ضرب الإسكندرية
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
اصناف
كانت النهضة الوطنية كلها في ختام عهد «إسماعيل» صفا واحدا في المطالبة بحقوق الدستور أو حقوق الأمة في بلادها. وابتدأ عهد «توفيق» والأمل قوي في ثبات هذه النهضة على وجهتها، ولكن الخديو عرف موقف الدول من مجلس النواب، فأراد أن يغفله ويغفل معه مجلس الوزراء، فلما اعتزل «شريف باشا» الوزارة لتأخير دعوة المجلس النيابي، تولى الخديو رئاسة الوزارة بنفسه ، ثم تنحى عن رئاستها غير مستريح في الواقع إلى هذا التنحي، وأسندها إلى «مصطفى رياض باشا»، وهو كذلك لا يستريح إليه.
وأعلنت اللجنة التي شكلت لتصفية الديون تقريرها في مستهل عهد الخديو «توفيق»، فإذا هو يلغي دين المقابلة الوطني ويعوض الدائنين عنه في آجال بعيدة تمتد إلى خمسين سنة.
وبينما الدائنون المصريون يألمون لهذه الضربة إذا بضربة أخرى تلحقها على الأثر وتصيب الضباط المصريين دون غيرهم، وخلاصتها الوجيزة جدا - مع التجاوز عن المكائد والدسائس والمناورات - أن وزير الجهادية أحال على الاستيداع ألف ضابط ليس فيهم ضابط واحد من غير المصريين. ولما اجتمع بعضهم في أوائل الحركة عند - رئيس المترجمين بإدارة الخزانة - محمد أفندي فني - صدر الأمر باقتحام الدار والقبض على من فيها، وحوكم صاحب الدار بالسجن سنتين، وعلى زواره بالسجن شهورا أو بالإقصاء إلى مساقط رءوسهم في القرى والمدن الريفية.
وتلا ذلك رفع الظلامة من كبار الضباط إلى الحضرة الخديوية، فقرر مجلس الوزراء أن يكل الأمر إلى وزير الجهادية لينكل بأولئك الضباط مع الأناة والحذر من العواقب، فكان كل ما اهتدى إليه من الحيطة أنه دعا الضباط - وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي - إلى ثكنات قصر النيل «للتشاور في ترتيب زفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة صاحب السمو الخديو.» فلما لبوا الدعوة قبض عليهم وعقد مجلسه العسكري وأمر بخلع سيوفهم واعتقالهم إلى أن يفصل في أمرهم، وكان زملاؤهم أصدق في حذرهم من وزير الجهادية فخفوا إلى الثكنة بجنودهم وحملوهم على الأعناق وساروا في موكب يحف به ألوف من السابلة إلى قصر عابدين يطلبون عزل الوزير.
وقد نمى إلى الوزارة أن قنصل فرنسا ينافس قنصل إنجلترا ويؤيد حركة الضباط، فطلبت نقله من مصر، واجتمع كبار الفرنسيين بفندق «أبات» في الإسكندرية يؤيدونه ويحملون على الوزارة ويوقعون العرائض إلى دولتهم بطلب استبقائه، فجاء الرد من باريس باستدعاء القنصل الفرنسي في الحال، وكان ذلك إيذانا من الدولة الفرنسية بنفض يدها من السياسة المصرية وإطلاق اليد للقنصل الإنجليزي، يفعل ما يشاء غير معترض عليه من حكومة لندن أو حكومة القاهرة.
وفي الوقت نفسه سمع «مصطفى رياض باشا» أنه متهم بممالأة الضباط ليصعد على أكتافهم إلى مسند الخديوية، فنفى التهمة عنه بالتشدد في معاقبتهم وخرج من سواء الرأي إلى اصطناع المداراة ودفع الشبهات، فأخطأه التوفيق فيما رآه.
ذاع بين الناس في تلك الظروف أنه لا وفاق بين الضباط والوزارة ولا بين الوزارة والخديو، وتحدث الناس بالشقاق بين الضباط الشراكسة والضباط المصريين، وأن الحكومة ترى في هذا الشقاق منفذا لحفظ سلطانها بين الفريقين.
وجاء «محمود سامي» بعد «عثمان رفقي» المعزول من وزارة الجهادية، ثم جاء «داود يكن» بعد «محمود سامي» صديق العرابيين، فاستراب الضباط المصريون واشتدت ريبتهم حين أبلغ بعضهم أمر النقل من القاهرة إلى الأقاليم. فسارت الحوادث بعد ذلك على عجل وحدثت مظاهرة الجيش المشهورة أمام قصر عابدين، ونفخ فيها المراقب الإنجليزي - وكان قنصل فرنسا يومئذ في طنطا - فراح يحرض الخديو على قتل عرابي ويستفز عرابيا إلى المجازفة والاستيئاس في المقاومة، ثم فتقت الحيلة للمستر كوكس قنصل إنجلترا في الإسكندرية أن يقنع عرابيا بإحالة «الطلبات» القومية إلى سدة الخلافة لينظر فيها «أمير المؤمنين» بما يستحسنه، وهو - بطبيعة الحال - لم يكن يستحسن في ذلك الحين إنشاء مجلس نواب في القاهرة يتبعه مجلس نواب في الآستانة، فأسرع عرابي إلى الموافقة على إحالة الأمر إلى سدة الخلافة، ولكنه أصر على عزل الوزارة؛ لأنه شأن من الشئون المصرية. ثم استجاب الخديو آخر الأمر إلى عريضة الضباط وعريضة الأعيان التي رفعت بعدها بيوم واحد، فاستدعى «محمد شريف باشا» لتأليف وزارة دستورية، فاعتذر كثيرا واشترط لقبول تأليفها إقصاء زعماء الضباط إلى الأقاليم ولم ينزل عن هذا الشرط، فتوسط علية القوم بينه وبين الضباط ووعد عرابي وأصحابه بالسفر من القاهرة إلى حيث تنقلهم الوزارة بعد إعلان الدعوة إلى انتخاب مجلس النواب.
محمود سامي البارودي باشا.
في العاشر من أكتوبر - 1881 - قدم إلى مصر وفد من الباب العالي مؤلف من «علي نظامي باشا» رئيسا و«علي فؤاد بك» وكيلا واثنين من رجال التشريفات في المابين الهمايوني، مهمته التحقيق في المذكرات التي وصلت إلى السلطان من جانب الخديو وجانب العرابيين. وقد كانت إحالة المسألة إلى الباب العالي اقتراحا من مندوب إنجلترا كما تقدم، ولكن تاريخ الاستعمار البريطاني أو تاريخه في مصر على الخصوص، قد أثبت على الدوام أن الحكومة البريطانية تلجأ إلى «الحجة الشرعية» لكي تغتصب من ورائها غنيمة من الغنائم ولا تستند إليها إلا بالقدر الضروري لاغتصاب تلك الغنيمة. فما هو إلا أن وصل الوفد العثماني إلى مصر حتى ثارت إنجلترا واستثارت فرنسا واتفقتا على إرسال أسطوليهما إلى الموانئ المصرية على سبيل التهديد والتربص. ولما احتج الباب العالي على هذا التدخل السافر لغير علة، وطلب سحب السفن من المواني المصرية اشترط اللورد «فرين» أن يبرح الوفد العثماني مصر أولا ثم يتلوه الأسطولان في اليوم نفسه!
نامعلوم صفحہ