ضرب الإسكندرية
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
اصناف
ولا حاجة إلى الإسهاب في سرد أسباب الهزيمة التي منيت بها الجيوش المصرية في التل الكبير، فليس من العسير أن نفهم كيف ينهزم جيش يحيط به الجواسيس وينقلون أخباره إلى الأعداء وينساق إلى خذلانه أقرب الناس إليه.
إلا أن المؤرخين علقوا بعض أسباب الهزيمة على موقف الجيش من قناة السويس، وحسب كثير منهم أن ردم القناة كان خليقا أن تعطل حركات الإنجليز في الجهة الشرقية، وهو كلام يلقى على عواهنه. لأن عرابيا لم يكتف بما أخذه دلسبس على نفسه من العهود المؤكدة، وأمر بإرسال قوة إلى القناة لمواجهة الحال بما تقتضيه.قال الأستاذ الإمام في تعليقاته على الثورة العرابية: «وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش 15 ساعة في مخابرة دلسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة حملوا الأخبار وأبطئوا في المخابرة.»
أما وجهة نظر عرابي في هذا التأخر، فهي تقديره أن الإنجليز يعملون منفردين بين الدول، وأن ردم القناة يجنح بالدول إلى تأييدهم. وقد أبلغ السلطان خطته في رسالة برقية، قال فيها بعد أن أشار إلى قطع الإنجليز للمواصلات البرقية بين الإسماعيلية والسويس: «أما نحن فبالنظر إلى احترامنا لعهود الترعة، بأن تكون على الحياد وإلى عدم تفويتنا لتلك النقطة وعدم وجود قوة عسكرية تقوم بشأن المحافظة على النقط فيما عدا نقط العساكر المستحفظة وموالاة التحريض الشديد على عدم مس حقوق الترعة، كل ذلك جعلنا في مأمن تام من تحمل أي تبعة كانت.» •••
هذه كلمة مجملة في خطة الجيش المصري حيال القناة، وليست هذه الخطة على كل حال هي سبب الهزيمة؛ لأن الهزيمة كانت ضربة لازب بين عوامل الخذلان التي أحاطت بالجيش المصري في حالته تلك؛ وهي حالة النقص في العدد والعدة، على الرغم من تكرار المطالبة بزيادته وتسليحه، ولو كان في مصر عدد كاف من الجنود المدربين لأمكن رصد «المخافر» اللازمة منهم لحماية قناة السويس من غير حاجة إلى ردمها وتسليم المحتلين بذلك حجة يسوغون بها هجومهم ويمثلونه للدول في صورة «المهمة الدولية»، ويأتون بالشهود من مصر وغيرها على سبق المصريين إلى العمل الذي أوجب الهجوم لحماية القناة في حينها، واليوم - في سنة 1952 - كانت حجة المحتلين أمام الدول بدعوى حماية القناة تسبق حجة المصريين إلى الإقناع، مع تضارب الأهواء.
ويبقى أن تقال هنا كلمة أخرى عن المذابح التي وقعت داخل البلاد بعد خروج الجيش المصري من الإسكندرية، فإن أخبار المهاجرين من الإسكندرية عن قتلاها وحرائقها وخرائبها كانت قد ملأت بلاد الوجه البحري، وذاع معها أن الذي حدث في الإسكندرية سيحدث في المدن الأخرى عند وصول الجنود الإنجليز إليها، فثارت ثائرة الغوغاء واشتبكت بينهم وبين الأجانب والمسيحيين مشاجرات قتل فيها أناس من هؤلاء، كما قتل فيها أناس من المسلمين. والذي ينبغي أن يلفت النظر أن أعيان المسلمين خفوا إلى نجدة الأجانب والمسيحيين المعتدى عليهم، وأن كبير هؤلاء الأعيان في إقليمه «أحمد المنشاوي بك» تلقى من مؤتمر الأجانب الذي انعقد بفندق «أبات» في الإسكندرية خطاب تقدير باللغتين العربية والإيطالية، قالوا فيه: «إننا نحن الواضعين إمضاءاتنا بذيله المستوطنين في القطر المصري والتابعين لدول مختلفة بناء على ما اشتهر لدينا، مما أتيتم به من الإعانة والغيرة نحو ساكني طنطا على اختلاف أجناسهم وأديانهم، قد رأينا من الواجب علينا أن نقدم لسعادتكم هذه العريضة برهانا على إقرارنا الأبدي بحميتكم وشكرنا الدائم لسعادتكم. وإنه ليسرنا ويعزينا كثيرا أن نرى في القطر المصري مع ما أصيب به من النوائب رجالا دافعوا عن حقوق الإنسانية وراعوا زمام التمدن بحمايتهم أولئك الأبرياء.»
أما الجزاء الذي قابل به الاحتلال ذلك الشكر الأبدي فهو النظر بعين السخط إلى أولئك الحماة، وقد تمحل الممثلون العلل لسجن الرجل الذي تلقى ذلك الاعتراف بالجميل، فاتهموه بالعنف في إكراه بعض اللصوص على الاعتراف بجريمتهم، وساقوه إلى المحاكمة «تكفيرا» عن حقوق الإنسانية. ومغزى هذه المعاملة وأمثالها أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، فهي - إلى مكافأة عمر لطفي وشركائه - برهان يغني عن كل بيان ...
يضيق الصدر بعد هذا بما جرى في أثر الهزيمة المصرية من عودة الخديو إلى القاهرة محفوفا بالجيوش الإنجليزية، وبما جرى من الفضائح والمخزيات في محاكمة الزعماء العرابيين، ولكننا نلخصها موجزين، فنقول: إن الإنجليز لم يضعوا أقدامهم في القاهرة حتى بدءوا بتهديد الخديو في مركزه كما تقدم، وبادر الشاعر الأيرلندي «بلنت» الثائر على الدولة البريطانية إلى نجدة أصدقائه العرابيين، فندب للدفاع عنهم محاميا إنجليزيا خبيرا بالشئون الشرقية هو مستر «برودلي» صاحب كتاب «تونس في ماضيها وحاضرها» وكتاب «كيف دافعنا عن عرابي؟» فعلم هذا المحامي بمشاوراته مع المراجع الإنجليزية العليا أن إنجلترا لا تستطيع الحكم بالإعدام على عرابي؛ لأنها تتذرع بفساد الحكم لتسويغ الاحتلال، فلا يلائم هذه الدعوى أن تعاقب بالإعدام من يثور على الفساد، ولكنها كذلك قد تذرعت بعصيان عرابي وتثبيت مركز الخديو لتسويغ حملتها على البلاد المصرية، فلا مناص إذن من الاعتراف بالعصيان.
وفي المحكمة تولى المحامي الدفاع على هذا الأساس، فكانت المحاكمة كلها فصلا من فصول التمثيل، ولما يسدل الستار بعد على الفصل الأخير.
إلا أن المقادير توالي سياسة الاستعمار بالسخرية التي لا تنقطع في مرحلة من مراحله، فالاحتلال البريطاني يبقى اليوم باسم القناة التي بدءوا أعمالهم في غزو مصر باقتحام حرمتها ونقض عهودها، ونحن اليوم نحتج عليهم بمقاومتنا لاحتلالهم، وقد كانت هذه المقاومة نكبة القائمين بها أمس، فهي شفاعتهم اليوم في التقدير والإنصاف.
جنرال سيمور.
نامعلوم صفحہ