايا والنبذ التي اقتطفناها من مختلف المصادر لتحققنا أن النبيل الأموي كان يعلم الدين فيقرأ القرآن الكريم ويحفظ الحديث الشريف، ثم يروي الشعر والأقوال المأثورة ويلقن الحساب واللغة، وقد يحذرون حذرا شديدا من اللحن، وكان المربون ينشئون في طلابهم خصالا حميدة، فيطلبون إليهم الاعتماد على النفس والابتعاد عن الملاهي والمعازف والغناء ومراعاة سنن الاقتصاد ونبذ الصلف والعجب بالنفس، وأمروهم بمؤازرة الغير ومساعدته جهد الطاقة، وكانوا يهتمون بالرياضة فيشجعونهم على النزول في ميادين السباق والفروسية ويمرنونهم على الصيد والقنص والمصارعة، وهاك فقرات تؤيد لك ما قدمناه:
ذكر الكلبي مؤدب محمد بن سليمان بن عبد الملك قال: «بعث إلي سليمان بن عبد الملك فدخلت عليه فسلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام، ثم أومأ إلي فجلست، فسكت عني حتى إذا سكن جأشي قال لي: يا كلبي إن ابني محمدا قرة عيني وثمرة قلبي، وقد رجوت أن يبلغ الله به أفضل ما بلغ رجلا من أهل بيته، وقد وليتك تأديبه فعلمه القرآن، وروه الأشعار فإن الشعر ديوان العرب، وفهمه أيام الناس، وخذه بعلم الفرائض، وفهمه السنن، ولا تفتر عنه ليلا ولا نهارا، فإذا أخطأ بكلمة أو زل بحرف أو هفا بقول فلا تؤنبه بين يدي جلسائه، ولكن إذا خلا لك مجلسه لئلا تمحكه، وإذا دخل عليه الناس للتسليم فخذه بألطافهم وإظهار برهم، وإذا حيوه بتحية فليحيهم بأحسن منها، وأطيبا لمن حضر بمائدتكما الطعام، واحمله على طلاقة الوجه، وحسن البشر، وكظم الغيظ، وقلة القذر، والتثبت في المنطق، والوفاء بالعهد، وتنكب الكذب.»
11
وقال عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدب ولده: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وتهددهم بي وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، وروهم سير الحكماء، واستزدني بزيادتك إياهم أزدك، وإياك أن تتكل على عذر مني لك فقد اتكلت على كفاية منك، وزد في تأديبهم أزدك في بري إن شاء الله تعالى.»
12
وقال عبد الملك لرومان مؤدب أولاده: «مرهم بإحراز ما أقبل قبل إدباره، وكتمان ما في الأنفس دون الخلصان، ومؤازرة الثقة من الإخوان، وتوقع انتقاد الإخوان، وقلة التعجب من عذر الخلان.»
13
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: «فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك ... وإياك أن تفخر بقولك وتعجب بنفسك أو يخيل إليك أن ما رزقه لكرامة لك على ربك وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك.»
14
وقال عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه، أما بعد فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك عن غيرك من موالي وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق بالقلب كما ينبت العشب الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن في الثبوت على النفاق في قلبه ... وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يتثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الفرض حافيا فرمى سبعة أرشاق ثم انصرف إلى القائلة.»
15
وقال الحجاج لمعلم ولده: «علم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم.»
16
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ساكني الأمصار: «أما بعد، فعلموا أولادكم السباحة والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر.»
17
وقال ابن التوأم: «علم ابنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أكسب من الكتاب، ومئونة تعلمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر.»
18
وكان ابن التوأم يقول أيضا: «من تمام ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء أن يعلمه الكتاب والحساب والسباحة.»
19
ودخل على الوليد فتى من بني مخزوم فقال له: «زوجني ابنتك»، فقال: «هل قرأت القرآن؟» قال : «لا»، قال: «أدنوه مني»، فأدنوه فضرب عمامته بقضيب كان في يده وقرع رأسه به قرعات، ثم قال لرجل: «ضمه إليك فإذا قرأ زوجناه.»
20
وقال عبد الملك: «اللحن هجنة على الشريف»،
21
وكان يقال: «اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه.»
22
وقال عبد الملك - وكان ينفر من لحن الوليد: «أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية.»
23 (6-1) تعليم القبائل
وأرسل الأمويون المعلمين إلى القبائل الرحل ليعلموهم أمور دينهم وشيئا من القرآن الكريم والكتابة ومبادئ الحساب، فذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهم رزقا،
24
وأحسنوا إلى الفقهاء ووصلوهم بالجوائز وأغدقوا عليهم النعم المتوالية، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: «انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله، والسلام عليك.»
25 (6-2) تعليم البنات
أما البنات فكن يتعلمن القرآن ويحفظن الشعر، فذكر كتاب الأمالي أنه كانت مولاة لبني الحجاج تحفظ شعرا وترويه وتنشده فتيات بني الحجاج.
26
ولا ريب أن بعض المحافظين كانوا يتجنبون تعليم البنات جهدهم سوى ما يختص بتعليمهم أمور دينهم، حتى قيل: «لا تعلموا بناتكم الكتاب ولا ترووهن الشعر، وعلموهن القرآن ومن القرآن سورة النور .»
27 (6-3) الطب
عرف العرب الطب منذ الجاهلية، وذلك لاحتكاكهم بفارس وبيزنطية، فلما جاء الإسلام أباح دراسته وأكرم الأطباء، وقد كان النبي يحث الناس على الاهتمام به
28
لحاجتهم إليه، وشجعت السياسة الأطباء على الاقتراب من أولي الأمر ليكونوا أعوانا لهم على التخلص من أعدائهم، فقال معاوية بن أبي سفيان حينما بلغه أن ابن أثال الطبيب سقى الأشتر قائد علي بن أبي طالب شربة عسل فيها سم: «إن لله جنودا منها العسل.»
29
أشهر الأطباء في العصر الأموي
وكان معظم الأطباء من الذميين وأغلبهم نصارى في أيام بني أمية، ونبغ من الأطباء رجال معدودون، أشهرهم الحارث بن كلدة الثقفي، وهو شاب حجازي ولد في الطائف، ورحل في طلب صناعة الطب، فذهب إلى اليمن وفارس فأخذ عن أشهر أطباء جنديسابور وأصاب في بلاد العجم مالا كثيرا لمداواته عظمائها وكبرائها، وتمرن في طبابة العيون حتى طار صيته فيها، وكان معاصرا للنبي والخلفاء الراشدين وأدرك أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم هزه الحنين فاشتاقت نفسه إلى موطنه فرجع إلى الحجاز، فدرس أمراض العرب وعرف ما تعتاده القبائل من المعالجات، وكان الحارث موسيقيا ماهرا، فضرب على العود، ولعله اقتبس ذلك من فارس، وله كلمات ونصائح طبية مأثورة يتناقلها العرب منها: «الداء الدوي إدخال الطعام على الطعام.» «لا تدخل الحمام شبعانا، ولا تقم بالليل عريانا، ولا تقعد على الطعام غضبانا، وأرفق بنفسك يكن أرضى لبالك، وقلل من طعامك يكن أهنأ لنومك.» «من سره البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء وليعجل العشاء وليخفف الرداء وليقلل الجماع.»
30
ونبغ من الأطباء عبد الملك بن أبجر الكناني، وهو من الشبان الذين اشتغلوا في صناعة التدريس بالإسكندرية، وقد اعتنق الإسلام على يد عمر بن عبد العزيز، ولما أراد عمر أن يهيئ الأسباب لدراسة الطب في أنطاكية وحران كان الطبيب عبد الملك ساعده الأيمن، وكان هذا الخليفة العادل يعتمد عليه ويجله.
31
وعرف منهم ابن أثال، وهو طبيب دمشقي ممتاز، عاش في أيام معاوية الأول، وكان خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة وقواها، ملما بالسموم القواتل، ويتهمه المؤرخون أن معاوية لم يقربه إلا ليكون آلته في التخلص من بعض الأمراء والخصوم السياسيين، ويستشهدون على صحة دعواهم بقولهم: إن معاوية دس إلى ابن أثال أن يسقي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد سما حينما حدثته نفسه بطلب الخلافة، قال ابن أبي أصيبعة: «إن معاوية لما أراد أن يظهر العقد ليزيد قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه ورق جلده ودق عظمه واقترب أجله، ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها ودس إلى ابن أثال الطبيب النصراني فسقاه سما، فمات ففتك ابن أخيه بالطبيب، فألزم معاوية بني مخزوم دية ابن أثال اثني عشر ألف درهم.»
32
واستعمل معاوية بن أبي سفيان أبا الحكم الدمشقي في المقاصد السياسية التي كان يريد تنفيذها وإتمامها، وكان هذا زميلا لابن أثال عالما بأنواع العلاج والأدوية، وعمر الحكم حتى تجاوز المائة سنة، وطبب يزيدا الأول وعبد الملك بن مروان، ويروي القفطي أن معاوية كان يسيره مع الحجاج إلى مكة.
33
وعرف ابنه الحكم من بعده، وقد تعلم على أبيه ومارس هذه الصناعة ونال صيتا طيبا كوالده.
واختص ثياذوق الطبيب النصراني بخدمة الحجاج وصحبه، وكان يعتمد عليه ويثق بمؤازرته، فأغدق عليه نعمه وأجرى عليه رزقا كثيرا، ودرس عليه طلاب مشهورون، وقد أدرك بعضهم الدولة العباسية كفرات بن شحتاثا طبيب عيسى بن موسى الأمير العباسي، ومات فرات في زمن المنصور،
34
وألف بعض الكتب القيمة «كالكناش الكبير»، وكتاب إبدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها، و«شيء من تفسير أسماء الأدوية»، وله حكم ونصائح طيبة منها: «لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام.» «ولا تأكل ما تضعف أسنانك عن مضغه فتضعف معدتك عن هضمه.» «ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين، فإن أصل الداء التخمة وأصل التخمة الماء على الطعام.» «وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يخرج من جسدك ما لا يصل إليه الدواء.» «وأكثر الدم في بدنك تحرس به نفسك.» «وعليك في كل فصل قيئة ومسهلة.» «ولا تحبس البول وإن كنت راكبا.» «واعرض نفسك على الخلاء قبل نومك.» «ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة.»
واختص بخدمة الحجاج أيضا الطبيب ثاودون، وله مؤلفات جمة منها «الكناش» صنفه لابنه ليستعين به، وعرف من الأطباء ماسرجويه وهو بصري سرياني اللغة يهودي المذهب، وتولى تعريب بعض الكتب الطبية عن السريانية ككناش أهرون القس وغيره، وقد عاش في زمن مروان بن الحكم.
35 (7) الثياب والعادات الاجتماعية
لو ساعدنا القدر ورأينا أحد الخلفاء الأمويين في المسجد الجامع حين صلاة الجمعة أو في أحد أيام الأعياد الرسمية لاستلفتت أنظارنا البردة التي عليه، وهي ثوب كان يلبسه الرسول
صلى الله عليه وسلم ، قال ابن الأثير: وهي شملة مخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صفر، وقد اختلف في وصولها إلى الخلفاء،
36
ولرأينا القضيب الذي يحمله، وهو عود كان النبي يأخذه بيده، ثم لو اقتربنا من الخليفة وحدقنا في يده اليمنى لشاهدنا خاتما، والأصل في اتخاذ الخاتم أن النبي قيل له: إن الملوك لا يقرءون كتابا غير مختوم، فاتخذ خاتما من ورق وجعل نقشه «محمد رسول الله»، واتخذ الخلفاء بعد ذلك خواتيم، وصار كل ينقش ما يشاء من الكلمات، فنقش معاوية على خاتمه «لا قوة إلا بالله»، ونقش يزيد الأول على خاتمه «ربنا الله»، ونقش معاوية الثاني «بالله ثقة معاوية»، ونقش مروان بن الحكم «آمنت بالله مخلصا»، ونقش الوليد «يا وليد إنك ميت»، ونقش غيرهم ألفاظا كلها تدل على خضوعهم للعزة الإلهية واعتمادهم عليها، وكان الخاتم والقضيب والبردة من شعائر الخلافة، وظل يتوارثها الخلفاء الواحد إثر الآخر.
أما مجالس الخلفاء فكان فرشها الأثاث القطني في الصيف، والأثاث الصوفي في الشتاء، وكل ذلك على أتم أسلوب وأفخم طريقة.
ويؤكد صاحب البيان والتبيين أن ظهور دوائر الحكومة بمظاهر الأبهة ضروري فيقول: «وهل يملأ عيون الأعداء ويرعب قلوب المخالفين ويحشو صدور العوام إفراط التعظيم وتعظيم شأن السلطة والزيادة في الأقدار إلا الآلات؟ وهل دواؤهم إلا في التهويل عليهم؟ وهل يصلحهم إلا إخافتك إياهم؟ وهل ينقادون لما فيه الحظ لهم ويسلمون بالطاعة التي فيها صلاح أمورهم إلا بتدبير يجمع المحبة والمهابة؟»
37
ويلبس الناس الخفاف والقلانس في الصيف كما يلبسونها في الشتاء إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء وعلى السادة والعظماء؛ لأن ذلك أشبه بالاحتفال والتعظيم والإجلال، وأبعد من التبذل والاسترسال،
38
ويتعممون أحيانا، أما «العقداء» وهو أن تعقد العمامة في القفا، وأما الميلاء وهو أن تعقد ميالة على الرأس.
39 (7-1) التأنق في الثياب
وكان بعض الخلفاء يتأنقون في ملابسهم ويكثرون منها، حتى لقد قيل: إنه لم يكن في بني مروان أعطر ولا ألبس من هشام بن عبد الملك، ويبالغ المؤرخون في تعداد ثيابه، فيروى أنه خرج حاجا فحمل ثياب ظهره على ستمائة جمل،
40
ويقول ابن قتيبة عن إسراف هشام في ملبسه: «وكان قد حبب إليه التكاثر من الدنيا والاستمتاع بالكساء، لم يلبس ثوبا قط يوما فعاد إليه، حتى لقد كان كساء ظهره وثياب مهنته لا يستقل بها ولا يحملها إلا سبعمائة بعير من أجلد ما يكون من الإبل ... وكان مع ذلك يتقللها»،
41
وكان سليمان بن عبد الملك شابا وضيا جميلا يعجبه التأنق في اللباس، فيروى أنه لبس ذات يوم وتهيأ ثم قال لجارية له حجازية: كيف ترين الهيئة؟ قالت: أنت أجمل الناس، قال: أنشديني على ذلك، فقالت:
أنت خير المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما
يكره الناس غير أنك فان
42
والحقيقة التي نريد إيرادها أن بعض الخلفاء أسرفوا في اقتنائهم الثياب إسرافا زائدا، كما أن بعضهم قتر على نفسه كعمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، فكان لا يلبس إلا جبة بسيطة وسراويل رخيصة ولا يعتم إلا بعمة غليظة، وزهد عمر في الثياب والعطر منذ أن تولى مصالح المسلمين، فقال ابن الجوزي: «صلى عمر بن عبد العزيز الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه وخلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك، فلو لبست، فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة.»
43
وذكر شاهد عيان: «رأيت على عمر قلنسوة بيضاء لاطية برأسه وعمامة غليظة يعتم بها، ورأيته وعليه قميص قطري كتان ثمن دينار ودرهمين، وملاءة قرقتية مثل ذلك في الصيف، وكان عليه في الشتاء طيلسان، ورأيت عليه جبة مبطنة بفراء مكان القطن وفوق الجبة ثوب أبيض ظهارة وبطانة.»
44
وكان عمر يهتم بالثياب الفاخرة والعطر قبل خلافته، فذكر ابن الجوزي: «كان عمر بن عبد العزيز يسرف في عطره، فلقد كان يدخل في طيبه حمل القرنفل، ولقد رأيت العنبر على لحيته كالملح، فلما أفضت إليه الخلافة ترك ذلك وتبذل ... وكان عمر يعامل رياح بن عبده وكان تاجرا من أهل البصرة، أمره وهو بالمدينة أن يشتري له جبة خز، فاشتراها له بعشرة دنانير، ثم أتاه بها فمسها فقال: إني لأستخشنها، فلم ولي الخلافة أمرني فاشتريت له جبة صوف بدينار، فأتاه بها فجعل يدخل يده فيها ويقول: ما ألينها! فقال التاجر: عجيبا! تستخشن الخز أمس وتستلين الصوف اليوم.»
45
عرف عمر بن عبد العزيز بالعدل والإنصاف والإحسان لجميع أفراد شعبه، ومع ذلك فقد خصص الثياب التي يجب أن يلبسها النصارى ووضع شروطا طلب إليهم حفظها، فأمر أن «لا يركب نصراني سرجا ولا يلبس قباء ولا طيلسانا ولا سراويل ذات خدمة، ولا يمشين بغير زنار من جلد، ولا يمشي إلا مفروق الناصية، ولا يوجد في بيت نصراني سلاح إلا أخذ.»
46 (8) السلاح
عرف العرب كثيرا من أنواع السلاح، فاستعملوا الترس - وهو المجن - وعليه تدور الدوائر، والرمح - ويسمونه رشاء المنية - والنبل - ويقولون عنها إنها رسل لا تؤمر ومنايا تخطئ وتصيب - والسيف - وهو ظل الموت - والقوس والكنانة، والسهم،
47
والرمح، وهو طبقات، فمنها الخطل وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لإفراط طوله، ولا يحمله إلا القوي الساعد الشديد العضل، والنيزك، وهو أقصر الرماح، والمربوع والمخموس والتام، وقد اعتنى العرب بسلاحهم؛ لأنهم أمروا دينا أن يذودوا عن حوضهم بسلاحهم، وأن يحافظوا على استقلالهم وكيان أوطانهم، فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «اركبوا وارموا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»، وروى عقبة بن عامر قال: «سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول وهو قائم على المنبر: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.»
48
وتطورت الأسلحة منذ عهد الجاهلية إلى زمن الأمويين، فاقتبس العرب أنواعا عديدة من الأسلحة الحربية كالمجانيق والرتيلة والعراوة والرمي بالبنجكان والزرق بالنفط والنيران، وراحوا يتعلمون الفنون والأساليب العسكرية الفارسية، فقسموا جيوشهم إلى فرق عرفت بالميمنة والميسرة والقلب والجناح والطليعة والكمين، ونظموا ثيابهم وأمتعتهم وأجهزتهم، فأخذوا عنهم السراويلات والأقبية والطبول والبنود والخود والأعلام.
ولدينا وثيقة تاريخية تثبت لنا أن العرب اقتبسوا بعض هذه الفنون عن الفرس، قال أحد الأعاجم - يفتخر على العرب في هذا المعنى: «إنما كانت رماحكم من مران، وأسنتكم من قرون البقر، وكنتم تركبون الخيل في الحرب أعراء، فإن كان الفرس ذات سرج فسرجه رحالة من أدم، ولم يكن ذا ركاب، والركاب من أجود آلات الطاعن برمحه والضارب بسيفه، وربما قام فيهما أو اعتمد عليهما، وكان فارسكم يطعن بالقناة الصماء، وقد علمنا أن الجوفاء أخف محملا وأشد طعنة، وتفخرون بطول القناة ولا تعرفون الطعن بالمطارد، وإنما القنا الطوال للرجالة والقصار للفرسان والمطارد لصيد الوحش ... ولا تعرفون البيات ولا الكمين ولا الميمنة ولا الميسرة ولا القلب ولا الجناح ولا الساقة ولا الطليعة ولا النفاضة ولا الدراجة، ولا تعرفون من آلة الحرب الرتيلة ولا العراوة، ولا المجانيق ولا الدباب، ولا الخنادق ولا الحسك، ولا تعرفون الأقبية ولا السراويلات ولا تعليق السيوف ولا الطبول ولا البنود والتجفافيف ولا الجواشن ولا الخود ولا السواعد ولا الأجراس ولا الوهق والرمي بالبنجكان ولا الزرق بالنفط ولا النيران، وليس لكم في الحرب صاحب علم يرجع إليه المنحاز ويتذكره المنهزم، وقتالكم إما سلة وإما مزاحفة، والمزاحفة على مواعد متقدمة، والسلة مسارقة وفي طريق الاستلاب والخلسة.»
49 (9) السباق
أقام الخلفاء الأمويون حفلات جليلة للسباق، وكانوا يعدون الخيل ويروضونها ويستجلبونها من البلاد البعيدة، وكان يشترك في بعض الحفلات المولعون والغواة من جميع أقطار المملكة، وقد تعلن الحكومة عن ميعاد السباق وتنشر أخباره، فبذل الناس الأموال في سبيل الحصول على الجوائز والمفاخرة بخيولهم المجلية والمصلية، ويروي لنا المؤرخون أن بعض الخلفاء كانوا يقتنون الخيول للسبق فقال ابن عبد ربه: «وكان هشام بن عبد الملك رجلا مسبقا لا يكاد يسبق، فسبقت له فرس أنثى وصلت أختها ففرح لذلك فرحا شديدا»،
50
واشتهر منهم الفرسان الأبطال كالوليد بن يزيد، قال الجاحظ: «كان عمر بن الخطاب يأخذ بيده اليمنى أذن فرسه اليسرى ثم يجمع جراميزه
51
ويثب، فكأنما خلق على ظهر فرسه، وفعل مثل ذلك الوليد بن يزيد وهو يومئذ ولي عهد هشام.»
52
وبذلت الحكومة الأموال لتشجيع السباق حتى يكون غيظا للعدو، ذكروا أن سليمان بن عبد الملك «أمر أهل مملكته أن يقودوا الخيل بسبق بينهم، فمات من قبل أن تجري الحلبة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبى أن يجريها، فقيل له: يا أمير المؤمنين تكلف الناس مئونات عظاما وقادوها من بلاد بعيدة وفي ذا غيظ للعدو، فلم يزالوا يكلمونه حتى أجرى الحلبة وأعطى الذين سبقوا، ولم يخيب الذين لم يسبقوا، أعطاهم دون ذلك.»
53 (10) الزواج
اتبع الأمويون كتاب الله وسنة رسوله في زواجهم، فما غالوا في أثمان المهر، ولا طلبوا من الزوج شروطا قاسية إن كان صحيح البدن عفيفا نزيها، وكانوا يعتقدون أن المتزوج أسعد بالا وأهنأ عيشا من العازب، لا سيما إن شاركته زوجته في بؤسه وسعادته وأتراحه وأفراحه، أما المرأة الجميلة المطيعة النظيفة المقتصدة الكريمة الأصل الشريفة المحتد، فهي الجوهرة المكنونة التي لا تقدر بثمن، قال ابن القرية - الخطيب المشهور - يعدد صفات الزوجة الطيبة: ... وجدت أسعد الناس في الدنيا وأقرهم عينا وأطيبهم عيشا وأبقاهم سرورا وأرخاهم بالا وأشبهم شبابا من رزقه الله زوجة مسلمة أمينة عفيفة حسنة لطيفة نظيفة مطيعة، إن ائتمنها زوجها وجدها أمينة، وإن قتر عليها وجدها قانعة، وإن غاب عنها كانت له حافظة، تجد زوجها أبدا ناعما وجارها سالما ومملوكها آمنا وصبيها طاهرا، قد ستر حلمها جهلها، وزين دينها عقلها ... قوامة صوامة ضاحكة بسامة، إن أيسرت شكرت ، وإن أعسرت صبرت ... وإنما مثل المرأة السوء كالحمل الثقيل على الشيخ الضعيف يجره في الأرض جرا، فبعلها مشغول وصبيها مرذول.
54
وقال خالد بن صفوان: «اطلب لي زوجة أدبها الغنى وذللها الفقر، لا ضرعة صغيرة ولا عجوزا كبيرة، قد عاشت في نعمة ... لها عقل وافر وخلق طاهر وجمال ظاهر ... كريمة المحتد رخيمة المنطق، لم يداخلها صلف.»
55
وكانت الأميرات الأمويات خاضعات لجميع الأحكام الإسلامية، فهن عرضة للطلاق ولاحتمال الضرائر، خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته فقال: «... أحسن بك ظنا من أودعك حرمته واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجناك على ما في كتاب الله في إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.»
56 (11) الموت والدفن
لا نعلم تماما مراسم الدفن حين الموت، ولكن يغلب على ظننا أنها لم تتغير عما هي عليه اليوم، ولم نعثر على وصف لها فيما قرأنا من المصادر التاريخية، إنما ذكر الجاحظ كيفية دفن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فقال: إنهم سووا عليه قبره بالأرض وجعلوا على ضريحه خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم قام والده يؤبنه ويطلب له الرحمة والمغفرة ويشهد الناس على رضائه بما أقسم له الله، قال في معرض رثائه له: «رحمك الله يا بني، فقد كنت برا بأبيك وما زلت منذ وهبك الله لي بك مسرورا، ولا والله ما كنت قط مسرورا بك ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فغفر الله لك ذنبك وجازاك بأحسن عملك وتجاوز عن سيئاتك، ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره فالحمد لله رب العالمين»،
57
وأخذ الناس بعد تشييع جنازته يعزونه ويرجون له الصبر والسلوان.
وكانت النساء ذوات المصائب تتزاحم في الجنائز لتوديع راحلهن العزيز، فقال الأصفهاني في كتاب الأغاني: «إنه غلب النساء على جنازة كثير عزة الشاعر يبكينه ويذكرن عزة في ندبتهن له في المدينة، حتى جعلنا ندفع عن جنازته النساء»،
58
وكن يقمن المناحات ويضربن صدورهن بالنعال حزنا على فقيدهن.
59
وقال المقدسي: إن الناس كانوا يمشون خلف الجنائز ويخرجون إلى المقابر لختم القرآن ثلاثة أيام إذا مات ميت،
60
ولا تزال هذه العائدة شائعة في بيروت موطني. (12) أعيادهم
وكان الأمويون يقيمون الأفراح والليالي الملاح في عيدي الفطر والأضحى وعيد المولد النبوي، وتعارفوا أعياد النصارى وقدروا بها الفصول فقالوا إن الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحر، والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار، وعيد الصليب وقت قطاف العنب، ومن أمثال الناس في ذلك: «إذا جاء عيد بربارة فليتخذ البناء زمارة، يعني فليجلس في البيت»، «وإذا جاء القلندس فتدفأ واحتبس.»
61 (13) شهورهم
أما الشهور المعروفة بينهم فكانت الرومية وهي: كانون الثاني، شباط ... إلى آخر شهور السنة، واستعملت الحكومة الحساب الهجري الإسلامي. (14) مآكلهم المحبوبة
ومن مآكلهم المحبوبة التي تراها في الأسواق خصوصا في الشام فهي أولا الفول المنبوت بالزيت والمسلوق، وهو يباع مع الزيتون، ثانيا: الترمس المملح ويكثرون من أكله، ثالثا: الزلابية وتصنع من العجين وهي غير مشبكة، رابعا: الناطف، ويصنع من الخرنوب ويسمونه القبيط. (15) حرفهم
ولو زرت أسواق الأمويين في الشام لوجدت أن أكثر الصباغين والصيارفة والدباغين من اليهود، وأكثر الأطباء والكتبة من النصارى، ومعظم الموظفين وأرباب المناصب وأصحاب الأملاك والمزارعين ورجال الحرب من المسلمين.
الفصل التاسع
الأدب الأموي
إذا أردنا أن تكون لنا صورة حية تمثل الأدب ومناحيه في العصر الأموي فلندرسه أولا في حياة الشعراء الذين كانت لهم صلة قوية وعلاقات متينة في مجاري السياسة الأموية وبلاط الخلفاء وقصور ولاتهم وأمرائهم في الأقطار العربية المختلفة، ثانيا في حياة أرباب الفن من المغنين والمغنيات، أولئك الذين كانت لهم اليد الطولى في إحياء فن الغناء والموسيقى، ثالثا في مجالس السمر والأنس التي كان يعقدها الخلفاء وأرباب النفوذ من رجال الدولة من وقت لآخر، إننا لو تتبعنا هذه المصادر الثلاثة لرأينا أن الأدب أخذ - نوعا ما - يتخلص من جاهليته، فلم يعد ليسرف في وصف حياة البداوة، بل جعل يتطرق إلى وصف المدينة البيزنطية الجديدة التي جعل الأمويون يجدون في اقتباس أسبابها.
الشعراء والأمويون
علم الأمويون حق العلم أنه لا بد لهم من جماعات يبثون دعوتهم ويثبتون أقدامهم في نزاعهم المشهور مع الأحزاب المعارضة لهم كالعلويين والزبيريين والخوارج وغيرهم، فاعتمدوا في ذلك على بعض الشعراء المعروفين كجرير والأخطل والفرزدق، وجعلوا يتقربون من خصومهم الأدباء فوصلوهم بالجوائز وأغدقوا عليهم النعم ليقطعوا ألسنتهم ويضموهم إلى صفوفهم، فيسبحون بحمدهم ويتغنون بكرمهم بدلا من أن ينشروا عيوبهم وفضائحهم في طول البلاد وعرضها.
لو درست شعر جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم من شعراء العصر الأموي لوضحت لديك حقيقة جلية، وهي أن معظم منظوماتهم قيلت إما في الفخر وإما في المدح والهجاء وإما في النسيب، وقد برز جرير في كل من هذه الأبواب، وكان هواه في آل الزبير، فاستقدمه الحجاج وأكرم وفادته واستماله بإحسانه، فمدحه بقصائد عدة، ثم وفد جرير إلى عبد الملك فأنشده القصيدة المشهورة في مدح بني أمية، قال منها:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
ويروى أن عبد الملك أثابه عليها مائة وثمانية من الرعاء.
1
ويمتاز شعر جرير بسهولة ألفاظه، وكان أقلهم تكلفا وأرقهم نسيبا.
2
وهجا الفرزدق نحوا من أربعين سنة، ولم يتهاج شاعران في الجاهلية ولا الإسلام بمثل ما تهاجيا به، وإذا أحببت أن تتعرف إلى شيء من هذا الهجاء فعليك بقراءة أشعارهما في ديوانهما، وكتب العرب الأدبية المشحونة بأخبارهما، كالأغاني وطبقات الشعراء والشعر والشعراء وغيرها، ولم يتعرض له أحد في هجو - ونستثني الفرزدق والأخطل - إلا افتضح أمامه وسقط.
قال الأصمعي: «كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدا واحدا»،
3
وقد عاش نيفا على ثمانين سنة ويكنى بأبي حزرة.
وروى الناس الأبيات المقلدة للشعراء الأمويين، والمقلد هو البيت المستغني بنفسه المشهور الذي يضرب به المثل، وهاك بعض الأبيات المقلدة التي قالها جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع •••
وإني لعف الفقر مشترك الغنى
سريع إذا لم أرض داري انتقاليه •••
يحالفهم فقر قديم وذلة
وبئس الخليطان المذلة والفقر •••
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا
بأسهم أعداء وهن صديق •••
أوانس أما من أردن عناءه
فعان ومن أطلقن فهو طليق •••
إن الذين غدوا بليل غادروا
وشلا بعينك ما يزال معينا •••
غيضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا •••
تريدين أن أرضى وأنت بخيلة
ومن ذا الذين يرضي الأخلاء بالبخل •••
بنفسي من تجنبه عزيز
علي ومن زيارته لمام •••
ومن أمسى وأصبح لا أراه
ويطرقني إذا هجع النيام
4
وله في الهجاء:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهم غضابا
وقال في النسيب :
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
أما الأخطل فكان شاعر الأمويين، وقد اختصهم بمدحه، فرفع ذكرهم بقصائده الخالدة، ووصف كرمهم وحلمهم وعفوهم، وذم أعداءهم السياسيين فهجاهم هجاء مريرا، فتألم بعض الأنصار منه وشكوه إلى معاوية الأول، فدافع عنه يزيد بن معاوية دفاعا قويا فلم ينله أذى، والحقيقة أن الأخطل لم يجرؤ على الأنصار إلا بعد أن وعده يزيد بالنصرة والحماية.
وكان الأخطل مسيحيا تغلبيا من أهل الحيرة، واسمه غياث بن غوث ويكنى أبا مالك، واشتهر بمحبته للخمرة، وكان لا يجيد النظم إلا إذا شربها، وتساهل الخلفاء معه فأذنوا له أن يحضر مجالسهم وهو سكران وعلى صدره صليب من ذهب، قال أبو الفرج الأصفهاني: «كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز، في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهيب، تنفض لحيته خمرا، حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.»
5
وقد أكد لنا أبو الفرج أيضا أنه بلغ من تساهل الأمويين معه وإعجابهم به أنهم أذنوا له أن يشرب الخمرة في البلاط فقال: «دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمر من يسقيني، قال: اسقوه ماء، فقال: شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال: فاسقوه لبنا، قال: عن اللبن فطمت، قال: فاسقوه عسلا، قال: شراب المريض، قال: فتريد ماذا؟ قال: خمر يا أمير المؤمنين، قال: أوعهدتني أسقي الخمر لا أم لك؟! لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت، فخرج فلقي فراشا لعبد الملك، فقال: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فقال: أعدله بآخر فسقاه آخر ... اسقني ثالثا فسقاه ثالثا ... فدخل على عبد الملك فأنشده، ثم ألقى عليه من الخلع ما يغمره وأحسن جائزته، وقال: إن لكل قوم شاعرا، وإن شاعر بني أمية الأخطل.»
6
وكان الأخطل مع إدمانه للخمرة متعصبا لدينه يخاف جماعة الأكليروس ويرهب قصاصهم، وطالما أنزلوا به عقوبتهم لتشبيبه وغزله بالجميلات من بنات العائلات ربات الخدور، ولهجوه بعض المتنفذين ممن يكره أو يضمر لهم العداء، قال إسحاق بن عبد الله: «خرجت إلى دمشق أنظر إلى بنائها، فإذا كنيسة وإذا الأخطل في ناحيتها ... فقال: ... إن لك موضعا وشرفا، وإن الأسقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه تكلمه في إطلاقي ... قلت: نعم، فذهبت إلى الأسقف وانتسبت إليه، فكلمته وطلبت إليه في تخليته فقال: مهلا أعيذك بالله أن تكلم في مثل هذا فإن لك موضعا وشرفا، وهذا ظالم يشتم أعراض الناس ويهجوهم، فلم أزل به حتى قام معي فدخل الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا، والأخطل يتضرع إليه وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقولوا: لا ... فقلت له يا أبا مالك، تهابك الملوك وتكرمك الخلفاء، وذكرك في الناس عظيم أمره، قال: إنه الدين إنه الدين.»
7
وروى أبو الفرج بإسناده: «رأيت الأخطل بالجزيرة وقد شكي إلى القس وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه، وهو يصي كما يصي الفرخ، فقلت له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة؟ فقال: يا ابن أخي إذا جاء الدين ذللنا.»
8
أما أشهر القصائد التي قالها في مدح بني أمية فأهمها ما أنشده في حضرة عبد الملك بن مروان، قال من قصيدة أمامه:
حشد على الحق عيافو الخنا أنف
إذا ألمت بهم مكروهة صبروا
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
بني أمية نعماكم مجللة
تمت فلا منة فيها ولا كدر
وقال يمدح يزيد الأول:
وترى عليه إذا العيون شزرانه
سيما الحليم وهيبة الجبار
وألطف ما قرأت من أبياته المقلدة قوله:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخرا يكون كصالح الأعمال
واستمال الأمويون الفرزدق، وكان يهوى هوى العلويين، وهو شاعر تميم، وقد ولد في البصرة في أواخر خلافة عمر بن الخطاب، واستعان الناس به على هجاء أعدائهم، فأمر زياد ابن أبيه بإلقاء القبض عليه، فهرب إلى المدينة والتجأ إلى سعيد بن العاص حاكمها على عهد معاوية الأول فأجاره وأمنه، ويقول المؤرخون إنه رعى الغنم وهو صغير، ثم انغمس في شهواته وتهتك وهو كبير؛ حتى إن زوجته النوار بنت أعين طلبت طلاقه ونازعته مرارا.
أما شعره فقد امتاز بفخامته وجزالته، ولم يكن الفرزدق سمح الكلام سهل الغزل، وهو أكثر الشعراء الأمويين بيتا مقلدا، فمن ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار صعر خده
ضربناه حتى تستقيم الأخادع •••
ترجى ربيع أن تجيء صغارها
بخير وقد أعيا ربيعا كبارها •••
وإنك إذ تسعى لتدرك داره
لأنت المعنى يا جرير المكلف •••
ترى كل مظلوم إليناه فراره
ويهرب منا جهده كل ظالم •••
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
9
وقال يمدح سليمان بقوله:
وكما أطلقت كفاك من قيد بائس
ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها
وقال قصيدته المشهورة في مدح علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ويغضي من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل هم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل بدء ومختوم به الكلم
من يعرف الله يعرف أولوية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
وقام نصيب الشاعر الأسود يمدح بني أمية خصوصا عبد العزيز بن مروان والخليفة هشام بن عبد الملك، وكان مقدما في النسيب والمديح، غير أنه لم يكن له حظ في الهجاء،
10
روى نصيب تاريخ حياته فقال: «قلت الشعر وأنا شاب فأعجبني قولي، فجعلت آتي مشيخة من بني ضمرة، ومشيخة من خزاعة، فأنشدهم القصيدة من شعري ثم أنسبها إلى بعض شعرائهم الماضين، فيقولون: أحسن والله، هكذا يكون الكلام، وهكذا يكون الشعر، فلما سمعت ذلك منهم علمت أني محسن، فأزمعوا وأزمعت الخروج إلى عبد العزيز بن مروان وهو يومئذ بمصر ... فقدمت مصر وبها عبد العزيز فحضرت بابه مع الناس، فتنحيت عن مجلس الوجوه، ثم دعي بي فدخلت على عبد العزيز فسلمت فصعد بي بصره وصوب، ثم قال: أنت شاعر ويلك، قلت: نعم أيها الأمير، فأنشدته فأعجبه شعري.»
11
وقد أحبه عبد العزيز فابتاعه ثم أعتقه، وأجاد نصيب الرثاء حتى إن هشام بن عبد الملك كان إذا قدم عليه أخلى له مجلسه واستنشده مراثي في بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى معه، ويذكر أبو الفرج أنه إذا سدت على نصيب أبواب الشعر ولم تنجده قريحته أمر براحلة فشد بها رحله ثم سار في الشعاب الخالية فطرب لذلك وفتح له.
12
وأجمل ما يروى لنصيب من الشعر وصفه لحياة العاشقين قال:
وقفت لها كيما تمر لعلني
أخالسها التسليم إن لم تسلم
ولما رأتني والوشاة تحدرت
مدامعها خوفا ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري
جميع حياة العاشقين بدرهم
وقال يمدح هشام بن عبد الملك:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم
يمينك عفوا ثم صلت شمالها
وكان من أشد الشعراء تعصبا للبيت العلوي كثير عزة، وقد غالى في التشيع وذهب مذهب الكيسانية وقال بالرجعة والتناسخ، وصرح بمذهبه هذا على رءوس الأشهاد، وجادل فيه خصومه، ومع ذلك فلم يضطهده الأمويون، بل عاملوه بالحسنى واحترموه وأجلوه حتى لا ينالهم أذاه، ويقول الرواة: إنه كان ذميم الخلقة، قصير القامة، معجبا بنفسه فيه خطل، ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني فقال: «رأيت كثير يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه، وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول طأطئ رأسك لا يصبه السقف، وهو دميم »،
13
وأخرج عبد الملك شعر كثير إلى مؤدب ولده ليرويهم إياه، يدلنا هذا على إعجاب عبد الملك بشاعريته وإن اختلف معه في المبادئ السياسية.
وعرف كثير بحبه لعزة الضمرية وهي ابنة حميد بن وقاص، وقد نسب إليه كثير من الشعر بهذا المعنى، ونحن لا نعلم منتحله من صحيحه، غير أننا نترك ذلك لأهل الاختصاص في الآداب العربية، وكانت عزة فتاة جميلة فتانة، رآها مرة تسير مع بعض النسوة فأحبها وأحبته وهواها وهوته، ففاضت قريحته بأرق الشعر في وصفها والتحنان إليها، وقد روى أبو الفرج كيفية حب كثير لعزة فقال: وكان أول عشق كثير عزة أن كثيرا مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشا من هذا الغنم وأنسئنا بثمنه إلا أن ترجع، فأعطاها كبشا وأعجبته، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك، قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها، وخرج وهو يقول:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها «... ويقال: إنها دلته على الماء حينما أراد أن يسقي غنمه ... ثم أحبته عزة بعد ذلك أشد من حبه إياها.»
14
ووصفت إحدى النساء المعاصرات جمال عزة فقالت: «اجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئنا عزة، فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة ... ومعها نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال والخلق، إلى أن تحدثت ساعة فإذا هي أبرع النسوة، وأحلاهن حديثا، فما فارقناها إلا ولها علينا الفضل في أعيننا، وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالا وحسنا وحلاوة.»
15
ولما مات كثير في المدينة بكاه الناس، وندبته النساء ندبا شديدا، وإليك أرق شعر كثير في عزة:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب ميعة
تعم ولا غماء إلا تجلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
ولكثير فيها:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والخليقة كالتي
عهدت ولم يخبر بسرك مخبر
16
أرباب الفن من المغنين والمغنيات
أحب العرب منذ القدم سماع الأنغام الشجية التي تهز النفوس وتحرك المشاعر وتواسي القلوب الجريحة، وولعوا ولعا خاصا بالأغاني المطربة التي تلهو بها الأرواح وترتاح لها الأفئدة، نستشهد على ذلك بما رواه صاحب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء»، فقال بإسناده إنه سئل بعضهم عن أجود الغناء فأجاب: «ما أطربك وألهاك أو أحزنك وأشجاك»
17
وقال ابن عبد ربه : «صناعة الغناء مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع النفس»،
18
وتود العرب أن يصغي الحضور إلى المغنين إذا بدءوا بالغناء، وإنه لمن سوء الأدب عندهم أن يتكلم المرء بينا المغنون ينشدون، قال الشاعر:
لو كان لي أمر قضيت قضية
إن الحديث مع الغناء حرام
أما الغناء عند العرب فكان على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، وكانت هذه الأوجه من الغناء ظاهرة فاشية في المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة؛ وذلك لأنها مجامع أسواق العرب.
19
لم يشجع الإسلام الفنون عموما في أول عهده لتغلب النزعة الدينية على الخلفاء الراشدين ولانهماكهم في تثبيت دعائم دولتهم، وانشغالهم في الفتوح، ولعزلة الحجاز عن الشام وفارس نوعا، فلما جاءت الدولة الأموية وقامت في دمشق أخذت تشجع الغناء والموسيقى.
وقد عقد الخلفاء مجالس خاصة لسماع أشهر المغنين في عصرهم، وكانوا ينشدون الأبيات موقعة على الألحان فيطربون، ذكر المؤرخون أن معاوية الأول كان يهوى سماع حكمة الشعر تصدر مع حكمة الألحان، فرووا أنه: أعد عبد الله بن جعفر طعاما لمعاوية ودعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني، ثم تقدم إليه يقول إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرك أوتارك وغن، فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي بن زيد، وكان معاوية يعجب به:
يا لبيني أوقدي النارا
إن من تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقها
تقضم الهندي والغارا
ولها ظبي يؤججها
عاقد في الخصر زنارا ... فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طربا، فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأسا؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان،
20
ويذكرون أن بديح المغني غناه شعرا في فتاة كانت تتولى خضابه فقال:
أليس عندك شكر للتي جعلت
ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلقه
صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طربا شديدا وقال ... كل كريم طروب.
21
أما أشهر المغنيات في العصر الأموي فكانت سلامة القس، وهي مولدة من مولدات المدينة، وقد أخذت أصول الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة فمهرت، وأصبحت يشار إليها بالبنان، وسميت سلامة القس؛ لأن عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي أحد قراء المدينة شغف بها، وكان يلقب بالقس لتقاه وورعه، فغلب عليها لقبه، واشتراها يزيد الثاني ابن عبد الملك حينما وفد إلى المدينة في خلافة سليمان ففتن بها، والحقيقة أن أهل المدينة ودعوها وداعا حافلا لما أرادت الرحيل إلى البلاط الأموي في دمشق، قال أبو الفرج يصف هذا الوداع المؤثر: «قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار، فلما خرجت من ملك أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم أياما ليجهزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب ... فقالت لهم الرسل هذا كله معنا ... وشيعها الخلق من أهل المدينة ... وأذن للناس عليها فانقضوا حتى ملئوا رحبة القصر ... فوقفت بينهم ومعها العود فغنتهم القصيدة التي مطلعها:
فارقوني وقد علمت يقينا
ما لمن ذاق ميتة من إياب
فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئت أن أرى باكيا إلا رأيته»
22
وإذا قلنا: إن سلامة كانت نجمة متألقة في سماء الفن في الحجاز والشام فلا نكون مبالغين، ودليلنا على ذلك أن الشعب كان يحبها حبا جما ويهوى سماع غنائها، وكانت تمتاز بجمالها ورخامة صوتها وحسن شعرها.
وعرف طويس المغني مولى بني مخزوم بجودة غنائه، «وطويس» لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وكان يجيد النقر على الدف، عالما بأحوال المدينة وأنساب أهلها، والغريب من أمره أنه كان يهوى كيد سكان يثرب، فطلب عثراتهم وفضائحهم لينشرها بين الناس فخافوه وأكرموه.
ويقال: إن ولاة الأمويين ودوا مجالسته والاستماع لإنشاده وحديثه، خصوصا أبان بن عثمان حاكم المدينة على عهد عبد الملك بن مروان، ووصفه أبو الفرج بإسناده فقال: «كان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول»،
23
وقد توفي في خلافة الوليد الأول.
مجالس السمر عند الخلفاء والولاة
عقد الخلفاء الأمويون مجالس أدبية خاصة لأهلهم وأصدقائهم، حضرها نخبة من فحول الشعراء والأدباء وطائفة من الشواعر المجليات، وكانت هذه المجالس عارية عن الشراب والغناء تتجلى فيها روح الخلفاء ومداعباتهم وآرائهم في الأدب وأهله.
حضرت ليلى الأخيلية مجلس معاوية الأول، وهي من النساء المتقدمات في الشعر، وكان توبة الخفاحي يحبها ويهواها ويتغزل بها، فسألها معاوية عن توبة فقال: ويحك يا ليلى، أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: «يا أمير المؤمنين، ليس كما يقول الناس حقا، والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانت وعلى من كانت، ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران، كريم المختبر عفيفا جميل المنظر.»
24
قال توبة في ليلى - وكانت تحفظ ذلك وتنشده:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها
وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها
وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
بلى كل ما قرت به العين طالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح
وله فيها:
حمامة بطن الواديين ترنمي
سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما
ولا زلت في خضراء غض نظيرها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته
وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وأشرف بالقور اليفاع لعلني
أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
يقول رجال لا يضيرك نأيها
بلى كل ما شف النفوس يضيرها
بلى قد يضير العين أن تكثر البكا
ويمنع منها نومها وسرورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال فيها:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة
من الدهر لا يسري إلي خيالها
كذلك دخلت عزة صاحبة كثير على عبد الملك بن مروان فأنشدته شعر كثير فيها، وحضر كثير نفسه على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك: أأنت كثير عزة؟ قال: نعم، قال: «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، فقال: يا أمير المؤمنين كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء عالي السناء، وأنشده القصيدة التي مطلعها:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
فقال عبد الملك: لله دره ما أفصح لسانه وأضبط جنانه وأطول عنانه!
25
واجتمع الشعراء بباب الحجاج وغيره من القواد والولاة الأمويين الكبار فأنشدوهم جيد الشعر، قال الحكم بن عبدل الأسدي بين يدي الحجاج:
وإني لأستغني فما أبطر الغنى
وأعرض ميسوري لمن يبتغي عرضي
أكف الأذى عن أسرتي وأذوده
على أنني أجزي المقارض بالقرض
وأبذل معروفي وتصفو خليقتي
إذا كدرت أخلاق كل فتى محض
وأقضي على نفسي إذا الحق نابني
وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي
وأمنحه مالي وودي ونصرتي
وإن كان محني الضلوع على بغضي
ولست بذي وجهين فيمن عرفته
ولا البخل - فاعلم - من سمائي ولا أرضي
26
ا.ه.
الفصل العاشر
سقوط الدولة الأموية
(1) الأحزاب السياسية تجعل الدين ستارا لمبادئها
أثبتنا في الفصول التي سبقت ما قاساه الأمويون في توطيد دعائم ملكهم من أنصار الأحزاب العلوية كالتوابين والخوارج ودعاة المختار، تلك الأحزاب التي قام يدير دفة سياستها زعماء غلبت عليهم المطامع الشخصية وتمكنت منهم الروح الاستقلالية، فسعوا لأن يجعلوا من مأساة الحسين سلما يرتقون عليه إلى المناصب السياسية، ولطالما ودوا لأن يكون لهم من الدين ستار يخفون وراءه مذاهبهم الحقيقية.
وقد فتك الأمويون بهذه الأحزاب فتكا ذريعا وأعملوا في رجالها السيف وتتبعوا آثارهم ليفنوهم عن بكرة أبيهم، فلم يتمكنوا من ذلك لانتصار هؤلاء بمبدأ التقية، ويقول هذا المبدأ بجواز الاستخفاء وكتمان ما تكنه الصدور من العقائد إن كان عليهم من حرج أو بأس أو ضرر.
ثم ظهر هذا النزاع بين الأمويين والشيعة العلوية على اختلاف فرقها بمظهر شديد رهيب في أواخر القرن الأول للهجرة، وقد كان المحرك الأعظم له جماعات الأعاجم من الفرس، أولئك الذين حقدوا على بني أمية استمساكهم بروح العصبية العربية، واحتكارهم المراكز السياسية للنبلاء العرب، واحتقارهم للموالي والدخلاء على العربية، ولا غرابة في أن يكون هذا النزاع خطيرا؛ لأن الفرس راموا من ورائه استرجاع ما فقدوه من السطوة والسلطان بعد زوال دولتهم وتقلص ظلها، فساعدوا الشيع التي قامت تطلب الخلافة لآل البيت وضحوا بأموالهم وأنفسهم لإنهضاها وتقويتها وبث دعوتها سرا وعلنا، ونعتقد أن هذا النزاع ظهر بمظاهر عدة: أولا بمظهر الحركة الزيدية، ثانيا بمظهر الحركة الجعفرية، ثالثا بمظهر الحركة الأباضية، رابعا بمظهر الحركة العباسية، وسنبين كلا منها في حينه. (2) أسباب سقوط الدولة الأموية
حطم بنيان الدولة الأموية في الشام الدعوة المنظمة التي بثتها هذه الأحزاب، والأموال الطائلة التي بذلها الرؤساء والجمعيات السرية، وقد انتشر رجالها في كل صقع يدعون لآل البيت وينالون من بني أمية، الفئة الضالة المضلة الفاسقة المغتصبة في عرفهم، ولم يتعاضد الأمويون تجاه هذه الأزمة الصعبة والضائقة والمخيفة، بل راحوا يثيرون روح العصبية بين اليمانية والمضرية، ويستميلون تارة هؤلاء إلى صفوفهم وطورا أولئك، فهيأ بذلك مجالا لأن ينصب لهم أعداؤهم المكائد، ففرقوا جموعهم وعصفت بهم ريح الفوضى، فزلت أقدامهم وانقرضت دولتهم. (3) الفرس يحركون الأعاجم والشيعة عند بني أمية
ثم قام يدير زمام المعارضين للمركزية الأموية رجال أقوياء مخلصون كأبي مسلم الخراساني وبكير بن ماهان وغيرهما، بينما كان الخلفاء المتأخرون من الأمويين لاهين مستهترين، لا يباشرون إدارة الأمور بأنفسهم، بل يكلونها لأرباب اللهو وأهل المجون، وقد أسرفوا في ذلك إسرافا هائلا، وتنازعوا على الخلافة فأخذوا يضربون بعضهم البعض ويثيرون القلاقل في مختلف البلاد؛ فضعفت هيبتهم ولعبت بهم يد الفساد، وإليك تفصيل هذه الأسباب: (3-1) الحركة الزيدية
قلنا: إن الحركة الزيدية هي مظهر من مظاهر النزاع بين الفرس والعرب، وتدلنا مبادؤها دلالة صريحة لا ريبة فيها أن الفرس عمدوا إلى اتخاذ زعماء آل البيت سلما يرتقون عليه إلى آمالهم وأمانيهم، وتلخص مبادئ الزيديين فيما يلي: (1)
يسوق الزيديون الإمامة في أولاد فاطمة بنت علي بن أبي طالب، ولا يجوزون ثبوت إمامة في غيرهم. (2)
إذا خرج فاطمي عالم زاهد شجاع بالإمامة أصبحت طاعته واجبة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين. (3)
يجوز خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.
1 (أ) زيد بن علي بن الحسين
أما زعيم هذه الحركة فهو زيد بن علي بن الحسين، وكان شابا طموحا يعتقد كل الاعتقاد أن الخلافة حق من حقوق آل البيت اختلسها بنو أمية واستأثروا بها وجعلوها وسيلة لإشباع مطامعهم الدنيوية، وردد مثل هذه الأفكار في مجالسه الخصوصية والعمومية، فانتبه زعماء الفرس لمقالته وآرائه فأعاروها أذنا صاغية، وفرقوا الأموال في الكوفة الثائرة الغاضبة لمناصرته وتأييده، فجاءه زعماؤها وأكدوا له إخلاصهم لآل البيت وتفانيهم في محبة أبناء الرسول واستعدادهم للفتك في بني أمية وطردهم من العراق.
وقد حفظ لنا التاريخ وثيقة تثبت بعض أقوالهم، وهي لا تختلف عن الأقوال التي راحوا يؤكدونها للحسين قبل الفاجعة التي نزلت به، وهاكها: «... معك مائة ألف سيف نضرب بها دونك، وليس عندنا من بني أمية إلا نفر قليل، ولو أن قبيلة واحدة منا صمدت لهم لكفتهم بإذن الله ... نحن نبذل أنفسنا دونك ونعطيك من الأيمان والعهود والمواثيق ما تثق به، فإنا نرجو أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية.»
2
ولو تأملنا في مبادئ الزيدية لتحققنا أن الفرس سعوا لأن يكون زعماء هذه الحركة جماعة من آل البيت نظرا للمكانة الرفيعة التي لهم في قلوب المسلمين، وكلنا يعلم أن المسلمين عموما يحبون آل البيت المطهرين ويعترفون لهم بالأفضلية والمقام الرفيع، وقد تمكن الفرس بهذه الوسيلة من أن يجعلوا الخلل يتسرب إلى نفوس الأمة، لا سيما وأن الأموال كانت دوما تدعم دعوتهم وأهل نصرتهم.
وكان زعماء آل البيت ضعافا، فظلوا تحت تأثير المورفين الفارسي والأفكار الفارسية؛ ولذلك لم تكن لهم الكلمة العليا في تدبير الأمور وترتيب الخطط وتنظيم الأسباب في الحركات التي قاموا بها.
ونعتقد أن زيدا زعيم هذه الحركة لم ينجح لأمرين: الأول لأنه لم يكن من أولئك الزعماء الضعفاء الذين وصفناهم، فلم يستسلم للفرس سياسيا ولم يرم بنفسه في أحضانهم، بل سعى سعيا متواصلا لأن يكون زعيما حقا يتمتع بكل نفوذ وسلطان، وهذا ينافي الخطة التي درج عليها الفرس، فدعوا جماعته للتخلي عنه في أحرج الأوقات وأشدها خطرا.
ولما كانت الشيعة تكره الشيخين أبا بكر وعمر، وكان زيد لا يحض على بغضهما لقربهما من الرسول ولبلائهما الحسن في الإسلام أخذ الفرس يبذلون جهدهم للتخلص منه ولانتخاب زعيم يصلح صلاحا تاما لخدمة مآربهم، فجادلوه فيهما وأحبوا استطلاع رأيه ونشره كيما يتفرق عنه الشيعة، فصرح مرة أنه تجوز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، وسألوه التفصيل فأجاب: «كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة وتطبيب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا وسيف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن من عرفوه باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله، ألا ترى أنه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر بن الخطاب زعق الناس وقالوا لقد وليت علينا فظا غليظا، فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظ له في الدين وفظاظة على الأعداء حتى سكنهم أبو بكر.
وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماما والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا»،
3
هذا ما دعا الشيعة ومنهم قوام حزبه المعروفين بالزيدية - نسبة له - لأن يرفضوه.
أما الأمر الثاني فهو قيام هذه الحركة في غير أوانها، فكانت دولة بني أمية أيام هشام بن عبد الملك قوية الشأن عظيمة السلطان منظمة الجيوش سريعة البطش والعقاب، فجهز إليه حاكم العراق الأموي يوسف بن عمر الثقفي جيشا قويا واحتاط لنزاله، فالتقى به بكناسة الكوفة، وكان جيش زيد يتألف من أربعة عشر ألف مقاتل على وجه التقريب، فسرت دعوة الفرس هذه، فتخلت عنه الشيعة في الساعة الأخيرة كما تخلوا عن جده الحسين وهو في أشد الحاجة إليهم، فهزم بعد أن ثبت ثباتا يدعو إلى الإعجاب ثم قتل، وأمر به يوسف بن عمر فصلب وأحرق وذري رماده في الفرات.
4 (3-2) الحركة الجعفرية
كثر عدد المرشحين للخلافة حينما اضطرب حبل بني أمية، وكان الفرس يساعدون هؤلاء المرشحين في كل مكان ليقف الأمويون تجاههم موقف الحائر المرتبك الذي لا يعرف كيف يتخلص من ضائقته إذا نزلت به واستحكمت حلقاتها.
ومن المهم أن نقر أن هؤلاء الفرس متى قضوا لبانتهم من الرجال الذين يخدمون آراءهم ومصالحهم رموهم جانبا وانتبذوهم قصيا، ولو أجلت نظرك في الديار العراقية - مركز الدعوة الفارسية وحصنها الحصين في أواخر القرن الأول وبدء القرن الثاني للهجرة - لرأيت الفرس يمدون أبناء الرسول من جهة ويعينون أبناء العباس من جهة أخرى، وبعبارة أتم كانوا يشجعون العباسيين والعلويين على طلب الخلافة وإشعال نيران الثورة، إنهم لم يكتفوا بذلك، بل بذلوا الأموال الطائلة في إنماء قوى الأباضية الخوارج وغيرهم؛ حتى تئن البلاد من ثقل الحكم الأموي وتشعر بوطئته الشديدة، والغريب أنهم كانوا يمنون جميع المرشحين بالخلافة، وهم عن كثب يراقبون سير هذه الحركات وتدرجها ونموها ليشدوا أزر القوية منها. (أ) جعفر الطيار
وكان من الذين يتطلعون إلى الاستيلاء على عرش الخلافة شاب يدعى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب «الطيار»، وعرف بفضله واشتهر بتقاه وشجاعته، فبث الفرس دعوته في الكوفة - والكوفة كما علمنا سوق الدعوات ومركز المؤامرات - بعد مقتل زيد، وذلك في عهد مروان بن محمد، فالتف حوله فئة كبيرة منهم، فنازلهم الأمويون وأجبروهم على الانسحاب إلى المدائن، ثم عبروا دجلة وتوجهوا إلى بلاد العجم فغلبوا على همدان وأصفهان وجوارهما، ولما قويت الدعوة العباسية في فارس قاومت أنصار عبد الله وقتلت زعيمهم فقضي على مرشحي آل البيت للمرة الثانية.
5 (3-3) الحركة الأباضية
لم يكن النزاع بين الفرس والعرب نزاعا سياسيا فحسب، بل كان نزاعا دينيا أيضا، فأراد الفرس أن يصبغوا الإسلامية بصبغة وثنية، ويلونوها بلون جديد ويبعثوا بها روحا جديدة توافق رغائبهم، ودعم الفرس مبادئهم بالقوة، فقالت فئة منهم - وكانت من دعاة العباسيين - بوجوب الترخيص للمسلمين في نساء بعضهم البعض، وهذه هي الإباحية الأولى التي لا تحترم سنن الزواج الثابتة ولا تقرها، وهي التي نفاها الإسلام بنصوصه الصريحة في القرآن والحديث، وتعرف تلك المبادئ بالمبادئ الخرمية.
6
أما الأباضية فهم فرقة من الخوارج ثارت في أيام مروان بن محمد بمكة واليمن، وكان زعيمها عبد الله بن أباض، وتقول مبادؤهم بوجوب قتال الخليفة الأموي؛ لأنه خليفة باغ مسيطر على الإسلام بغير حق، ولهم آراء دينية تختلف عن آراء أهل السنة، وهي متأثرة من التعاليم والأفكار الفارسية، وإليك أهمها: (1)
المخالفون من أهل القبلة كفار غير مشركين. (2)
مناكحة أهل القبلة جائزة وموارثتهم حلال. (3)
غنيمة أموال أهل القبلة من السلاح والكراع عند الحرب حلال وما سواه حرام. (4)
حرام قتل أهل القبلة وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة. (5)
دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي. (6)
مرتكبو الكبائر موحدون لا مؤمنون.
7
فترى أنهم يتساهلون في أمور الدين، وهذا بعض ما تطلب الفرس وقاتلوا من أجله، ولذاك ساد التساهل في الدولة العباسية يوم استلموا زمام أمورها وانتشر في بغداد أكثر من انتشاره في دمشق وقرطبة، وهو نتيجة لما قدمناه، ثم هم يشيرون بالحرب واعتبار معسكر السلطان دار بغي ليضربوا الخلافة الأموية من أسسها، فتوفقوا في تحطيم العرش الأموي مع غيرهم، ولكنهم لم يوفقوا في الاستيلاء على عرش الخلافة. (3-4) الحركة العباسية
تحركت الدعوة العباسية تدعمها سيوف الفرس وترعاها أموالهم ويبثها رجالهم، وكانت كغيرها من الحركات التي وصفناها؛ لا هم لها إلا القضاء على النفوذ الأموي ونقل الخلافة إلى آل البيت، ومن المهم أن نؤكد هنا أن الناس الذين قاموا يؤيدونها لم يفكروا البتة أنهم ينصرون آل العباس، وأن آل العباس سيضطهدون العلويين ويضربونهم في الصميم ويلاحقونهم في كل صقع كما فعل الأمويون بهم من قبل، بل اعتقدوا اعتقادا راسخا أنهم يدافعون عن حق مغصوب لأبناء النبي، وأن لا بد من إرجاع هذا الحق إلى أصحابه، ولا يكون ذلك إلا بقتال الأمويين ومناوأتهم وكفاحهم. (أ) الجمعيات السرية
قام الفرس يبثون الدعوة ضد بني أمية وينالون منهم ويثيرون أحقاد الناس وضغائنهم في كل مكان، فوجدت دعوتهم أرضا خصبة وجوا صالحا في أدمغة الشيعة، وكان بدء هذه الحركة منذ أن سلم الحسن بن علي زمام الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، فأخذوا يؤسسون الجمعيات السرية والأحزاب القوية في العراق وخراسان، ورشحوا محمد بن علي وهو محمد ابن الحنفية للخلافة وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقها في مجاهدة الأعداء وتنظيم الحركة ضدهم، فقبل ذلك منهم وعين الدعاة في البلاد المختلفة لنشر أمره بين المخلصين والثقات سرا، وحذر كل الحذر لئلا ينشر أمره، فلما أدركته الوفاة ولى عبد الله ابنه من بعده، فلم ينجح في إعلان الثورة؛ لأن الأمويين كانوا يراقبون خصومهم ويعدون عليهم أنفاسهم.
فعقبه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الحميمة، وكان مفكرا فلم يرسل دعاته في الشام ومصر لأن هواهم في بني أمية، ولم يجعل الكوفة مركز أعماله خيفة أن يغدر به الكوفيون وهم الذين أثبتت الحوادث خيانتهم لعلي بن أبي طالب والحسين ابنه وزيد بن علي وغيرهم، ولم يقم بالحجاز لأن الحجاز بلاد فقيرة لا قوة لأهلها ولا حول لرجالها، فوجه وجهه نحو خراسان، واعتمد بكل قوته على الفرس ورمى بنفسه في أحضانهم ودعاهم إلى نصرته، وقد فعل هذا اعتقادا منه أنهم مخلصون لقضيته متفانون في محبة آل البيت، ولا غرابة في ذلك لأنهم كانوا يرسلون له الأموال الطائلة المرة إثر الأخرى.
روى ياقوت: «وكان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار: أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة علي وولده، والبصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية - خارجية - مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون أخلاف النصارى، وأما الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فغلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم يتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدم عليها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ... وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة.»
8
وقال محمد بن علي أيضا: «أبى الله أن تكون شيعتنا إلا أهل خراسان، ولا ننصر إلا بهم، ولا ينصرون إلا بنا، إنه يخرج من خراسان سبعون ألف سيف مشهور، قلوبهم كزبر الحديد، يطوون ملك بني أمية طيا ويزفون الملك إلينا زفا.»
9
ثم إن خراسان بلاد بعيدة عن عاصمة الخلافة الأموية، وليس للعرب بها سلطان قوي أو نفوذ عظيم، فيمكن للحركة العباسية أن تنمو وأن تثبت تجاه القوى الأموية، وأن ينتقل رجالها في جبالها ووهادها انتقالا سريعا قبل أن يكون للحكومة الوقت الكافي لتشتيت شملهم والقضاء عليهم.
والحقيقة التي لا غبار عليها أن دعاة العباسيين أظهروا مهارة تامة في تكتمهم، فحذروا حذرا شديدا من العرب في فارس، وكانوا لا يفشون أسرارهم إلا للمخلصين لهم، ويأخذون عليهم العهود والمواثيق المؤكدة، وأظهروا براعة تامة في تمثيل جور بني أمية واعتدائهم وتهتكهم واستهتارهم واستخفافهم بأمور الدين والشريعة المطهرة، وجعلوا يسيرون من مقاطعة إلى مقاطعة ومن كورة إلى كورة فيدعون الناس إلى مبادئهم فيستجيبون لهم.
قال الدينوري: «وقد ساروا - دعاة العباسية - من مدينة مرو إلى بخارى، ومن بخارى إلى سمرقند، ومن سمرقند إلى كش ونسف، ثم عطفوا على الصغانيان، وجازوا منها إلى ختلان، وانصرفوا إلى مرو الروذ والطالقان، وعطفوا إلى هراة وبوشنج، وجازوا إلى سجستان، فغرسوا في هذه البلدان غرسا كثيرا وفشا أمرهم في جميع أقطار خراسان، فطلبهم عمال بني أمية فلم يدركوا لهم أثرا.»
10 (ب) زعماء العباسيين
أما أشهر رجال الدعوة العباسية العاملين فكانوا بكير بن ماهان، وهو شاب فارسي غني وخطيب مفوه، وسليمان بن كثير، ولاهز بن قريط، وقحطبة بن شبيب، وغيرهم من رجال الفرس والشيعة، وقد خدموا القضية العباسية خدمة كبرى فضحوا بأموالهم وأوقاتهم وراحتهم في سبيلها.
وعقب محمد بن علي ابنه إبراهيم المعروف بالإمام. وكان ساعده الأيمن وعضده المتين شاب فارسي يدعى أبا مسلم الخراساني. ولد أبو مسلم حوالي سنة 100 هجرية/718م في رستاق فريدين من قرية تسمى سنجرد، وقيل إنه من قرية ماخوان على بعد ثلاثة فراسخ من مرو، وتعاطى والده التجارة بين خراسان والعراق، فجلب إلى الكوفة الأغنام والمواشي ورجع حاملا منها المنسوجات والمحصولات العراقية، وقد ضمن مرة بعض رساتيق للحكومة وقاطع عليها فلحقه عجز فيها وناء تحت أعباء الديون، فهرب مع زوجته «وشيكة» وهي كوفية الأصل فارسية التربية، وعرج في طريقه على رستاق لبعض أصدقاه وهم آل العجلي بماه البصرة مما يلي أصبهان، ونزل عندهم ضيفا كريما، ولما اشتد طلب الحكومة له التجأ إلى أذربيجان فمات بها.
نشأ أبو مسلم في بيت عيسى ومعقل ابني إدريس العجلي، فتعهداه وأرسلاه إلى المدرسة مع أولادهما، فخرج أديبا لبيبا يشار إليه بالبنان حسب رواية ابن خلكان. (ج) خراسان بركان الثورة العباسية
ثم دارت الأيام دورتها وانتشرت الدعوة العباسية في خراسان وفارس، فاشترك آل العجلي في المؤامرة على الدولة الأموية، وراحوا يشجعون الناس على تأخير الخراج عن خزينة الحكومة، فقبضت عليهم وساقتهم إلى واسط، وهناك صدر الأمر بسجنهم. فلحق بهم أبو مسلم يخدمهم ويختلف إليهم في حبسهم، فاجتمع مدة إقامته في واسط بدعاة العباسيين واتصل بنقبائهم، فمال إلى مناصرتهم انتقاما من أولئك الذين سببوا نكبة عائلته وسجن أوليائه. فلما آنسوا منه الذكاء وتوقد الخاطر أوعزوا إليه بالمسير إلى محمد بن علي زعيمهم وهو في الحميمة من أعمال الشام، فركب إليه فاستقبله واستخدمه في بث الدعوة فوجده كثير العبرة مخلصا.
أبو مسلم الخراساني
قدم إبراهيم الإمام أبا مسلم وأسند إليه منصب الزعامة على جميع النقباء في خراسان، وحضه على التكتم واستعمال الشدة مع أحزاب بني أمية ومناصريهم من العرب. قال يوصيه حينما توجه إلى فارس: «يا أبا عبد الرحمن - يعني أبا مسلم - إنك رجل منا - أهل البيت - فاحفظ وصيتي. انظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فإنهم معهم، وانظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب، فاقتل من شككت في أمره ومن وقع في نفسك منه تهمة ... السيف السيف لا تتق العدو بطرف ... إن استطعت أن لا تدع بخراسان أرضا فيها عربي فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله.»
11
فترى أن الإمام لم يكن لينظر إلى العرب عموما إلا أعداء لحركته وعاملا من عوامل الانحلال فيها، بينما كان الفرس - في نظره - الحصن الحصين لدعوته، فاعتمد عليهم اعتمادا كليا.
وأعجب الإمام بما امتاز به أبو مسلم من الصفات الباهرة كحسن المنطق والعقل الوافر والأدب الجم والرصانة والصبر وعدم الاهتمام بالمظاهر الخلابة، ومقدرته على كتمان الأمور وضبط الشعور، فقال فيه: «هذا عضلة من العضل.»
12
وقال ابن خلكان يصف أبا مسلم: «كان أبو مسلم خافض الصوت فصيحا بالعربية والفارسية، حلو المنطق راوية للشعر عالما بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئبا، وإذا غضب لم يستفزه الغضب، وكان من أشد الناس غيرة ، لا يدخل قصره غيره، وكان أقل الناس طمعا وأكثرهم طغاما.»
13
ووصفه ابن العبري بقوله: «كان أبو مسلم ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة، وكان فاتكا قليل الرحمة قاسي القلب سوطه سيفه.»
14
ولم يكد أبو مسلم يستلم مهام منصبه حتى أظهر براعة تامة في نشر الدعوة، فوجه رجاله إلى النواحي من خراسان بزي التجار، ونظم حركته فولى على شيعته في البلاد رجالا من أهلها، وكان على اتصال دائم بهؤلاء الزعماء، فأصدر إليهم أوامره وطلب منهم تنفيذها حرفيا، وبلغ من نجاحه أنه أجمع الخراسانيون على محبته وصار من أعز الناس عندهم منزلة وأرفعهم مقاما، فقال الدينوري: «إنهم كانوا يتحالفون فلا يحنثون ويذكرونه فلا يملون.»
15
اللواء والراية
وعرف دعاة العباسيين باللواء والراية في بدء أمرهم، وقد بعث بهما الإمام إلى أبي مسلم في خراسان، أما اللواء فيدعى «الظل»، وأما الراية فتدعى «السحاب»، وكان تأويلهما «أن السحاب يطبق الأرض، وكما أن الأرض لا تخلو من الظل، كذلك لا تخلو - تيمنا - من خليفة عباسي إلى آخر الدهر.»
16
سياسة فرق تسد
لجأ أبو مسلم الخراساني إلى السياسة المعروفة بسياسة «فرق تسد» حينما أراد مناوأة العرب الأمويين المنتشرين في الأقطار الفارسية، واستغل اختلاف بعضهم على بعض، فراح يشعل نار العصبية في صدورهم ويرسل دعاته إلى الزعماء ليوقعوا بينهم الضغينة والبغضاء.
ولو درسنا أحوال القبائل العربية في أواخر القرن الأول للهجرة لتحققنا أن الخلفاء الأمويين المتأخرين لجئوا أيضا إلى تفرقة العرب وإنماء روح العصبية بينهم، فأحسنوا إلى فئة منهم وأغدقوا عليها النعم وعينوا لها الرواتب وأسندوا لرجالها المناصب دون الفئة الأخرى، فجاء أبو مسلم وبذل الأموال لإثارة الفتن بين مختلف القبائل العربية؛ فتكللت مساعيه بأكاليل النجاح، ووقعت العصبية بين المضرية واليمانية بخراسان. (د) العصبية القبائلية تهدم صرح المملكة الأموية
كانت الحكومة الأموية - على عهد مروان بن محمد الخليفة الأخير - لا تستعمل أحدا من اليمانية ولا تستعين بهم في الشئون الحربية والإدارية والسياسية؛ وذلك لأن نصر بن سيار الليثي والي خراسان كان متعصبا على اليمانية مبغضا لهم، فغضب الكرماني زعيمهم واجتمع إليه أحياء العرب واعتزل الحكومة ونصب لها العداء، فاستفاد أبو مسلم من هذه الفرصة وأخذ يتقرب من كلا الزعيمين الكرماني ونصر بن سيار الليثي، وينفذ إليهما الكتب ويمني الحزبين بالمساعدة والمعونة، ويرجو لكل منهما الانتصار على عدوه، وصار يعرض عليهما الجوائز ويؤمنهما، عسى ينضم أحد منهما إليه، فصرح لهم مرارا «إن الإمام أوصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم.»
17 (ه) العصبية بين المضرية واليمانية
قال ابن قتيبة: «وجعل أبو مسلم يكتب الكتب ثم يقول للرسل مروا بها على اليمانية فإنهم يتعرضون لكم ويأخذون كتبكم، فإذا رأوا فيها أني رأيت المضرية لا وفاء لهم ولا خير فيهم ... فلا تثق بهم ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله في اليمانية ما تحب، ويرسل رسولا آخر بمثل ذلك على اليمانية فيقول مر على المضرية فكان الفريقان جميعا معه.»
18
فمال الكرماني إليه لأن حبل الثقة كان قد انقطع بينه وبين نصر، خصوصا بعد أن أذاقه الأخير عذاب السجن، نتأكد من هذا لأن عقلاء العرب حينما اشتد الخلاف بين اليمانية والمضرية وبدأ أبو مسلم يضيق الخناق على كل عربي أموي، سعوا لعقد الصلح بين الزعيمين، فأبى الكرماني وصرح أنه لا يثق بحسن نوايا نصر نحوه. قال الطبري: «قال عقيل: إني أرى أمرا أخاف أن يذهب فيه العقول، قال الكرماني: إن نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه ونريد أن يعتزل ونعتزل ونختار رجلا من بكر بن وائل نرضاه جميعا، فيلي أمرنا جميعا حتى يأتي أمر من الخليفة وهو يأبى هذا، قال يا أبا علي - الكرماني - إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فإن أميرك - وقل ما شئت - تجاب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك، فقال الكرماني: إني لا أتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثق بنصر، فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص، قال: فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما، تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال لا آمنه على حال.»
19 (و) العرب في الديار الفارسية يقتتلون
مكث العرب يقتتلون في خراسان نحوا من عشرين شهرا، وأبو مسلم لا يهدأ عن إيقاد نيران الفتنة ليوهن قواهم ويشل سواعدهم، وليكون له الوقت الكافي لضربهم ضربة قاسية لا تقوم لهم من بعدها قائمة.
وقد تألم نصر بن سياب الليثي لما أصاب القوم من عوامل التفرقة والخذلان، فاستنجد الحكومة في دمشق - وكان على رأسها مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية - ليدرأ خطر العباسيين ولينازلهم في عقر دارهم قبل أن يهاجموه ويجبروه على الانسحاب إلى العراق، أو ليشاغل أبا مسلم على الأقل قبل أن يشتد ركنه ويعلو شأنه. وكان يرجو أن يجمع كلمة العرب ويستعين على مخالفيه منهم بالقوة، فأرسل إلى الخليفة رسالة قال منها: «قد بايعه - بايع أبا مسلم - مائتا ألف رجل من أقطار خراسان، فتدارك يا أمير المؤمنين أمرك وابعث إلي بجنود من قبلك يقو بهم ركني وأستعن بهم على محاربة من خالفني - يعني الكرماني.»
20
وذكر في آخر رسالته الأبيات المشهورة:
أرى بين الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يقظت فذاك بقاء ملك
وإن رقدت فإني لا ألام
فإن يك أصبحوا وثووا نياما
فقل قوموا فقد حان القيام
21
فأجابه: «احسم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك.»
22
ويدلنا هذا على أن الحكومة كانت مضعضعة مشلولة لا قدرة لها على ضبط زمام الأمور والدفاع عن كيانها، ولما أعيت نصرا الحيل ولم ينجده أحد يقال إنه كتب للخليفة:
يا أيها الملك الواني بنصرته
قد آن للأمر أن يأتيك من كثب
أضحت خراسان قد باضت صقورتها
وفرخت في نواحيها بلا رهب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها
يلهبن نار حرب أيما لهب
ولما أبطأ عليه الغوث أرسل إليه:
من مبلغ عني الإمام الذي
قام بأمر بين ساطع
أتى نذير لك من دولة
قام بها ذو رحم قاطع
والثوب إن أنهج فيه البلى
أعيي على ذي الحيلة الصانع
كنا نداريها فقد مزقت
واتسع الخرق على الراقع
23
هذه وثائق ظاهرة بينة تشهد لنا أن العصبية فتت في عضد بني أمية وكانت من أعظم الأسباب التي أدت إلى سقوطهم. (ز) مقتل إبراهيم الإمام زعيم العباسيين
قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وأحضره إلى حران حينما كثرت شيعته وتعددت أحزابه، وكانت حران مركز مروان ومقامه، ثم أمر به فأعدم، ويذكر المؤرخون أنه سمه، فخاف أخواه السفاح والمنصور فهربا إلى الكوفة مع بعض خاصتهما، وأظهر السفاح بها الدعوة وخطب بالناس في المسجد الجامع وبويع بالخلافة سنة 132ه/749م، ووفدت عليه الزعماء من أطراف العراق تبايعه وتقدم خضوعها له، وندب عمه عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد، فترى مما تقدم أن العراق وخراسان أعلنتا خلع بني أمية. (ح) هزيمة مروان بن محمد في معركة الزاب
أما وقد خلعت كل من خراسان والعراق طاعة الأمويين؛ فلم يعد أمام مروان إلا مناجزة العباسيين الوقيعة الفاصلة، لعله يصدمهم صدمة توهن معنوياتهم، فجهز جيشا بلغ عدده نحوا من مائة وعشرين ألف مقاتل وزحف به نحو العراق فالتقى مع عبد الله بن علي على الزاب الكبير، فانهزم جيش مروان وغرق منه عدد وافر، وكان أصحاب مروان فاتري الهمة قد لعبت بهم الدعوة العباسية وأثر عليهم الذهب الفارسي فولوا هاربين جزعين، وبذل جهده ليثبت أقدامهم فعين لهم الأعطيات والرواتب فلم يفلح، وكانت الفوضى قد انتشرت في صفوفهم فما أطاعوا الأوامر التي أصدرها لهم زعمائهم ولا أعاروها اهتماما.
روى الفخري: «واشتد القتال فصار مروان إذا أمر طائفة من العسكر بشيء قالوا: قل للطائفة الأخرى، وبلغ من أمره أنه قال لصاحب شرطته: انزل إلى الأرض، فقال: والله لا ألقي نفسي في التهلكة، فقال له مروان: لأفعلن بك، وتهدده، فقال: وددت أنك تقدر على ذلك ... ولما رأى مروان فترة أصحابه وضع ذهبا كثيرا قدام الناس وقال: يا أيها الناس قاتلوا وهذا المال لكم، فصار الناس يمدون أيديهم إلى المال ويتناولون منه شيئا شيئا.»
24 (ط) الثورة في سورية
مضى مروان بعد هزيمته إلى الموصل فحران فالشام، فوثب عليه أهل حمص ودمشق والأردن وفلسطين وأعملوا السيف في جنده وانتهبوا أمواله وذخائره، وكان بعد انكساره يستقري مدنهم ويستنهض هممهم فيروغون عنه ويهابون الحرب ويودون الخلاص منه، ولا غرابة في ذلك؛ فإن الشام كانت قد ملت الفوضى والقتال وزهدت في مساعدة الخلفاء الأمويين المترفين الذين لا يهوون إلا إشباع مطامعهم واتباع ملذاتهم الشخصية.
فكر مروان مرارا بطلب النجدة والمعونة من البيزنطيين تجاه هذه الضائقة الشديدة التي نزلت به، عله يسترجع ما فقده من السطوة والسلطان، فمنعه من ذلك أنصاره المخلصون وأشاروا عليه بالذهاب إلى مصر الغنية فيجمع شمله ويجعل الشام هدفه وإفريقية حصنه وموئله، وقد جادل مروان بن محمد إسماعيل بن عبد الله القسري في هذا الموضوع، وحفظ لنا الدينوري أقوالهما:
قال مروان - يخاطب إسماعيل بن عبد الله القسري: «أجمعت على أن أرتحل بأهلي وولدي وخاصة أهل بيتي ومن اتبعني من أصحابي حتى أقطع الدرب وأصير إلى ملك الروم فأستوثق منه بالأمان، ولا يزال يأتيني الخائف والهارب من أهل بيتي وجنودي حتى يكثف أمري وأصيب قوة على محاربة عدوي.»
فقال إسماعيل بن عبد الله القسري لمروان: «أعيذك بالله أن تحكم أهل الشرك في نفسك وحرمك؛ لأن الروم لا وفاء لهم، ثم إن الرأي عندي أن تقطع الفرات وتستقري مدن الشام مدينة مدينة، فإن لك بكل مدينة صنائع ونصحاء، وتضمهم جميعا إليك، وتسير حتى تنزل ببلاد مصر، فهي أكثر أهل الأرض مالا وخيلا ورجالا، فتجعل الشام أمامك وإفريقية خلفك، فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام وإن تكن الأخرى اتسع لك الهرب نحو أفريقية فإنها أرض واسعة نائية منفردة.»
25 (ي) مقتل مروان الثاني في مصر
اتجه مروان نحو مصر ليجمع شمله ويطلق آخر سهم في كنانته، فلحق به أبو عون العلي أحد قادة عبد الله بن علي، وبث رجاله في أثره فاكتشفوا مكانه في بوصير إحدى قرى الصعيد - مصر - فطعنوه فصرعوه واحتزوا رأسه وحملوه إلى السفاح في الكوفة، ولم يمت مروان رخيصا بل دافع إلى النفس الأخير . وقد أفل بمقتل مروان نجم بني أمية في الشام. (ك) الدعوة الفارسية العباسية ضد بني أمية
قلنا: إن العصبية القبائلية كانت سببا كبيرا في سقوط الأمويين وزوال دولتهم، والآن نزيد أن الدعوة التي بثها أعداؤهم من الفرس والشيعة لعبت دورا مهما في بلاط الخلفاء العباسيين، فأعملوا السيف في رقابهم ولاحقوهم في كل قطر من الأقطار العربية؛ حتى إنهم أفنوا معظمهم، ولم يفلت منهم إلا عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش، وكان بعض الشعراء من أكبر المحرضين على إعدامهم، وهم بلا ريب يمثلون لنا آراء الأحزاب المعارضة فيهم. (ل) الشعراء يحرضون العباسيين على إعدام بني أمية
أنشد سديف أحد موالي بني العباس في حضرة السفاح:
يا ابن عم النبي أنت ضياء
استبنا بك اليقين الجليا
جرد السيف وارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
بطن البغض في القديم فأضحى
ثاويا في قلوبهم مطويا
وقال أيضا يحضه على بني أمية ويذكر من قتل مروان وبني أمية من قومه:
كيف بالعفو عنهم وقديما
قتلوكم وهتكوا الحرمات
ابن زيد وابن يحيي بن زيد
يا لها من مصيبة وترات
والإمام الذي أصيب بحرا
ن إمام الهدى ورأس الثقات
قتلوا آل أحمد لا عفا الذن
ب لمروان غافر السيئات
26
وله:
أصبح الملك ثابت الآساس
بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها
بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
واقطعن كل نخلة وغراس
ذلها أظهر التودد منها
وبها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي
قربهم من منابر وكراسي
واذكرن مقتل الحسين وزيدا
وقتيلا بجانب المهراس
27
وقال أحد شيعة بني العباس:
إياكم أن تلينوا لاعتذارهم
فليس ذلك إلا الخوف والطمع
لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم
لكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا
أليس في ألف شهر قد مضت لهم
سقوكم جرعا من بعدها جرع
حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم
منوا إليكم بالارحام التي قطعوا
هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم
ريا وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا
أنا وإخواننا الأنصار شيعتكم
إذا تفرقت الأهواء والشيع
إياكم أن يقول الناس إنهم
قد ملكوا ثم ما ضروا ولا نفعوا
28
وقال آخر:
فلا عفا الله عن مروان مظلمة
ولا أمية بئس المجلس البادي
كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم
بمثل ما أهلك الغادرين من عاد
29 (م) تفنن العباسيين في تعذيب الأمويين
استعمل العباسيون الحيلة في استقدام بني أمية، فأمنوهم على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم، وأكدوا لهم أنه لن يضطهدوهم، وسوف يحافظون عليهم ويقيدونهم في ديوان العطاء، فقدموا على السفاح مطمئنين إليه عائذين به، فنكث عهده وتفنن في تعذيبهم وإعدامهم.
مائدة السفاح الرهيبة
قال أبو الفرج الأصفهاني بإسناده: «دعا أبو العباس بالغداء حين قتلوا وأمر ببساط فبسط عليهم وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها، فلما فرغ قال: جروا بأرجلهم فألقوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء، فرأيت الكلاب تجر بأرجلهم وعليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا، ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها.»
30
وروى الأغاني: «قتل الأمويين وصلبهم في بستانه حتى تأذى جلساؤه بروائحهم، فكلموه في ذلك فقال: والله لهذا ألذ عندي من شم المسك والعنبر. غيظا عليهم وحنقا»،
31
وكانت تأخذ السفاح رعدة حينما يذكر ما فعله الأمويون مع آل البيت وما ارتكبوه من المظالم فيتلذذ بقتلهم، قال مرة - يخاطب بعضهم قبل تسليمهم ليد الجلاد: «أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا، وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا.»
32
وطالما ردد هذا البيت:
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء
مذبحة نهر أبي فطرس
وصدرت الأوامر العباسية إلى جميع الأقطار الإسلامية وكلها تقول بإبادتهم عن بكرة أبيهم، فذبح عبد الله بن علي نحوا من ثمانين رجلا على نهر أبي فطرس بفلسطين، واحتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله،
33
وما زالوا يلاحقونهم حتى نالهم ضر عظيم، فهلك بعضهم جوعا وعطشا، وشاهد من بقي منهم أنواع الشدائد وصنوف الإحن. (4) تهتك الخلفاء الأمويين واستهتارهم وإهمالهم واجباتهم تجاه الأمة
أغرق الخلفاء الأمويون المتأخرون في مجونهم واستهتارهم وتهتكهم، وأسرفوا إسرافا زائدا في اتباعهم سبل الشهوات والملاذ، فأهملوا واجباتهم تجاه الأمة التي اعتمدت عليهم في تدبير أمورها والاعتناء بمقدراتها، إنهم لم ينسجوا على منوال معاوية الأول وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز فيوطدون دعائم الأمن والسلام، ويضربون أصحاب القلاقل وأهل الفتن بيد حديدية، ويسنون القوانين التي تصلح حال السكان وتنمي تجارتهم وتنشط صناعتهم وتحيي زراعتهم، بل أخذوا يقربون الندماء والفساق والمأمورين الذين لا يعرفون من المنصب إلا إرضاء ساداتهم، ولا يفهمون من روح المسئولية سوى تعداد الأيام والشهور لقبض رواتبهم. (4-1) يزيد الثاني الوالد المغرم
جاء يزيد بن عبد الملك (يزيد الثاني) سنة 101ه/719م بعد عمر بن عبد العزيز، فكان شديد الفخر ظاهر الكبر، يحب اللهو والأنس والطرب، ولو أمعنا النظر في أحواله الخاصة وسلوكه الشخصي لحكمنا أنه قضى عمره مغرما عاشقا لا يجد في الحياة إلا عبادة الحب والجمال، وقد تولع يزيد بحبابة وسلامة الغانيتين الحجازيتين ولعا شديدا ملك عليه لبه وأنساه سياسة الدولة وإدارتها، فترك زمام الأمور بيد أصدقائه ومريديه، وهما من مولدات المدينة وكانتا أديبتين ترويان الأشعار وتضربان على العود ضربا حسنا، وفتن بهما الشعراء المعاصرون لهما فقالوا فيهما القصائد العامرة، ويذكر «الأغاني» أن الناس في الحجاز كانت تتناقل أبياتهما في الأندية الخاصة والعامة.
34
وبلغ من حب يزيد لهاتين الغانيتين الفتانتين أنه جعل لهما مطلق التصرف في شئون الدولة، حتى قال المؤرخون: «وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة ... ولم تزل حبابة تعمل له في العراق حتى وليها.»
35
فترى أنه كان لبعض المحظيات الكلمة النافذة في إسناد الوظائف للولاة، وحكى الرواة أن حبابة غنت يزيد بن عبد الملك يوما:
بين التراقي واللهاة حرارة
ما تطمئن وما تسوغ فتبرد
فأهوى ليطير من شدة غرامه وهيامه بها، فقالت تداعبه: «يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة.»
36
ومرضت حبابة يوما فبكى لذلك بكاء مرا وحزن حزنا عميقا، قال الطبري: مرضت حبابة وثقلت فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال:
لئن تسل عنك النفس أو الهوى
فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وسمع جارية لها تتمثل:
كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا
37
وأجمع المؤرخون أنه لم يتمالك عن نبش حبابة بعد وفاتها لكلفه بها كلفا جنونيا، روى المدائني: «إنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لا بد من أن تنبش، فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا فقيل له: يا أمير المؤمنين اتق الله، ألا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها، فجاءه مسلمة بن عبد الملك ووجوه أهله فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها، وانصرف فكمد كمدا شديدا حتى مات فدفن إلى جانبها.»
38
قلنا: إن يزيد بن عبد الملك كان يهوى حبابة ويحبها حبا جما، وكانت ذكراها تعاود قلبه الجريح حتى لفظ نفسه الأخير، والغريب أن سلامة كانت مفتونة به فتألمت من تقديمه حبابة عليها، وهذا ما نغص عيشها، ومع ذلك فلم تنس يزيدا وبكته بكاء مرا، قالت سلامة تتمثل يوم قضى:
لا تلمنا إن خشعنا
أو هممنا بالخشوع
قد لعمري بت ليلي
كأخي الداء الوجيع
كلما أبصرت ربعا
خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كا
ن لنا غير مضيع (4-2) الوليد الثاني وإسرافه في احتقار المبادئ الإسلامية
مات يزيد بن عبد الملك مغرما بائسا، وهو من تلك الشبيبة التي يسحرها جمال الحياة وتستهويها بهجة الدنيا فتسير في تيارها غير مبالية بما تأتي به من النتائج، وقد وصفه المسعودي بقوله: «... لا يعرف صوابا فيأتيه ولا خطأ فيدعه»،
39
فخلفه رجال كان من مبادئهم أن لا يتقيدوا ضمن القواعد التي وضعتها الشرائع المقدسة والتقاليد المعروفة، فجعلوا يتبعون فلسفتهم الخاصة في الحياة فلا يفكرون في سهام النقد والملامة التي يسددونها إليهم، وكان من هؤلاء الوليد بن يزيد بن عبد الملك «الوليد الثاني»، وقد لهج هذا الخليفة بالشراب والنساء والصيد، وطلب الندماء والمغنيين فحملوا إليه، وعرف لدى شعبه بالإلحاد واشتهر بالزندقة، فاحتقر المبادئ الدينية الإسلامية ولم يراقب في ذلك أحدا، ويقال: إنه دعا ذات ليلة بمصحف، فلما فتحه وافق ورقة فيها:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه جهنم ويسقى من ماء صديد
40
فقال: أسجعا أسجعا، علقوه، ثم أخذ القوس والنبل فرماه حتى مزقه ثم قال:
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت بك يوم حشر
فقل لله مزقني الوليد
41 (أ) الوليد اللاهي
وكان مدمنا للشراب حتى ليروى أنه خاطب الناس بشعر يوم الجمعة في المسجد الجامع فصعد المنبر وقال:
ما يزرع الزارع يوما يحصده
وما يقدم من صلاح يحمده
فاستغفروا ربكم وتوبوا
فالموت منكم فاعلموا قريب
42
ولا ريب عندنا أن المؤرخين يبالغون في قولهم: إنه شرب ليلة سبعين قدحا، ولو كان حقا ما يدعون لقضى سريعا من تأثير السم المعروف بالكئول، والحقيقة التي نريد تأييدها هو أنه كان سكيرا، ولكن لا يمكننا قبول تلك الروايات المحشوة بالمبالغة، وإليك مثلا منها: «... قام الوليد فصلى العصر ثم جلس يتحدث إلى المغرب، ثم صلى المغرب ودعا بالعشاء فتعشيت معه، ثم جلس يتحدث حتى صلى العتمة ثم تحدثنا قليلا، ثم قال: اسقينني، فأتوه بإناء مغطى وجاء جوار فقمن بيني وبينه، فشرب وانصرفن ومكث قليلا ثم قال اسقينني ففعلن مثل ذلك، وما زال والله ذلك دأبه حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحا»،
43
ويذكر الكثيرون أنه لم نعي إليه هشام بن عبد الملك سلفه في الخلافة قال: «والله لأتلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر، ثم أنشأ يقول:
طاب يومي ولذ شرب السلافه
إذ أتاني نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعي هشاما
وأتانا بخاتم الخلافه
فاصطبحنا من خمر عانة صرفا
ولهونا بقينة عزافه
ثم حلف أن لا يبرح موضعه حتى يغنى في هذا الشعر ويشرب عليه، فتغنى له فيه وشرب وسكر ثم دخل فبويع له بالخلافة»،
44
فتجد أن الوليد بويع بالخلافة ونشوة الخمر تلعب في رأسه. (ب) شعره الجيد في الخمريات
وللوليد أشعار جياد في الخمريات، وهي تصف تأثير ابنة الكرمة على النفوس الطروبة وصفا دقيقا رائعا، وقد سرق الشعراء المتأخرون من معانيها وسلخوا صورها وأودعوها في أشعارهم، وكان أبو نواس من أشهر الأدباء الذين سطوا عليها وادعوها.
قال الوليد من خمرياته:
أصدع نجي الهموم بالطرب
وأنعم على الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في غضارته
لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها
فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها
من الفتاة الكريمة النسب
فقد تجلت ورق جوهرها
حتى تبدت في منظر عجب
فهي بغير المزاج من شرر
وهي لدى المزج سائل الذهب
كأنها في زجاجها قبس
تذكو ضياء في عين مرتقب
في فتية من بني أمية أهل
المجد والمؤثرات والحسب
ما في الورى مثلهم ولا بهم
مثلي ولا منتم لمثل أبي (ج) الوليد اللاهي، سعدة وسلمى
وكان الوليد الثاني عصبيا لا يثبت على قرار، فبينا تراه قد وهب قلبه لفتاة من الفتيات الجميلات وراح يستعطفها ويتقلب على فراش الألم إن صدته وخذلته إذا به يسلوها ويعشق غيرها ويستميت في رضى حبيبته الجديدة، ثم تعاوده ذكرى حبه القديم فيبكي كالأطفال ويتوجع على ما فاته، فهو محب للحسان مستعد لأن يضحي لأجلهن ما عز وهان، أحب الوليد سعدة بنت سعيد بن خالد فتزوجها، ثم علق بأختها سلمى فطلق سعدة وطلب سلمى إلى أبيها فرده خائبا، ولم يحظ بها إلا بعد اعتلائه عرش الخلافة، وكان دوما يتألم لانفصاله عن سعدة ويتحرق على فراقه لها، قال الأغاني: كان الوليد متزوجا سعدة بنت سعيد بن خالد، فمرض سعيد وجاءه الوليد عائدا، فدخل فلمح سلمى بنت سعيد أخت زوجته وسترها حواضنها وأختها، فقامت فبرعتهن طولا فوقعت بقلب الوليد، فلما مات أبوه طلق زوجته وخطب سلمى إلى أبيها فلم يزوجه سعيد ورده أقبح رد، وهويها الوليد ورام السلو عنها فلم يسل، ويقال إنه لما طلق سعدة ندم على ذلك وغمه، وكان لها من قلبه محل، ولم تحصل له سلمى فاهتم لذلك وجزع وراسل سعدة، وقد كانت زوجت غيره فلم ينتفع بذلك، وله من رسالة لها:
أسعدة هل إليك لنا سبيل؟
وهل حتى القيامة من تلاق؟
فأجابته:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع ... وخرج الوليد بن يزيد ... لعله يراها، فلقيه زيات معه حمار عليه زيت فقال له: هل لك أن تأخذ فرسي هذا وتعطيني حمارك هذا بما عليه وتأخذ ثيابي وتعطيني ثيابك، ففعل الزيات ذلك، وجاء الوليد وعليه الثياب وبين يديه الحمار يسوقه متنكرا حتى دخل قصر سعيد فنادى من يشتري الزيت، فاطلع بعض الجواري فرأينه فدخلن إلى سلمى وقلن: إن بالباب زياتا أشبه الناس بالوليد فاخرجي فانظري إليه، فخرجت ورأته ورآها فرجعت القهقرى وقالت: هو والله الفاسق الوليد، فقلن: لا حاجة بنا إلى زيتك فانصرف، وقال:
إنني أبصرت شيخا
حسن الوجه مليح
ولباسي ثوب شيخ
من عباء ومسوح
وأبيع الزيت بيعا
خاسرا غير ربيح
وقال أيضا:
فما مسك يعل بزنجبيل
ولا عسل بألبان اللقاح
بأشهى من مجاجة ريق سلمى
ولا ما في الزقاق من القراح
ولا والله لا أنسى حياتي
وثاق الباب دوني واطراحي
45 (د) مجالس أنس الوليد
أفرط الوليد الثاني في لهوه وانهمك انهماكا زائدا في تهيئة أسباب الأنس والحبور، فأحيا الليالي الطوال وهو غارق بين الكأس والطاس لا هم له إلا التمتع بملاذ الحياة الدنيا.
وكان يدعو إلى مجالس سمره رفاقه وخاصته، ويسرف إسرافا عظيما في سبيل إرضائهم واكتساب مودتهم، فجلب الوصائف والوصيفات ليقفوا بين أيديهم، وكانوا من أجمل الحور والولدان.
روى حماد الرواية يصف مجلسا من مجالس أنس الوليد قال: دعاني الوليد يوما من الأيام في السحر والقمر طالع، وعنده جماعة من ندمائه وقد اصطبح فقال: أنشدني في النسيب فأنشدته أشعارا كثيرة، فلم يهش لشيء منها حتى أنشدته قول عدي بن زيد:
أصبح القوم قهوة
في الأباريق تحتذى
من كميت مدامة
حبذا تلك حبذا
فطرب ثم رفع رأسه إلى خادم - وكان قائما كأنه الشمس - فأومأ إليه فكشف سترا خلف ظهره، فطلع أربعون وصيفا ووصيفة كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق والمناديل فقال: اسقوهم وأنا في خلال ذلك أنشده الشعر، فما زال يشرب ويسقى إلى طلوع الفجر، ثم لم نخرج عن حضرته حتى حملنا الفراشون في البسط فألقونا في دار الضيافة، فما أفقنا حتى طلعت الشمس.
46 (ه) الوليد يفسد اليمانية عليه
وجعل أنداد الوليد الثاني وخصومه السياسيون ينالون منه ويذمونه ويذكرون فضائحه وتماديه في الفجور، وينشرون أقواله التي تنم عن إلحاده وزندقته؛ حتى ثقل أمره على رعيته وأصبحت دمشق تهوى إعدامه، وكان من أكبر أعدائه آل الوليد بن عبد الملك وولد هشام بن عبد الملك لأنه أساء إليهم وضربهم وسجنهم وشهرهم، وذلك لمنافستهم له ومؤامرتهم التي كانوا يدبرونها ضده، ونعتقد أن الوليد ارتكب غلطا فادحا في إفساده اليمانية عليه وهم عظم جند أهل الشام، فقال في ذمهم ومدح بني نزار القيسيين:
ونحن المالكون الناس قسرا
نسومهم المذلة والنكالا
ونوردهم حياض الخسف ذلا
وما نألوهم إلا خبالا
شددنا ملكنا ببني نزار
وقومنا بهم من كان مالا
47 (4-3) يزيد الثالث يتغلب عليه ويعرف بالناقص
قام على رأس اليمانية وغيرهم من المعارضين يزيد بن الوليد بن عبد الملك (يزيد الثالث)، وأظهر النسك والتواضع والزهد في الحياة، وقال بوجوب الإصلاح في دواوين الحكومة، ووعد بالعدل ونادى بالسلام والنهوض باقتصاديات البلاد، فحاصروا الوليد الثاني في قصره وقتلوه ثم احتزوا رأسه ونصبوه على رمح وطافوا به في دمشق، وكان ذلك سنة 125ه/742م، ولا يغرب عن بالنا أن الوليد كان قد زاد أهل الشام في أعطياتهم وأجرى على فقرائهم الرزق وأخرج لعيالاتهم الكسوة، ومع ذلك فقد ناصروا الأحزاب المعارضة له ليتخلصوا من الفوضى التي سادت في البلاد.
وأعلن يزيد الثالث منهج سياسته حينما اعتلى عرش الخلافة وأخذ يبرر الوسائل التي اتخذها في قتله للوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال من خطبة العرش: أيها الناس ... والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي وإني لظلوم لها، ولقد خسرت إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى الله وسنة نبيه، لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب، ولا يصدق بالثواب والعقاب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفئي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي.
أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجا ولا ولدا ، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه منه.
وإني لا أجمركم - الحبس - في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهاليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجلبهم به عن بلادهم وأقطع نسلهم، ولكن عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم، فإذا أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكاتفة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدا يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته، أيها الناس لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
48
لم يكد يزيد الثالث أو الناقص
49
يستلم زمام الأحكام حتى عاجلته المنية فقضى وأحوال الدولة مرتبكة والفتن مشتعلة في حمص وفلسطين، والظاهر أن أهل حمص قاموا يثأرون للوليد بن يزيد، وأهل فلسطين أخذوا يشجعون آل سليمان بن عبد الملك على القيام بطلب الخلافة. (4-4) مروان الثاني يتغلب على الفوضى
كانت الضغينة تأكل قلوب المضرية بني نزار وهم أحزاب الوليد الثاني كما قدمنا، فاتحدوا وصمموا على خلع إبراهيم بن الوليد أخي الخليفة يزيد الثالث - وكان قد بايعه قبل وفاته. والحقيقة أن الدمشقيين لم يعترفوا به، فكانت فئة منهم تسلم عليه بالخلافة وفئة أخرى تسلم عليه بالإمارة، أما الحزب المضري فلم يبايعه، بل بايع مروان بن محمد الملقب بالحمار لصبره وجلده في الحروب، فخلعه وسار نحو دمشق وقتل إبراهيم، وهكذا فقد لعبت العصبية دورا مهما في تاريخ بني أمية، وكان من نتائجها سقوطهم تحت سيوف العباسيين.
وأما مروان فأراد أن يتخلص من الفوضى فلم يتمكن؛ لأن أعداءه الفرس والشيعة كان قد انبسط نفوذهم واتسع سلطانهم، فلم يقدر على الثبات أمامهم.
وبقتله أفل نجم بني أمية في الشام كما أسهبنا. (انتهي )
الخلفاء الأمويون.
معاوية بن أبي سفيان (الأول)
41
661
يزيد بن معاوية (الأول)
61
680
معاوية بن يزيد (الثاني)
64
683
مروان بن الحكم
65
684
عبد الملك بن مروان
66
685
الوليد بن عبد الملك (الأول)
86-87
705
سليمان بن عبد الملك
97
715
عمر بن عبد العزيز
99
717
يزيد بن عبد الملك (الثاني)
102
720
هشام بن عبد الملك
106
724
الوليد بن يزيد (الثاني)
126
743
يزيد بن الوليد (الثالث)
127
744
إبراهيم بن الوليد
127
744
مروان بن محمد
127
744
الدولة الأموية في الشام
133
750
جدول الخلفاء الأمويين
شكل :
The Caliphtae Rise, Decline and Fall By Sr Wm Muler Edinburgh 1915 p s18 .
المصادر التاريخية التي اعتمدنا عليها
(1)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك لناشره
M J De Goeje ،
S II V I. ،
S II V II. ،
S IJ V III
ليدن 3-1881. (2)
القلقشندي: صبح الأعشى، تأليف الشيخ أحمد أبي العباس القلقشندي، المطبعة الأميرية بالقاهرة، 1332ه/1914م. (3)
مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع.
Edited by: J. g. Z. Juyn Boll.
Jomus Zrimus. Z. J. Brill. (4)
معجم البلدان: تأليف الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي.
Jerdin and Wusten feld. Leipzig, 1869. (5)
عيون الأنباء في طبقات الأطباء: تأليف الطبيب موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، نقله من النسخ الموجودة في بعض خزائن الكتب وصححه العبد الفقير امرؤ القيس الطحان، الطبعة الأولى، المطبعة الوهبية، 1299ه/1882م. (6)
أخبار العلماء بأخبار الحكماء، للوزير جمال الدين أبي الحسن علي ابن القاضي الأشرف يوسف القفطي المتوفى سنة 646ه، مطبعة السعادة مصر سنة 1326ه، الطبعة الأولى. (7)
طبقات الشعراء، تأليف محمد بن سلام الجمحمي، مطبعة بريل في مدينة ليدن، سنة 1913، لناشره:
Joseph Hell . (8)
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، للراغب الأصبهاني، مطبعة الهلال مصر سنة 1902م، هذبه واختصره: إبراهيم زيدان. (9)
الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري المتوفى سنة 456ه، المطبعة الأدبية سنة 1317ه الطبعة الأولى، مصر. (10)
الملل والنحل، للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548، (على هامش الملل والنحل). (11)
الأغاني، للإمام أبي الفرج الأصفهاني، مصر، مطبعة التقدم. (12)
المشتبه في أسماء الرجال، تأليف الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مدينة ليدن سنة 1863م، لناشره
Dr. J. De Gong . (13)
التاريخ الكبير، للحافظ الكبير ثقة الدين أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر، مطبعة روضة الشام لصاحبها قارصلي خالد. اعتنى بترتيبه وتصحيحه الشيخ عبد القادر بدران، دمشق سنة 1329ه. (14)
كتاب الولاة وكتاب القضاء، تأليف أبي عمر محمد بن يوسف الكندي المصري، مهذب ومصحح بقلم
Rhuxon Guest ، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت سنة 1908م. (15)
العقد الفريد، لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي الأندلسي المتوفى سنة 328ه، المطبعة الجمالية مصر، الطبعة الأولى سنة 1331ه/1913م. (16)
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف القاضي أحمد الشهير بابن خلكان، طبع مصر. (17)
مختصر الدول، للعلامة غريغوريس أبي الفرج بن أهرون الطبيب الملطي المعروف بابن العبري، وقف على طبعه الأب أنطون صالحاني اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت 1890م. (18)
طبقات الأمم، للقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462ه، نشره وذيله بالحواشي وأردفه بالروايات والفهارس الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت سنة 1912م. (19)
سيرة عمر بن عبد العزيز، تصنيف الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي القرشي البغدادي، نسخه وصححه ووقف على طبعه محب الدين الخطيب، مطبعة المؤيد، مصر 1331ه. (20)
الأمالي في لغة العرب، تأليف أبي علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، الطبعة الأولى، سنة 1324ه. (21)
أمالي السيد المرتضى، للشريف أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسيني المتوفى سنة 436ه، في التفسير والحديث والأدب، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى، سنة 1325ه وسنة 1907م. (22)
كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، للعلامة عبد الرحمن بن خلدون المغربي. (23)
الشعر والشعراء، تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276ه، صححه وعلق حواشيه السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي مصر، الطبعة الأولى سنة 1322ه. (24)
تاريخ الكامل، للعلامة أبي الحسن علي بن أبي الكرم ... المعروف بابن الأثير الجزري الملقب بعز الدين، المطبعة الأزهرية المصرية، مصر، الطبعة الأولى سنة 1301ه. (25)
كتاب الإمامة والسياسة، تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 270ه، مصر، مطبعة النيل سنة 1322ه، وسنة 1904م. (26)
مختصر كتاب البلدان، تأليف أبي بكر أحمد بن محمد الهمداني المعروف بابن الفقيه، ليدن، مطبعة بريل سنة 1302ه، و1885م.
Edidit H. J. De goeje . (27)
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، جمع الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي المعروف بالبشاري، الطبعة الثانية، ليدن، بريل سنة 1906.
Desoriptis Imperii Moslemier.
Edidit M. J. De Goeje. (28)
كتاب المسالك والممالك، عن ابن خرداذبه ليدن سنة 1306.
Edidit M. J. De Goeje.
(29)
كتاب الخراج وصنعة الكتابة، لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، بريل ليدن 1899. (30)
كتاب الأمالي، إملاء الحجة أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي البغدادي المتوفى سنة 337ه، الطبعة الأولى سنة 1324، مصر، مطبعة السعادة. (31)
البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، المتوفى بالبصرة سنة 255. وقف على طبعه محب الدين الخطيب المحرر بجريدة المؤيد، مطبعة الفتوح الأدبية، مصر سنة 1332ه. (32)
المحاسن والأضداد، تأليف أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، مطبعة السعادة مصر، الطبعة الأولى سنة 1324ه. (33)
التنبيه والإشراف، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ليدن، مطبعة بريل سنة 1893. (34)
كتاب الأخبار الطوال، لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري.
جمعها واعتنى بترتيبها وطبعها وتعليق مقدمتها أغناطيوس كراتشقوفسكي المعلم بالمدرسة الكلية الإمبراطورية في بطرسبرج، مطبعة بريل، ليدن سنة 1912.
Zgree Kratehkorsky. (35)
فتوح البلدان، لأحمد يحيي بن جابر البغدادي الشهير بالبلاذري، مطبعة الموسوعات مصر 1319، سنة 1901م، الطبعة الأولى. (36)
كتاب الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، تأليف محمد بن علي طباطبا المعروف بابن الطقطقي، مطبعة المعارف، مصر، سنة 1923. (37)
الدولة الأموية في قرطبة، للمؤلف، المطبعة العصرية بغداد، 1926. (38)
معاوية بن أبي سفيان، مطبعة طيارة، بيروت سنة 1924، للمؤلف.
نامعلوم صفحہ