لما بين المسكنين من تجاور في المكان؛ ويكاد يستحيل أن تفكر في جرح بغير أن تفكر في الألم الذي يصحبه لما بينهما من علاقة السبب بمسببه.
تلك هي المبادئ الثلاثة التي تترابط الأفكار على أساسها؛ يذكرها هيوم ويقول إنه لا يدعي أنها هي المبادئ الوحيدة في هذا الصدد؛ فما على القارئ الذي يشك في ذلك سوى أن يستعرض لنفسه ما شاء من أمثلة لترابط الأفكار في رأسه وأن ينعم النظر فيها محللا ما بينها من روابط، لعله يجد مبدأ آخر ينتظم طائفة أخرى من صنوف الارتباط؛ قد يجد مثلا أن «التضاد» بين الفكرتين ربما يكون داعيا لارتباطهما بحيث يستدعي الضد ضده كما يستدعي ذكر اللون الأبيض اللون الأسود؛ غير أن التضاد يظهر بالتحليل أنه مزيج من مبدأي السببية والتشابه؛ لأنه إذا كان ثمة ضدان فإن الضد منهما يفني ضده، أي إنه يكون سببا في فنائه، وفناء فكرة ما قد يستدعي في الذهن ما قد كانت عليه قبل فنائها؛ مثال ذلك الأبيض والأسود؛ فإذا ما وردت إلى خاطري فكرة الأبيض، أدركت على أساس السببية أن وروده إنما كان على حساب فناء فكرة الأسود، وعندئذ أذكر ما قد كان الأمر فأذكر اللون الأسود، وهكذا يتتابع الضدان في الذهن. (2) الإدراك الحسي والذاكرة (2-1) الانطباعات الحسية وأصولها الخارجية
سؤالان يريدان منا جوابا ؛ أولهما خاص باعتقادنا عن شيء ما ندركه بحواسنا أن لوجوده استمرارا واتصالا على الرغم من أنه قد يكون حاضرا أمام الحواس آنا وغائبا عنها آنا آخر، فما الذي يحملنا على مثل هذا الاعتقاد رغم أننا نجاوز به شهادة الحواس؟ فهذا المكتب الذي أكتب عليه الآن موجود بشهادة الرؤية واللمس، لكنني قد أخرج من الغرفة فلا أراه ولا ألمسه ولا أشهد وجوده بحاسة أخرى، ومع ذلك فإني إذا ما عدت إلى الغرفة وعدت إلى رؤيته ولمسه، ملكني الاعتقاد بأنه هو نفسه المكتب الذي كنت قبل ذلك أراه وألمسه، فأنى لي هذا الاعتقاد باستمرار وجوده، مع أنني لو ركنت إلى شهادة الحواس وحدها لقلت إنه مكتب آخر قد بدأت لتوي أدركه بحسي؟
والسؤال الثاني خاص باعتقادنا بوجود الشيء الذي ندركه بالحواس خارج حدودنا، أي إنني حين أنظر إلى هذا المكتب الذي أمامي، يملكني الاعتقاد بأنه ليس مجرد انطباع على شبكية عيني، بل هو كائن مستقل عني موجود خارج نطاقي؛ فما الذي يحملني على هذا الاعتقاد إذا كنت في حقيقة الأمر لا أعلم إلا أن انطباعا حسيا واقع على جسدي؟ أفلا يجوز أن هذا الذي أراه إن هو إلا هذا الانطباع وحده دون أن يكون ثمة في الخارج ما يقابله، كما يحدث أحيانا حين يتوهم الواهم أنه يرى أو يسمع وليس هنالك الشيء الذي يتوهم أنه يراه ويسمعه؟
والسؤالان مرتبطان أحدهما بالآخر، لأنني إذا ما اعتقدت عن شيء ما أنه موجود في لحظة لا يكون انطباعه فيها واقعا على حسي، كأن أعتقد بوجود مكتبي هذا حتى في اللحظة التي أكون فيها جالسا في غرفة أخرى لا أراه ولا ألمسه، على أساس أن له وجودا متصلا غير متقطع بتقطع إدراكاتي الحسية لوجوده، أقول إنني إذا ما اعتقدت ذلك عن هذا المكتب، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده مستقل عن وجودي، وأن وجوده لا يعتمد على إدراكي الحسي المباشر له وجودا وعدما ؛ والعكس صحيح أيضا، بمعنى أنني ما دمت قد اعتقدت أن وجود هذا المكتب مستقل عن وجودي وعن إدراكي المباشر له، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده يظل قائما في حضوري أو غيابي على السواء ... ذانك هما السؤالان اللذان نريد الإجابة عنهما لنعلم ما الذي يحملنا على الاعتقادين معا: الاعتقاد باتصال وجود الشيء الخارجي، والاعتقاد بوجوده مستقلا عنا؛ أهي «الحواس» نفسها التي تحملنا على هذين الاعتقادين؛ أم هو «العقل» أم «الخيال»؟
أما «الحواس» نفسها فيستحيل أن تكون مصدرا لأي من هذين الاعتقادين؛ إذ من الواضح أنني حين أكون غائبا عن هذا المكتب بحيث لا أراه وحين أحكم - رغم غيابي عنه - أنه موجود، فليس هذا الحكم عندئذ مستمدا من حواسي؛ لأنني - بحكم الفرض الذي فرضته - غائب عنه، فليس هو على صلة ببصري أو بلمسي؛ وإلا فلو قلت إنني أرى المكتب حين لا أراه، وألمسه حين لا ألمسه، فذلك يكون مني تناقضا صريحا.
وكما أن «الحواس» لا تكون مصدرا لاعتقادي باتصال وجود الشيء الخارجي أثناء غيابي عنه، فكذلك لا تكون مصدرا لاعتقادي بأن للشيء الذي أدركه بها وجودا خارجيا مستقلا عن وجودي، وذلك واضح كذلك، لأن كل ما تمدني به العين حين تنطبع برؤية هذا المكتب - مثلا - هو ما قد انطبعت به، أي هو الانطباع نفسه، وليس في وسعها أن تمد إدراكها إلى ما وراء ذلك لترى إن كان للشيء نفسه - الذي هو مصدر الانطباع الواقع عليها - وجود مستقل أو لم يكن؛ إن اللقطة الحسية الواحدة لا تدرك إدراكين في وقت واحد: الانطباع والشيء الطابع؛ كل ما هنالك عند الحاسة في اللحظة المعينة هو انطباعها، فإن حكمت بعد ذلك بأن في العالم الخارجي شيئا قائما بذاته هو سبب هذا الانطباع، كان ذلك مني استدلالا عن طريق العقل أو الخيال؛
26
وقد أصيب في هذا الاستدلال أو قد أخطئ، بمعنى أنني قد أدرك انطباعا على حواسي لشيء ما فأستدل وجود هذا الشيء خارج جسمي، وإذا بالأمر وهم، فلا شيء هناك كما توهمت أن يكون؛ لكن الفيصل الذي أقرر به إن كان الاستدلال صائبا أو خاطئا، أي أقرر به إن كان لانطباعي الحسي أصل في الخارج أو هو من خلق أوهامي، هذا الفيصل الذي أقرر به لا يكون في طبيعة الانطباع نفسه، لأن الانطباع لا يختلف في الحالتين؛ فالذي توهمه الأوهام أنه يرى في الهواء طائرا إنما يدرك انطباعا على حسه كالانطباع الذي يدركه إذا ما كان في الهواء طائر فعلا؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس في مضمون الانطباع ذاته ما يدل إن كان صورة لواقع أم اختلاقا من الوهم؛ ولا بد - إذن - أن يكون مرجعنا في الحكم الذي نقرر به إن كان الانطباع الحسي ممثلا لشيء خارجي أو لم يكن، إلى عوامل أخرى غير الانطباع نفسه، كأن نرجع إلى علاقاته بسائر الأشياء المحيطة به، لأن الروابط التي تصل الانطباع في الحالة الأولى بما حوله، مختلفة عن الروابط التي تصله بما حوله في الحالة الثانية.
فإذا ما قدمت لنا الحواس انطباعات معينة على أنها صور لأشياء خارجة عنا ومستقلة بوجودها عن وجودنا، كان لا بد لحواسنا من أن تفرق بإدراكها بين طرفين: فالأشياء الخارجية من جهة، وذواتنا المدركة من جهة أخرى، وإلا لما استطاعت أن تقارن وتوازن وتقضي بأن ذلك الطرف شيء قائم بذاته مستقل عن هذا الطرف، غير أن المشكلة ها هنا هي: كيف يمكن أن يكون الإنسان نفسه موضوع إدراك حواسه؟
نامعلوم صفحہ