ثمة مكسب وخسارة هنا، حيث تتمثل الخسارة في أن فصل الضمير عن الوحي الإلهي وتحويله إلى ضمير متحيز يعتمد على الظروف ويخضع لاختبار العقل يجعل لوك ينتقص من سلطته المؤكدة، أما المكسب فيتمثل في ترسيخ الضمير بوصفه نظاما محدودا لكنه مؤثر لصنع المعاني في النطاق الأوسع من الشئون الإنسانية. إنه ضمير واضح لا مركزي؛ ضمير مجرد من غلافه من العصمة الزائفة من الخطأ، لكنه أيضا ضمير مستعد للدخول في منافسة قوية في حلبة السلوك الدنيوي.
تبع لوك في بعض الجوانب أنتوني أشلي كوبر، الإيرل الثالث لشافتسبيري، الذي كان يؤمن بأن الناس يملكون «حاسة أخلاقية» فطرية، حتى وهو يرى أن تلك الحاسة قابلة للحكم عليها وتصحيحها عن طريق العقل. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «خصائص البشر والأشياء والآراء والعصور» (1711-1714)، وضح مفهوم «العاطفة الطبيعية» الذي يدعمه الاستبطان الذاتي بوصفه أساسيا للسلوك البشري. ويلقي شافتسبيري مسئولية ذلك الاستبطان على عاتق الضمير، وهو ملكة تحدد السلوك الذي يستحق العقاب، ويجب تمييزها عن حساب المرء البسيط لمصالحه الشخصية. والضمير بهذا التعريف شيء مشترك بين الجميع؛ فحتى مرتكبو الشر في رأيه يدركون أنهم يستحقون الشر في مقابل ذلك. وهو يعلق بموضوعية إلى حد ما قائلا إن الضمير قد يفهم على نحو أخلاقي أو ديني، لكنه يجد أن الضمير الديني يعتمد على الضمير الأخلاقي أو الفطري، وهكذا فهما لازمان له كي يعمل. ولأننا لدينا ما يجعلنا نخشى العقاب الإلهي عندما نعلم بالفعل أننا قد ارتكبنا فعلا يستحق اللوم، فإن تقديرنا لأفعالنا له الأولوية على أية مخاوف قد نشعر بها حول الغضب الإلهي، أي إن تحديد السلوك الذي يستحق اللوم أمر شخصي خاص بنا يرتكز على معايير التقييم الفطري. ويصور الإله مشاهدا لعملية التقييم الذاتي التي نقوم بها؛ أو «كيانا مفترضا» يستحق التوقير بالفطرة، لكنه ليس طرفا فاعلا ذا شأن في العملية نفسها:
ومع ذلك، فإن [للضمير] قوته التي يستمدها من الانحراف الأخلاقي للأفعال وبشاعتها مع الاحترام الكامل للحضرة الإلهية والتوقير الفطري المستحق لهذا الكيان المفترض. ففي مثل هذا الخيار يجب أن يكون للخزي الناتج عن الشر أو الرذيلة قوته المستقلة عن الخوف الزائد من مثل هذا الكيان وتوزيعه للثواب والعقاب في المستقبل.
وعلى الرغم من أن شافتسبيري يتحدث بقدر كبير من الاحترام الظاهر عن هذا الكيان، فإنه أيضا يبذل جهدا كبيرا كي يبعده عن أي دور مهم، فهو يرى أننا نتخذ قرارنا النهائي بشأن أفعالنا «باستقلالية» عن قدرات الله المسيطرة الخاصة بالثواب أو العقاب. وفي حقيقة الأمر فإن الدين قد يكون له تأثير مشوه في نظام شافتسبيري، مثلما يحدث عندما نرتكب فعلا يستحق العقاب نتيجة «لأية أوامر مزعومة من السلطات العليا». وبالإضافة إلى ذلك، فهو يؤكد أن تلك السلطات غير ضرورية سواء للحث على أداء فعل ما أو تقييمه، بل إنه يقول أيضا: «إذا ما استبعدنا كل الأفكار والشكوك في أي سلطات عليا للأبد»، فإن المذنبين سيظلون يعاقبون من وجهة نظرهم، حتى ولو كان ذلك بالمعنى الثانوي أو غير المباشر المتمثل في تعريض مصلحتهم أو سعادتهم للخطر. وعلى الرغم من أن ضمير شافتسبيري يصنف مع مفردات التوحيد المخففة إلى حد ما، فإنه ضمير دنيوي وعلماني تماما - يقيم من خلال التفاعل الاجتماعي ويعتمد على مفهوم الخزي الشخصي.
وقد كان لشافتسبيري بدوره تأثير كبير على جوزيف بتلر؛ وهو رجل دين تناول المسائل المتعلقة بالضمير في مؤلفه «خمس عشرة موعظة ألقيت في كنيسة رولز» (عام 1726). وعلى الرغم من أن سمعته قد تراجعت، إلا أنه قد يعتبر أكثر الخطباء شعبية في موضوع الضمير في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وبالطبع أثرت آراؤه في الآراء السائدة عن الضمير والتي استمرت في القرن التاسع عشر وما زالت موجودة حتى اليوم. وهو يعترف بخشوع أن الضمير هبة من الله أو ملكة «غرسها بداخلنا حاكمنا الفعلي» و«خصصها لنا خالق طبيعتنا»، لكن يبدو أن تلك الهبة ما إن تمنح حتى تتوقف عن الاعتماد على الله في استمرار أدائها لعملها. والضمير لدى بتلر هو صورة من «التفكير ... واستحسان بعض المبادئ أو الأفعال واستنكار البعض الآخر». ويكمن هذا الضمير في طبيعتنا، ويجب أن يتيح عمله الصحيح غير المشوه لأي شخص تفضيل «الإنسانية على القسوة» باعتبار ذلك أمرا طبيعيا.
وفي تحول ذي مغزى عن النظريات اللاهوتية الإنجيلية السابقة التي كانت تعتبر الضمير هو ناموس الله المكتوب في قلب الإنسان، يرى بتلر أن هناك العديد من النزعات مكتوبة في قلوبنا - بعضها إلى الخير والبعض الآخر إلى الشر - ويضع الضمير في موضع الملكة التي تقوم بوظيفة «الشاهد» على نزعاتنا وتتيح لنا التمييز بينها. وفي رأيه أن الأحكام التي تصدرها ضمائرنا جديرة بأن «تدعم وتؤيد» من الله، لكنه يعطي الله دورا تقنيا أو تمهيديا فحسب، بالإضافة إلى التأثير الإضافي الذي تثيره رغبتنا الطبيعية في استحقاق رأي الله الإيجابي فينا (مثلما يرى شافتسبيري). وفي مزيد من التقييد للسبل التي يؤثر بها الله على قراراتنا الأخلاقية، يعارض بتلر أي «استبداد» للمؤسسات الدينية على الضمير. وعلى الرغم من أنه يؤمن بأن المؤسسة الدينية ضرورية لإنشاء الحكومة المدنية، فإنه يحاكي لوك في التماس التسامح الديني وعدم التدخل في شئون الضمير:
أي مؤسسة دينية بلا تسامح ديني تعتقد أنها لا يمكنها في قرارة نفسها الالتزام به هي في حد ذاتها دكتاتورية عامة؛ لأنها تزعم امتلاك سلطة مطلقة على الضمير، وسرعان ما تتسبب في أصناف أخرى من الاستبداد من نوع أسوأ.
قد يبدو أن بتلر يكرر قول كالفن فيما يتعلق بسوء الظن في سيطرة المؤسسات الدينية على الخيار الفردي، لكن بنغمة من الواضح أنها مختلفة. إلا أنه لا ينتقد القوة الجبرية للكنيسة فحسب، بل إنه أيضا يتقدم إلى موقع كان ليفزع البروتستانتيين الإنجيليين السابقين عن طريق تقييد الاتصال بين الله وقلب الفرد المسيحي؛ ومن ثم تأسيس الاختيار على العقل وليس الوحي. ويعتقد بتلر أننا نعبر عن توقيرنا لله من خلال ممارسة سلطاتنا في الاختيار العقلاني، وهو موقف يدل على الإيمان بالله بالفعل ما كان أي من الإنجيليين ليعتبره دينيا على الإطلاق.
الضمير والإجماع الاجتماعي
أكد أهم فلاسفة القرن الثامن عشر تأكيدا متزايدا على مفاهيم العقل والعاطفة، وأخيرا الإحساس، في الأمور المتعلقة بالاختيار الأخلاقي. إلا أن أي اختيار أخلاقي يتم بالكامل داخل عقل صاحبه يظل عرضة للدوران في حلقة مفرغة وعرضة للسفسطة. والعقل وحده - أو حتى بعد تطبيقه على الدليل التجريبي - غير كاف لمراقبة عمل الضمير، وخاصة عند تطبيقه بواسطة الفرد المستقل، فهو يظل عرضة للخطأ أو للتأثر بالمصلحة الشخصية عندما يستخدم في غياب سلطة خارجية أو قيد. وإذا كان ذلك القيد لن يوفره إله متدخل بقوة، أو توفره أوامر الدين - ويعتقد كل من لوك وشافتسبيري أنه يجب ألا يحدث ذلك - فإن الميل نحو القواعد الاجتماعية والإجماع يوفر أساسا بديلا لنظرية السلوك الأخلاقي.
نامعلوم صفحہ