عثمانی ریاست
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
اصناف
إن ما توالى على هذه الدولة من كوارث الزمان، وما انتابها من الضعف واختلال الأحكام في القرن الأخير أودى - أو كاد يودي - بقوتها، فلم تكن ترى من مصلحتها لجهل معظم القابضين على زمام الأحكام أن تستنير الأمة بنور الوفاق والتضامن خشية أن تنقلب عليها، وأن الأفراد القليلين الذين كانوا ينظرون بعين بصيرتهم إلى غوائل تلك الآفة القتالة لم يكن لهم من الحول ما يمكنهم من بث رغائبهم ونيلها. وزد على ذلك أن الجهل وحب التقليد كانا لا يزالان فاشيين بين عامة الأمة، والجهل رفيق ملازم للتعصب يعيشان ويموتان معا.
ثم إذا نظرت إلى الدينين الغالبين في السلطنة، وهما: الإسلام والنصرانية، وإلى العناصر المختلفة التي يتألف منها هذا الجسم رأيت هناك أسبابا أخرى تدعو إلى هذا الشقاق، فالمسلم باتحاده بالدين مع الأمة الفاتحة وقيامه دون المسيحي بعبء الحروب ورد الغزوات لامتناع التجند على المسيحيين؛ يرى له حق السلطة والسيادة. والمسيحي يعد نفسه محكوما مظلوما، والجهلة وذوو الغايات من رجال الدين لا يدركون كنه الغرض الواجب عليهم أداؤه بالتهوين على الفريقين، والحكومة لاهية بمشاغلها، بل ربما عمد كثيرون من عمالها إلى إثارة الأحقاد الكامنة جرا لمغنم يرجونه أو غاية يرمون إليها.
وإن هذا التنافر كان يمتد إلى ما وراء هذين الفريقين بمجموعهما، فيتناول كلا منهما بفرقه ومذاهبه حتى لقد كنت ترى التباغض بين أهل السنة والشيعة من المسلمين والكاثوليك والأورثوذكس والبروتستان من النصارى مساويا بشدة وطأته لتباغض مجموع أبناء الإسلام والمسيحية.
هذا بما خص التعصب الديني، وأما التعصب الجنسي فلم يكن أقل غائلة وشرا.
وهو معلوم أن سياسة التسامح التي جرى عليها سلاطين آل عثمان في عدم التعرض للغات الأمم التي دخلت في حيازتهم كانت مع كل حسناتها سببا في بقاء كل هذه الأمم على غير تلاؤم واندماج. واللغة التركية على كونها لغة الحكام كانت بحكم المجهول في بعض أجزاء السلطنة. والظاهر أنهم حاولوا بعض المحاولة تلافي ذلك التباعد إذ يروى عن السلطان سليم الأول أنه على أثر فتح مصر ومبايعة المتوكل على الله العباسي له بالخلافة أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية، فلم يتسن له ذلك؛ فلا ذاعت العربية ولا عمت التركية فبقيت كل أمة منفردة بلغتها، وليس لها ما يكفي من الإلمام بلغة الدولة الحاكمة، وحيث لا يحصل التفاهم لا يحكم الاندماج والتمازج.
وهكذا بقي أبناء كل أمة ينتسبون إلى أمتهم في أحوال كثيرة، ولطالما هاجتهم عاطفة التعصب الجنسي وانضمت إليها أسباب أخرى يطول شرحها، فأثارت الفتن وأورثت البلاد الخراب، والمتحاربون جميعا من أبناء دين واحد.
ولطالما نبغ من رجال الدولة حينا بعد آخر أفراد كانوا يتضورون أسى لتفاقم شر هذين التعصبين، ويضطرمون غيرة لتلافي ضرهما، فلمعت أول بارقة أمل بنشر الخط الهمايوني السالف الذكر سنة 1839، ولكن القوة كانت لم تزل في جانب الجهل؛ فلم يسفر ذلك الخط عن النتيجة المقصودة، بل عقبته قلاقل واضطرابات كان فيها للسياسة والغايات الشخصية يد فوق يد التعصب.
ولم يزل يتعاقب من ذلك الحين رجال يتلقون تلك الفكرة النيرة، ويلقونها بعض إلى بعض إلى أن نضجت على يد مدحت باشا وأنصاره، فنادوا بإعلان الدستور سنة 1876، وخيل للناس حينئذ أنه قد انقضى زمن الظلمة والشقاق، وعقبه عصر النور والوفاق.
ولكنه لم يكن إلا كوميض البرق حتى تبددت تلك الآمال ووثبت بقية الجهل الكامنة في الصدور واستجمعت قواها، فهبت هبتها الأخيرة، كأنها أبت أن ترضى الموت قبل أن تدون لها في التاريخ غاية ما يروى عن فظائع الجهل والاستبداد.
وهكذا، فبينا خيل إلينا أننا متسنمون ذروة مراقي الفلاح إذا بنا قد هبطنا إلى أسفل درك الانحطاط. وما أشد الخيبة بعد الفرج.
نامعلوم صفحہ