درجات سِت
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
اصناف
الخامس ، يؤدي وجود الروابط بمستويات عدة إلى تعزيز إمكانية البحث في الشبكة، ومن ثم أصبحت المستويات المتعددة أمرا يفرض نفسه. وعند وقوع كارثة ما، تبدو سمات الشبكة كالقابلية للبحث وتخفيف الازدحام أمورا مفاجئة، لكنها نتيجة طبيعية للاستجابات المحلية للمشكلات المعتادة في البيئات التي يكتنفها الغموض على نحو مزمن.
إذن العلاقة بين قابلية البحث والقوة علاقة دقيقة، تتجسد على صورة حالة وسط بين تفسيرنا المدفوع اجتماعيا عن البحث اللامركزي في الشبكات وتفسير جون كلاينبرج، وفي حين يتسم حل كلاينبرج بكونه «مصمما» خاصة حتى يتمكن المهندسون من تصميم لوحات الدوائر الكهربائية من الصفر، تنشأ المؤسسات الحقيقية بوجه عام نتيجة لعمليات بحث فردية وقرارات مدروسة محليا، لكن على عكس الشبكات الاجتماعية الخالصة، لا تنشأ المؤسسات على نحو تلقائي تماما أيضا. يعد التسلسل الهرمي، في الواقع، العلامة المميزة للحل المصمم من أجل التنظيم الداخلي للشركات، وهو حل قاصر في ظل حالة الغموض، لكنه - كما رأينا - حل قابل للتعديل لينجح في العديد من الظروف المتنوعة.
هكذا تستغل الشركات التجارية الحديثة القدرة على البحث اللامركزي الكامنة في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية عن طريق فرض بنية التحفيز المتأصلة في التسلسلات الهرمية عليها، ومع أننا لم نصل بعد إلى فهم كامل للمشكلة، فيبدو أن الاستراتيجية الجيدة لإقامة مؤسسات قادرة على حل المشكلات المعقدة هي تدريب الأفراد على التعامل مع الغموض عن طريق البحث في شبكاتهم الاجتماعية، بدلا من إجبارهم على إنشاء قواعد بيانات وأدوات مصممة مركزيا والمساهمة فيها بهدف حل المشكلات. تتمثل الفائدة الكبرى لهذا الأسلوب في أنه من خلال فهم كيفية بحث الأفراد اجتماعيا، يمكننا أن نطمح في تصميم «إجراءات» أكثر فعالية نتمكن من خلالها من إنشاء مؤسسات قوية دون الحاجة لتحديد التفاصيل الدقيقة للبناء المؤسسي ذاته.
الفصل العاشر
نهاية البداية
قياسا إلى العالم، تمثل جزيرة مانهاتن بطولها البالغ اثنين وعشرين ميلا وعرضها الأقل من خمسة أميال، نقطة صغيرة؛ جوهرة واقعة على مصب نهر هادسون بشمال المحيط الأطلنطي. وعند إلقاء نظرة عليها عن قرب، نجدها أشبه بملعب ضخم هائل؛ إنها موطن لمليون ونصف المليون نسمة، وهي وجهة للملايين يوميا، وقد ظلت على مدار قرن من الزمان نموذجا للمدينة الحضرية التي لا تنام.
لكن من منظور علمي، تعد مانهاتن أشبه بالأحجية. يستهلك ملايين البشر يوميا ، وما يؤدونه من أنشطة خاصة وتجارية، قدرا هائلا من الموارد؛ كالغذاء والماء والكهرباء والغاز، ومجموعة متنوعة هائلة من المواد، بدءا من الأغلفة البلاستيكية، ومرورا بالعوارض الفولاذية، ووصولا للأزياء الإيطالية، هذا فضلا عما يصرفونه من كميات ضخمة من المخلفات على صورة قمامة ومواد قابلة لإعادة التدوير وصرف صحي ومياه صرف؛ فيصدرون بشكل جماعي قدرا هائلا من الطاقة الحرارية الخام، وينشئون بذلك مناخهم الصغير الخاص بهم، لكن ما من شيء تقريبا تحتاجه المدينة للبقاء ينتج أو يخزن بالفعل داخل ضواحيها، هذا فضلا عن عجزها عن تلبية أي من حاجاتها للتخلص من مخلفاتها. تنقل مياه شرب مانهاتن مباشرة عبر الأنابيب من جبال كاتسكيل التي تبعد عن المدينة ساعتين بالسيارة في اتجاه الشمال، أما الكهرباء، فتولد بعيدا في الغرب الأوسط، في حين يصل الغذاء في شاحنات من جميع أنحاء الولايات المتحدة وسفن من أنحاء العالم كافة. في الوقت نفسه يستمر نقل قمامة هذه المدينة في قوارب ضخمة إلى مقلب فريش كيلز بجزيرة ستاتن آيلاند القريبة، الذي يعد أحد بناءين من صنع البشر يمكن رؤيتهما من الفضاء (الآخر هو سور الصين العظيم).
بناء على ما سبق، يمكن النظر إلى مانهاتن كرابطة من التدفقات؛ أي نقطة التقاء دائمة الدوران للبشر والموارد والأموال والطاقة، وما إن تتوقف هذه التدفقات عن الحركة - حتى ولو مؤقتا - حتى تبدأ المدينة في الانهيار جوعا أو غرقا في فضلاتها؛ فالسعة التخزينية لمتاجر البقالة فيها لا تكفي إلا لأيام قليلة فحسب، وتقل عن ذلك لدى المطاعم، وإذا لم تجمع القمامة مرة واحدة على الأقل، تبدأ في التكدس بالشوارع. بعد انقطاع الكهرباء الكارثي في عام 1977، لا يمكن تصور ما قد يحدث حاليا إذا انقطعت الكهرباء لأكثر من بضع ساعات. يشتهر أهالي نيويورك بثقتهم المشوبة بالتهور، فيظهرون شيئا من القدرة، حتى في أكثر الظروف مشقة، لكنهم في الواقع أسرى للأنظمة نفسها التي تجعل الحياة في المدينة شديدة الملاءمة. إن اعتمادهم يزداد كل يوم على الأداء القوي للبنية التحتية المعقدة الضخمة التي لولاها لصارت تفاصيل حياتهم العادية - الطعام والشراب والتنقل - مضنية على نحو لا يحتمل.
ما الذي يمكن أن يحدث إذا توقفت هذه البنية التحتية، أو جزء منها، عن العمل؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟ ومن يمكنه ضمان عدم حدوثه؟ بعبارة أخرى، من المسئول؟ يفتقر هذا السؤال، شأنه شأن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنظم المعقدة، لإجابة محددة، لكن أقصر الإجابات الممكنة هي: «لا أحد!» في الواقع، ما من شيء يسمى بنية تحتية واحدة ليكون هناك مسئول عنها، لكن القائم هو مزيج معقد من البنى الحاكمة والأنظمة والمؤسسات والشبكات المتداخلة، يجمع بين الجوانب المجتمعية والسياسية والاقتصادية العامة والخاصة. إن نقل الأفراد وحده من مانهاتن وإليها وحولها مقسم على ما لا يقل عن أربع جهات لخدمات السكك الحديدية، وجهاز مترو الأنفاق، والعشرات من شركات الحافلات، وعدة آلاف من سيارات الأجرة، في الوقت نفسه تمكن العديد من الجسور والأنفاق التي تديرها هيئة الموانئ، إلى جانب آلاف الأميال من الطرق والطرق السريعة، ملايين المركبات الخاصة - بالمعنى الحرفي للكلمة - من الدخول إلى الجزيرة ومغادرتها يوميا، هذا ويتسم كل من الغذاء والبريد بدرجة أعلى من اللامركزية، فيتضمن هذان المجالان المئات من خدمات التوصيل التي تدفع جميعها بالآلاف من الشاحنات والعربات، بل الدراجات أيضا، في جميع أنحاء شوارع مانهاتن على مدار اليوم طوال أيام الأسبوع.
ما من كيان واحد يتولى تنسيق هذا النظام المعقد والمذهل على نحو لا يصدق، وما من أحد يفهمه، لكن يوميا عندما تتوقف عند المتجر المجاور لك في الثانية صباحا لشراء المثلجات بالنكهة المفضلة لديك، يكون هذا النظام موجودا، ويكدس أحدهم دائما الأرفف البراقة بمنتج ما وصل حديثا. هذا النظام حقيقة من حقائق الحياة التي يعتبرها سكان مانهاتن أمرا مسلما به، لكن نجاحه في المقام الأول يعد معجزة حقا. لكن حري بالفكرة التالية أن تثير اهتمام سكان مانهاتن بين الحين والآخر، حتى لو لم يحدث هذا إلى الآن: فلو أن ثمة شيئا واحدا تعلمناه من الفصول السابقة، فهو أن الأنظمة المتصلة اتصالا معقدا لا تظهر القوة الهائلة في وجه المحن وحسب، بل تظهر ضعفا صادما أيضا، وعندما يكون النظام معقدا كمدينة مزدحمة بالمباني والبشر، وحيويا لحياة ملايين البشر، ومحوريا لاقتصاد إحدى القوى العالمية الكبرى، يكون التفكير في نقاط تعطله المحتملة أكثر من مجرد تأمل لا جدوى منه. وبناء عليه، ما مدى قوة مانهاتن؟ (1) الحادي عشر من سبتمبر
نامعلوم صفحہ