ضرب الإسكندرية
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
اصناف
وابتدأ عهد الخديو توفيق والحالة تتأزم والحرج يتفاقم ويتجسم، وشاع فيما شاع أن أصحاب المناصب الكبرى ينقسمون إلى فريق يرحب بالعهد الجديد، وفريق يعمل على إعادة عهد إسماعيل أو عهد أمير من الأمراء المقيمين في الآستانة بعد تحويل الوراثة إلى سلالة إسماعيل، فانتشرت الريبة وسوء الظن في كل بيئة من بيئات الحكومة، وعمل المتنافسون غاية ما في طاقتهم للإيقاع بمنافسيهم. وكان على وزارة الحربية ناظر شركسي زعم أنه يقمع الفتنة في مكمنها، فأمر بمنع الترقية من تحت السلاح - أي من صف الجنود - بامتحان أو بغير امتحان، وفرق رؤساء الكتائب المصريين ليتمكن من إخضاعهم وتشتيت شملهم، فلما اجتمعوا ولجئوا إلى الشكوى عوملوا معاملة المتمردين وسيقوا إلى المحاكمة بحيلة من الحيل، فقيل لهم: إنهم مدعوون إلى وليمة وأخذوا في ثكنات قصر النيل على حين غرة، فهجم زملاؤهم على الثكنات لإنقاذهم، وحدثت للمرة الثانية في مدى سنوات قليلة مظاهرة عسكرية تتحدى أوامر الرؤساء.
وبات كل فريق على حذر، واشتد الحذر كما يشتد على الدوام مع الريبة والتحفز وفساد النية، فسرى من الدواوين إلى البيوت، واتهم الخدم بدس السم للمخدومين وخامرت الظنون رؤساء الكتائب فأصبح كل اتصال بين ضباط من ضباطهم وبين رجال الكتائب الأخرى محلا للريبة والاشتباه. ولما حوكم فريق من الضباط الشراكسة لاتهامهم بالتآمر على اغتيال الضباط المصريين، استكبر الخديو توفيق عقوبتهم واستبدل بها - بعد مشاورة الآستانة - عقوبة أخف منها كالنفي والاستيداع. كذلك كانت علاقة السلطة بين موظفيها وجنودها ... أما المحكومون بتلك السلطة فكانوا ضحية النزاع الدائم وعرضة لسطوة كل فئة من الموظفين تنافس غيرها في القدرة على تحصيل الضرائب أو جمع «القرض» بعد استيفاء الضرائب أو استنباط الحيلة لتقديم الأقساط في مواعيدها، ومنها ثمن الإعفاء من السخرة كما تقدم أو ثمن الإعفاء من الجندية، مع العلم بأن عدد الجيش محدود وأن الحكومة لا تحتاج إلى جنود.
نهضة الإصلاح
شاعت الثورات وحركات الإصلاح في الغرب والشرق خلال القرن التاسع عشر، وقيل في تعليلها: إنها عدوى الثورة الفرنسية التي بدأت في القرن الثامن عشر، ولم تزل تتجدد إلى ما بعد سقوط نابليون الكبير فنابليون الصغير.
ومهما يكن من أثر العدوى بين الأمم - وهو أثر محقق لا جدال فيه - فمن النادر جدا، إن لم يكن من المستبعد عقلا، أن تثور أمة لمجرد العدوى وحب التشبه بغيرها، فلا بد لكل ثورة من بواعث متعددة في أحوال الأمة نفسها تساعدها العدوى على الظهور.
وهكذا كانت الحال في مصر من منتصف القرن الثامن عشر، بل ربما خصت مصر باجتماع طائفة من بواعث السخط لم تجتمع قط في أمة واحدة في وقت واحد، فتضافرت البواعث السياسية والوطنية والمعيشية والفكرية وكل باعث يوغر الصدور على إزعاج الأمة المصرية.
ونفى الأمن والطمأنينة عن نفوس أبنائها طغيان الدول الأجنبية ومساوئ الامتيازات التي بلغت القحة بأصحابها أن يحسبوها فرصة لاستذلال المصريين بغير داع وفي غير مصلحة معروفة، وأثقال الضرائب والقرض والسخرة والمصادرات التي استنفدت الأرزاق في زمن قلت فيه المحاصيل والمرافق وتتابعت فيه الأوبئة ونوبات القحط تارة والفيضان تارة أخرى، واختلال الحكم وتنازع السلطة بين الحاكمين من الأجانب والغرباء والوطنيين، وجرح الشعور الديني بإباحة المنكرات علانية وتمادي أشرار الأجانب المحميين بامتيازاتهم في التحريض على الفساد بجميع أنواعه، ومنه الفجور والقمار والربا الفاحش وما يقترن بها من الفضائح والمخزيات.
لا عجب في أمثال هذه الأحوال أن ترهف الأمة أسماعها لالتقاط كل دعوة إلى الإصلاح ولو لم يكن فيها غير الأمل في التغيير.
وقد كانت النهضة الفكرية في إبانها، وكان المتعلمون من أبناء مصر يسمعون أخبار النهضات الفكرية ويتناقلون أفكار دعاتها ومذاهب الساسة والحكماء القائمين عليها. وقد قرأ الكبار والصغار في عهد «محمد علي الكبير» كتاب رفاعة بك بدوي الطهطاوي الذي سماه «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز» وفيه بيان للدستور الفرنسي وحقوق الفرنسيين ومبادئ الثورة وحرية القول والكتابة، ومن ذلك قوله عن الصحف، ننقله بنصه حيث يقول: «أما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات؛ الأولى جمع جرنال، والثانية جمع كازيطة، فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أو خارجي؛ أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد بها من الكذب ما لا يحصى إلا أنها قد تتضمن أخبارا تتشوف نفس الإنسان إلى العلم بها على أنها بما تضمنت مسائل علمية جديدة التحقيق أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير. لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحقتر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير، فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها، وقال الشاعر:
لما سمعت به سمعت بواحد
نامعلوم صفحہ