لكن هذا التقدير الذي غمره وأسكره سرعان ما ذهبت طلاوته وجدته، وعاد صاحبنا من جديد يتمنى العودة إلى اسكتلندا ليعيش الحياة الهادئة في ريفها كما كان معتزما أن يفعل حين جاءته الدعوة من السفارة البريطانية بباريس ؛ ومع ذلك فقد جاءت رحلته هذه مليئة بالخبرة الجديدة التي لم تكن تطوف له ببال؛ فهؤلاء هن سيدات الطبقة الرفيعة في العاصمة الفرنسية يسعين إليه وهو ثابت على كبريائه وصدوده؛ وقد جعل هذه العلاقات موضوع تفكه في رسائله إلى أصدقائه حينئذ؛ وكانت تأتيه الخطابات من كثيرات فيحرص - كما يقول - ألا يرد على من تكون سنها دون الثلاثين؛ على أن واحدة من هؤلاء السيدات قد استدعت منه الحذر والحرص بدرجة تستلفت النظر، وهي «الكونتيسة بوفليه» التي كانت قد بدأت علاقتها به حتى قبل قدومه إلى فرنسا؛ إذ أخذت تراسله وهو في بريطانيا، فلما جاء إلى فرنسا زادت من صلاتها به زيادة أثارت في نفسه الخوف من جهة، كما أشاعت الشائعات من جهة أخرى؛ وهو يذكر لنا كيف كان يحرص كل الحرص إذا ما أرسل إليها خطابا أو إذا ما حدثها حديثا مباشرا، ألا تفلت منه عبارة تدل على أنه ربما كان يحمل إزاءها عاطفة خاصة؛ وكانت «الكونتيسة بوفليه» هذه هي التي وصلت حبل التعارف بينه وبين كثيرين من أئمة الفكر في فرنسا إذ ذاك، وبخاصة جان جاك روسو الذي لم يكن عندئذ في باريس، فتعارفا بالرسائل أول الأمر ... وكان بين من عرفهم في باريس من رجال العلم والأدب «هلفتيوس» و«بيفون» و«هلباخ» و«ديدرو»؛ أما «مونتسكييه» فقد عرفه قبل قدومه إلى فرنسا.
لم يألف هيوم قبل قدومه إلى فرنسا أن يسمع الثناء عليه من حيث صفاته الشخصية؛ فقد كان القليلون الذين اعترفوا به في وطنه يقدرونه أديبا ومفكرا وفيلسوفا، أما أن يجد من يمتدح فيه صفاته الخلقية من تواضع وبساطة فذلك شيء لم يعرفه إلا في فرنسا؛ فلا عجب أن يزداد كراهية ومقتا لإنجلترا والإنجليز مع أنهم بنو وطنه، لأنهم تنكروا له وبخسوه حقه حتى أوشك أن يفقد الثقة في نفسه لولا هذه الرحلة إلى باريس.
وفي الرابع من يناير عام 1766م عاد هيوم إلى بلاده وفي صحبته روسو ! ذلك أنه لبث يراسل روسو وهو في فرنسا مدى عامين من الأعوام الأربعة التي أقامها هيوم هناك، وحتى حين انقطعت بينهما الرسائل، فقد ظل الود بينهما قائما، على الرغم من أنهما لم يلتقيا؛ فلما سمع هيوم عن روسو أنه يود لو ارتحل إلى إنجلترا ليقيم بها حينا، كتب له من فوره يبدي له استعداده أن يهيئ له وسيلة السفر والإقامة، وقد كان أن أعد له هيوم غرفة في لندن عن طريق أحد أصدقائه هناك، واتفقا على موعد يلتقيان فيه في باريس ليغادراها معا في طريقهما إلى لندن؛ وتم اللقاء وتم السفر، وازداد هيوم بزميله الفرنسي إعجابا، كان بعض الأصدقاء في فرنسا قد حذر هيوم من روسو وشذوذه في معاملة الناس، كما كان يعلم عنه كذلك أنه عليل البدن؛ لكنه - بادئ الأمر - لم يجد منه إلا ما يزيده تقديرا له، ولقد أدهشه أن يرى هذا «العليل» - إذ هما في السفينة من فرنسا إلى إنجلترا - يصعد إلى ظهر السفينة ليقضي الليلة العاصفة الباردة في العراء دون أن يصيبه أذى.
بلغ الزميلان مدينة لندن، فبدت في عيني هيوم مدينة راكدة هامدة بالقياس إلى باريس التي كانت تعج بالحياة وبالثقافة عجيجا؛ وزاد من همه أن عاد فوجد نفسه من جديد نكرة مغمورة لا يحس بوجوده أحد ولا يهتم له أحد، فأين ذلك من باريس التي وضعته في أعلى مكان؟ لكن عزاءه عندئذ كان أن روسو لم يزل في صحبته، وأنه قد أخذ على نفسه أن يكون له في إنجلترا مرشدا ورائدا، لكن حتى هذا العزاء سرعان ما حال ثم زال، ذلك أن روسو لم يشعر بالطمأنينة في لندن، وظل قلقا لا يسلس لرائده القياد في تقديمه للناس، حتى لقد اضطر آخر الأمر أن يغادر لندن إلى مكان في الريف أعده له هيوم بمعونة صديق؛ وبذلك افترقا، بل أخذت الفرقة بين قلبيهما تدب دبيبا سريعا.
كان روسو منطويا على نفسه بطبعه، وجاءت الحياة المنعزلة في إنجلترا فزادته انطواء على انطواء، وهنا أخذ يتوهم الأوهام وتوسوس في نفسه الوساوس؛ فصور له خياله أن هنالك مؤامرة يدبرها له هيوم مع آخرين؛ وكلما حدث بعد ذلك حادث، جعل منه روسو دليلا جديدا يؤيد له صدق ما توهم، فمثلا، لماذا يهتم هيوم - رغم سوء الظن به - بأن يظفر لروسو براتب من حكومة إنجلترا؟ هكذا أخذت أوهامه توهمه حتى بات الوهم عنده يقينا، فأرسل إلى هيوم في 23 يونيو عام 1766م رسالة يقطع بها كل علاقة بينهما، ويرفض أي معونة تجيء إليه عن طريقه.
روع هيوم لهذا الانقلاب العجيب الذي لم يكن عنده قط ما يبرره؛ إنه أسدى إلى روسو جميلا إثر جميل، ففيم هذا النكران؟ وفكر هيوم أن يدافع عن نفسه علنا، وأعد دفاعه، لكنه عاد فآثر الصمت خشية أن يجيء الدفاع عن نفسه مؤيدا للاتهام في أذهان الناس؛ لكن روسو من ناحيته لم يختر الصمت وأرسل إلى ناشر بباريس مقالا عنيفا يهجم به على صديقه القديم وعدوه الجديد اللدود؛ ونشر الناشر هذا المقال نشرا واسعا حتى طرق الأسماع كلها، فلم يجد هيوم عندئذ بدا من نشر دفاعه الذي كان قد أعده وأمسك عن نشره؛ وفرح الناشر بهذا الرد لأنه ألحقه بمقالة روسو في كتيب صغير كان له ذيوع كبير بين القراء، وإن قراءة هذا الكتيب لتمتع من يريد أن يقارن رجلين من معدنين مختلفين التقيا على صعيد واحد، فأما روسو فأبرع في عبارته الأدبية وأحمى في مشاعره، وأما زميله هيوم فأقوى حجة وأعمق نظرا؛ ولا غرابة، ففي هذا الكتيب الصغير التقت العاطفة الملتهبة بالعقل النافذ. (5) الختام في إدنبره
لبثت صديقته الفرنسية «الكونتيسة بوفليه» ترسل إليه الرسائل مغرية إياه بالعودة إلى باريس، لكنه أبى؛ واتصلت الخطابات بينه وبين «إدوارد جبن» - المؤرخ المشهور الذي أرخ لتدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها - وألح عليه «جبن» وغيره من الأصدقاء أن يعود إلى كتابة التاريخ، لكنه كذلك أبى؛ لأنه آثر لنفسه أن يركن إلى حياة الدعة والراحة يختم بها حياته.
وعاد إلى وطنه الأصلي وهو اسكتلندا، حيث أقام في إدنبره، يحيا الحياة التي أرادها، حياة الرغد والتراخي، يشرف بنفسه على طهو ما يشتهيه من ألوان الطعام التي عرفها وأحبها في فرنسا؛ يلقى الناس ويلقاه الناس في سمر وتسلية؛ ولم يكن هيوم قد تزوج، فأخذ على نفسه أن يكفل ابني أخته، وترك داره الصغيرة ليستأجر بدلها دارا أكبر؛ وإنما أقول ذلك لأضيف أن «بوزول» - وهو الذي كتب السيرة المشهورة في آداب العالم أجمع، سيرة صديقه صموئيل جونسن - استأجر «بوزول» هذا تلك الدار الصغيرة التي تركها هيوم، واستضاف بها صديقه وإمام الأدب الإنجليزي إذ ذاك صموئيل جونسن.
ففي هذا المكان الذي كان يزخر بأعلام الأدب والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة، عاش هيوم أخريات سنيه، حتى أخذته العلة المستعصية؛ إذ أصيب في أمعائه بالسرطان، وعلم علم اليقين أن لم يعد بينه وبين ختام الأجل إلا أمد قصير، فكتب سيرته في كتاب «حياتي»، ومات في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1776م، وكان قد أوصى بمكان دفنه وبالعبارة القصيرة التي تكتب على شاهد قبره، فلم يشأ أن يكتب على الشاهد إلا اسمه وتاريخ مولده وتاريخ وفاته.
هذا هو فيلسوفنا «ديفد هيوم» الذي وصفه واصف بقوله إن مظهره لم يكن قط يدل على حقيقة مخبره، فوجهه عريض مليء وفمه وسيع، فلا يشير ذلك فيه إلى شيء إلا أنه إلى البلاهة أقرب، وعيناه خاويتان لا تعبران عن روح، وتكوينه الجسماني كله يدل على أنه ريفي ساذج أكثر مما يدل على أنه الفيلسوف المهذب.
نامعلوم صفحہ