لا شك أن فظائع الهولوكوست والمصائب الأخلاقية الأخرى التي حدثت منذ أن كتب نيبور هذا الكلام في عام 1941 قد أضعفت من الرضى الذي يتحدث عنه، لكن اللاهوت البروتستانتي الليبرالي يقع عرضة للاتهامات بالإذعان المبالغ فيه والتكيف الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن المادة التي تتكون منها معظم المواعظ في الكنائس البروتستانتية التقليدية اليوم تتعلق بالتوافق الاجتماعي ومساعدة الذات وليس بالموضوعات الروحية المتعلقة بارتكاب الخطايا والخلاص، ومن وجهة نظر الأب بتلر في القرن الثامن عشر وصولا إلى الطوائف المعترف بها اليوم قد يتهم الضمير ببعض «التخفيف»، وذلك بشأن مسئوليته عن قيادة المذنب الخاطئ نحو التوبة والخلاص.
ما زالت فكرة الضمير الشخصي العنيد مهيمنة على المناطق الإنجيلية المعاصرة، دون أن تخضع لمراقبة السلطة أو التعاليم. وفي أواخر القرن السابع عشر عندما استنكر جون لوك الحماس غير المنظم، كان المؤمن الإنجيلي الحقيقي يستجيب لضوء في عقله الخاص ظنا منه بأنه من عند الله حتى وإن كان «مجرد قوة اقتناعه الخاص». وتحتفظ الضمائر حامية الوطيس والأقل سلطة بقدرتها على إثارة الأفعال غير المتوقعة في العالم، ويعظم الاقتناع الشخصي المستمر بالتفويض الإلهي من تأثيرها مهما كانت الظروف.
قد يعتبر الضمير المسيحي منذ نشأته - وبالطبع الآن - ظاهرة تعددية إلى حد كبير وليس ظاهرة فردية، لكن إنجازاته الكاثوليكية والبروتستانتية المتنوعة ما زالت تحتفظ بقوة كبيرة في العالم اليوم، وإن لم تعد مقتصرة عليهما.
هوامش
الفصل الثاني
علمانية الضمير
عادة ما ينظر إلى تحرر الضمير من قيود الدين المؤسسي كنتيجة للعلمانية التي سادت في عصر التنوير، لكنه قد يعتبر أيضا - على نحو أكثر تناقضا - نتيجة غير مقصودة للحماس الإنجيلي الشديد في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكانت هجمات كالفن على الضمير شديدة القسوة؛ حيث صوره من ناحية ناقدا قاسيا على يقين من أن الجنس البشري لا يستحق الخلاص، ومن ناحية أخرى ملكة تعاني من العقاب والخوف وتعجز عن أداء المهام الموكلة إليها وترتجف هلعا أمام الله. ولم يقتصر تأثير نظرية كالفن اللاهوتية على تجنب نظم الاعتراف والتوبة الخاصة بالكنيسة المؤسسية، بل أيضا على تجنب الضمير بوصفه أداة فعالة للخلاص، مفضلا أن يوكل تحديد أمر الخلاص إلى مدى إيمان الفرد بالمسيح. وهكذا فقد نزعت صفة المؤسسية تماما عن الضمير في البروتستانتية الإنجيلية، ولم يعد حافزا مؤيدا من الكنيسة لإصلاح الذات وأعمال الخير. لقد ترك الضمير وحيدا كأنه شخص يائس يعمل مستقلا، أو ممثل ارتجالي يتناوب استعطاف الله والشعور بخشيته، فأحيانا ما يشن هجوما على صاحبه وأحيانا أخرى يعترف صاغرا بعجزه.
لكن العلاقة الخاصة بين الضمير والمعتقد الديني المؤسسي لم تنته تماما بالطبع، فالضمير لا يحظى بدعم كبير في الطوائف المسيحية المنظمة حتى الآن فحسب، بل إن الله يظل كيانا ضمنيا غامضا بوصفه راعيا أو كفيلا في العديد من نظم الإيمان المعاصر التي تبدو علمانية. وحتى في وقتنا الحالي ما زالت العديد من المواقف المتعلقة بالضمير التي لا يناشد فيها الله مباشرة تعتمد على التفويض الإلهي بوصفه قضية غائبة أو عقوبة نهائية. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن الإله قد يوجد في مكان ما في جنبات المسرح المعاصر للضمير، فإن المشاركة الإلهية تتزايد النظرة إليها بوصفها «مرحلة أخيرة» أو إقرارا رسميا لا نصل إليه أبدا، مثله في ذلك مثل الأنواع الأخرى من المراحل المنطقية الأخيرة.
وقد أدى تفكك الروابط بين الشعائر الدينية والضمير الفردي إلى إيجاد وضع ملائم لظهور ضمير أكثر «دنيوية»، أو لعلنا نستطيع أن نقول «إعادة ظهوره»، فرغم كل شيء كان الضمير لدى الرومان اجتماعيا أكثر منه دينيا في بدايته، وهكذا فإن رؤية الضمير على أنه كيان مستقل جزئيا أو حتى كليا عن الوازع الديني كانت دائما مطروحة وموجودة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر، بدأ الضمير العلماني في التنافس بشكل عملي مع الضمير المسيحي على التأثير على تنظيم شئون البشر.
لكن إذا كان الضمير سيعمل دون مساعدة الكنيسة المؤسسية وتحكيمها، ودون أن يحظى بمركز مضمون كمبعوث من الله، فإنه سيتعرض لخطورة التقليل من شأنه واعتباره شخصا فضوليا متطفلا أو واشيا أو متعسفا سليط اللسان. ويلزم للحفاظ على الضمير العلماني للأبد إعادة تأسيس المفاهيم وإعادة منحه سلطات واسعة كي يتمكن من التأثير في العالم. وقد تطورت مهمة إعادة منح السلطات على مستويات ثقافية متعددة وبدرجات مختلفة من الشدة، لكن قدرا كبيرا من العمل الشاق التوضيحي ألقي على عاتق مجموعة متعاقبة من فلاسفة التنوير وكتاب المقالات ورجال الدين البارزين.
نامعلوم صفحہ