يستحيل أن يكون العقل وحده مصدرا لحياتنا الخلقية؛ لأن المعرفة العقلية لا يترتب عليها عمل، والأخلاق صميمها عمل؛ ذلك أن المعرفة العقلية نظرية، وقيام الرأي النظري في العقل لا يكفي وحده أن يحرك الإنسان في دنيا الفعل والسلوك، إننا في المجال الفكري النظري نحكم على الفكرة المعينة بالصواب أو بالخطأ، أما في المجال السلوكي العملي فنحكم على الفعل بالخير أو بالشر، وهكذا يختلف نوع الحكم في كل من المجالين.
لكن ماذا يراد بكلمة «العقل» عند هيوم، هذا العقل الذي يقول عنه إنه وحده عاجز عن حمل صاحبه إلى مجال السلوك والعمل؟ إنك لتستطيع أن تستخلص مما أسلفناه لك في الفصول الأولى من هذا الكتاب معنى «العقل» عند هيوم على وجه التحديد ،
107
فهو يصرف هذه الكلمة إلى إحدى عمليتين، فإما أن يقتصر الإنسان على تحليل الأفكار التي في رأسه ليحدد العلاقات القائمة بين فكرة وفكرة، وفي هذه الحالة لا ينصب تفكيره على شيء من أشياء العالم الخارجي الواقع، ويكون طريق سيره في تفكيره هذا استنباطيا صرفا، بمعنى أنه يستولد فكرة من فكرة، وتكون النتيجة التي يصل إليها صادقة، لا لأنها تشير إلى واقعة من وقائع العالم الخارجي، بل لأن عملية الاستنباط قد سلمت من الخطأ؛ والعلوم الرياضية هي التي تقوم على هذا النوع من التفكير، وأما العملية الثانية التي يطلق عليها هيوم كلمة «العقل» أيضا، فهي عملية استدلال وقوع المسبب إذا وقع سببه؛ فها هنا ليس الأمر مقتصرا على تحليل الأفكار وحدها بحيث أستنبط فكرة من فكرة بغض النظر عن دنيا الواقع، بل الأمر متصل بما يقع فعلا في دنيا الواقع، فأضع قطعة الثلج - مثلا - قريبا من النار، فأتوقع - بناء على خبراتي الماضية - أنها ستذوب ماء سائلا بفعل الحرارة؛ ومثل هذا الاستدلال السببي هو أساس العلوم الطبيعية.
هاتان هما العمليتان الوحيدتان اللتان تكونان «العقل» عند هيوم، فلا يجوز إطلاق هذه الكلمة على أي حكم لا ينطوي تحت واحدة منهما؛ وهو إذ يقول بمناسبة حديثه عن مبادئ الأخلاق إن «العقل» وحده عاجز عن حمل الإنسان على السلوك والعمل، وبالتالي فهو لا يكفي وحده أن يكون مصدرا للأخلاق، فإنما يريد بهذا القول على وجه التحديد أن كلا من هاتين العمليتين الفكريتين لا تتضمن بطبيعتها أن يصحبها عمل.
أما العملية الأولى، فهي - كما قلنا - مقتصرة على ربط أفكارنا بعضها ببعض، كأن أربط - مثلا - بين فكرتي «المثلث» و«الزاوية» بحيث أقول عن المثلث إن زواياه مجموعها لا بد أن يكون قائمتين، لماذا؟ لا لأني قست مثلثا معينا فوجدته كذلك، فأنا أستطيع أن أقول هذا عن المثلث حتى ولو لم يكن في العالم الواقعي كله مثلث واحد؛ إنما أقول هذا عن المثلث نتيجة لتحليل «الفكرة» في ذاتها وإبراز خصائصها ومقوماتها التي منها أن زواياه مجموعها قائمتان؛ هذه نتيجة تلزم بالضرورة عن تعريف المثلث ذاته، وتعريف المثلث «فكرة» في رأسي؛ وإذن فالتفكير الذي هو من هذا النوع التحليلي - كالرياضة - لا شأن له بالعالم الخارجي، وبالتالي فلا شأن له بالسلوك العملي، أي إنه - وحده - لا يكون مصدرا لحياة الإنسان الخلقية كما يزعم الفلاسفة العقليون.
إن الإنسان في تفكيره الرياضي كله لا يلجأ إلى «الخبرة العملية» ليقيم البرهان على صدق تفكيره؛ لأن القضية من قضايا الرياضة شرطية دائما، بمعنى أننا بمثابة من يقول: «إذا سلمنا بصدق كذا وكذا من الفروض، نتج كذا وكذا.» مثال ذلك قولنا: «إذا كان ثمة شيء على شكل مثلث فإن زواياه تساوي قائمتين.» وليس في هذا القول بالطبع اعتراف أو تسليم بأن هنالك شيئا ما على شكل مثلث، لكن «إذا» تحقق الفرض، تحققت معه النتيجة؛ الخبرة العملية هنا هي التي تنبئنا إن كان ثمة شيء ما على شكل مثلث أو لم يكن، لكن هذا النبأ في ذاته لا يضيف قوة إلى البرهان الرياضي بأن زوايا المثلث تساوي قائمتين؛ ولما كان الجانب العملي السلوكي من حياتنا متصلا بالأشياء الفعلية الواقعية، ثم لما كانت «الأخلاق» متصلة بهذا الجانب العملي السلوكي، كانت العلاقة مبتورة - كما ترى - بين التفكير النظري الذي هو من النوع التحليلي الرياضي وبين الجانب الإرادي الفعلي السلوكي الذي هو جانب الأخلاق.
إذن فهذا معنى من معنيي «العقل» قد فرغنا منه، وننتقل إلى المعنى الثاني لهذه الكلمة عند هيوم، وهو - كما قدمنا - الحكم بأن شيئا معينا سيحدث ما دام قد حدث شيء آخر؛ لأننا قد عرفنا من خبراتنا السابقة أن الشيئين مرتبطان في الحدوث، ونحن نزعم أن «العقل» بهذا المعنى أيضا لا يمكن أن يكون مصدرا كافيا للفعل الخلقي؛ ذلك لأن كل ما تدلنا عليه خبراتنا هو أن الأمور هكذا تقع، لكنها لا تدلنا على أن في الأمر «وجوبا»؛ ولما كانت القضية من قضايا الأخلاق فيها معنى «الوجوب» دائما، فنقول: «يجب أن تفعل كذا وألا تفعل كيت.» ثم لما كانت خبراتنا الحسية الماضية خالية من فكرة «الوجوب » هذه، إذن فليس «العقل» - بهذا المعنى الثاني - مصدرا للأحكام الخلقية
108
وفيما يلي عبارة هامة يقولها هيوم في هذا الموضوع: «في كل فلسفة مما قد صادفته حتى الآن من فلسفات الأخلاق لاحظت دائما أن المؤلف يمضي في حديثه حينا ما مستطردا في تدليلاته على الطريقة المألوفة، فيؤكد وجود الله، أو يثبت بعض ملاحظاته عن شئون البشر؛ ولشد ما أدهش إذ أراه فجأة، بعد أن يكون في قضاياه مقررا لما هو كائن أو ما ليس بكائن، ينتقل إلى طائفة من قضايا مشتملة كلها على «يجب» أو «لا يجب»؛ إنه انتقال قد يخطئه النظر، لكنه بالغ الأهمية؛ لأنه لما كانت لفظة «يجب» أو «لا يجب» تشير إلى نوع جديد من علاقات الإثبات، كان من الضروري أن نضعها موضع البحث والتفسير، كما يتحتم في الوقت نفسه أن نبين ... كيف تسنى لهذه العلاقة الجديدة أن تستنبط من غيرها الذي هو مختلف عنها كل الاختلاف.»
نامعلوم صفحہ