ينتمي النقاد الثلاثة الذين كتبوا عن الضمير - والذين يتناولهم هذا الفصل - بالكاد إلى فريق واحد أو إطار فكري واحد (على الرغم من أن بعض خطوط التأثير يمكنها التوحيد بينهم)، لكنهم يشتركون في احتقار فكرة الضمير بوصفه مسئولا عن التحسين الذاتي غير مثير للمشاكل أو مدافعا كريما عن المبادئ الأخلاقية العامة. ويعرض النقاد الثلاثة مجموعة مترابطة من المشكلات: ماذا لو كان الضمير يمثل عبئا زائفا وغير ضروري بدلا من أن يمثل صوت الله الآمر أو الإجماع الاجتماعي المستنير؟ وماذا لو كان الضمير يمثل عبئا اخترعناه ونفرضه على أنفسنا بلا داع؟ بل أسوأ من ذلك، ماذا إن قبلنا ما تمليه علينا التأثيرات الخارجية المستبدة أو الزائفة وأضفينا عليها صفة ذاتية، مما يؤدي إلى ضمير يتشكل من التحيز الجاهل والمنع غير المدروس؟
الهجوم على الضمير
في رواية «الجريمة والعقاب» (1866) لدوستويفسكي، ينشغل بطل الرواية (أو على الأحرى بطلها الذي لا يحمل الصفات المتوقعة من البطل) راسكولنيكوف مبكرا بفكرة أن الضمير - أو في هذه الحالة صاحبه الملازم «الخوف الفطري» - قد يمثل بالفعل قيدا غير ضروري على اختيارات الإنسان وأفعاله، فهو يتصور أن «الإنسان إن لم يكن يتصف بالنذالة في الحقيقة ... لا يتبقى له سوى التحيز والخوف الفطري، ولا وجود للحواجز». ويكرس المؤلف بقية أحداث الرواية لإظهار خطأ راسكولنيكوف وإثبات وجود الحواجز، لكنه لا يترك هذه الحواجز دون تحديات؛ حيث تبحث الرواية في دراسة الشرعية المختلطة والمنقوصة غالبا لهذه القيود التي نفرضها على أنفسنا. ويعترف بالضمير - وغيره من الأنواع الأخرى من القلق المصحوب بالشك - بوصفه أحد هذه الحواجز، وتتعرض دوافع سلطته بشكل دائم إلى اختبار شديد التشكك.
يؤكد راسكولنيكوف موقفه من الضمير في مقال جدلي يزعم فيه أن «الإنسان «المتميز» له الحق - وهو ليس حقا رسميا بل حقه الخاص - في السماح لضميره بتخطي عقبات معينة». ويقدم صديقه رازوميخين اعتراضا أخلاقيا شديدا قائلا: «إنك في نهاية المطاف تسمح بإراقة الدماء دون أن تشعر بالذنب ... ومن وجهة نظري، فإن هذا السماح بإراقة الدماء دون الشعور بالذنب أو وجع الضمير أكثر فظاعة مما إذا كانت إراقة الدماء مسموحا بها رسميا وقانونيا.» لكن النقد الأكثر حدة يظهر في النهاية على لسان بورفيري قاضي التحقيق مع راسكولنيكوف، والذي يناقشه في ادعاءاته الساذجة بالتميز، ثم يخلص إلى الملاحظة نافذة البصيرة بأن بعض هؤلاء الأشخاص الذين يتسمون ظاهريا بالتميز قد يحققون أهدافهم، لكنهم (على لسان راسكولنيكوف) «يبدءون في إنزال العقاب بأنفسهم». وقد تمكن راسكولنيكوف مؤقتا من كبت هذا المبدأ التشريعي في عقله، والذي كان يمكنه منعه من اقتراف جريمته، لكن كل شيء له ثمن «لقد قتلت نفسي وليس العجوز الشمطاء»، بالإضافة إلى أن هروبه من قسوة ضميره كان هروبا مؤقتا وليس دائما. ومن خلال قياس عجز راسكولنيكوف عن الهروب من قسوة ضميره، يقدم لنا دوستويفسكي شخصية سفيدريجيلوف غير الأخلاقية والذي يتناوب بشكل عشوائي القيام بأعمال شائنة من الناحية الأخلاقية وأعمال أخرى تتسم بالكرم المطلق، والذي يصف ضميره بأنه «في حالة خمول تام». ولا يستطيع راسكولنيكوف تبني هذا الموقف على الرغم من تهديداته ب «تخطي» الحد الفاصل الأخلاقي، وعلى الرغم من جميع تخيلاته النابوليونية.
سوف يتعرض راسكولنيكوف بالفعل للبعث من جديد في سيبيريا عند نهاية الرواية، لكن هذا البعث لن ينشأ عن «تأنيب الضمير» الذي تتخيله دونيا المخلصة (لكنها ضعيفة الخيال). وحتى وهو يندفع مهاجما نفسه لعجزه عن اتخاذ «الخطوة الأولى»، فإنه ما زال يعاني من كبريائه الجريحة والانتقاد التأديبي لعجزه عن الهرب من أوجه قصوره أكثر مما يعاني من الضمير نفسه، وتظل علاقته بالضمير متأرجحة ومتضاربة. وحتى وهو يحاول التغلب عليه بوصفه قوة مؤثرة في حياته ويرفضه بثبات في نهاية الأمر، فهو يمثل مجموعة من «النتائج» خلال الرواية، ويمكننا تفسيره بوصفه عبئا ضمنيا في انجذابه المبكر اللانهائي للاعتراف، وفي إفراطه في النقد الذاتي إلى حد مرضي، وفي إقصائه النهائي لذاته الجريحة وكبريائه المفرطة لصالح حب مذل مهين.
تمثل رواية «الجريمة والعقاب» دراسة للضمير وليس تبريرا له بالمعنى الدقيق ، واستمرت تلك الدراسة في كتابات دوستويفسكي الأخرى، وخاصة في روايته التي تؤكد نفس النقطة «الإخوة كارامازوف» (1881). ويمكن القول إن الرواية بأكملها يمكن تفسيرها باعتبارها دراسة «لمبادئ» الضمير، وهي تبدأ بتعريف «الضمير الكارامازوفي» التقليدي بوصفه اختزالا لإدراك أخلاقي سطحي وغير مكتمل، ثم تطرح تساؤلات بلا إجابة شافية عن كيف وأين يمكننا أن نجد رؤية أكثر استدامة للضمير. وانطلاقا من افتراضات الدين المؤسسي، يقدم رئيس الكنيسة رؤية تقليدية لكنها إنسانية يحمي الضمير بموجبها المجتمع، ويمتلك القدرة على التغيير الفردي بمقتضى «قانون المسيح فحسب الذي يتجلى في اعتراف المرء بضميره». وهذا النوع من الضمير تديره الكنيسة، وهو يتيح الفرصة للإصلاح الداخلي الذي يمتلك القدرة على «تخفيف» الشعور بالذنب. لكن هذا التداول للمسئولية بين الكنيسة المؤسسية والفرد الذي ينتقد ذاته ليس صارما بالقدر الكافي من وجهة نظر رئيس محكمة التفتيش المدافع عن مؤسسة تعلم احتياجات الأفراد أفضل مما يعلمونها هم أنفسهم. وتوحي وجهة نظر شيخ الكنيسة له بالتحرر الذاتي، وهي في مرونتها «الغامضة غير العادية وغير المحدودة» لا تقدم أساسا مستقرا لتهدئة ضمير لا يقنع ولا يشبع بطبيعته، ويقدم رئيس محكمة التفتيش ضميرا محدودا واضحا في مطالبه تدعمه السلطة الكنسية في كل المواضع.
ومن جانبه فإن إيفان العاقل (لكن المهزوز) يتحالف مع الشيطان أكثر مما يتحالف مع رئيس محكمة التفتيش، وتعد حوارات إيفان مع الشيطان بالطبع معبرة عن الشكوك والاحتمالات التي تنشأ داخل عقله. وفيما يتعلق بالضمير، يمكن فهم هذا البديل الشيطاني باللغة الفرويدية على أنه يقدم أكثر البدائل إغراء وإرباكا، متذرعا بصيغة النفي التي يصوغ بها هذه البدائل؛ أي إن إيفان يسمح لنفسه بأن يقول ما يفكر فيه أو يخشاه بالفعل مدعيا أنه يمثل إغواء شيطانيا. وفيما يتعلق بالضمير، يستأنف الشيطان العمل من حيث توقف راسكولنيكوف مقتنعا بأن مهمة الإنسان المتميز تتمثل في تحرير نفسه من قيود الضمير. ويصيح إيفان في أليوشا قائلا:
لقد سخر مني! وذلك ببراعة، ببراعة شديدة قائلا: «الضمير! ما الضمير؟ إنني أختلقه بنفسي، فلم أعاني إذن؟ بحكم العادة، بحكم العادة الإنسانية البشرية على مدار سبعة آلاف عام. دعنا إذن نتخلص من العادة، وسوف نصبح آلهة!» لقد قال ذلك، لقد قال ذلك!
لكن إيفان، على غرار راسكولنيكوف، يغوي نفسه ويعذبها بأفكار لا يستطيع في نهاية الأمر تحملها، وفي أكثر أفكاره جرأة فهو يدعي للقاتل الحقيقي سميردياكوف أنه لولا الله «لكان كل شيء ... مباحا، مهما جرى في العالم، ومن الآن فصاعدا يجب ألا يصبح هناك أي شيء ممنوع». وهو لا يستطيع أن يحتمل مواصلة التظاهر بالشجاعة، فهو على الرغم من كل شيء على شفا اعتراف مدفوع بالذنب مخادع لذاته جزئيا باشتراكه في قتل والده، وتمتدحه الشخصيات الأخرى لما يطلق عليه أليوشا «ضميره العميق»، وسوف تعلن كاتيا في المحكمة أنه ضحية «ضمير عميق، عميق بشدة» يعذب نفسه، وتحييه في النهاية وهو يرقد مصابا بالحمى الدماغية بوصفه «بطلا للشرف والضمير». لكن تلك المحاولات لامتداحه بوصفه نموذجا مجسدا للضمير تسعى إلى فرض وجهة نظر تقليدية متخلفة على موقف لم يعد يدعمها. وفور أن وضحت فكرة الضمير بوصفه اختراعا أو نظرية وعبئا غير ضروري مفروضا ذاتيا، حتى وإن كان ذلك عن طريق متحدث رسمي سيئ السمعة كالشيطان ذاته، أو حتى بوصفه خيارا سيئا في أفكار إيفان المحمومة، فسوف تظل مصدر إزعاج إضافي لمفهوم يلاقي الكثير من التحديات بالفعل.
عند اكتشاف ترجمة فرنسية لرواية «رسائل من أعماق الأرض» عام 1887، كتب نيتشه إلى صديقه أوفربيك قائلا إن «غريزة القرابة (أم ماذا أطلق عليها؟) قد أعلنت عن نفسها بوضوح في الحال». ويعتبر القول الذي وجهه إيفان إلى سميردياكوف «كل شيء مباح» أحد التعبيرات النموذجية لنيتشه، وتشير حقيقة أن نيتشه قد كرر تلك الكلمات (حتى وإن كان ذلك مصادفة، أو خاصة إن كان ذلك مصادفة) في كتابه «أصل الأخلاق وفصلها» إلى الخلفية المشتركة التي يحملها هذان المفكران. وقد احتفى نيتشه بتأملات رجل الأعماق المروعة، وشاركه وجهة نظره القائلة إن أقسى ألم داخلي مبرح موجه للذات كما هو مجسد في المبدأ الرئيس في كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» القائل إن «أنت وحدك الملام على شئونك الخاصة». ويعتمد على هذا المبدأ اتجاه الاستياء كما يفهمه نيتشه، وهو انحراف عن الاتهام الموجه من الظروف الخارجية المتمردة نحو اتهام للذات لا مبرر له لكنه ملح. ويمثل أبطال دوستويفسكي - الذين يتهمون ذواتهم ويعاقبونها - أفضل كوكبة يمكن تخيلها من الأبطال على طراز نيتشه الذين يتهمون ذواتهم أيضا.
نامعلوم صفحہ