بسم الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد الأنام وآله وسلم.
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سئل الفقير إلى الله تعالى يحيى بن أحمد بن عواض الشاطبي وفقه الله تعالى عن غيبة الذمي المحافظ على قوانين عهده ودينه أيجوز أم لا؟ فأجاب بان من العلماء من يقول بجوازها، قال: ويمكن أن يؤخذ لهم ذلك من قول الله تعالى مخاطبا للمؤمنين بقوله: {ولا يغتب بعضكم بعضا}[الحجرات:12] ومن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله بعض المسلمين عن الغيبة فقال: ((أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) ومن جواز غيبة الفاسق مع كونه مسلما، ومن ..............العماء نقص الغيبة للوضوء بأن تكون لمسلم.
قال: ومن العلماء من يقول بتحريمها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع ذميا فله النار)).
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إلا من ظلم معاهد أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه بغير طيبة من نفسه فأنا خصمه يوم القيامة)).
صفحہ 2
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من آذى ذميا فأنا خصمهن ومن كبت خصمه خصمته يوم القيامة)) أخرجه الخطيب في التاريخ عن ابن مسعود.
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار)) أخرجه الطبراني في الكبير، عن واثلة.
قلت: ولأن الذمة جعلت من حرمة قبره من الثرى إلى الثريا، وأوجبت تكفينه ودفنه، وحرمت ذمته وماله وعرضه من الأذى ، فكما لا تجوز أذيته لا تجوز غيبته، إذ فيها أذية، فلم يجز الشرع انتقاصه إلا بالأمور التي عقدت الذمة عليها، وما.............بالجواز لا يقاوم ما دل على الحظر، مع أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أن تذكر اخاك)) جواب لسؤال وقع من مسلم.
قال في الإمداد: وغيبة الذمي حرام بخلاف الحربي، انتهى. وخرج مخرج الغلب، واحترز به من الفاسق.
فإن قلتك كيف منعت الذمة عرض الذمي ولم يمنع الإسلام زاده الله علوا عرض الفاسق؟
قلت: قد علل صلى الله عليه وآله وسلم حل ذكر الفاسق بما فيه بالحذر منه، حيث قال: ((اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس)) لن كونه مسلما مظنة للاغترار بظاهر إسلامه، ولا اغترار بالذمي.
فإن قلت: التحذير من الفاسق لأمر يقتضي نقص دينه وما كان كذلك فذكره به ليس بغيبة كما سيأتي؟
قلت: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اذكروا الفاسق بما فيه)) عام في كل ذكره بما فيه مما ينقص دينه ومما لا، على أنه قد جعل للكافر الملي حيث قبلت شهادته على مثله، مزية على فاسق الخارجة حيث لم تقبل شهادته.
فإن قلت: قد لعن الله الكافرين ومن جاز لعنه جازت غيبته؟
قلت: ذكر بعض المحققين أن للعن الكافر أو الفاسق ثلاث مراتب، فبوصف أعم كلعنة الله على الكفرة والفسقة، وبوصف أخص منه كلعنة الله على اليهود والزناة يجوز اللعن.
صفحہ 3
وأما لعن شخص معين فلا يجوز من غير معصوم إلا مقيدا بها، بأن يقال: لعنه الله إن مات كافرا أو فاسقا، لقوله تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله}[البقرة:161] لأنه ربما يسلم أو يتوب، فكيف يحكم بأنه ملعون، أي مبعد من الله، وربما يموت مقربا عند الله؛ لأن الأحوال تتقلب على الأعيان.
قلت: ذكر الفاسق بما فيه من نقص يختص به كالتقصير لا يجب لزوال المقتضى وهو الحذر منه، وأما بما فيه تحذير فلا يعد بقاء الأمر فيه للوجوب على ظاهره.
فإن قلت: مجروح العدالة الذي لم تبلغ معصيته الفسق هل يلحق بالفاسق في حل غيبته كما لحق به في أنه لا يؤم ولا يحكم، أو بالمؤمن في عدم الحل كما لحق به في حل صرف الزكاة إليه، وفي غسله وتكفينه والصلاة عليه؟
قلت: الظاهر عدم الحل إلا بما فيه تحذير.
اعلم أن الغيبة من أعظم آفات اللسان، وقلما سلم من خطرها إنسان، وقد تكلم العلماء رضي الله عنهم في حقيقة الغيبة المحرمة وفي ذمها، وفي الأشياء الحاملة عليها، وفي الدواء الذي يمنع من وقوعها، وفي التخلص من إثمها، وفي الأعذار المرخصة فيها، فهذه ستة مباحث.
صفحہ 4
[البحث الأول في حقيقة الغيبة]
البحث الأول في حقيقتها
وهي أن تذكر غائبا معينا متسترا بما فيه من النقص مما يكرهه لو بلغه لنقصه بما لا ينقص دينه، سواء كان نقصا في بدنه ونسبه، أو معنته أو خلقه، أو فعله أو ثوبه، أو غيره مما يتعلق به، كالقصير والنبطي والأسكافي، وكثير الكلامن وطويل الأكمام، وذي الفرس المكسور، والدار المهجور، فإن ذكرت ذلك لا لنقصه بل لتعريفه كالأعمس للمحدث المعروف، أو لنقص غير متسترا أو غير معين، محو ما بال أقوام يفعلون كذا، كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك، والمقصود واحد بعينه، فذلك جائز، فإن ذكرت بذلك حاضراص فتحريمه لكونه أذية لا غيبة.
وأما ذكر الغائب بما ليس فيه فذلك بهتان، وهو أشد من الغيبة، قيل: لأن فيه جمعا بينها وبين الكذب.
قلت: الغيبة والكذب لا يجتمعان، إذ الغيبة ذكر الغائب بما فيه فهي خبر صادق، وقيل: لأن فيه جمعا بين النميمة والكذب.
قلت: لا نميمة إذ هي إفشاء السر، وهتك السرت عما يكره كسنه.
قلت: ولو قيل إن وجه الشدة هو أن الباهت يحتاج إلى التخلص في ثلاثة مواضع يتوب إلى الله تعالى، ويتحلل من بهته، ويعلم من تكلم عندهم بأنه كاذب فيما قال على فلان لكان أولى.
فإن قلت: كيف كان البهتان أشد من الغيبةن وقد ورد أيضا أن الغيبة أشد من الزنا، فجعل الزنا أخف الثلاثة والبهتان أشدها فالغيبة وسطها؟
صفحہ 5
قلت: زيادة الشدة باعتبار تعدد وجوه التخلص كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه)) فلما كان التخلص يحصل في الزنا بأمر واحد وهو التوبة، كان التخلص منه أخف من الغيبة التي لا تخلص منها إلا بأمرين التوبة والاعتذار، وكان البهتان أشد من الغيبة لما كان التخلص منه لا يحصل إلا بثىثة، بالتوبة والاعتذار، وإعلام من تكلم عندهم بأنه كان كاذباص فيما قال على فلان، فزيادة الشدة باعتبار الخروج من الذنب لا باعتبار اقتحام الذنب، والزنا أشد تحريما، ولذا شرع الحد على فاعله، وأجمع على كبره.
قال ابن أبي الحديد: وفي الصحاح المجمع على صحتها أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين جديدين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان لكبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأمما الآخر فكان لا يتنزه من البول)) فصرح بأن الغيبة ليست بكبيرة، وقيل: بل هي كبيرة؛ لأن في خبر ابن عباس بعد: وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير، قالوا: ومعنى وما يعذبان في كبير أي في أمر يكبر عليهما أو يشق لو أرادا وهو التنزه وترك الغيبةن ولم يرد أن المعصية ليست بكبيرة، وأن الذنب فيها هين سهل، ولذا استدرك بقوله: ((بلى إنه كبير)).
وأهل مذهبنا لا يعدون الغيبة ولا النميمة من الكبائر؛ لأن الكبيرة تقتضي فسق مرتكبها، ولا إفساق إلا بقاطع من السمع والحادي لا يفيد القطع، والله أعلم.
صفحہ 6
واعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان، بل كلما عرفت به صاحبك نقص أخيك فهو غيبة، سواء كان بلسان أو قلم، فمن هجن في مصنفه على شخص معين فهو غيبة أو إشارة، ومنه ما روي عن عائشة أنها قالت: دخلت على امرأة فلما ولت أومأت بيدي إنها قصيرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد اغتبتيها)) أو فعل كأن يمشي متعارجا كما يمشي شخص معين، أو غمز أو تعريض، كالحولقة والاسترجاع، وكأن يذكر صفات شخص تعريضا بانتفائها من شخص آخر، بل قد قيل: إن أشد الغيبة غيبة القراء المرائين وهو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم: الحمد لله الذي لم يبتلنا بكذان وقصده أن يفهم الغير غيبة ذلك الشخص، فيخرج الغيبة مخرج الحمد، ووصل من ذلك غيبة المسلم، والزنا وإظهار الغيبة للبعض وهو مرتطم فيها، وكذلك لقد ساءني ما يذكر به فلان، نسأل الله أن يتداركه ويكون كاذبا في دعوى أنه ساءه، وفي إظهار الدعاء له، ولو قصد الدعاء لأخفاه، ولو ساءه لساءه إظهار ما يكرهه ذلك الإنسانن وكذلك قد تقدم مدخ من يريد غيبته فيقول: ما كان أحسن أحوال فلان، ما كان يقصر في العادات ولكن اعتراه فتور، وابتلي بما ابتلي به كلنا، وهو قلة الصير، فذكر مقصوده ونفسه أن يذم غيره وأن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم فيكون مغتابا ومرائيا، ومزكيا نفسه، فيجمع بين ثلاث معاصي، وهو نظر يجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة.
ثم اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة، بل أشد إذا كان يظهر التعجب ليزيد نشاطه فيها، فكأنه يستخرجها منه بذلك، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة، والباعث على الاستزادة منه؟
صفحہ 7
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم سمع شخصا يقول لآخر: إن فلانا لنؤم، فأخرج صلى الله عليه وآله وسلم خبزا فطلبا منه إداما فقال: ((قد ائتدمتما، قالا: لا نعلمه، قال: بل ما أكلتما من لحم صاحبكما)) فجمع بينهما في الإثم، وقد كان أحدهما قائلا والآخر سامعا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((المستمع احد المغتابين)).
ثم اعلم أن الغيبة كما لا تكون بالجوارح وبالإصغاء إليه فقد تكون على ما ذكر بعض المحققين بالقلب، وهو سوء الظن، فإنه حرام مثل سوء القول، فكما ليس لك ان تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك، وتسيء بأخيك وتظن به سوءا، فإن بعض الظن إثم، فإما الخواطر وحوادص النفس فمعفو.
البحث الثاني في ذكر بعض ما ورد في ذم الغيبة
فمن ذلك قول الله سبحانه: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}[الحجرات:12] فنبه سبحانه على كراهيتها بالنهي وبالتشبيه بأكل الميتة، وبالكراهة.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا)) كما مر.
وخطب صلى الله عليه وآله وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها فقال: ((يا نعشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه في جوف بيته)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما صام من ظل يأكل لحوم الناس، وإن الله يبغض أهل بيت اللحم الذين يغتابون الناس)).
صفحہ 8
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من خزن الله لسانه ستر الله عورته، ومن كف غضبه كف الله عنه غضبه)) وقال الله تعالى لموسى صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات تائبا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرا عليها فهو أول من يدخل النار)).
وعن عيسى صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لو أتيتم على رجل نائم قد كشفت الريح عن بعض عورته أكنتم تسترون عليه؟ قالوا: نعم، قال: بل أنتم تكشفون البقية، قالوا: سبحان الله، كيف نكشف البقية؟ قال: أليس يذكر عندك الرجل فتذكرونه بأسوأ ما فيه فأنتم تكشفون بقية الثوي عن عورته)).
وعنه أيضا انه مر على جيفة كلب فقال بعض أصحابهك ما أشد نتنه، فقال عيسى صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أشد بياض أسنانه)) كأنه ناهم عن غيبة الكلب، ونبههم على أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شيء إلا أحسنه.
صفحہ 9
ويحكى أن بعض النبياء صلوات الله عليهم كان سعيدا بما يرى في المنام، فرأى ليلة أنه قيل له: إذا اصبحت فأول شيء يستقبلك كله، والثاني: اكتمه، والثالث : أقبله، والرابع: لا...........، والخامس: اهرب منه، فلما أصبح استقبل جبلا أسود عظيما فتحير، ثم قال: قد أمرني ربي أن آكل، ولا يأمرني بما لا أطيق، فلما عزم على اكله ومشى إليه ليأكله ودنا منه صغر، فلما انتهى إليه وجده لقمة أحلى من العسل فأكله وحمد الله، ومضى فاستقبل طستا من ذهب، وقال: أمرت أن أكتمه فحفر في الأرض ودفنه فالتفت فإذا الطست فوق الأرض، فرجع مرتين أو ثلاثا وهو يدفنه يم ثجده فوق الأرض، فقال: قد فعلت ما أمرت، ومضى فاستقبله طائر حلقه بازي يريد أخذه، فقال البازيك يا نبي الله إني جائع ولي من الغداة في طلب هذا الصيد فلا تؤيسني من رزق ربي، فقال في نفسه: قد أمرت أن أقبل الثالث وقد قبلته، وأمرت أن لا أؤنس الرابع فرى له بقطعة لحم فأخذها وعزم، ثم أرسل الطائر ومضى فرى الخامس جيفة منتنة فهرب منها، فلما أمسى قال: يا رب قد فعلت ما أمرت، فبين لي ما كان من أمر هذه الأشياء، فرى في منامه أنه قيل له: أما الأول الذي اكلته فهو الغضب يكون في أول الأمر مثل الجبل وفي آخره إذا صبرت وكظمت الغيظ أحلى من العسل، وفي الصير هو إحدى الخمس التي وصى بها الوصي صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا، لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لم يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحين أحد منكم إذا لم يعلم الشي ان يتعلمه، وبالصبر فإن الصير من الإيمان كالرأس من الجسد، لا خير في جسد لا رأس معه، ولا خير في إيمان لا صبر معه، انتهى.
صفحہ 10
واختار بعض العلماء من أربعمائة كتاب أربع كلمات وهي: يا ابن آدم اجعل طاعتك لله بقدر حاجتك إليه، واجعل جرأتك على المعاصي بقدر صبرك على النار، واجعل عملك للآخرة بقدر إقامتك فيها، واجعل حياك من الله بقدر اطلاعه عليك.
وأما الثاني فهو من عمل خيرا وإن كتمه فإنه يظهر.
وأما الثالث فمن ائتمنك بأمانة فلا تخنه.
وأما الرابع فإذا سألك إنسان حاجة فاجتهد في قضائها وإن كنت محتاجا إليها.
وأما الخامس وهو الجيفة المنتنة فهو الغيبة، فاهرب من الذين يغتابون الناتس، انتهى.
وعن علي عليه السلام: (الغيبة جهد العاجز).
وسمع الحسين بن علي عليهما السلام رجلا يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما الأسد الضاري على فريسته بأسرع من الدني في عرض السري.
وعنه: الغيبة إدام كلاب النار.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن أناسا من المنافقين قد اغتابوا أناسا من المسلمين)). والحكمة أنه كان يتبين نتنها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تتبين في عهدنا أن الغيبة قد كثرت وامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة، كرجل دخل دارا لدباغين فلم يقدر على القرار فيها لشدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون ويشربون ولا تتبين لهم الرائحة لامتلاء أنوفهم منها، كذلك أمر العيبة في عصرنا.
وكان ابن مسعود إذا أمر بمجلس من المجالس يقول: توضو، فإن بعض ما انتم فيه شيء من الحدث.
وعن الحسن البصري: ذم الرجل في السر مدح له في العلانية.
وقيل لبعض العرب: من السيد فيكم؟ قال: الذي إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه.
صفحہ 11
وعن مجاهد أنه قال: إن لابن آدم جلساء من الملائكة، فإذا ذكر أحدهم أخاه بخير قالت الملائكة: ولك مثله، وإن ذكره بسوء قالت: يا ابن آدم كشفت المستور عليه عورته، ارجع إلى نفسك واحمد الله الذي ستر عليك عورتك.
وعن عبد الله بن المبارك انه قال لسفيان: ما أبعد جيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا قط؟ قال: هووالله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها.
قال عبد الله بن المبارك: لو كنت مغتابا لأحد لأغتبت والدتي؛ لأنها أحق بحسناتي.
وقال أبو أمامة الباهلي: إن العبد يعطى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يكن عملها فيقول: يا رب أنى لي هذا؟ فيقول: ((هذا مما اغتابك الناس وأنت لا تشعر)).
وقال رجل من بني إسرائيل: اللهم ليس لي ما أتصدق به، فأيما مسلم أصاب عرضي فهو عليه صدقة، فأوحى الله إلى نبي زمانه أني قد غفرت له.
وقيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: أي اللحوم أطيب؟ قال: لحوم الناس، هي والله أطيب من الدجاج، والدراج يعني الغيبة.
وقيل لشاعر أنعم عليه بعض الرؤساء: ما صنع بك فلان؟ فقال: ما وفيت نعمته بإسائته منعي لذة الثلب، وحلاوة الشكوى.
وعن بعضهم: الورع في النطق أشد منه في الذهب والفضة؛ لأنك إذا استودعك أخوك مالا لم تحدثك نفسك بخيانة فيه، وقد استودعك عرضه وأنت تغتابه ولا تبالي.
وعن إبراهيم بن ادهم أنه أضافه ناس فلما قعدوا على الطعام قال رجل: إن فلانا لم يجيء، فقال آخر: إن فلانا ثقيل، فقال إبراهيم: إنما فعل بي هذا بطني حتى شهدت طعاما أغتيب فيه مسلم، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام، وأضاف هو ناساص فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلا فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز.
وقيل لرجل يغتاب: إنك تملي على حافظيك فانظر ماذا تقول.
صفحہ 12
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن فلانا لم يزل أمس يذكرك ويقول: عمرو الضال، فقال له عمرو: والله يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه، ولا رعيت حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه، اعلم أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
واغتاب سفيان بن الحسين رجلا عند إياس بن معاوية فقال: هل غزوت الروم؟ قال: لان قال: هل غزوت الترك؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم، قال: فلم أغتب بعد ذلك أحدا.
وكان بعضهم إذا ذكر عنده ميت بسوء يقول: كفوا عن اشتراء الثرى .
وعن كعب الأحبار: أعظم الناس خطيئة المثلث، وهو الذي يسعى بأخيه فيهلك نفسه وأخاه وسلطانه، فدع الأسرار تحت الأستار.
وما أحسن ما قاله نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم سلام الله عليه: يابني اصحب من صحبت بالستر لعورته، ولا تطل معاتبته إذا هفا، ولا جفوته إذا جفا، ولا تأخذه بالغاية القصوى، فإن زل فأقله، وإن قصر فاحتمله، وإن تمرد عن التوبة فعليك أن تحذر منه.
البحث الثالث في الأسباب الحاملة على الغيبة
وقد ذكر منها أمورا:
الأول: شفاء الغيظ، فمن غضب على شخص بسبب تشفا عند أن يهيج غضبه بذكر مساوئ أخيه.
الثاني: موافقة الندماء، فإنهم إذا اجتمعوا وتفاكهوا بذكر الأعراض رأى أنه لو أنكر وقطع المجلس استقلوه ونفروا فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، ويظن أنه يجامل في الصحبة، وقد يغضب رفقاه، فيحتاج أن يغضب لغضبهم إظهارا للمشاركة في الضراء والسراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب.
الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه عند بعض الرؤساء ويشهد عليه بشهادة فيبادر قبل ان يفتح حاله فيطعن فيه إثر شهادته عليه، وقد يبتدي بذكر ما فيه صادقا ثم يكذب عليه، فيروج كذبه بالصدق الأول.
الرابع: المباهاة وحب الرئاسة، مثل أن يقول كلام فلان ركيك، ومعرفته بالفن الفلاني ناقصة، وغرضه إظهار فضله عليه.
صفحہ 13
الخامس: الحسد وإسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساويه؛ لأنه يشق عليه ذكر ثناء الناس عليه، ولا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه، وكثيرا ما يكون الحسد من القرابة والجيران والشركاء، كما قيل لبعضهم: ما بال فلان يغتابك وينقصك؟ قال: لأنه شريكي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصفة.
السادس: اللعب والهزل، والمطايبة وترجية الوقت بالضحك والسخرية، فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزؤ.
البحث الرابع فيما يعالج به من وقوع الغيبة
وذلك بأن يعلم أن ذلك يعرضه لسخط الله، ويحبط حسناته، فإنها تنتقل يوم القيامة إلى من اغتابه عوضا عما هتكه من عرضه، فمهما صدق العبد بما ورد في الغيبة من الوعيد لم ينطق به لسانه خوفا من ذلك، وينعفه أن ينظر في نفسه، فإن لم يجد بها عيباص فليشكر الله على ذلك، وإن وجد بها عيبا اشتغل بعيب نفسه، ويذكر: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)) فيقبح منه ان يترك نفسه ويذم غيره.
وعن المسيح عليه السلام: لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كالعبيد، ينظر أحدكم القذى في عين أخيه ولا ينظر الجذع في عينه، مثلكم مثل القبور المجصصة بروق ظاهرها وباطنها فيها ما فيها، وقد نظم ذلك من قال:
أهملت نفسك في هواك ولمتني ... لو كنت تنصف لمت نفسك دوني
ما بال عينك لا ترى أقذاءها ... وترى الخفي من القذى بجفوني
وأتى إلى علي عليه السلام رجل استوجب الحد، فقال: إذا اختلط الظلام فاتوني بالشهود متعممين، فلما حضروا للشهادة قال: أنشد الله رجلا مثل هذا الحد إلا انصرف فانصرفوا جميعا.
ولبعضهم:
لا تفشين مساوئ الناس ما ستروا ... فيكشف الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
ولآخر:
أرى عيوب العالمين ولا أرى ... عيبي خصوصا وهو مني أقرب
صفحہ 14
كالطرف يستحلي الوجوه ووجهه ... أدنا إليه وهو عنه مغيب وفي بعض الكتب المتقدمة: يا ابن آدم لك مخلاتان مخلاة خلفك ومخلاة أمامك، ففي التي خلفك عيوبك، وفي التي أمامك عيوب غيرك، فلو نظرت في التي خلفك شغلتك عن التي أمامك.
وقال حكيم لحكيم: والله إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما علمت من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما علمته من نفسك لكان فيما أعلم من نفسي شغلا عما أعلم من نفسك.
البحث الخامس فيما يقع به التخلص للمغتاب والسامع من إثم الغيبة
أما المغتاب فعليه مع التوبة أن يستحل ممن نقصه إن كان الغيبة قد بلغته لما مر، وإن لم يكن قد بلغته لم يحتج إلى الاستحلال منه، بل قد قيل: إنه لا يجوز إعلامه لما فيه من إدخال الحرج في صدره.
وأما السامع للغيبة فعليه أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام فعليه ذلك، فإن قال بلسانه أسكت وهو مريد للغيبة فذلك نفاق.
قال بعض العلماء: إن الغيبة على أربعة أوجه، كفر حيث اغتاب مسلما، فقيل له: لا تغتب، فيقول مستحلا هذا ليس بغيبة، وإنه صادق في ذلك فقد استحل ما حرم الله، ونفاق حيث اغتاب مسلما ولم يسمه عند من يعرف أنه يريد فلانا فهو يغتابه ويرى من نفسه أنه متورع، ومعصية حيث اغتاب شخصا مسلما معينا، غير مستحل لها، ومباح حيث اغتاب فاسقا معلنا بفسقه، بل مأجور إن اغتابه ليحذر منه الناس.
صفحہ 15
البحث السادس في الأعذار المرخصة في الغيبة
وهي خمسة:
الأول: التظلم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لي الواحد يحل عرضه وعقوبته فللمظلوم أن ينسب من ظلمه عند الولاة إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا بذلك)).
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي كما روي أن عمر مر على عثمان فسلم عليه فلم يرد عليه، فذكر ذلك لأبي بكر فجاء ليصلح بينهما، ولم يكن ذلك غيبة عندهم.
الثالث: الاستيفاء، لما روي أن هندا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني فأخذ من غير علمه، قال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ولم يزجرها عن ذكرها له بالشح والظلم إذ كان قصدها الاستيفاء.
الرابعك التحذير، فمن أراد أن يشتري رقيقا وأنت تعرف فيه عيبا مطعنا، وكذلك المستشار في في نحو التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرف لقصد النصح للمستشير، لا لقصد الوقيعة.
الخامس: التعريق، فلا إثم على من ذكر إنسانا معروفا باسم يكشف عن عيبه، كالأعمش والأعرج لضرورة التعريف كما مر.
صفحہ 16
خاتمة
آفات اللسان كبيرة، وقد ذكر منها الكذب والنميمة، والسب واللعنن والسخرية والاستهزاءن والخصام والتقعر في الكلام، والمراء والجدال، وإفشاء السر، والخوض في الباطل، وفيما لا يغني، وتكليم كل من المتعادين بما يوافقه، والسؤال عن الأغلوطات، والمدح في بعض المواضع، والنجاة من ذلك بالصمت، وقد قيل: إنه المراد بالحكمة في قوله تعالى لداؤد: {وآتيناه الحكمة} إلا عن المهم.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صمت نجا)) وقال: ((إن لسان المؤمن من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه، ثم أمضى بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بالشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه، فمن تأنى أصاب أو كاد، ومن عجل أخطأ أو كاد كما في الخبر، ولتحفظ الأناة من التواني، فقد قال الحكماء: احفظ عشرا من عشر، احفظ........ من التواني، وإسراعك من العجلة، وسخاك من التبذير، واقتصادك من التقتير، وإقدامك من الهوج، وتحررك من الجبن، ونزاهتك من الكبر، وتواضعك من الدناءة، وأنسك من الاغترار، وكتمانك من النسيان.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الصمت حكم وقاتل فاعله)) وقال: ((من وقي شر فنقبه ودندبه ولقلقه فقد وقي القنقب البطن والذبذب الفرج والقلق اللسان، وقال: كفف لسانك إلا من خير.
صفحہ 17
وقال سليمان بن داود صلوات الله عليهما: إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
وفي حكم آل داؤد حق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه، حافظا للسانه، مقبلا على شأنه.
وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة؟ قال: لاتنطقوا أبدا، فقالوا: لا نستطيع ذلك، قال: فلا تنطقوا إلا بخير.
وتكلم جماعة عند معاوية والأحنف ساكت، فقيل له: مالك لا تتكلم يا أبا بحر؟ قال: أخشى الله إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت.
ويزداد قبح هذه الآفات بازدياد فضل الزمان والمكان والغيبة ونحوها في الأوقات الفاضلة كرمضان، وأوقات الصلاة، وفي الأماكن الفاضلة أشد قبحا، ولا سيما في المساجد، ولهذا لا يجوز فيها من المباحات إلا أمور مخصوصة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((جنبوا مساجدكم أسواقكم، وإقامة حدودكم، ورفع أصواتكم، ومجانينكم وصبيانكم، وسل سيوفكم، وبيعكم وشرائكم، وقال: إنما بنيت المساجد لذكر الله وأحكامه)).
وقال لرجل ينشد ضالته في المسجد: ((لا وجدتها، إنما بنيت المساجد لذكر الله)) فكيف والعياذ بالله بمن يتخذ المساجد أسواقا للأعراض ، ومطابخ للأغراض.
وإذ قد وقع الفراغ من تطهير الظاهر باجتناب آفات اللسان التي هي من ظاهر افثم، فلنختم الكلام بتطهير الباطن باجتناب آفات الجنان التي هي من باطن الإثم من نحو الكبر والعجب، والرياء، والمباهاة والمكاثرة، والحسد والغل، وسوء الظن، وموالاة الأشرار، ومعاداة الأخيار، وحب الحمد بما لا يفعل، والحمية والمداهنة، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة كما قال، ومنه الفرح الملهي، والجبن بالقلب، والبخل بالمال، والسرف والاقتار، والجزع عند المصيبة، وما يتفرع من هذه الآفات.
صفحہ 18
قال بعض الزهاد: أعظم هذه الآفات حب الدنيا كما في الخبر، وحبها ما بعدك عن مراد الله، وعن الأفضل مما تريده من الطاعات، ودواء إخراجها من القلب بمعرفة آفاتها، ولم يرد التكليف بإزالة شهوتها من القلب، بل بالصبر عنها حتى يرجع المشتهى مكروهان والوصول إلى ذلك بأمور ثلاثة: بالصبر على القيام بالواجبات، واجتناب المقبحات، وعلى ما أتاك من الامتحان من الله تعالى، وعن الخلق وبالزهد في الشهوات، ثم في الحلال، وبالمواضبة على الندم على كل قبيح لقبحه، وعلى كل إخلال بواجب..............، وعلى العزم أن لا تعود إلى شيء من ذلك، وعلى اللجا إلى الله والرجاء لكرمه، وعلى شكره في كل حال، وذكره بالقلب واللسان، قاصدا بكل ما فعلته أنه لكل وجه حسن يريده الله على الوجه الذي تريد.
صفحہ 19
نعم قيل موانع الخيرات ارتكاب الشهوات، وتأثير الملذات، وتطويل الأمل، والاشتغال ..............العمل، فمن سلم من هذه الأربعة فقد هدي إلى صراط مستقيم، ولولا أن السؤال ورد في الغيبة لكان ذكر الآفات القلبية بالتقديم أولا؛ لأن القلب أشرف الأعضاء، إذ به يحصل التفكر في عجائب صنع الله الذي أتقن كل شيء، ويكفيك أيها الإنسان تفكرك فيك {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}[الذاريات:21] فقد جمع فيك العالم الأكبر، ولبعض العارفين: يا خلاصة الوجود فيك كل موجود، ضحكك كالرعود، وتبسمك كالبرق ودمعك كالمطر، وعقلك في القلب كالشمس، ورجلام في رسوخها كالجبال، ورأسك كالسمرات،.............السبعة كالكواكب السبعة السيارات، ويديك كالأرض، وعقلك في القلب كالسلطان، وبين يديهالخدم والأعوان، وهي الجوارح، فإذا خطر فيك خاطر الحركة قامت له الأعوان من السمع والبصر واليد والرجل واللسان والعين زائد، والسمع صاحب خير، واللسان ترجمان، واليد حارس يرد ما يرد من الآفات، والقدم مطية ومركب، والفكر جاسوس للقلب، وظهرك يضاهي جانب الدنيا الخراب، ووجهك يضاهي جانبها العمران، وجعلت العين في الرأس لتكون مشرفة على جميع العضاء، كالطليعة للعسكر، وجعلت في كهف حراسة لها، وتوقيرا لضوئها باجتماع شعاعها، والقت من سبع طبقات كالقشور المتراكبة لو فسدت واحد فسد البصر، وجعل لها أهداب لتدفع ما يطير إليها، ولتعدل الضوء بسواده، وخلق الأنف ليخص فيه الريح المستنشق لترويح الرئة والدماغ والفم، وعاء الكلام واللسان عضو النطق، وآلة لتقليب الطعام المخضوع، والمضغ يقع في جانبي الفم حراسة لأداة النطق، واللسان حاكم إليه تمييز الذوق، وتقطيع الصوت، وإخراج الحروف، والشفة غطاء الفم والأسنان وتحبس اللعاب، وعون على الكلام، وجمال في الصورة، واللهاة باب موصد على مخرج الصوت تقدره، والأسنان تقطع لحدتها، والنياب تكسر، والأضراس تطحن لعرضها، وخص الفك الأسفل بالتحريك صيانة للأعلى عنه لاشتماله على الأعضاء الشريفة، وعين الماء تنبع من تحت اللسان لبل الطعام وإلا لم يمص يابس، وجعلت الأذن صدفا معوجا لتحبس الصوت لمجمعه، وجعل ماؤها مرا لتندفع الحشرات عنها، وماء العين مالحا لأنها شحمة لولا ذلك لذابت، وما الفم عذبا لتطييب طعم المطعم، وجعل فيه القوى الأربع الحادية وإلا لما اشتهى الطعام، والماسكة وإلا لخرج كما دخل، ألا ترى أن المثانة قربة ماء مفتوح رأسها على الدوام حتى عند المنام، وفمها إلى أسفل، ومع ذلك لا يخرج ماؤها، والهاظمة وإلا لما هظم الطعام، ألا ترى أن الإنسان يأكل الأشياء الشديدة ويخرج كما ترى، ولولا الدافعة لما خرجت فضلة الطعام، وذلك لأن الكبد طباخ وقسام، فيقسم ويعطي الصافي الخالص جميع العروق، ويترك النخالة التي لا تصلح لها فتخرجها الدافعة إلى السبيلين، وجعلت الأصابع دقيقة لتعمل الأشياء اللطيفة كالكتابة والصناعة، وجعل الكف قعرى ليحفظ ما جعل فيها، والأصابع عظام شتى لتحوي على قعرى الكف بالقبض كالقفل للإحراز، ولم يخل عن العظام لتكون أفعالها قوية، ولم تكن عظما واحدا لئلا يعسر إقفالها، وجعلت عظام قواعدها أغلظ من رؤسها لتحس المناسبة بين الحامل والمحمول، ولم فيها مخ ولا تجويف لتكون أقوى على القبض والحركة، وجعلت الإبهام كالضامة على ما تقبض، وجعل القلب قوي الذات، كثير الحجب ليكون أبعد من الآفات، وفي وسط الصدر؛ لأنه أعدل الأماكن، وجسمك مركب من اثني عشر وصلا، وله مائتان وثمانية وأربعون عظما، وثلاثمائة وستون عرقا، والعظام تمسك الجسد والعثب واللحم بشدة، والعروق تسقيه، والجسم مركب من تسع طبقات لو اختل أحدها بطل نظامه، الشعر ثم الجلد، ثم الشحم ثم العروق، ثم اللحم ثم الدم، ثم العصب ثم العظم، ثم المخ، ومن العظام أساس للبدن، فقارة الصلب يبني عليها الجسد وأمنها كالمجن، مثل عظيم النافوخ،..........جعل حية للدماغ وهو من عظائم متخلخلة، وله ثلاثة ذرود..................الدماغ بالتحلل، ثم لكل يد واحد وأربعون عظما، للكف خمسة وثلاثون، والساعد عظمان، والعضد عظم واحدة، والتراقي ثلاثة، وكذلك اليد الأخرى، ولكل رجل ثلاثة وأربعون عظما، للقدم منها خمسة وثلاثون، وللساق عظمان، وللركبة ثلاثة، والورك عظمان، وللصلب من الفقار ثمانية عشر من تحت الرقبة إلى عجب الذنبن وهذا العجب من العجائب أول ما يخلق وآخر ما يخلق، ولكل جنب تسعة أضلع، وللرقبة ثمانية أعظم، وللرأس ستة وثلاثون، الأسنان من ذلك اثنتان وثلاثون، وطول الأمعى خمسة أذرع.
ثم فيك شبه من جميع الحيوان، ملكي ينفع ولا يضر من نحو العقل والحلم، والعلم والكرم، والتقوى والتواضعن وسبعي تضر ولا تنفع من نحو الكبر والصولن والغضب والحسد، وبهيمي كالأنعام من الأكل والشرب، والكسل، وشيطاني من الحيل والمكر والتلبيس، وفيك كبر إبليس وحسد قابيل، وعتو عاد وتمرد نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، ووقاحة هامان، وهوى بلعام، ورعونة الطاووس، وحرض الغراب، وشره الكلب، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وبلادة الحمار، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ..........الفرس، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وشر الحية ومكر الفارة، وعبث القرد، فرض نفسك وجاهدها لتغطي عيوبها، ففيك عبرة {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}[آل عمران:13].
صفحہ 22
وينبغي أن نختم الكلام بعد التحذير من تلك الآفات بذكر ما يعتمد فعله من محاسن الشمائل والصفات، من التوبة والإخلاص، واليقين والتقوى، والصبر والرضى، والقناعة والزهد، والتوكل والتفويض، وحسن الظن وحسن الخلق، وكظم الغيظ والعفو، وكف الأذى والرفق، وشكر المنعم والشفقة على الخلق، والحب لله ولرسوله وللمؤمنين، والنصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين ولعامتهم، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والمجازاة على الإحسان والمواساة، والسعي في قضاء حوائج الأنام، وصلة الأرحام، وبذل الجاه في الشفاعات، والتحبب إلى الأقارب والجيران، والوفاء بحقوق الإخوان، بحسب الإمكان، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((للمسلم على أخيه ثلاثون حقا لا براءة له منها إلا..........والعفو له يغفر زلته ويرحم عترته، ويستر عورته ويقبل.....، ويقبل معذرته ويرد غيبته، ويديم نصيحته ويحفظ حلته، ويرعى ذمته ويعود مرضته، ويشهد منيته ويجيب دعوته، ويقبل هديته ويكافئ صلته، ويشكر نعمته ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته ويقضي حاجته، ويتبع مسألته ويشمت عطسته، ويرشد ضالته ويرد سلامه، ويبر إنعامه ويصدق أقسامه، يواليه ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه على آخذ حقه، ولا يسلمه ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه)).
اللهم يا من لا يحويه مكان، ولا يخلفه زمان، ولا يشغله شأن عن شأن، صل وسلم على محمد وعلى آل محمد، وأعذنا من آفات اللسان والجنان، ومن شر النفس والهوى والشيطان، واسكنا ووالدينا وأولادنا وإخواننا من المؤمنين والمؤمنات برحمتك التي وسعت كل شيء غرف الجنان، واجعلنا جميعا ممن قلت فيه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}.
صفحہ 23