درجات سِت
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
اصناف
النظام والعشوائية ... البنية والفعالية ... الاستراتيجية واتباع الأهواء ... هذه نقاط التناقض الأساسية في النظم الشبكية الحقيقية، التي يتضافر بعضها مع بعض على نحو معقد، فتدفع النظام من خلال تصارعها اللانهائي إلى هدنة مضطربة، لكنها ضرورية في الوقت نفسه، فلو لم يكن لماضينا تأثير على حاضرنا، ولو كان حاضرنا غير مرتبط بمستقبلنا، لكنا قد ضللنا الطريق محرومين ليس فقط من الوجهة، بل أيضا من أي إدراك للذات، فنحن ننتظم وندرك العالم من خلال البنية المحيطة بنا، لكن الزيادة المفرطة للبنية والتأثير الزائد عن الحد للماضي على المستقبل، يمكن أن يكون أمرا سيئا أيضا؛ فيؤدي إلى الركود والعزلة. التنوع ، بلا شك، هو ما يعطي الحياة مذاقا، لأنه من خلال التنوع وحده يمكن للنظام أن ينتج شيئا ثريا ومثيرا.
هذا هو المغزى الحقيقي وراء ظاهرة العالم الصغير، ومع توصلنا إليه عن طريق التفكير في الصداقات، ومع استمرارنا في تفسير الكثير من سمات الشبكات الحقيقية وفقا للروابط الاجتماعية، فإن الظاهرة نفسها ليست قاصرة على العالم المعقد للعلاقات الاجتماعية، فهي تظهر، في الواقع، في مجموعة متنوعة ضخمة من النظم المتطورة طبيعيا، بدءا من الأحياء ووصولا إلى الاقتصاد، ويرجع جزء من السبب وراء كونها عامة للغاية إلى أنها شديدة البساطة، لكنها لا تصل في بساطتها إلى شبيكة مضاف إليها بضعة روابط عشوائية قليلة، بل هي النتيجة الحتمية لتسوية عقدتها الطبيعية مع ذاتها؛ ما بين صوت النظام العنيد ونظيره المدمر الجامح المتمثل في العشوائية.
من الناحية الفكرية، تعد شبكات العالم الصغير أيضا تسوية بين التوجهات المختلفة تماما لدراسة النظم الشبكية تطورت عبر عقود من الزمان في الرياضيات وعلم الاجتماع والفيزياء؛ فمن ناحية، دون وجود المنظور الفيزيائي والرياضي لنستهدي به في التفكير بشأن الظهور العام من تفاعلات محلية، ما كنا لنحاول قط تجريد العلاقات التي تجسدها الشبكة فيما وراء العلاقات الاجتماعية، وما كنا لنلحظ قط التشابه القوي بين الأنواع الكثيرة المختلفة من النظم، ومن ناحية أخرى، دون وجود علم الاجتماع كمحفز لنا، ودون إلحاح الحقيقة الاجتماعية القائلة إن الشبكات الحقيقية توجد في مكان ما بين نظام الشبيكات المجرد، والفوضى غير المحدودة للرسوم البيانية العشوائية، ما كنا لنفكر أبدا في طرح السؤال من الأساس.
الفصل الرابع
ما وراء العالم الصغير
بقدر ما ساعدنا تركيزنا على الشبكات الاجتماعية، فقد ضللنا أيضا إلى حد ما، وتمثلت إحدى أكثر السمات المثيرة للدهشة لكثير من الشبكات الحقيقية - بما في ذلك إحدى الشبكات التي كنت أعمل عليها مع ستيف - في شيء، ما كنا لنفكر في البحث عنه مطلقا؛ ففي إحدى عطلات نهاية الأسبوع بشهر أبريل عام 1999، كنت أجلس في مكتبي بمعهد سانتا في، حيث كنت أستكمل دراستي بمنحة جامعية لما بعد الدكتوراه، حين تلقيت رسالة ودية بالبريد الإلكتروني من لازلو باراباسي، وهو فيزيائي بجامعة نوتردام، يطلب فيها مني مجموعات البيانات التي تضمنها بحث عن شبكات العالم الصغير كنا قد نشرناه في العام السابق، حينذاك لم تكن لدي أي فكرة عما كان ينويه باراباسي وتلميذته، ريكا ألبرت، لكني سعدت بمنحه الشبكات التي كانت معي، ووجهته للاتصال ببريت تشاودين للحصول على بيانات بخصوص الممثلين السينمائيين. كان علي أن أولي الأمر مزيدا من الاهتمام؛ إذ إنه بعد بضعة أشهر قليلة نشر باراباسي وألبرت بحثهما الرائد في دورية «ساينس» ليطرحا مجموعة كاملة جديدة من الأسئلة عن الشبكات.
ما الذي غاب عنا؟ نظرا لأن دافعنا كان مستمدا من ظاهرة العالم الصغير، فقد كنت أنا وستيف غير مهتمين نسبيا بعدد الجيران الذين يحظى بهم الأفراد عادة في شبكاتهم، كنا نعرف أن علماء الاجتماع قضوا وقتا هائلا في حساب عدد الأصدقاء الذين يمتلكهم الأفراد، فضلا عن أن الأعداد التي توصلوا إليها تعتمد اعتمادا كبيرا على كيفية فهم الأشخاص موضع الدراسة بالضبط لمصطلح «الصداقة» في المقام الأول. فمن الجلي أنه إذا كان مصطلح «صديق» يشير إلى «من يعرفه المرء باسمه الأول»، فستكون النتيجة مختلفة تماما عما إذا كان ينظر إليه بمعنى «من يتناقش معه المرء في شئون شخصية» أو «من يقرضه المرء سيارته أسبوعا كاملا». ومن ثم وضعنا المشكلة في عداد ما يتعذر حله، وتوقفنا عن التفكير فيها بالكامل، لكن في خضم ذلك، وضعنا افتراضا بشأن توزيع الروابط في الشبكات. تخيل أنه بإمكاننا سؤال كل فرد في شبكة صداقات كبيرة عن عدد أصدقائه (مع افتراض تعريف محدد)، وأنهم جميعا سيمنحوننا الإجابة الصحيحة. كم عدد الأفراد الذين لديهم صديق واحد فقط؟ وكم عدد من لديهم مائة صديق؟ كم عدد من ليس لديهم أصدقاء على الإطلاق؟ بوجه عام، يمكننا استخدام البيانات لرسم يسمى ب «توزيع الدرجات» في الشبكة، كما هو موضح في الشكل
4-1 ، يعكس توزيع الدرجات، في صورة واحدة، احتمالية أن يكون لدى عضو مختار عشوائيا من مجموعة الأفراد عدد معين من الأصدقاء، أو «درجة» (ينبغي عدم الخلط هنا مع درجات الانفصال).
شكل 4-1: يحدد التوزيع الطبيعي احتمالية ح(د) أن يكون لدى نقطة تلاق واحدة مختارة عشوائيا عدد (د) من الجيران. وتقع الدرجة المتوسطة
د
نامعلوم صفحہ