1 - عرس سانت ليك
2 - كيف أن الذي يفتح الباب أحيانا لا يدخل البيت
3 - كيف يصعب أحيانا التمييز بين الحلم واليقظة
4 - كيف قضت امرأة سانت ليك الليلة الأولى من زفافها
5 - كيف اجتمعت امرأة سانت ليك بزوجها
6 - توبة هنري الثالث وجهل السبب
7 - خوف الملك لأنه قد خاف، وخوف شيكو من أن يخاف
8 - كيف أن صوت الرب قد كلم شيكو بدلا من أن يكلم الملك
9 - عودة دي باسي إلى حلمه، وهو يزيد اقتناعا أنه حقيقة
10 - المسيو دي مونسورو
11 - كيف أن باسي قد وجد الرسم وصاحب الرسم
12 - ديانا دي ميريدور
13 - شيكو - الدير - المؤامرة - تتويج الدوق دانجو
14 - كيف أن سانت ليك وامرأته قد لقيا في طريقهما رفيقا للسفر
15 - الأب والابنة
16 - كيف علم الدوق دانجو أن ديانا دي ماريدور في قيد الحياة
17 - ما حدث بين الدوق دانجو والمسيو دي مونسورو
18 - الدوق دي كيز في اللوفر
19 - الملك والدوق دانجو
20 - الدوق دي كيز والدوق دانجو
21 - شيكو ينصح باسي بالهروب من باريس
22 - هروب الدوق، ومحاولة مصالحته مع الملك
23 - مبارزة مونسورو وسانت ليك، ورامي ينقذ مونسورو
24 - عودة الدوق دانجو إلى باريس وحيلة مونسورو
25 - المكيدة
26 - الانتقام
الخاتمة
1 - عرس سانت ليك
2 - كيف أن الذي يفتح الباب أحيانا لا يدخل البيت
3 - كيف يصعب أحيانا التمييز بين الحلم واليقظة
4 - كيف قضت امرأة سانت ليك الليلة الأولى من زفافها
5 - كيف اجتمعت امرأة سانت ليك بزوجها
6 - توبة هنري الثالث وجهل السبب
7 - خوف الملك لأنه قد خاف، وخوف شيكو من أن يخاف
8 - كيف أن صوت الرب قد كلم شيكو بدلا من أن يكلم الملك
9 - عودة دي باسي إلى حلمه، وهو يزيد اقتناعا أنه حقيقة
10 - المسيو دي مونسورو
11 - كيف أن باسي قد وجد الرسم وصاحب الرسم
12 - ديانا دي ميريدور
13 - شيكو - الدير - المؤامرة - تتويج الدوق دانجو
14 - كيف أن سانت ليك وامرأته قد لقيا في طريقهما رفيقا للسفر
15 - الأب والابنة
16 - كيف علم الدوق دانجو أن ديانا دي ماريدور في قيد الحياة
17 - ما حدث بين الدوق دانجو والمسيو دي مونسورو
18 - الدوق دي كيز في اللوفر
19 - الملك والدوق دانجو
20 - الدوق دي كيز والدوق دانجو
21 - شيكو ينصح باسي بالهروب من باريس
22 - هروب الدوق، ومحاولة مصالحته مع الملك
23 - مبارزة مونسورو وسانت ليك، ورامي ينقذ مونسورو
24 - عودة الدوق دانجو إلى باريس وحيلة مونسورو
25 - المكيدة
26 - الانتقام
الخاتمة
لا دام دي مونسورو
لا دام دي مونسورو
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
طانيوس عبده
الفصل الأول
عرس سانت ليك
كان يوم الأحد من عام 1578م موافقا لعيد وطني يعيد فيه الشعب الباريسي ويبتهج بهجة عامة، فتناول جميع سكان تلك العاصمة على اختلاف درجاتهم وتباين مقاماتهم، فيشترك الجميع فيه على السواء بإعداد الحفلات والولائم متسابقين إلى الافتخار بصدق وطنيتهم، وعلائم البشر والسرور لائحة بين المباسم وفي ثنايا الوجوه.
فلم تكد تنتهي حفلات ذلك اليوم، وتغرب شمسه عن سماء باريس، حتى بزغت شموس من الأنوار في قصر مشيد الأركان واقع على إحدى ضفتي نهر السين تجاه قصر اللوفر.
ذلك أن الملك قد صادق على زفاف حنة دي بريزاك، ابنة أحد مارشالية فرنسا، إلى نديمه وأخص المقربين إليه في ذلك العهد، وهو فرانسوا دي سانت ليك.
وقد تناول العروسان الطعام مع جميع المدعوين في قصر اللوفر، حيث جرت حفلة الزفاف.
وكان الجميع بمظاهر الابتهاج والسرور ما عدا الملك الذي لم يصادق على هذا الزواج إلا بعد العناء الشديد، فإنه كان عابس الوجه، مقطم الجبين، ولوائح الغضب والقسوة ماثلة بين عينيه.
فلما فرغت حفلة الإكليل، دنت امرأة سانت ليك منه وشكرته، فأعرض عنها ولم يجبها بحرف مما دل جميع الحضور أن الملك غير راض عن هذا الزواج، وأنه لم يصادق عليه غير مكره.
ومع ذلك فلم يستغرب أحد منهم هذا لعلمهم بأن السبب فيه سر من أسرار البلاط، وأن هذا الغضب سحابة صيف ستنقشع عن قريب.
أما سانت ليك فإنه نظر إلى امرأته نظرة خفية يحثها بها على السكينة والصبر، ثم دنا من الملك وقد رآه يتأهب للرحيل، فوقف أمامه وقفة المهابة وقال له بلهجة الخشوع والاحترام: ألا يشرفني مولاي بحضور الحفلة التي أعدها لجلالته هذه الليلة في قصر مونمورانسي؟
فأجابه الملك بمنتهى العظمة : نعم سنحضرها، وإن كنت لا تستحق مثل هذه المودة منا.
ثم ارفضت الحفلة، وانصرف الملك بخاصته.
ومضى العروسان وبعض المدعوين إلى قصر مونمورانسي، فلم يكن يشغل القوم غير حديث العروسين، وما لقوه من نفرة الملك منهما، وغضبه عليهما.
فكانوا يتسابقون إلى سؤال سانت ليك عن السبب في غضب الملك على ما هو مشهور فيه من صداقته والميل إليه.
فكان يجيبهم بالكلام المبهم ويطمئن امرأته وحميه بقدر ما يسمح له المقام.
وأقام المدعوون ينتظرون قدوم الملك وسواه من كبار المدعوين، كملك النافار وامرأته، والدوق دانجو شقيق الملك، وكاترين والدته، وغيرهم من رؤساء فرنسا.
أما ملك النافار، فقد كان ذهب إلى بيران مع امرأته للنظر في شأن حزب الهوكينوت الذي كان يرأسه، فلم يعد مطمع في حضوره، وأما الدوق دانجو فإنه كان من طباعه أن يتأخر عن الجميع في مثل هذه الحفلات، ولكنه يرسل رجالا أشداء كان بينهم وبين رجال الملك إحن وعدوان، فلا يمر يوم حتى يكون بين الفريقين معركة يلتحم فيها القتال فتسفر عن جريح، أو يستباح فيها قتيل.
وأما كاترين فإنها كانت قد بلغت ما تشتهيه من بلوغ ولدها إلى العرش، فكانت تحقق باسمه أمانيها، وتتلاعب في الشئون السياسية فتقضي منها أوطارها على ما تشاء، وهي تتظاهر بانقطاعها عن العالم والانصراف إلى العبادة والتزهد.
لذلك لم يكن سانت ليك يطمع في حضورها، فلم يبق بين أولئك العظام غير الملك، الذي لم يكن يشغله شاغل عن مثل هذه الولائم والحفلات لفرط شغفه بالرقص، فكان صاحب الحفلة واثقا من حضوره، لا سيما وقد سبق إليه وعده بذلك على ما تقدم.
وفيما هو جازع، وقد أخذ الجميع يقنطون من حضوره، إذ علا الصياح في جوانب القصر، وارتفعت أصوات الضحك من جميع الحضور، فتسارعوا إلى معرفة السبب في هذا الضحك، فرأوا شيكو نديم الملك لابسا لباس الملك وتاجه، وهو يتهادى في مشيته مقلدا الملك في جميع حركاته، ويمد يده إلى السيدات كي يقبلنها.
وكان شيكو هذا من أشراف فرنسا، وهو وافر الذكاء، كثير الدهاء ، شديد الإخلاص لمولاه، وقد دخل إلى البلاط بصفة مضحك الملك، وهي عادة جرى عليها ملوك فرنسا في ذلك العهد، وكان يتجاوز الحد أحيانا في الهزل، غير أن الملك كان راضيا عنه لشدة ثقته به وحاجته إلى آرائه.
ثم دخل الملك في إثره يحيط به رجاله أعداء رجال أخيه الدوق دانجو، وهم موجيرون وكاليس وشومبرج والبارون أو وأبرنون، فانتظمت الحفلة وهدأ روع امرأة سانت ليك، فدنت من زوجها وقالت: لم أعد أخشى أمرا بعد أن قدم الملك، ولا يسوءني غير تأخر أخيه الدوق.
فتنهد زوجها وقال: إني على عكس ما ترتئينه، فإني أخاف الملك حاضرا أكثر مما أخافه غائبا؛ لأنه لم يحضر إلا لإساءتي، وسترين أن أخاه لم يمتنع عن الحضور إلا ليكيد لي.
ولم يمض على هذا برهة وجيزة، حتى أعلن الحاجب عن قدوم الكونت دي باسي، فاتجهت كل العيون إلى هذا الكونت، وأحدق به الحضور من كل جانب، ولا سيما رجال الملك الذين كانوا ينظرون إليه شزرا؛ لأنه كان صفي الدوق دانجو، وقد اشتهر بالبسالة والإقدام وكره رجال الملك والازدراء بكل عظيم.
وكان فوق ما هو عليه من الشجاعة شريف النسب كبير النفس، وقد سأله الملك مرة أن يكون من أتباعه، فأبى عليه بعظمة جعلت الملك يحنق عليه ويريد له الأذى.
وقد حاول مرارا أن ينكل به بالسياسة والقوة، فكان الدوق دانجو يحميه من كيد السياسة، وهو يدفع عن نفسه بنفسه حملات رجال الملك ويسيء إليهم في كل حين حتى سئم الملك منه، وأخذ يترقب الفرص للتنكيل به بواسطة رجاله.
فلما دخل هذا الكونت إلى قاعة الاجتماع، أخذ يحيل نظره بين الحضور فيرمق أعداءه، ولا سيما رجال الملك بالنظر الشزر، ويبش إلى أصحابه وأصفيائه، ولم يكد يسير بضع خطوات في القاعة حتى دخل في إثره ستة رجال من بطانته، بل من حاشية الدوق، وهم مرتدون بأحسن الملابس.
فجعلوا ينهجون نهج رئيسهم من احتقار رجال الملك الذين كادوا أن يتميزوا من الغيظ، وحاولوا أن ينقضوا على الكونت فيقطعوه بشفار سيوفهم ، لو لم تسبق إليهم إشارة خفية من الملك نفسه الذي ناله ما نالهم من قحة الكونت، فصبروا عليه ورموه بنظرات ملؤها الإنذار والوعيد، نفذت إلى قلب الكونت كالسهام.
وكان شيكو ينظر إلى الفريقين وهو يخشى عاقبة تلك النظرات، فجعل يؤنب الكونت دي باسي لقدومه بمثل هذه الحاشية التي لا يقدم بها الملوك، ويكلمه بلسان الملك وهو يمزج الهزل بالجد، ويجمع بين القسوة واللين.
ثم أشار بطرف خفي إلى سانت ليك، فذهب إلى الكونت يحتفل به ويشكره لقدومه، ويبعده عن رجال الملك حذرا من وقوع مكروه، لما كان يعلمه من جرأة الكونت الذي لا يحترم سلطة، ولا يهاب مقام الملوك.
ورأى الملك أن سانت ليك قد زاد في مؤانسة الكونت، فحنق عليه ودعا به، فلما مثل بين يديه وبخه على ما أظهره من إكرام هذا الرجل، لا سيما وهو يعلم أنه عدوه الألد.
فاعتذر سانت ليك بأنه ضيفه، وأنه لا يسعه إلا إكرام ذلك الضيف في منزله ...
ورأى سانت ليك أن عيني الملك قد اتقدتا لهذا الكلام بشرر الغيظ، فعقب على كلامه فقال: ولكنه سيخرج من منزلي وسيكون له شأن.
فهدأ روع الملك، وسكن ثائر غضبه، ونظر إلى الكونت نظرة ملؤها الكره والاحتقار، وقال لسانت ليك على مسمع من رجاله: نعم، أحب أن أفرغ من شأن هذا الرجل، فأنا أحل لكم دمه، ولكن احذروا منه لأن بأسه شديد.
وكان لهذا الكلام تأثير عظيم على رجال الملك، الذين تقدم لنا ذكر أسمائهم.
فاجتمعوا حلقة في القاعة، وبينهم سانت ليك، ليتآمروا على قتل هذا البطل العظيم اغتيالا، إذ لم يكن بينهم من يجسر على أن يلقاه فردا، ولما انتظم عقدهم قال أبرنون: إنني سأذهب بعد حفلة الزفاف إلى الصيد.
قال دي أو: لصيد ماذا؟ - لصيد الدب، فإن الملك أمرنا بذاك.
قال موجيرون: لقد فهمت وسنذهب جميعا، ولكن أتظن أن الملك يرضى بذاك؟ - هو الذي أمر.
وطال اجتماعهم حتى تيقظ له الكونت دي باسي، فدنا منهم مع بعض رفاقه وقال لهم تحت طي الهزل : إن من يراكم على هذه الحالة لا يشك أنكم تتآمرون.
فقال كاليس: كلا، ولكننا عزمنا على الصيد في هذه الليلة بعد خروجنا من حفلة الزفاف، ونحن نتشاور في أمر هذا الصيد. - ولكني لا أشير عليكم بذاك؛ لأن البرد قارص، وسينالكم منه أذى شديد؛ ولذا فلا أظن أن جلالته يسمح لرجاله الأصفياء أن يركبوا متن هذا الخطر. - إنما نحن نصدع بأمره، فهو الذي أمرنا أن نصطاد، فهل تود أن تكون معنا؟ - كلا، لأني مرتبط غدا مع الدوق. - إننا سنصيد هذه الليلة بعد انقضاء الحفلة. - ويسوءني أنني مقيد في هذه الليلة أيضا، فقد ضربت موعدا في فندق التورنيل، ولا بد لي من الذهاب إليه. - ومن أي جهة تسير إليه، فإن السبل غير آمنة في هذه الأيام، وأخاف أن يحيق بك مكروه. - إني أشكر صدق ودك، وأي طريق تشير علي أن أتخذ؟ - سر بالطريق الذي يؤدي إلى الفندق من وراء اللوفر.
فعلم الكونت مراده بإشارته إلى هذا الطريق المقفر الذي أصبح في ذاك العهد ساحة يلتقي بها المتبارزون، وقال له: هو ذاك أيها الناصح الصادق، فسأذهب في هذا الطريق.
ثم نظر إلى الخمسة نظرة تهكم وازدراء أشعلت في قلوبهم نار الحقد، وانصرف عنهم فاختلط بين المدعوين.
ولما خلا المكان بالمتآمرين قال كاليس: إني أبشركم بنيل بغيتنا من هذا الرجل، فإنه ذاهب لا محالة في الطريق التي هديناه إليها.
فقال موجيرون: أنذهب بجملتنا للفتك برجل فرد؟
فأجاب كاليس: نعم، وما يؤمننا أن يصحب معه رجاله، فيعود الوبال على من يخاطر بالذهاب إلى لقائه فردا؛ ولذا فيجب أن نذهب جميعنا ما عدا سانت ليك الذي هو مضطر إلى البقاء مع امرأته، ولا سيما في أول ليلة من زفافه.
فتأوه سانت ليك وقال: ليست امرأتي التي تحول دون ذهابي معكم لقضاء هذه المهمة، بل الملك نفسه، فإنه أمرني أن أذهب معه إلى اللوفر، وربما أمرني أن أبيت فيه أيضا.
فقال كاليس: هذا برهان آخر يدل على شدة تعلق الملك بك؛ فإنه لا يطيق أن يفارقك ساعة حتى في ليلة الزفاف.
فكظم سانت ليك غيظه، ثم سمع شيكو يناديه، فغادر رفاقه يتباحثون في المكيدة التي نصبوها للكونت دي باسي، وانطلق إلى امرأته فقال لها كي تخبر شيكو بأنه قادم إليه.
وذهب للبحث عن الكونت حتى لقيه، فخلا به في إحدى الغرف وقال له: إني لم أبحث عنك يا سيدي إلا لأقول لك إنه إذا كان لك موعد في فندق التورنيل، فإني أنصح لك أن تؤجله إلى الغد؛ لأن الطريق مخطرة، وفيها مكامن يقدر أن يختبئ بها كثير من الرجال، أقول هذا وأنا أجلك عن المهابة، وأعيذ نفسي من أن أتهمك بالخوف، ولكني قلت ما قلته من قبيل النصح والخوف عليك، فتأمل وافعل ما تريد.
وعندها سمع شيكو يناديه باسم الملك، فيقول: أين أنت مختبئ، وأنت تعلم أني في انتظارك للذهاب إلى اللوفر؟
فعلم سانت ليك أن الملك مصر على عزمه، وأن ليس من الحكمة مخالفته، فقال في نفسه: لقد مهدت أسباب السلام بيني وبين الدوق دانجو، بما أطلعت عليه صفيه الكونت دي باسي من مؤامرة أعدائه عليه، وعزمهم على الفتك به، فلأجتهد الآن بتمهيد تلك الأسباب بيني وبين الملك؛ لأن حنقه علي شديد.
ثم ودع الكونت وانطلق إلى الملك الذي كان ينتظره.
فأمر جلالته بالرحيل، وأن يعد مكان لسانت ليك في مركبته الخاصة، فامتثل القوم وارفض الجمهور.
وذهب الملك، يصحبه شيكو وسانت ليك.
أما امرأته فإنها ولجت إلى غرفتها مع نسائها، فجعلت تبكي البكاء المر، وأما أبوها فإنه أرسل ستة من الفرسان إلى اللوفر، كي يحرسوا صهره عند عودته منه، فعادوا إليه بعد حين وهم يقولون: لم يعد لنا أمل بعودة سانت ليك هذه الليلة، فإن الملك قد رقد، وأقفلت أبواب القصر.
فأخبر ابنته بما علم، فباتت ليلتها على أحر من الجمر.
الفصل الثاني
كيف أن الذي يفتح الباب أحيانا لا يدخل البيت
يوجد بالقرب من باب سانت أنطوان قبة عظيمة، كثيرا ما ينتابها اللصوص فيكمنون بها لأبناء السبيل.
وكانت هذه القبة واقعة في الطريق المؤدية إلى فندق التورنيل، وهي طريق مقفرة خالية يكاد أن لا يمر بها الناس في النهار، وأما في الليل، ولا سيما في ليالي الشتاء الباردة، فلم يكن يمر بها أحد لوعورة مسالكها، وكثرة المخاوف فيها.
وقد كان الجو في هذه الليلة، التي نقص بها هذا الحديث، مقتما والأفق مربدا بالغيوم السوداء، والسماء تمطر كرات الثلوج من خلال الرعود القاصفة، فكأنها المدافع ترسل قنابلها.
ولم يكن المار بهذه الطريق يستطيع أن يرى أحدا فيها لاشتداد الظلام، على أنه لو حدق لرأى من خلال وميض البرق جماعة مختبئين في هذه القبة المتسعة، وقد كانوا يتكلمون بصوت منخفض يكاد أن يكون همسا، فقال أحدهم: لقد أصاب باسي، فإن البرد في هذه الليلة لا يحتمل، وإن جلدي يكاد أن يتمزق.
فأجابه صوت آخر: أنت يا موجيرون تشكو من البرد شكوى النساء، ولا أنكر أنه لا يوجد حر، ولكن لو تزملت بردائك ووضعت يديك في جيوبك لذهب عنك ما تشكوه من البرد.
فأجابه صوت آخر: وأنت يا شومبرج، فإنك تتكلم كما تشاء لأني أشعر بأن شفتي تدمي من البرد.
وقال آخر: إني أشعر بأن يدي قد يبستا، وأنه ليس لي يدان.
فقال كاليس: إننا إذا كنا نشكو الآن من البرد يا أبرنون، فسنشكو الحر بعد حين.
فقال أبرنون: لست أنا الذي يتحدث، فإني أخشى إذ تحدثت أن يجمد كلامي من البرد فلا يبلغ إلى مسامعكم.
وفيما هم على ذلك إذ سمعوا وقع أقدام، فذعروا والتفتوا جميعهم إلى جهة الصوت ثم قال أحدهم: ليس هو؛ لأن هذا القادم آت من جهة سانت بول، وقد قال باسي بأنه يقدم من جهة أخرى.
فقال كاليس: ربما يكون قد وقعت له ريبة بنا فغير الطريق.
فأجابه موجيرون: أنت لا تعرف دي باسي، فإنه يمر من حيث يقول، ولو أيقن بأن الشياطين كامنة له. - إذا فتهيئوا للهجوم. - مهلا، إني أراهما اثنين، وها هما قد وقفا أمام منزل.
ثم ومض البرق فأضاء لهم، ورأوا أن أحد هذين الرجلين قد وضع مفتاحا في قفل هذا المنزل وفتحه.
فقال كاليس: هيا بنا إليهما قبل أن يلجا.
وأسرعوا عدوا إلى الرجلين.
وكان بين الفريقين مسافة، فالتفت أحد الرجلين إلى رفيقه وقد سمع وقع أقدام الكامنين، فقال: ما هذا؟
فأجاب رفيقه: لا أعلم يا مولاي، وأحسب ذاك كمينا، فهل تبيحون باسمكم أو تحرصون على التخفي؟ - لا هذا ولا ذاك، فلندخل إلى هذه السيدة؛ لأني أرى لها كثيرا من العشاق.
ولم يكد يتم كلامه حتى حال الكامنون بينهما وبين الباب، وقد أقبلوا عدوا وهم يصيحون: ليمت!
فنظر إليهم أحد هذين الرجلين بعظمة، وقال مخاطبا كاليس بصوت أجش: لقد سمعتك يا كاليس تقول ليمت! فهل بلغت منك الجرأة إلى هذا الحد؟
فاختلج كاليس وقد علم أن مخاطبه الدوق دانجو، فركع وقال: عفوا مولاي.
وفعل جميع رفاقه مثل فعله، وقد ذعروا لهذا الاتفاق.
فقال الدوق: ألا تزالون تصيحون ليمت!
فقال أبرنون: عفوا يا مولاي، فإننا نمزح ولم يخطر لنا في بال أن سموكم تأتون إلى مثل هذا المكان المقفر، في مثل هذه الساعة المتأخرة. - إن هذا المزح غريب في بابه، وحيث لم أكن المقصود به فلنر مع من كنتم تمزحون؟
فقال كاليس: لقد رأينا يا مولاي أن سانت ليك قد خرج من منزله واتجه إلى هذا المكان، فتعقبناه ثم غاب عنا، ورأينا رجلا يفتح باب هذا المنزل فظننا أنه صديقنا، وأردنا أن نعلم السر الذي حمله على فراق امرأته في الليلة الأولى من زفافه، والمجيء إلى هذا الشارع المقفر، فهجمنا عليه على ما رأيت ونحن لا نريد بذلك غير المزاح. - إذا إنكم قد حسبتموني سانت ليك.
قال موجيرون: ذلك لا ريب فيه؛ لأننا لا نجسر على أن نتصدى لسموكم في سبيل ملاذه.
فانتفض الدوق وقال: إني لم أقدم إلى هذا المكان جريا وراء الملاذ، بل أنا قادم إلى المنجم مناساس، الذي يقيم في شارع التورنيل كما تعلمون، فاذهبوا الآن في شأنكم، واعلموا بأني لا أريد أن يعلم بوجهتي أحد على الإطلاق.
فانحنى الكامنون أمامه باحترام، وذهبوا إلى حيث كانوا ، فقال الدوق لرفيقه: هيا بنا لندخل الآن، فقد ذهبوا ولم يبق موجب للحذر. - إني أرى عكس ما يرتئيه مولاي؛ لأنهم لم يذهبوا كما توهم، بل إنهم رجعوا إلى مكمنهم في القبة حيث كانوا مختبئين، وعندي أنه خير لنا لو رجعنا إلى القصر فلا نبقي مجالا للظنون، وسنعود في الغد. - أنت مصيب، ولكني آسف لضياع هذه الفرصة. - نعم، غير أني أخبرت سموكم بأن هذا المنزل قد عقد إيجاره إلى عام، وقد عرفت أيضا أن السيدة تقيم في الطبقة العليا منه، وفوق ذلك فقد اتفقت مع وصيفتها، فأعطتني مفتاح باب غرفتها، ومفتاح الباب الخارجي معنا.
ولذلك، فإننا نستطيع أن نرجع متى شئنا، أما في هذه الليلة، فلا أرى من الحكمة أن ندخل إلى هذا المنزل؛ نفيا للمظان، وحذرا من الشبهات. - هل أنت واثق من أن المفتاح قد وافق القفل؟ - أتم الثقة؛ لأني جربت ثلاثة مفاتيح حتى فتح بالرابع. - وهل أقفلت الباب؟
وكانا قد بعدا عن المنزل وخشي من الرجوع إليه لما كان يراه من مراقبة الكامنين، فقال: نعم، قد أقفلته، ووضعت المفتاح بجيبي على حدة، كي لا أغلط فيه. - ولكني أحب أن أعرف غاية أولئك الكامنين. - إنهم يكمنون ولا ريب لعدو لهم، وما بقاؤنا في هذا المقام إلا إلقاء بأنفسنا إلى الهلاك، فإن لسموكم كثيرا من الأعداء. - إذا لنذهب على أن نعود. - نعم، ولكن ليس في هذه الليلة؛ لأني لا أرى غير المكامن ... ويحق لي أن أخاف عندما أكون بصحبة وريث التاج الفرنسي.
وكأن هذا الحديث قد أثر تأثيرا شديدا على الدوق، فاضطرب وقال بلسان يتلجلج: سر بنا إلى القصر، فأنت مصيب في حذرك.
وللحال عرجا في عطفة من الطريق وانطلقا.
ولم يكد الدوق ورفيقه يبتعدان ويحتجبان عن الأنظار حتى سمع وقع حوافر فرس في الطريق نفسها التي قدم منها الدوق، بالقرب من ذلك المنزل، وظهر من خلال البرق فارس عالي القامة، كان يسير بفرسه الهوينى، بالرغم من اشتداد البرد وانهمار المطر، فصاح كاليس يقول: هذا هو!
فقال موجيرون: إن هذا محال ، فإنه فرد وقد غادرناه وبصحبته فارسان. - ألا تسمع صوت سعاله الرنان؟
ولم تخطئ فراسة كاليس؛ لأن القادم كان الكونت دي باسي بعينه، وهو يسير على جواده الهوينى في هذا السبيل المخطر، لا يحفل بإنذار ولا يخشى مكيدة.
ولم يحله تحذير سانت ليك، بل أتى من الطريق نفسها التي أخبر عنها المتآمرين عند اجتماعه بهم في حفلة الزفاف، وفوق ذلك فإنه أنف من أن يصحب معه رفاقه لقلة اعتداده بأعدائه، ولفرط شجاعته التي بلغ بها حد الجنون.
وكان يقول في مجالسه: إني لست سوى شريف بسيط، ولكني أحمل بين جنبي فؤاد إمبراطور، وقد قرأت تاريخ أبطال الرومان، فلم أجد بينهم بطلا مشهورا حتى سرت على نهجه، وسبقته في جميع ما يفتخر به من الإقدام.
وكان هذا الكونت قد فكر بحديث سانت ليك، وأعاره حقه من الانتباه، غير أنه لم يكن يثق به لعلمه أنه من حزب الملك وخاصته وأشد المقربين إليه؛ ولذلك فإنه خشي أن يكون تحذيره إياه حيلة يريد إدخالها عليه بقصد تجربته والحط من شجاعته في عيون أخصامه، فأحب أن يؤيد هذه الشجاعة التي اشتهر بها ببرهان جديد.
فأطلق سراح أتباعه وأتى بنفسه على الخطة التي رسمها، وهو يعلم أن ما وراء هذا الإقدام غير الموت، غير أنه لم يعبأ بالهلاك في جانب حفظ سمعته من وصمة الأقاويل.
ولم يكد يبلغ بجواده الباب الذي كان فتحه رفيق الدوق دانجو، حتى أحاط به الخمسة الكامنون من كل صوب، وانقضوا عليه والسيوف مشهرة بأيديهم انقضاض الصواعق، وهم يصيحون: ليمت باسي! ليمت عدونا الألد!
فرجع باسي بجواده خطوة إلى الوراء، وجرد حسامه بمنتهى البسالة، وقال بصوت الساخر: إذا أنا هو ذلك الدب الذي كنتم تريدون صيده بأمر الملك، فطيبوا نفسا، إنكم ستنالون منه ما تشاءون، ولكن بعد أن ينال منكم ما يشاء.
فهجم عليه شومبرج وقال: ليكن ما تريد، ولكنك فارس ونحن على الأقدام، ومن العدل أن نتساوى.
ثم طعن صدر جواده بحسامه فخرق أحشاءه، فصاح الجواد صيحة منكرة وخر صريعا.
أما الكونت فإنه قفز عنه إلى الأرض والحسام مشهر في يده، وحمل على خصمه حملة هائلة فجرحه في فخذه جرحا بالغا دعاه إلى اعتزال القتال والاهتمام بجرحه.
ثم هجم على رفاقه وهو غير مكترث بالموت، فجرح كاليس وضرب بحسامه صفحا أبرنون على زنده فأطار الحسام من يده.
وأخذ يجول بينهم فينال بحسامه أجسادهم ويثخنهم جراحا، وكلما أصاب واحدا عاد إلى الآخر، حتى كلت قواه وأصيب بجرح بالغ أسال دمه كأفواه القرب.
وتألبوا جميعهم عليه حملة واحدة، فرجع إلى الوراء يلتمس الحائط ليدرأ به حملاتهم عليه من الوراء.
فلما بلغ إليه صادف بابا، فرفسه برجله فإذا هو مفتوح، فبرقت عيناه بأشعة الأمل.
وأعاد الكرة عليهم فجرح منهم اثنين.
ثم عاد إلى ذلك الباب وقد نهكت قواه لفرط ما سال من دمائه، فولجه وتمكن من إيصاده بالزلاج الحديدي بعد الدفاع الشديد، فكان له النصر العزيز بنجاته.
وبعد أن أوصد الباب مشى بضع خطوات إلى أن انتهى إلى سلم، فسقط عليه وهو لا يعي.
ثم شعر بسكوت عميق، فخيل له أنه هابط إلى ظلمة القبر، ثم أطبق عينيه وضاع رشده، فلم يعد يعي لشيء.
الفصل الثالث
كيف يصعب أحيانا التمييز بين الحلم واليقظة
وكان الكونت دي باسي بعد أن أقفل الباب في وجه أخصامه، وقبل أن يقع مغميا عليه، قد تمكن من ربط جرحه البالغ بمنديل.
ولكن هذه العصابة لم تكن كافية لمنع انصباب الدماء وسيلها من جرحه بغزارة، فقضت عليه بهذا الإغماء.
فحدث له بسبب ما نزف من دمائه ضعف في المخيلة أو حمى في الرأس.
ونحن نقص على القراء ما رآه هذا الكونت، أو ما خيل له أنه رآه في الحلم أو في اليقظة بعد ذلك الإغماء كما رواه عن نفسه، فنقول:
أول ما فتح عينيه وجد نفسه في غرفة جميلة الأثاث، مفروشة بالبسط وجدرانها مزدانة بالصور المتقنة الصنع.
ثم رأى، أو خيل له أنه رأى أشباحا أو تماثيل تحمل بأيديها ضمات الزهور والرياحين وهي تخترق الجدران، وتسير منها إليه.
ثم رأى نافذتين مزدانتين بالستائر الجميلة، ورأى بينهما صورة فتاة يتلألأ وجهها بأشعة من نور، وعيناها تنظران إليه بإشفاق وحنان ...
ووجد نفسه ملقى على فراش ناعم ذي أعمدة ذهبية، غير أنه لم يكن يستطيع حراكا كأن يدا قوية قد ضغطت عليه، أو كأنه مشدود إلى ذلك السرير بحبال متينة.
فلم يكن يستطيع أن يحرك عضوا من أعضائه، ما خلا عينيه اللتين كان ينظر بهما محدقا إلى تلك الصورة الجميلة، وشفتيه اللتين كان يبسم بهما لها، وهو معجب منذهل مما يراه من جمالها الفتان.
وفيما هو محدق بها وقد خلبت لبه، وملكت شغافه، خيل له أن تلك الصورة قد تحركت وتجسمت.
فبرزت منها امرأة مرتدية بثوب طويل أبيض، كأنها ملاك قد شق كبد الغمام وهبط من السماء.
وهي ذات شعر أشقر طويل مسترسل على كتفيها، وعينين سوداوين ترمي بهما السهام عن قوسي حاجبيها.
ولها بشرة بيضاء شفافة يكاد يظهر من خلالها سريان دمها في العروق، فيصبغ تلك البشرة الناعمة بلون الورد.
وفي الجملة، فقد بلغت الغاية القصوى من الجمال، كأنها خلقت كما اشتهت.
ولم يكد باسي يراها حتى اختلج فؤاده، وحاول أن يهب من فراشه فينطرح على قدميها، ولكنه شعر بأنه مقيد برباط شديد لم يستطع حله، وأنه لا يستطيع حراكا كالأموات.
وكان باسي قد رأى أشباحا وتماثيل يهبط بعضها من سقف الغرفة، ويشق بعضها الجدران، فيمتزجان ويشتبك بينهما العراك، فلما برزت تلك الفتاة لم يعد ينظر إلى الأشباح وانصرف نظره إليها، فجعل يغازلها بإنشاد الأشعار الرائقة.
ولكنه لم يكد يتم أشعاره فيها حتى احتجبت عن عينيه، وحال بينه وبينها رجل معصوب العينين كانت تقوده إليه امرأة عجوز.
فاحتدم الكونت غيظا، وهم أن يفتك بذلك الرجل وتلك العجوز، ولكنه لم يستطع حراكا، وفيما هو يتململ، وقد كاد يتميز من الحنق إذ سمع هذا الرجل يقول: أبلغت المكان الذي تقودونني إليه؟
فأجابه صوت رخيم هاجت له عواطف الكونت: نعم، قد وصلت ويمكن الآن أن ترفع العصابة عن عينيك.
فحاول باسي أن يرى إذا كانت صاحبة هذا الصوت هي نفس تلك الفتاة التي ملكت قياده.
فلم يستطع أن يتحرك، ولم ير أمامه غير ذلك الرجل الذي أزاح العصابة عن عينيه.
وأجال نظرا مضطربا في أنحاء الغرفة، ثم رأى سريرا كان منطرحا عليه الكونت.
فعلم أنهم لم يأتوا به إلا لعيادته.
فدنا منه وتأمل في جرحه.
وبينما هو يفحص الجرح إذ سمع باسي ذلك الصوت الرخيم، يسأل ذلك الطبيب فيقول: هل الجرح مميت؟
فأجاب الطبيب: لا أعلم شيئا الآن.
وعاد إلى الكونت اختلاجه عند سماع هذا الصوت، فحاول أن يتكلم لكنه لم يستطع.
وبعد ذلك ببرهة أحس بألم شديد في أحشائه كأن نارا حامية قد كوتها، ففقد ما كان باقيا له من الشعور، ولم يعد يحس بشيء.
وقد استحال على باسي أن يعرف مدة إغمائه، ولكنه لما أفاق من ذلك الإغماء شعر بريح باردة تهب على وجهه، ففتح عينيه وهو يرجو أن يرى تلك الفتاة والأشباح.
وأجال نظره في جميع الجهات، فلم ير أمامه أثرا مما كان يراه.
بل رأى على يمينه رجلا كهلا بملابس القرويين.
وعلى يساره راهبا كان يسند رأس الكونت بيديه.
وأمامه امرأة عجوزا كانت تفرك قدميه بخرقة بالية من الصوف.
ثم نظر حواليه فرأى نفسه على بساط من العشب لا تظلله غير السماء، ورأى أمامه مذبحا مرتفعا، فعلم أنه في ردحة الدير، وأنه بات تلك الليلة ملقى على الطريق.
لكنه خيل له أنه حالم، فنظر نظرة انذهال إلى من حواليه، وقال بدهشة شديدة: أين أنا؟ أين ذلك الرجل المعصوب العينين؟ أين تلك الفتاة الفتانة؟ بل أين أولئك الأشباح الذين كانوا يشقون الجدار ويخرجون إلي من السقف؟
فنظر الرجل إلى الراهب وقال: إنه مصاب بحمى شديدة كما يظهر من هذيانه.
ورمق الراهب باسي بنظرة إشفاق، وقال له: يجب أن تعترف يا بني، وذلك خير لك ... أما ما قلته عن الفتاة والأشباح والجدران، فما هو إلا تخيل مثلته لك الحمى، والحقيقة أنك كنت ملقى على الأرض فوق الثلوج التي لا يزال أثرك عليها، وقد حسبناك ميتا عندما وجدناك.
فارتاع الكونت مما سمع، وللحال ذكر أنه أصيب بضربة سيف، فمد يده إلى مكان الجرح فأحس بعصابة تشده.
ولكنه لم يذكر كيف وصل إلى هذا المكان، ومن الذي عصب جرحه.
فشكر الراهب والرجل والعجوز، وأعطاهم كيسا من النقود كان لا يزال في جيبه.
وسألهم أن يذهبوا به إلى قصر الكونت دي باسي.
فانذهل الحضور عند سماعهم هذا الاسم، وقالوا بصوت واحد: ألعلك من أتباع الكونت؟ - كلا، بل أنا الكونت نفسه.
فأسف الجميع عندما عرفوه، وصاحوا بصوت واحد: ليحي باسي الشجاع!
ثم حملوه على الأكتاف وساروا به إلى قصره. •••
وكان باسي لا يزال فاكرا بتلك الفتاة وما رآه من الأشباح، وهو لا يعلم أكان ما رآه حلما أم هي الحقيقة؟
فلما وصلوا به إلى القصر دعي بطبيبه الخاص، وبعد أن فحص جرحه وأخبره بأنه غير خطر، سأله إذا كان هذا الجرح يورث هذيانا؟
فأجابه: نعم.
فرجع الكونت إلى الافتكار، وجعل يقول في نفسه: إذا فإن تلك الصورة الفتانة لم تكن غير أوهام وتخيلات مثلتها لي الحمى.
ثم يرجع فيقول: كلا، بل هي الحقيقة بعينها؛ لأني أذكر بأني أصبت بضربة حسام، فرجعت لأدرأ عني حملات الهاجمين من وراء، فأصبت بابا ففتحته وولجته، ثم أوصدته في وجوه أخصامي بعد العناء الشديد، وهناك سقطت على سلم مغميا علي، ولا أذكر بعد ذلك شيئا.
إذا فإن ما رأيته لم يكن غير حلم، ولكنه حلم هائل، ولا أزال إلى الآن أرى الفتاة والأشباح والطبيب ممثلين أمام عيني، فما عسى أن يكون هذا الحلم العجيب؟
ثم أخذ يعيد ذكر تلك الفتاة، وهو يمثل جميع ما رآه على ما وصفناه، فقال: لا يمكن أن يكون ذلك حلما، بل هي الحقيقة وستكشفها لي الأيام.
ثم سأل طبيبه ثانية عن جرحه.
فأجابه بأنه غير خطر، بل إنه طفيف وإن هذا الضعف المستولي عليه ما هو إلا لما نزف منه من الدماء. - إني لا أحب أن أقيم في الفراش، بل أؤثر أن أخرج من المنزل، فإني أشعر من نفسي بقوة تدفعني إلى الخروج. - ذلك إليك، فإذا كنت قادرا على المشي فامش، ولكني أنصح لك في البقاء، فهو خير لك. - كلا، إني لا أرى موجبا إليه.
وللحال دعا برئيس خدمه، وأمره بأن يهيئ له المركبة، فامتثل الخادم.
ووثب الكونت من فراشه إلى الأرض فلبس ثيابه وحده، كأن لم يكن فيه أثر للجراح.
وخطر في باله سانت ليك.
فذكر نصيحته له في ليلة الزفاف، وعلم أنه لم يحذره إلا عن إخلاص وصدق في الود.
فخرج من المنزل، وأمر سائق المركبة أن يذهب به إلى منزل سانت ليك.
الفصل الرابع
كيف قضت امرأة سانت ليك الليلة الأولى من زفافها
علم القارئ شيئا من أوصاف الكونت باسي، وقد رأينا أن نتم وصفه زيادة في البيان فنقول:
كان هذا الكونت من أعظم أبطال فرنسا في ذلك العهد، وقد اشتهر بجماله، كما اشتهر بإقدامه وزلاقة لسانه وحرية ضميره وكبر نفسه، فكان الملوك والأمراء يخطبون وده، وكانت الملكات والأميرات يبسمن له ألطف ابتسام.
وقد حظي بحب مارغريت ملكة النافار، التي كادت أن تتهتك بغرامه، حتى إن زوجها الملك هنري كان يغار عليها منه، وهو لم يعرف الغيرة في الغرام.
وقد حنق عليه أخوها الدوق دانجو وساءه هذا الغرام، غير أنه اضطر إلى غض الطرف لشدة احتياجه إلى ساعد هذا الكونت الذي كان يرجو أن يحقق به أمانيه العظيمة، وهي ارتقاؤه إلى العرش الفرنسي مكان أخيه.
أما باسي فلم يكن يحفل بوداد الملوك، ولا يأبه لغرام الملكات، بل لبث مستقلا بنفسه، مترفعا عن صداقة الملوك، بعيدا عن غرام الملكات.
ولبث ذلك الفؤاد الجريء الذي لم يعرف الخوف خاليا من مكامن الغرام كالجوهرة التي تخرج من معدنها، فتراها عين الشمس قبل أن تمسها يد الصائغ.
وذلك أنه لم يكن في قلبه العظيم متسع للغرام الذي كان يأنف من الخضوع له والرضوخ لأحكامه؛ لما فطر عليه من الأنفة والكبرياء.
وقد كان هنري الثالث تزلف إليه بالود وعرض عليه صداقته، فأبى وهو يقول: إن أصدقاء الملوك خدم لهم ، ولست من الذين يخدمون.
ومما لا ريب فيه أن الدوق دانجو كان رئيسا للكونت، ولكن مثله مع الدوق كان كمثل من يروض الأسد، فهو رئيس له ولكنه يخدمه ويطعمه حذرا من أن يفترسه ويأكله.
وهكذا كان باسي بإزاء الدوق.
ومما كان يقوله في هذا المعنى أيضا: إني لا أستطيع أن أكون ملك فرنسا، غير أن الدوق دانجو يستطيع أن يبلغ إلى هذا العرش، فلأكن إذا ملك الدوق دانجو.
وبالحقيقة فإنه كان رئيسه في الباطن كما كان مرءوسه في الظاهر. •••
ولنعد الآن إلى سياق الحديث فنقول:
إنه لما وصل الكونت إلى منزل سانت ليك الذي أمر السائق أن يسير به إليه كما تقدم، قابله الخدم بملء الاحترام، فسألهم عن مولاهم إذا كان لا يزال باقيا في المنزل.
فأخبروه وملامح القلق بادية في وجوههم: إنه ذهب ليلة أمس مع الملك ولم يرجع إلى الآن.
فانذهل وسألهم: ألا تعلمون أين هو؟ - كلا. - هل امرأته في المنزل؟ - نعم. - استأذنوا لي منها بالدخول إليها.
فذهب أحدهم وعاد بعد حين، فدخل بالكونت إلى مدام سانت ليك التي خرجت إلى ردحة المنزل للقائه.
وكانت صفراء الوجه، وعيناها محمرتان من السهر، ويتبين منهما أثر البكاء.
فلما رأته وضعت يدها في يده، وبسمت له ابتساما مغتصبا وهي تقول: إني أرحب بك يا سيدي، وإن كان قدومك الآن يخيفني.
فالتبس على باسي كلامها، وقال: ماذا تعنين يا سيدتي بالذي تقولينه؟ وماذا يحملك على الخوف من قدومي؟ - قل الحق بالله يا مولاي، ألم تتبارز بالأمس مع زوجي؟
فدهش باسي وقال: أنا تبارزت مع زوجك؟ - نعم، فلقد خلا بك أمس وكلمك سرا، وإذ كنت من حزب الدوق وكان من حزب الملك، وعداوة هذين الحزبين يعلمها الجميع، فلم يعد لدي ريب أن اختلاءكما ما كان إلا لتعيين موعد المبارزة.
فبالله يا سيدي ألا ما قلت الحق، فإن زوجي قد ذهب مع الملك غير أنه لم يعد، وكيف تبارزتما؟ وأين هو؟ - عجبا إني كنت أتوقع أن تسأليني عن جرحي؟ - أرأيت أني صادقة بزعمي، وأنكما تبارزتما ... فقل لي أهو الذي جرحك؟ - كلا، فإننا لم نتبارز، ومعاذ الله أن يقع عدوان بيني وبين هذا الصديق العزيز، الذي لا بد أن يكون أخبرك بما استحكم بيننا من الوداد. - كيف يخبرني بذلك وأنا لم أره بعد خروجه مع الملك؟ - إذا فإن ما أخبرني به الخدم من عدم رجوعه صحيح! - أجل، فهي الحقيقة بعينها، وإني لم أره منذ تلك الساعة. - فأين هو؟ - إني لا أعلم شيئا، ولذا إني أسألك. - بالله ألا ما قصصت علي هذا الأمر، فإني لا أرى أغرب منه!
فقصت عليه جميع ما تعلمه ويعلمه القراء من أمر الملك له بالذهاب معه إلى اللوفر، ورجوع الحراس الذين بعثهم أبوها مع زوجها بعد أن أقفل القصر.
ولما انتهت من حكايتها قال لها باسي: نعم، لقد فهمت الآن. - ما الذي فهمته؟ - إن الملك قد اصطحب معه زوجك إلى اللوفر، ومتى دخل زوجك إلى اللوفر فلا يخرج منه. - كيف متى دخل لا يخرج؟
فارتبك الكونت وقال: إنك تسأليني أن أبيح لك بأسرار المملكة. - غير أني ذهبت مع أبي إلى القصر، فأخبرنا حراسه أن زوجي قد خرج منه. - هذا ما يؤكد لي أنه لا يزال باقيا فيه. - أتظن ذلك؟ - كلا، بل أؤكده، وإذا شئت فأنت تقدرين أن تؤكدي كما أكدت بذهابك إلى اللوفر. - ألم أقل لك بأني ذهبت إليه، وعما أجابوني به؟ - وأنا أعيد عليك فأقول: أتريدين الذهاب إلى اللوفر؟ - لماذا؟ - لأجمعك بزوجك سانت ليك. - قلت لك إنه خرج من القصر. - وأنا أقول لك إنه لا يزال فيه. - إني لا أجد بحديثك غير ألغاز وأسرار غريبة. - كلا، بل هي أسرار ملكية. - أتقدر أنت على الدخول إلى القصر؟ - ذلك لا ريب فيه؛ لأن ما حظر عليك لا يحظر علي. - إنك تقول الآن بأن دخولي إلى اللوفر محظور علي، كيف تقول لي أن أذهب إليه لأرى زوجي فيه؟ - إني سأدخلك بالحيلة، فأطلعك على مكامن في ذلك القصر لا تستطيعين الدخول إليها وأنت معروفة بامرأة سانت ليك.
وذلك أني يصحبني إلى اللوفر كلما دخلت إليه ، خادم في مقتبل الشباب، لا نبات بعارضيه، وهو يشبهك بقوامه وبعينيه، فهل فهمت الحيلة؟
فاحمر وجهها وقالت: ما هذا الجنون؟ ألا تحسب ذلك طيشا؟ - كلا، بل هو عين الحكمة؛ لأنه ليس لدي طريقة أفضل من هذه، ولك الخيار بين الرفض والقبول، فافتكري وأجيبي ... أتريدين أن تري زوجك؟ - إني أبذل كل عزيز للوصول إليه. - أما أنا فسأوصلك إليه ... من غير أن أكلفك بذل أي شيء. - ولكن افتكر بالعاقبة. - قد افتكرت بكل شيء، فإن أحببت فأنا أذهب بك إلى زوجك ولا خوف عليكما. - وأنا قد قبلت ... غير أنه يجب أن أتزيا بزي خادمك هذا. - ذلك لا ريب فيه، وسأبعث إليك في هذا المساء بثوب من ثيابه، فترتدين به وتخرجين من المنزل وحدك إلى شارع بروفار، حيث أكون بانتظارك. - وبعد ذلك؟ - وبعدها نذهب إلى اللوفر سوية.
فوضعت يدها بيده وجعلت تضحك وهي تقول: إن هذا الفكر مضحك يا كونت. - نعم، وستضحك منه أوروبا بأسرها، بل سيضحك منه الملك نفسه بعد أن تهدأ ثورة غضبه.
وأنا شاكر لك ثقتك بي، وستجتمعين بزوجك بالرغم من الملك وعن أصفيائه.
ثم ودعها وانصرف إلى منزله ... فأرسل لها الثوب الذي وعدها بإرساله. •••
وفي المساء، اجتمع الكونت وامرأة سانت ليك في الشارع المعين وبالساعة المضروبة.
وكانت حنة بملابس الغلمان، وقد زادتها ملابس الخفاء جمالا على جمالها.
فمشى الكونت أمامها بعد أن سلم عليها، ومشت وراءه مشية الغلمان وراء أسيادهم.
حتى إذا وصلا إلى منتصف الطريق، رأى الكونت أن الدوق دانجو يسير أمامه على مسافة طويلة، ويكاد أن يحتجب عنه لإسراعه في المسير.
فناداه بصوت مرتفع.
وما زال يصيح به حتى سمعه الدوق، فلما علم أنه الكونت أسرع إلى لقائه، فصافحه وهو يقول: إني كنت أحسبك طريح الفراش لما علمت من أمر جرحك، وقد كنت ذاهبا إليك، كيف أنت؟
فلم يشكره الكونت بكلمة وقال: إنك تلقي بي إلى المهالك عند حاجتك إلي، ولا تسأل عني عند حاجتي إليك.
ولقد كمن لي أمس خمسة من أعدائك، فاستنزفوا جميع ما في جسدي من الدماء. - طب نفسا أيها الكونت، فإن ذلك الدم العزيز لا يضيع هدرا، وسأخطف روحا من أرواحهم عن كل قطرة سفكت من تلك الدماء. - ذلك ما تقوله باللسان أيها الدوق، وإنك ستبتسم لأول من تلقاه من أولئك الأعداء. - إذا كنت لا تثق بما أقول، فسر معي إلى اللوفر وسوف ترى ما يكون. - وماذا عسى أن يكون يا مولاي؟ - سترى بماذا أخاطب أخي الملك عن هذا الشأن. - إني أعرفك يا مولاي حق المعرفة، فأنت ستناضل عني النضال الشديد وتشدد النكير عما أصبت به من الغدر، وتطلب حقي بالحمية الصادقة والرأي السديد، ولكنك ستقبل أول ترضية تعرض عليك عن هذا الحق. - كفاك قحة أيها العنيد، واذهب معي فسترى ماذا أفعل.
ثم مشى الدوق بغير أن ينتظر جوابه، فتبعه الكونت وإلى جنبه امرأة سانت ليك فقال لها: قد سمعت ما كان بيني وبين الدوق، وإني لم أفعل ذلك إلا لأزيد من حماسته، وليطول الجدال بينه وبين الملك، فأغتنم هذه الفرصة لجمعك بزوجك.
وبعد ذاك عاد إلى الدوق، فأخبره بجميع ما كان في تلك الليلة الهائلة بالتفصيل.
وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى اللوفر فولجوه جميعا، ولما وصلوا إلى قاعة الملك، قال له الكونت: إني مفارقك يا مولاي؛ لأن لي حاجة أقضيها مع أحد الأصحاب في هذا القصر. - ألا تدخل معي إلى جلالته؟ - كلا، بل أنتظرك إلى أن تخرج من عنده.
فدخل الدوق إلى القاعة الملكية، وأخذ الكونت امرأة سانت ليك فأجلسها في إحدى الغرف، وقال لها: انتظريني قليلا ريثما أعود.
فأقامت وحدها في الغرفة وهي ترتعد من الخوف، غير أنها كانت ترى من النافذة المكان الذي ذهب إليه باسي، فكانت تستأنس بمرآه عن وحشتها وتأمن من خوفها.
الفصل الخامس
كيف اجتمعت امرأة سانت ليك بزوجها
أما الكونت فإنه ذهب توا إلى الغرفة المحاذية لغرفة منام الملك، وهو موقن من أن سانت ليك لا بد أن يكون مقيما فيها؛ لأن جلالته يحب أن يكون دائما بالقرب منه ليدعوه إليه في الحال كلما تمكن منه الضجر، الذي كان داؤه العقيم.
وكان يعلم باسي أيضا أن جلالته لا يمكن أن يكون في غرفته؛ لأن أخاه الدوق دانجو قد طلب أن يراه عندما دخل إلى اللوفر، فهو سيكون ولا ريب في قاعة الاجتماع.
ولذا فقد تقدم إلى الغرفة بعزم ثابت وقرع الباب، فخرج إليه حاجب من ضباط القصر.
وقد كان دهشه عظيما عندما رآه؛ لأن جميع من في القصر كانوا يعتقدون أنه قد هلك.
غير أنه أظهر الجلد، وقال له وهو يبتسم: بماذا يأمر سيدي الكونت؟ - إن جلالته يريد أن يكلم سانت ليك، فأين هو وماذا يعمل؟ - هو في هذه الغرفة يتلهى بمقامرة شيكو إلى أن يرجع جلالته. - إني أرجوك إذا أن تأذن لخادمي أن ينتظرني في هذا الرواق، وأن تدعو لي سانت ليك.
فامتثل الحاجب وانصرف.
وأشار الكونت إلى امرأة سانت ليك، فأتت وأوقفها في عطفة من الرواق بحيث لا يراها زوجها.
وبعد برهة أتى سانت ليك وعليه ملامح التعب، فلما رأى الكونت باسي ينتظره دهش وقال: هذا أنت؟ - نعم أيها الصديق، وأول ما أبدأ به حديثي شكري إياك عما بذلته لي من النصح ليلة أمس، مما يدل أشد الدلالة على الإخلاص لي وصدق ودك.
فانحنى سانت ليك شاكرا، وقال: ليس الإخلاص وحده الذي دفعني إلى تحذيرك من الأعداء، بل إني كرهت أن يغتال رجال جلالته بطلا مثلك، ولقد كنت أحسبك في عداد الأموات، لثقتي من أنك قد ذهبت إلى لقائهم، ولما شاع في القصر من أمر قتلك. - لقد كادت تصح هذه الإشاعة، فإني لم ينقذني من غدرهم غير القدر وحسن توفيقي. - بل أنقذك ساعدك القوي وبأسك الشديد، وإن النجاة من خمسة وأنت وحيد فرد هي النصر العزيز لك، الذي يفتخر به محبوك، وتنفطر منه أكباد الأعداء.
فبالله ألا ما أخبرتني أيها الصديق كيف كانت النجاة منهم، وكيف كانت تفاصيل هذا العراك؟ - إن الوقت يضيق دون تفصيلها، وسأخبرك عنها بما ستنتهزه من فرص الاجتماع وأوقات الخلوة، والآن فإني لم أقدم إليك لمجرد شكرك لأن خدمة الأصحاب واجبة، ولا موجب للشكر عن قضاء واجب، غير أني قدمت لأكافئك عن هذه الخدمة بخدمة مثلها.
وقبل أن أتعرض لذكرها، أحب أن أعرف شيئا عن حالك في هذا المحبس. - إني على أسوأ حال أيها الصديق، يكاد يقتلني الضجر في هذا القصر العظيم، الذي بعد أن كان لي جنة أرتع فيها، أصبحت فيه كمن زج في أعماق السجون، وأنا لا أختلف فيه بشيء عن المجرمين، سوى أن يدي ورجلي مطلقة فلا أرصف بقيودي.
وأشد ما أقاسيه قرب جلالته مني، وبعد امرأتي عني، فإنه يكاد أن لا يفارقني ساعة، ولا يرضى مني إلا بأحاديث الهزل، وأين أنا من المزاح في مثل هذا الموقف الذي وضعني فيه، فإذا أرضيته فلا أوافق نفسي، وإذا وافقت نفسي فلا أرضيه؛ ولذا فإني أتقلب على نارين من جفائه ورضاه، وأتراوح بين شرين من صفائه وجفاه، وكلا الويلين شر من الآخر.
وأما بعد امرأتي عني فلا أزيدك علما بما أكابده من العناء لبعدي عنها، فتصور كيف يكون حال محب يبعدونه عمن يحب، ويمنعونه عن جناء الزهرة التي طالما سقاها بدموع الغرام.
فقال باسي وقد تأثر لحال صديقه: وما يمنعك عن الذهاب إليها؟ - هذا السجن الذي أنا فيه، ومن يحيط به من الحجاب الذين يكادون أن يعدوا علي أنفاسي. - وما يمنعها أن تأتي هي؟ - إلى أين؟ - إلى اللوفر. - ما هذا الجنون؟ - لا أنكر أن هذا الرأي غريب في بابه، ولكنه ممكن. - بالله دع المزح أيها الصديق، فإن نفسي حزينة وصدري الضيق لا يتسع لهذا المزاح. - كما تريد، ولكن إذا اجتمعت بها ألا يزول ضجرك؟
فتنهد سانت ليك، وقال: بل أكون من أسعد البشر، ولكن أنى يكون لي ذاك؟ - طب نفسا فسأجد طريقة تجمعها وإياك، والآن فقد ذكرني ضجرك خادما لي صحبته معي إلى اللوفر، كان يؤنسني في أيام ضيقي ويزيل عني كل كرب بلطف حديثه ونكاته الغريبة، فسأبقيه عندك يؤانسك من هذه الوحشة إلى أن يفرج الله عنك هذا الضيق.
فشكره سانت ليك وقال: عفوا أيها الصديق؛ لأن منظر الخدم يزيد من كربي الذي أنا فيه، وقد أذن لي جلالته أن أحضر إلى اللوفر من أشاء من خدمي، ولكني لا أطيق النظر إليهم، فما أحضر أحدا منهم. - ولكن هذا الخادم ليس كسواه من الخدم. - وأنا لست كسواي من الأسياد. - أرجوك أن تقبل هذا الخادم. - ذاك ما لا أستطيع إليه سبيلا. - قلت لك اقبله؛ فإني أعرف الذي تحتاج إليه. - دع المزاح أيها الصديق، ويكفيني ما أنا فيه. - لا بأس في ذاك وسأدعوه.
ثم نادى امرأة سانت ليك باسم خادمه.
فاحتدم سانت ليك غيظا، وجعل يعترض على باسي الاعتراض الشديد والكونت يضحك حتى دنا الخادم.
فلم يكد ينظر إلى وجهه حتى عرف أنه امرأته بملابس الخفاء، فصاح صيحة الدهشة وهرول مسرعا يصافح امرأته.
فقال الكونت: ألا تزال ترفض قبوله؟
فوضع سانت ليك يده بيد باسي، وقال له: إني أشكرك أيها الصديق شكرا لا يفيه لساني، فلقد قيدتني بالولاء، وربطتني بوثاق من ودك لا انفصام له. - دع الآن حديث الشكر، واحذر من أن تنظر إليها بغير نظرك إلى الخدم، فإن الحجاب إذا كانوا لا يسمعون حديثنا فهم ينظرون إلينا، وافتكر الآن بطريقة تحجبها فيها عن عيون الرقباء.
وفيما هم على ذاك إذ سمعوا صوت صياح من قاعة الملك، وخرج الحاجب ويده على حسامه، فقال باسي: هذا الدوق دانجو يختصم مع أخيه، فاسمحا لي بالذهاب لأني أحب ألا تفوتني كلمة من حديثهما.
ثم ودعهما وخرج مسرعا وهو فرح بما كاده للملك.
فلما دنا من القاعة سمع من جلالته وأخيه الحديث الآتي:
قال الدوق: إني مؤكد لجلالتكم بأن أبرنون وشومبرج والبارون دي أو وموجيرون وكاليس، كانوا كامنين له بالقرب من فندق التورنيل.
قال الملك: من قال هذا؟ - أنا رأيتهم بعيني. - قد رأيتهم في الظلام أيها الدوق وقد كان شديدا. - إني لم أتبينهم من وجوههم. - كيف عرفتهم إذا؟ أمن أكتافهم؟ - كلا، ولكني عرفتهم من أصواتهم. - هل تكلموا معك؟ - لم يتكلموا معي فقط، بل إنهم هجموا علي أيضا وحاولوا الفتك بي لو لم يعرفوني من صوتي أيضا؛ لأنهم حسبوني الكونت دي باسي. - أنت كنت هناك؟ - نعم، أنا! - وما الذي دعاك إلى الذهاب نحو هذه الجهات المقفرة في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل؟ - وماذا يهم ذاك؟ - أريد أن أعرف كل شيء. - إذا كان لا بد من ذاك، فأقول لك إني كنت ذاهبا إلى مناساس. - مناساس اليهودي المتكهن؟ - نعم، ألا تذهب أنت أيضا إلى ريجياري بائع السموم. - أنا أذهب حيث أشاء لأني الملك. - ليس هذا بالجواب المقنع. - ومع ذاك فقد قلت لك إن باسي هو البادئ بالعدوان. - باسي كان البادئ؟ - نعم. - وأين كان ذاك؟ - في منزل سانت ليك ليلة زفافه. - أتظن أن باسي يعتدي على خمسة وهو فرد، إن ذاك محال يا مولاي؛ فإن هذا الكونت شجاع ولكني أنزهه عن الجنون. - قلت لك إنه كان البادئ بالعدوان، وقد سمعته بأذني في تلك الحفلة، ولم يكتف بذاك بل إنه جرح شومبرج، وكسر فخذ أبرنون، وكاد أن يجهز على كاليس. - لم أعلم شيئا من هذا لأن باسي لم يخبرني عن شيء من هذه الجراح، فإذا صح هذا فإني أهنئه بهذا الانتصار. - وأنا لا أهنئ أحدا، بل أحب أن يأخذ العدل مجراه، وأن أضع حدا لمثل هذا العدوان. - وأنا سأرى أيضا إذا كان يوجد في فرنسا من يجسر أن ينظر إلى أعظم أمرائها، وأخ الملك فيها، من غير أن يغض الطرف إجلالا واحتراما.
وعندها دخل باسي إلى القاعة فانحنى أمام جلالته، وقال: تفضل يا مولاي بقبول احترامي.
فالتفت الملك إليه وقال: هو ذا باسي.
فقال الكونت: أرى مولاي يشرفني بالاهتمام بشأني. - نعم، وقد سررت لمرآك، فلقد علمت عنك ما استأت له أشد الاستياء؛ ولذا فإني أحب أن ترفع شكواك إلينا كي يجري العدل في مجراه.
فقال باسي: لا أجد يا مولاي سبيلا إلى الشكوى.
فالتفت الملك إلى أخيه وقال: كيف ذاك؟ وما تقول؟ - أقول بأن باسي قد أصيب بضربة حسام.
فقال الملك: أصحيح يا باسي ما قاله الدوق؟ - هي الحقيقة بعينها يا مولاي، ومن كان أخا لجلالتكم فهو لا يعرف الكذب. - إذا كان ذاك أكيدا فما يمنعك من الشكوى؟ - لا أشكو؛ لأني أريد أن أنتقم بنفسي ... وسيكون انتقامي شديدا أيها الملك ولا مرد له، فلو أمرتم بقطع اليد التي أريد الانتقام بها، لبقي لي يد أخرى لذلك الانتقام.
فاصفر وجه الملك وقال: أنت شديد الوقاحة يا كونت!
ورأى الدوق أن الكونت باسي قد أغاظ جلالته بقحته، فتداخل في الأمر خشية من شر العاقبة، وأن تدفع الحدة بأحدهما إلى ما لا تؤمن مغبته، فأخذ عنه الكلام وقال: إنكم وعدتم يا مولاي بإجراء العدالة، وهذا غاية ما نرجوه، فلتأمر جلالتكم بفحص هذا الأمر، ومعرفة الباعث لأولئك المعتدين على أن يقفوا للكونت في ذاك الكمين.
فاحمر وجه هنري وقال: كلا، بل إني أؤثر في هذه المرة أن أغض الطرف عن المجرمين، وأن أشمل الجميع بعفو عام، بل أحب أن تزول تلك العداوة من الفريقين ويستتب بينهما السلام ... ولذا فقل لي من كان من أولئك الخمسة أكثر إظهارا للعداء؟ - هو كاليس.
قال الملك: إذا فإني آمر كاليس وباسي أن يتصافحا أمامي بهذه الحضرة.
وكان كاليس قد حضر، فذعر لهذا الأمر وقال: مولاي، ماذا أمرت؟ وما المراد بهذا؟ - أريد أن تزول من بينكما أسباب البغضاء، وأن تتصافحا أمامي في الحال.
فلم يجد الاثنان بدا من الرضوخ لأمر جلالته، فتصافحا على ما يريد، وعند مصافحتهما قال كاليس هامسا في أذن باسي: أؤمل أن يكون هذا السلام إلى حين.
فأجاب باسي: طب نفسا لأن الأيام بيننا وسنلتقي.
الفصل السادس
توبة هنري الثالث وجهل السبب
ثم خرج الجميع من حضرة الملك، وخرج هو بعدهم، فذهب توا إلى غرفة سانت ليك، فرآه مضطجعا على فراشه، وهو يئن متظاهرا أنه مريض.
ورأى امرأته جالسة بملابس الغلمان على مقعد في زاوية الغرفة، وهي ساترة وجهها بيديها ... فلم تنهض عند دخوله، ولبثت متظاهرة بالنوم.
فقال الملك: ما بالك يا سانت ليك، ومن هذا الغلام النائم في هذه الغرفة؟ - هو غلام لي يا مولاي، أحضرته من منزلي لخدمتي ... وأما أنا فمريض. - لا بأس عليك، فسأرسل إليك طبيبي الخاص، والآن فهيا بنا إلى غرفتي؛ لأن شيكو ينتظرنا فيها. - عفوا يا مولاي، فإني مريض ولا يروق لك مجلسي. - سيان عندي فإني أكتفي بمرآك، وإذا فاتني حسن لفظك فإني قانع بحسن سمعك. - إذا، فسأذهب إليك بعد حين ريثما ألبس ثيابي ... لأني بملابس النوم. - حسنا بشرط أن تسرع.
ثم تركه وانصرف.
فنهضت حنة منذعرة من مقعدها وقالت: كيف تذهب إليه وتتركني وحدي؟ وما يؤمنني أن يدخل أحد إلى هذه الغرفة فينكشف حالي؟ - لا تخشي من ذاك أيتها الحبيبة؛ لأني لا أغيب عنك أكثر من ربع ساعة؛ لأني سأتظاهر بالمرض الشديد في حضرة الملك، حتى يملني أو يشفق علي فأعود في الحال، فالبثي في هذا المكان إلى أن أعود، وسأوصي الحاجب فلا يأذن لأحد بالدخول إلى هذا المكان.
ثم غادرها ومضى إلى الملك فأقام عنده زمنا وجيزا ريثما انتهى من طعامه، فتمكن بحجة المرض وبمساعدة شيكو على الإفلات منه، فرجع إلى امرأته والفرح ملء فؤاده.
أما جلالته فإنه أحيا الليلة بمنادمة شيكو، إلى أن دنا وقت الرقاد، فانصرف الجميع من حضرته، وصعد إلى سريره فأطفئت الشموع وسادت السكينة والظلمة.
ولم يمض على ذاك ساعتان حتى خرج من غرفة صاحب الجلالة صوت هائل أيقظ جميع النيام، ثم تكرر هذا الصوت فسمع الحراس أن جلالته يستغيث، فهبوا منذعرين إلى غرفته والسيوف مشهرة في أيديهم، فوجدوه ساقطا على الأرض بالقرب من سريره، وعلائم الرعب بادية في وجهه المصفر من الخوف، وعيناه شاخصتان، ويداه ترتجفان ارتجافا شديدا، وقد عقد لسانه فلم يستطع الكلام.
ولم يجسر أحد من الحراس الذين أسرعوا إليه على سؤاله.
وفيما هم على ذاك ولا أحد يعلم السبب الذي حمل جلالته على الصياح، إذ أقبلت الملكة بثياب النوم ومخائل الرعب بادية بين عينيها، فمسكت يدي زوجها المرتجفتين وأنهضته فأجلسته على كرسي وسألته عما أصابه فلم يجب، فصبرت عليه برهة إلى أن هدأ روعه فقالت له: بالله قل ما أصابك، فهل تريد أن أدعو الطبيب؟
فأجابها بصوت متقطع: كلا ، فليس جسدي المريض، بل إن نفسي هي المريضة وأنا في حاجة إلى كاهن لا إلى طبيب.
فذهل الجميع لجواب جلالته، وأخذوا يجيلون أنظارهم في جوانب الغرفة؛ علهم ينظرون ما حمله على هذا الرعب، فلم يروا شيئا.
أما الملكة فإنها أمرت في الحال أحد الحرس بالإسراع إلى الدير وإحضار رئيسه، فامتثل وانطلق عدوا.
وبعد برهة أتى رئيس الدير، فزالت الغوغاء من القصر وساد السكون والخشوع فيه، وخلا جلالته برئيس الدير ما بقي من ذاك الليل.
وعند الصباح أمر جلالته أن تقفل أبواب القصر ولا يدخل إليه أحد، ثم دعا جميع أصفيائه وجميع رهبان الدير، فأحاطوا به في ردهة من القصر وأمرهم أن يخلعوا الثياب عن أكتافهم، وأن يجلدوا أنفسهم بالسياط تكفيرا عن خطاياه، وكان هو أول من بدأ بنفسه، فلم يجدوا بدا من الاقتداء به، وكلهم يجهل السبب في انقلاب جلالته وبلوغه إلى هذا الحد من التعبد، فخلعوا ثيابهم وجعلوا يجلدون أنفسهم إرضاء لمولاهم.
وأحب شيكو أن يمزح حسب عادته، فبدرت إليه نظرة هائلة من جلالته تفيد أن ليس هذا وقت المزاح.
فحبس لسانه عن الكلام وأخذ سوطا قويا في يده، ولكنه بدلا من أن يجلد نفسه جعل يجلد سواه، فلا تسمع غير صائح من وقع ضرباته القوية وهو لا يعلم من أين ينهال عليه هذا الضرب الموجع.
وداموا على ذاك ساعة حتى كلت أيديهم، وكادت أن تدمى أبدانهم، فأمرهم جلالتهم أن يذهبوا معه حفاة الأقدام إلى زيارة الدير، فذهبوا بصحبته، وأقاموا في ذاك الدير يصلون ويبتهلون إلى الله كي يغفر لجلالته ذنوبه إلى أن غابت الشمس، فرجع بهم إلى القصر حيث عادوا فيه إلى الجلد بالسياط إلى أن دنت ساعة الرقاد، فأذن لهم بالانصراف، ولم يبق لديه غير شيكو.
وإنما أبقاه ليقرأ له بعض فصول من الكتاب المقدس، أمره بتلاوتها رئيس الدير قبل أن ينام.
فانصرف الجميع وفيهم سانت ليك، الذي كان جلالته انتدبه إلى هذه المهمة التي انتدب إليها شيكو فأبى.
الفصل السابع
خوف الملك لأنه قد خاف، وخوف شيكو من أن يخاف
ولما خلا جلالته مع شيكو في غرفة نومه، قال: أنت يا شيكو موضع ثقتي، والآن لقد وددت أن أجعلك موضع سري فأبيح لك بما لم أجسر أن أبيح به لسواك، لما أعلمه من إخلاصك، فأنت الصديق الوحيد.
وكان جلالته يتحدث بصوت يتهدج، ووجهه ناحل مصفر كوجوه الأموات، فأشفق عليه شيكو وعلم أن الأمر ذو بال، فانصرف إلى جد الحديث وقال: قل يا مولاي ما تشاء؛ لأني مصغ إليك ... وعسى أن أتمكن من تسكين ثائرك. - كنت أود أن تسمع ما سمعت، وأن ترى ما رأيت قبل أن أقص أمري، ولكني أخشى أن تصاب بما أصابني من الرعب؛ ولذا فقد ارتأيت أن أقص بعض ما لقيت مما حملني على هذا الخوف فيهون عليك الأمر، فأنت سترى أمرا جللا، فإذا قصصته عليك قبل أن تراه، يهون عليك ... فأنت متوقعه. - لقد أحسنت وها أنا مصغ، فقل ما تريد.
فأمر الملك يده على جبينه ثم نظر إلى شيكو وبدأ في الحديث فقال: لقد نمت ليلة أمس ...
فقاطعه شيكو وقد نسي موقفه وغلب عليه الميل إلى المزح، فقال: وأنا كذلك!
فعبس الملك كي لا يدع مجالا لنديمه لمثل هذا الهزل وقال: ولما غفوت شعرت بهبة هواء باردة مرت على وجهي، فصحوت بعض الصحو، ثم عادت تلك الهبة أيضا، فنهضت في الحال وجلست في فراشي، وأخذت أجيل نظرا مضطربا إلى ما حولي عساي أرى مصدر هذا الهواء، ولكن المصابيح كانت منطفئة والظلام حالكا فلم أر شيئا ... وفيما أنا جالس والقلق أخذ مني إذ سمعت صوتا يقول: أيها الخاطئ الشقي ... ثم تلا الملك بصوت ضعيف وقال: ثم سمعت ذاك الصوت نفسه يقول: أيها الشقي التعيس، أصغ إلي، فأنا صوت الرب الإله ...
فتظاهر شيكو بالاضطراب وقال: أكان صوت الرب الذي سمعته؟ - نعم، ألم تقرأ في الكتب المقدسة أن الرب يكلم الملوك؟ - نعم، وقد قرأت فيها أيضا أن صوت الله كصوت الرعود القاصفة، فهل كان كذلك؟ - كلا، ولكن صوته كان يصل إلي كالهمس في الآذان، ومع ذاك فلم يفتني حرف من كلامه، فأصغيت إليه وقد كدت أفقد حواسي لما خامرني من الهلع، فسمعته يقول: أين أنت أيها الشقي؟ ... أتصغي إلي؟ ... ألا تزال غوايتك منغمسا في الشهوات، منصرفا إلى الملذات، معرضا عن النظر في شئون رعاياك؟
ثم جعل يذكر لي جميع خطاياي ويؤنبني عليها التأنيب الشديد، حتى خلت أن ساعتي قد دنت. - لا بأس يا مولاي، ولكن قل لي ما ذكره من أمر الذنوب لأرى إذا كان الله يعرفها كمن يحيط بك؟
فاحتدم الملك غيظا وقال: احذر من أن تعود إلى مثل هذا الارتياب، فإذا بدر منك بعدها أقل ريبة فإني آمر بقتلك لا محالة. - أنت مخطئ يا مولاي فيما توهمته من ريبتي؛ لأني شديد الاعتقاد بالله، وأعيذ نفسي من الشك بعزته الإلهية، غير أني عجبت لصبر الله عن تقريعك إلى الآن، وهذا ما تدعوه بالشك، فقل لي ما كان بعدها؛ لأني أكاد أن أشاركك في هذه المخاوف. - لم يكن شيء سوى أني استغثت وسقطت على الأرض واهي القوى، فأحاط بي الحرس ودعت لي امرأتي برئيس دير الجزويت، فأتى وخلوت معه طول الليل. - وماذا كان بينكما؟ - إني اعترفت له بجميع آثامي، وأخبرته بما سمعته من صوت الله، فقال: إن هذه عجيبة من السماء، وإن صوت الله يأمرني أن أكفر عن ذنوبي، وذاك لا يكون إلا بالزهد والتقشف والإحسان إلى الجزويت، فما أذنت له بالانصراف إلا بعد أن أعطيته خمسمائة ألف فرنك. - حسنا فعلت، فأنت لن تنال الغفران إلا بمثل هذا الإحسان.
فتأثر هنري من كلام شيكو، وقال: ألا تزال تتكلم وتمزج الجد بالهزل، وأنت ترى ما أنا عليه من الخوف، لست الملوم بل أنا اللوم علي لأني وضعتك بمنزلة الصديق، وأنزلت آمالي بك.
فتصنع شيكو هيئة الجد وقال: ما حملني على المزاح يا مولاي غير ما أعلمه علم اليقين بأن الذي سمعته لم يكن صوت الله، بل هو حلم هائل يدعونه بالكابوس، يكون المصاب به بين النائم واليقظان فيحسب ما رآه حقيقة واضحة لا ريب فيها، وما هو إلا حلم يعتريه لانزعاجه في النوم أو لتلبك في المعدة، وغيرها من الأسباب. - ألا تزال على ريبك أيها الكافر؟ - لست بكافر، ولكن كل ما ذكرته لي يدل على أنك كنت حالما لا مناجيا. - إني لا أجيب بشيء الآن، وستسمع بأذنيك نفس ما سمعته، فأنت ستنام هذه الليلة في غرفتي فتنجلي الحقيقة وتعلم غرورك. - هذا ما أتمناه، ولست بنائم بل إني سأجلس على كرسي أمام سريرك وأسهر إلى أن يقرع سمعي صوت الله فأوقظك. فاصعد الآن إلى سريرك ونم قرير البال.
فصعد الملك إلى السرير وأطبق عينيه، ولكنه لم يستطع الإغفاء لخوفه.
الفصل الثامن
كيف أن صوت الرب قد كلم شيكو بدلا من أن يكلم
الملك
ولبث الاثنان عشر دقائق، لم ينبس ببنت شفة، ثم هب الملك من فراشه خائفا مذعورا، واستوى جالسا على الأرض.
فذعر شيكو أيضا، وسأله بصوت منخفض عما دعاه إلى النهوض، فأجاب: شعرت بمرور الهواء على وجهي كما شعرت به أمس، وهذه إشارة إلى أن الله يريد أن يخاطبني.
ثم مرت هبة ثانية فأطفأت شمعتين، وثالثة فأطفأت ما بقي من الشموع.
فارتجفت أعضاء جلالته من الخوف، وقال لشيكو: أصغ لأن الصوت سيتكلم.
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الصوت يناديه، قائلا: أيها الخاطئ التعيس، أصحوت من رقادك؟
فاصطكت أسنان هنري من الرعب، وقال: نعم، أيها الرب! - أسامع أنت لما أقول؟ - نعم، فلا تلق علي صواعق الغضب. - لقد ظننت أنك أطعتني بما فعلته اليوم من التقشف، ولكن قد أطعتني بالظاهر لا بالباطن ... ولم ترضني بالقلب، ولكنك أرضيتني باللسان.
فدنا هنري وهو يضطرب من شيكو، فقال له: أآمنت أيها الكافر؟ - نعم، لقد اقتنعت ولم يبق علي غير أن تقتنع.
فدهش هنري وقال: ماذا تريد بذاك؟ - أريد أن تجلسني في مكانك وتجلس في مكاني.
فأطاعه هنري وقد بدأ يفهم المراد، فلما صار شيكو في سرير الملك عاد الصوت إلى الحديث فقال: ما بالك لا تجيب أيها الخاطئ؟ أرأيت كيف أن قلبك لم يطهر بعد من الذنوب؟
فأجاب شيكو مقلدا صوت الملك: عفوك اللهم، واسبل علي ستر مراحمك، فأنت تواب رحيم.
ثم أكب على أذن هنري يقول: أرأيت كيف أنه لم يميز بين الملك وبين نديمه؟
فاحتدم هنري غيظا وقال: من أين أتى هذا الصوت؟ - تأن واصبر قليلا، فسترى أمورا أخرى.
ثم عقب الصوت فقال: لقد أقررت أيها الخاطئ التعيس بأنك مجرم أثيم، فاعترف الآن بجميع آثامك.
فقال شيكو: نعم، إني معترف بجميع ما ارتكبته من الآثام، وأول ما أقر به من ذنوبي وأستغفرك عنه هو خيانتي لابن عمي البرنس دي كوندي وإغوائي لامرأته، وإني نادم أشد الندامة.
فقال الصوت: تكلم! - إني أعترف بأني اغتصبت أخي تاج بولونيا، واستبددت بالملك دونه، وهو حقه الصريح.
فأجفل هنري وقال: ما شأنك وهذه الأحاديث القديمة؟ - هذا لا بد منه لإغوائه ... وليوقن بأن الذي يحدثه هو الملك بعينه.
فقال الصوت: ليس هذا كل شيء، فاعترف بجميع الذنوب. - وأعترف أيضا بأني اعتصبت مع والدتي كاترين دي ميديسيس على طرد صهري هنري دي نافار بعد أن غيرت عليه أصحابه وامرأته أختي بعد أن فرقت عنها عشاقها.
فقال هنري وقد أخذ منه الغضب: تبا لك من وقح، ما لك وللتعرض لمثل هذه الشئون؟
لا يجب على المؤمن أن يكتم شيئا عن الله.
فعاد الصوت إلى الحديث فقال: لا أريد أن تعترف لي بالجرائم السياسية بل الأدبية. - نعم، وإنها كثيرة؛ لأني رجل ولكني أنثوي الطباع؛ كسول، فاتر الهمة، كثير المكر والخداع، أسيء معاملة النساء ... ولا سيما امرأتي.
فقال الصوت: نعم، ويجب على الإنسان أن يحب امرأته كنفسه، وأن يفضلها على سواها من العالمين، ولا سيما الملوك ... إذ يجب أن يكونوا قدوة لسواهم من رعاياهم.
لا أن يفعلوا كما فعلت مع سانت ليك أيها الخاطئ، بإبعادك إياه عن امرأته ليلة زفافه.
فقال شيكو: عفوك يا رب! فمرني بما تشاء أصدع بأمرك. - أريد أن ترجعه صباح الغد إلى منزله ... وأن تجعله دوقا وتجعل امرأته دوقة ...
وإلا فأنت من الهالكين!
فالتفت شيكو إلى الملك وقال له: يظهر أن الله محب لسانت ليك ... فانظر أيها الملك إلى السقف ... - ما تريد بذلك؟ - أريد أن الصوت خارج منه، وأن ليس بينك وبين الله غير هذا الحائط!
فاذهب إلى الغرفة المحايدة تجده. - وإن تكلم الصوت؟ - أنا أجيبه ... بل سأشغله بالحديث كي لا يفطن لذهابك ... فاذهب ...
ثم دفعه بيده، فذهب الملك يمشي على رءوس أصابعه، فلا يسمع له أحد ركزا.
وفتح الباب وخرج منه إلى الغرفة، فحاول أن يقرع الباب، ولكنه رأى نورا ينبعث منها.
فوضع عينه على قفل الباب، ولم يلبث أن تمكن من النظر حتى رجع إلى الوراء منذعرا، وتبدلت هيئته من اصفرار الخوف إلى احمرار الغضب.
ذلك أنه رأى في زاوية من تلك الغرفة سانت ليك، واقفا بملابس النوم.
وهو قد وضع قصبة مثقوبة في ثقب من الحائط، وجعل ينفخ فيها الكلام الذي كان يحسبه الملك صوت الله.
ورأى إلى جنبه امرأته أيضا بملابس النوم، وهي واضعة يدها على كتفه.
وكانت تبتسم لما يقوله زوجها.
فلما رأى الملك ما رآه، علم كل شيء وأخذ منه الغضب، فرفس الباب برجله فانكسر.
ودخل إلى الغرفة ...
فصاحت حنة صيحة منكرة، وذهبت تستتر من غضب الملك، وتحجب عريها وراء السرير.
وسقط سانت ليك جاثيا على ركبتيه والقصبة في يده، ولم ينبس ببنت شفة.
فأشار الملك بمنتهى العظمة والازدراء وقال له: اخرج من هنا!
ثم جذب القصبة من يده بمنتهى الحدة، وحاول أن يضربه بها على جنبه ...
فانتصب سانت ليك واقفا وقال: لا يحق لك يا مولاي أن تضربني إلا على الرأس؛ لأني شريف.
فطرح الملك القصبة على الأرض، فأسرع شيكو إلى أخذها وحال بين سانت ليك والملك.
ثم أخذ حنة بيدها إلى جنب زوجها، فوضع القصبة على رأسيهما كما يوضع الإكليل، وقال: لقد ارتكبتما من العصيان في اللوفر كما ارتكب آدم وحواء من قبلكما في الفردوس ... فلتخرجا من هذه الجنة، فلن تعودا إليها أبدا.
ثم همس في أذن سانت ليك يقول: لا تقم ساعة في باريس، بل امتط جوادا، واقطع عشرين مرحلة قبل الصباح.
الفصل التاسع
عودة دي باسي إلى حلمه، وهو يزيد اقتناعا أنه حقيقة
ولنعد الآن إلى الكونت دي باسي الذي تركناه خارجا من اللوفر مع الدوق دانجو، فنقول:
إنه بعد أن سار وإياه إلى أن أوصله إلى قصره، استأذن منه بعد أن شكره لدفاعه عنه وانطلق عائدا إلى منزله، وهو لا يفتكر إلا بذلك الحلم، وكلما أطال الافتكار فيه كلما ازداد يقينا من أن ما مر به من الحوادث لم يكن حلما، وأن تلك الفتاة التي رآها لم تكن خيالا بل حقيقة ثابتة، ومثال جمال فتن لبه وصيره هائما مفتونا.
فدخل إلى منزله وغير ثيابه ثم خرج منه وذهب توا إلى المكان الذي جرت فيه المبارزة، وهو عازم على أن يطرق جميع الأبواب، ويلج جميع المنازل، وينفق على رشوة الخادمات كل ما يملكه من المال في سبيل الوصول إلى معرفة الفتاة التي رآها.
فلما وصل إلى المكان المعهود رأى أبوابا كثيرة، ومنازلا متعددة، وهي متلاصقة متشابهة.
وفيما هو يفكر بأيها يبدأ، وأيها يطرق، إذ بصر فرأى رجلا قادما إليه عن بعد يحمل مصباحا، فتأهب له وظن أنها مكيدة ثانية قد نصبها له أعداؤه، وكمن له في عطفة من الطريق، حتى إذا دنا منه ولم يعد بينهما غير مسافة قليلة، أجفل الكونت منه إذ سمعه يقول وهو يمشي بخطوات موزونة: سبعة وتسعون، ثمانية وتسعون، تسعة وتسعون، أربعمائة.
وهكذا كان يواصل العد تباعا، فظنه الكونت سكران أو أن به جنة، فدنا منه ولم يكد يتبين ملامحه حتى ذعر وانذهل إذ رآه معصوب العينين، فقرب منه وسار وراءه بحيث لا يشعر به، فاستمر الرجل في مسيره وعد حتى انتهى إلى لفظ عدد ثلاثة وسبعين، فوقف ورفع العصابة عن عينيه وقال: هذا هو المنزل بعينه من غير بد.
ولكنه لم يلبث أن رآه حتى أعاد العصابة إلى عينيه، وعاد إلى المسير والعدد حتى انتهى إلى العدد خمسمائة وثلاثة وتسعين، فرفع العصابة عن عينيه وفحص باب المنزل الذي وجد أمامه، فقال: الآن قد وصلت، وهذا هو الباب بعينه.
أما الكونت فإنه قبض على يده التي يحمل فيها المصباح، وقربها من وجهه فتأمل فيه مليا وقال: ألست ذاك الطبيب؟
فذعر الرجل وقال: نعم، وأنت ألست ذاك المريض؟ - نعم، أنا هو، وما أسعدني بهذه اللقيا التي صحت بها أحلامي، وتأكد لي أن ما رأيته كان حقيقة لا حلما.
ثم قص عليه أمر مبارزته مع أعدائه، وكيف أنه جرح ووجد نفسه في منزل كان فيه صبية فتانة وعجوز وطبيب ضمد له جرحه، وقد رآه دخل إلى المنزل معصوب العينين.
فحكى له الرجل بأنه ذاك الطبيب، وأنهم أحضروه من منزله معصوب العينين، وردوه إليه كذلك، فعلم أن في الأمر سرا وعد خطواته في الذهاب والإياب حتى لا يتيه عن المنزل متى أراد الرجوع إليه، وأنه لم يأت في هذه الليلة إلا لبغية كشف هذا السر لأنه فقير، وقد أحب أن يستفيد من هذه الغوامض، فطيب قلبه الكونت ووعده بالمال الجزيل، ثم عرفه بنفسه وأخبره أنه جاء للغاية نفسها.
وعينه من تلك الليلة في خدمته، وجعل بعدها يذكر له كل ما رآه في ذاك المنزل مما كان يعتقد أنه حلم.
فأخبره الطبيب أن كل ما رآه كان حقيقة لا ريب فيها، وأن ما جعله يشك بصحتها هو ما كان مصابا به من الحمى.
ثم اتفقا على أن يبحثا سوية لمعرفة صاحبة هذا المنزل في اليوم الثاني، ولم يشأ الكونت أن يدع الطبيب، بل إنه أخذه معه إلى قصره وخصص له مكانا فيه.
الفصل العاشر
المسيو دي مونسورو
وأقام الكونت يحادث الطبيب طول ذاك الليل عن تلك الفتاة، شأن من دخل شعاع الحب إلى قلبه، أول مرة في حياته، فيملأ ما فيه من الخلاء، ويطفح ذلك القلب فلا يرتاح إلا إلى الحديث عمن يحب، وفي اليوم الثاني كلف الطبيب في البحث عن تلك الفتاة.
وانصرف هو إلى قصر الدوق دانجو، الذي كان قد أعد حفلة صيد للملك برئاسة المسيو دي مونسورو، الذي قد عينه الملك حديثا لهذا المنصب بوساطة أخيه الدوق.
فهاج تعيينه فضول جميع المقربين من الملك وأخيه؛ لأنه كان غريبا عن باريس غير معروف فيها.
ولم يكن من المرشحين لهذا المنصب الذي كان يأمل الحصول عليه كثيرون من أولئك المقربين.
وكانوا يتساءلون عن السبب الذي حمل الملك على تعيينه، والدوق على الوساطة، فلا يستطيعون الوقوف على شيء.
وكان من الذين هاجهم هذا الفضول أيضا الكونت دي باسي، وقد سأل الدوق فلم يقدر أن يقف منه على شيء.
فلما انتظم عقد الحفلة وكان الجميع بانتظار جلالته للذهاب إلى الصيد، وفي مقدمتهم المسيو دي مونسورو، اجتمع باسي بأحد أصحابه ودار بينهما الحديث عن هذا الرجل، فقال له صديقه: إني لا أعرف شيئا عن هذا الرجل غير حادثة واحدة؛ لأني لم أره قبل اليوم غير مرة واحدة، ولم أعرفه قبل أن يعرفنا به الدوق.
وذلك أني كنت قادما يوما من غابة ميريدور منذ ستة أشهر، فرأيت رجلا ممتطيا فرسا أسود، وأمامه امرأة لم أقدر أن أرى وجهها، وهو قابض بإحدى يديه على لجام الفرس، وواضع يده الثانية على فم تلك المرأة وهو يقطع الأرض نهبا بجواده.
ولم يكن بيننا غير مسافة مرمى الرصاص، فعرفت وجهه وعلمت أنه سارق لتلك الفتاة.
فصحت به فلم يقف بل زاد عدوا، فلكزت بطن جوادي بغية لحاقه وأطلقت عليه بندقيتي فأخطأته.
وما زال يعدو وأنا أعدو وراءه حتى سبقني بمراحل وتوغل في الغابة، فلم أعد أراه.
ولم أعلم بعدها شيئا عنه وعن الفتاة.
فعرف باسي السبب في وساطة الدوق لهذا الرجل بالمنصب الذي تولاه، وأنه لم يسرق الفتاة إلا ليجعلها مقدمة لأغراضه عند شقيق الملك الذي لم يكن يؤخذ بغير هذه المكائد.
وفيما هو يحادث صديقه، إذ سمع الدوق يناديه وهو منفرد في عزلة عن الناس.
فذهب إليه، فقال له الدوق: إني ما دعوتك وأنا في هذه الخلوة إلا لأعهد إليك بأمر جلل لا يعهد به إلا لمن كان مثلك من الأصدقاء المخلصين. - قل ما تشاء فأنت تعرف إخلاصي. - هو سر لا أحب أن يعلم به سواك، وذلك أني ذهبت منذ أيام إلى كنيسة كائنة بالقرب من مدفن التورنيل، فرأيت فيها فتاة كنت أعرفها من قبل، وكنت أحسبها قد هلكت منذ ستة أشهر.
وإن لي مع هذه الفتاة شأنا هاما، وأحب أن أعرف كيف وصلت إلى باريس؟ وكيف تعيش فيها؟ ومن يأتي إليها؟ وذلك لا يتم إلا بمراقبتها ...
ولا أقدر أن أعهد بهذه المراقبة إلى سواك، حرصا على هذا السر من أن يهتك، ومثلك يصون مثل هذه الأسرار، ولا يأنف من قضاء مثل هذه المهمة لصديق مخلص له مثلي.
فاستغرب الكونت هذه الحكاية أشد الاستغراب، وكاد أن يعامل الدوق بالجفاء.
ثم تمثل له خيال تلك الفتاة التي يهواها، وخشي أن تكون هي نفسها تلك الفتاة التي يبحث عنها الدوق، فأحب أن يقف على حقيقة الأمر.
فأخفى اضطرابه تحت مظاهر المزح، وبش للدوق وأظهر له رغبته في قضاء ما عهد به إليه.
ثم سأله إذا كان يعرف منزلها؟
فدله على نفس المنزل الذي دخل إليه باسي ورأى فيه الفتاة، فزاد اضطرابه وقال: أنت سألتني أن أراقب من يدخل إلى هذا المنزل، وذلك لا يكون إلا بالليل، وكيف أستطيع أن أعرف ذاك الداخل وأتبين وجهه في الظلام؟ - يجب أن تتبعه حينما يدخل. - وإذا قفل الباب؟ - إن معي مفتاحا يفتح قفله، وأنا أعطيك إياه منذ الآن.
ثم أخذ مفتاحا من جيبه وأعطاه إياه، فأخذه منه الكونت وهو فرح به كأنه قد ولي التاج وفتح أبواب الكنوز، ووعد الدوق بأن يراقب المنزل أشد المراقبة.
ثم أقبل الملك بحاشيته، فبحث الكونت بينهم عن سانت ليك فلم يره، فسأل عنه فعرف أن جلالته قد نفاه.
وبعد برهة نفخ المسيو دي مونسورو في البوق، فمشى الجميع بانتظام إلى غابة الصيد.
الفصل الحادي عشر
كيف أن باسي قد وجد الرسم وصاحب الرسم
وبقي الملك ورفاقه يصيدون إلى الساعة الرابعة، فعادوا جميعهم بموكب حافل.
واتفق أن الملك أمر أن يسير الموكب من طريق فندق التورنيل، وكان المسيو دي مونسورو قد استأذن من الملك عند انتهاء الصيد، وذهب إلى حيث لم يعلم ...
ولما دنوا من الفندق المذكور أشار الدوق دانجو إلى باسي كي يدنو منه، فقال له: انظر إلى هذه المنازل المتلاصقة، فإنك تجد جميع نوافذها مفتوحة، والناس تطل منها للفرجة على الموكب، ألا ترى بين هذه المنازل منزلا واحدا موصد النوافذ؟ - نعم. - هذا هو المنزل الذي أعطيتك مفتاحه، وهو الذي تسكن فيه الفتاة، فهل أنت باق على عهدك؟ - نعم يا مولاي، فكن مطمئن البال، وسأصدع بأمرك.
ثم تفرق الموكب.
فذهب الكونت إلى منزله، وسأل الطبيب إذا كان علم شيئا. - كلا. - إني وفقت أكثر منك، وقد عرفت بالصدفة والاتفاق ما لا يمكن أن يتفق لي معرفته بالسعي والجد.
ثم قص عليه ما كان بينه وبين الدوق، وكيف أنه دله على المنزل وأعطاه مفتاحه، وأنه عازم على الذهاب إلى المنزل والوقوف على أسراره.
فأوصاه الطبيب بأن يكون حكيما في أعماله، وأقام معه إلى الساعة التاسعة.
وبعد ذلك خرج من المنزل وسار توا إلى تلك القبة التي كمن له فيها أعداؤه يوم أرادوا اغتياله.
فلبث فيها يتربص مجيء من كان يخشى الدوق من مجيئه، وقد قال في نفسه: إنني سأصبر ساعتين فأرقب الطريق لخدمة الدوق، فإذا لم يأت أحد فإني ألج المنزل وأخدم نفسي.
وطال وقوفه إلى الساعة العاشرة والنصف حتى كاد يقنط من مجيء ذلك الرجل، وفيما هو ينتفض من البرد وقد فرغ صبره من الانتظار، إذ رأى من بعيد رجلين مقبلين على فرسين، يسير الواحد منهما وراء الآخر، وعلم أنهما خادم ومخدوم.
فما زالا يسيران حتى وصلا إلى المنزل المعهود ووقفا على بابه، فهلع قلب الكونت وبدأ يشعر بآلام الغيرة.
أما ذانك الرجلان فإن أحدهما الذي كان يسير أمام رفيقه ترجل عن جواده، فأعطى عنانه إلى رفيقه، وأمره أن يقف بالجوادين بعيدا عن المنزل؛ دفعا للمظان ونفيا للريب.
ثم أخذ مفتاحا من جيبه ففتح الباب وولج فيه وأوصده وراءه وصعد على السلم، وترجل الكونت دي باسي أيضا عن جواده، فربط عنانه إلى حجر ضخم تحت القبة وذهب إلى المنزل، ففتح الباب بتأن وسكينة، بحيث لم يسمع صرير المفتاح ضمن القفل.
ثم دخل ووقف في أول السلم ينصت عساه يسمع صوت هذا الرجل، ولم يطل وقوفه حتى سمعه ينقر على الباب بإصبعه وينادي امرأة اسمها جرتريدة فيقول: قولي لسيدتك يا جرتريدة إني قد أتيت، وإني أحب أن أراها.
وانطلقت الخادمة وعادت بعد حين قائلة له: ادخل وانتظرها في قاعة الاجتماع، فسوف تأتي إليك.
ودخل ذلك الرجل.
أما الكونت فإنه صعد السلم ببطء وسكينة حتى بلغ إلى آخره، فوجد أمامه غرفة لا نور فيها، ودفع بابها فإذا هو مفتوح، فولج إليها وأجال نظره فيها، ورأى من خلال نور ضعيف كان ينبعث من نافذة الغرفة المجاورة لها صورة معلقة على الحائط.
وتفرس بها فإذا هي نفس الصورة التي كان يحسب أنه رآها في حلمه، فوقف أمامها حائرا مبهوتا واجف القلب.
ثم بصر بسقف الغرفة فرأى فيه تماثيل تشبه تلك الخيالات التي كان يراها في الحلم تتعارك وتتراكض جيئة وذهابا، وتحول بينه وبين رسم من يحب.
فمشى خطوتين ...
فعثر بسرير مذهب الأعمدة، فأيقن عند ذلك أنه مقيم في الغرفة نفسها التي كان مقيما فيها ليلة جرحه.
فدنا من الباب والتف بستائره ووضع أذنه على ثقب القفل، فأصغى كي يسمع حديث ذلك الزائر، ولم يطل وقوفه حتى سمع أن باب قاعة الاجتماع قد فتح.
ثم سمع صوتا لطيفا حنونا يقول بلهجة الخوف والازدراء: ها قد أتيت، فما عسى أن تريد مني أيضا؟
فقال الزائر بصوت مختلج: إني مسافر غدا إلى فونتنبلو، ولذلك فقد أتيت أحيي هذه الليلة بقربك. - هل تحمل إلي أخبارا عن أبي؟ - أصغي إلي يا سيدتي. - أنت تعلم يا سيدي، ما اتفقنا عليه بالأمس، من أني لا أرضى بك بعلا لي إلا بأحد شرطين: إما أن يأتي أبي إلى باريس، وإما أن أذهب إليه. - ذلك لا ريب فيه، فإننا ذاهبون إليه لا محالة بعد عودتي من فونتنبلو، ولكن في انتظار ذلك ...
ثم قام إلى الباب يغلقه.
فاعترضت سبيله وقالت: ذلك محال يا سيدي، فقد آليت على نفسي ألا أبيت وإياك ليلة واحدة تحت سقف واحد قبل أن أقف على حقيقة ما جرى لأبي.
ثم نفخت بصافورة كانت بيدها ...
وكان هذا اصطلاح أهل ذلك العصر في استدعاء الخدم، قبل أن تخترع الأجراس.
وأتت الخادمة عندما سمعت الصفير، فقالت لها: احذري يا جرتريدة من أن تنامي، بل انتظري على الباب وكوني مستعدة لتلبيتي عندما أناديك.
فامتثلت الخادمة وخرجت.
ووضع الكونت عينه على قفل الباب، فنظر من ثقبه فرأى تلك الفتاة التي أخذت بمجامع قلبه مستوية على كرسي، وعلائم الرعب بادية بين ثنايا وجهها الفتان.
فخفق فؤاده وهاجت مكامن قلبه، فكاد أن يكسر الباب ويدخل إليها فيزيل أثر ذلك الرعب من قلبها.
ثم نظر إلى ذلك الرجل الجالس بجانبها، فرأى أنه المسيو دي مونسورو، فذكر للحال ما سمعه من صديقه عن حديث الغابة وخطف الفتاة، وقال في نفسه: إني سأقف على حقيقة هذا السر.
وعند ذلك رجع فوضع أذنه على القفل.
وسمع مونسورو يقول: لا تطمعي يا سيدتي أن يطول اضطهادك لي، فإنك الآن في باريس، بل إنك الآن الكونتس دي مونسورو أي امرأتي. - إذا كنت امرأتك كما تقول فلماذا لا تذهب بي إلى أبي، بل لماذا تخفيني عن العيون؟ - ألعلك نسيت يا سيدتي الدوق دانجو؟ - وأنت ألعلك نسيت ما طالما قرعت به سمعي من أني غدوت امرأتك فلا أخشى من شيء؟ - لا أنكر ذلك، ولكن بقي علي بعض احتياطات يجب أن أتخذها. - خذ ما تشاء من الاحتياطات، ولكن لا ترجع إلي قبل أن تكون قد اتخذتها.
فاحتدم غيظا وقال: إني أنصح لك يا ديانا أن لا تعبثي برباط زواجنا، فإنما هو مقدس. - وأنا من رأيك يا سيدي، فإني أحترم ذلك الزواج، ولكني غير واثقة من هذا الزوج. - ذلك عجيب منك، فإن كل ما كان مني إلى الآن يحمل على الثقة الشديدة ولا يدعو إلى شيء من الريب. - ذلك ما تراه أنت يا سيدي، ولكني أرى عكس ما تراه.
فبرقت عيناه بشرر الغضب وقال: لقد نفد الصبر ، فلك أن تقولي ما تشائين، غير أني لا أعبأ بشيء من هذه الأقوال، وما أنت إلا امرأتي، وستكونين لي هذه الليلة بالرغم منك ...
فوضع الكونت دي باسي يده على حسامه وحاول الهجوم، ثم توقف عندما سمع الفتاة تقول وقد جردت خنجرا: كن واثقا أيها الشريف من أني سأجيبك بهذا الخنجر خير جواب.
ثم نهضت مذعورة وهي تقول: احذر أن تتبعني، فإني أقتل نفسي لا محالة.
وفتحت باب الغرفة المختبئ بها باسي.
ثم أوصدت الباب وراءها ... فشعرت بيدين قد ضمتها وسمعت صوتا ضعيفا يقول لها بمنتهى الحنان: لا تخشي يا سيدتي، فإني أحميك من كل من كان على الأرض.
وكادت الفتاة أن تصيح صياح الرعب، لكن معظم خوفها كان من زوجها فلم تصح، غير أنها أفلتت مرعوبة من يدي الشاب، وسمعت المسيو دي مونسورو يضرب الأرض برجله من الغيظ منذرا متوعدا ... ثم فتح الباب بعنف وخرج منه مغضبا لاعنا.
فاطمأنت الفتاة عندما سمعت وقع أقدامه على السلم وعادت إلى باسي، فقالت منكرة مستغربة: وأنت يا سيدي، كيف أتيت إلى هنا؟ ومن أنت؟
ففتح باسي الباب لينفذ النور وجثا على ركبتيه أمام ديانا، فقال: أنا هو ذلك الرجل الذي أنقذت حياته من الموت، فكيف تنكرين قدومي؟ بل كيف يخطر في بالك أني أسيء النية لك بعد هذا؟
فضمت الفتاة يديها إلى بعضهما وقد رأت من خلال النور ذلك الوجه الصبوح الشريف، فقالت: هذا أنت يا سيدي، ألعلك سمعت حديثنا؟ - نعم، فوا أسفاه! - من أنت؟ وكيف تدعى؟ - أنا الكونت دي باسي ...
فبرقت أسرة وجه الفتاة بشعاع الفرح، وقالت: أنت هو باسي الشجاع النبيل. ثم صاحت بجرتريدة تقول: لم أعد أخاف أمرا، فإني سأضع شرفي تحت حماية أنبل رجال فرنسا.
وبعد ذلك أخذت يد باسي بيديها وقالت له: قم يا سيدي، لقد عرفت من أنت، فيجب أن تعرف من أنا.
الفصل الثاني عشر
ديانا دي ميريدور
ونهض باسي وقلبه موعب فرحا؛ إذ قد لقي من أنس تلك الفتاة ما كان فوق مأموله، وجعل ينظر إليها مأخوذا منذهلا، وهو لا يصدق ما يراه، ولا يجسر أن يتمادى في التصور بما ناله من السعادة، وبتحقيق تلك الأحلام.
أما ديانا هذه فكانت في الثامنة عشرة من عمرها، أي كالزهرة تفتق أكمامها، فتخرج فتنة للعيون.
وقد ورد وصفها في حلم باسي فلا حاجة إلى زيادة البيان، بل نكتفي بالقول إنها خلقت كما اشتهت.
ولما دخلت بباسي إلى الغرفة جلست إلى جانبه فقالت: إنني قد ألقيت عليك سؤالين فأجبتني على الواحد دون الآخر. - نعم يا سيدتي، ولعلك تريدين الوقوف على السبب الذي وجدت لأجله في هذا المكان، وهو ما ستعلمينه متى ذكرت لي ما وعدتني به من حكاية أمرك، ألم تعديني بذلك؟ - نعم يا سيدي الكونت، فإني سأحدثك عن كل شيء، فقد طالما سمعت اسمك يتردد في الأفواه كمثال النبل والإقدام والمروءة؛ ولذلك فإني أرى بك خير نصير لي.
فانحنى باسي شاكرا.
وعقبت ديانا قائلة: لا بد أن تكون علمت من قليل مما سمعت أني أدعى ديانا، ابنة البارون ماريدور، وأنا وريثته الوحيدة؛ فإن الله لم يرزقه ولدا غيري، وقد صحب فرنسوا الأول إلى مدريد، وأبلى في الحرب بلاء حسنا، فكافأه ذلك الملك العظيم خير مكافأة.
ولما عاد من إسبانيا تزوج، فلم يسلم له من بنيه سواي، فانصرف جميع جنوده إلي، وكنا نقيم في قصرنا في ميريدور، وهو قصر محاط بغابات كثيرة هي أملاك الدوق دانجو ...
وأنا أحكي لك الآن ما يتعلق بقصتي مع هذا الدوق ومع المسيو دي مونسورو فأقول:
كانت أول معرفتي بالمسيو دي مونسورو أنه كان في تلك الغابات غزلان ترعى فيها، وكانت شديدة الألفة لي، وفيها غزالة كانت لا تأكل إلا من يدي وتكاد لا تفارقني.
واتفق يوما أني بينما كنت آتية لأطعمها إذ سمعت نباح كلاب كثيرة، ثم رأيت تلك الغزلان تفر منذعرة، وقد تأخرت عنها تلك الغزالة وهي فارة معها.
فناديتها فلم تسمع.
وعدوت في إثرها وأنا أكاد أذوب حنانا عليها، فسبقني إليها صياد كان يطاردها على جواد أشهب.
وأطلق عليها عيارا ناريا فسقطت على الأرض قتيلة، وسقطت أنا مغشيا علي من هول ما رأيت.
ولم أفق إلا وأنا في منزلي محاطة بأبي والخدم.
أما هذا الصياد القاسي فكان المسيو دي مونسورو، وهو الذي حملني إلى منزلي، فعرفته وعرفني في ذلك اليوم، وكانت هذه المعرفة سبب بغضي له وسبب حبه لي.
وجعل يزورنا من حين إلى حين فينظر إلي نظرات ملؤها الحب، لكني لم أطق تلك النظرات.
ثم اتسعت علائق المودة بينه وبين أبي، ومرضت بعد ذلك، وكان يعودني في كل يوم ثلاث مرات.
ولما نقهت خطبني إلى أبي، فتوسلت إليه باكية ألا يجيبه إلى هذا الطلب، وكانت أول مرة رآني فيها أبي.
فطيب قلبي ووعدني بأن يصرفه عن هذا الطلب بما سيختلقه من الأعذار.
ومر على ذلك أيام وهو لم ينقطع عن زياراته، ولم أكن أجلس إليه إلا فيما ندر.
واتفق أن الدوق دانجو جاء يوما يتفقد غاباته، وأحيا له المسيو دي مونسورو ليلة راقصة، كنت مع أبي في عداد المدعوين إليها.
وهناك عرفت هذا الدوق الفاسد الأخلاق، وكان لا يحول نظره عني، وكنت أشعر كلما نظرت إليه أو افتكرت به بأنه سيصل إلي منه شر عظيم.
وفي اليوم الثاني خرجت إلى النزهة في الغابات، ولما عدت منها أخبرتني خادمتي أن المسيو دي مونسورو قد أتى في غيابي، وخلا بأبي طويلا، وداخل الرعب قلبي من هذه الخلوة، ودخلت إلى غرفتي وأنا أتوقع الإنذار بمصاب كما كان يدلني قلبي.
ولم يطل انتظاري حينا حتى فتح الباب ودخل أبي، وعلى وجهه علائم الكدر فقال لي: لا تحزني يا ابنتي فإننا سنفترق بضعة أيام لسبب خطير لا حاجة إلى أن تعرفيه ولا تسأليني عنه.
وانتصبت واقفة مرعوبة وقلت: كيف نفترق يا أبي؟ - نعم؛ لأن هذا الفراق لا بد منه، ولكنه فراق مؤقت، ولا تجزعي واستعدي للرحيل في هذا المساء إلى منزل عمتك في مدينة ليد. - ألا تسير معي أنت؟ - كلا، بل يجب أن أبقى نفيا للظنون؛ لأن لا أحد يعلم أين أنت ذاهبة. - إذا فمن الذي يسير معي؟ - لقد عهدت بخفارتك إلى رجلين هما موضع ثقتي، وستصحبك جرتريدة.
فبكيت وتوسلت.
ولم يجد بكاي نفعا ...
وعلمت أن الأمر خطير.
وإلا فإن أبي لم يكن يسمح بفراقي بعد ما رآه من خوفي، فكفكفت دموعي المنهملة ...
وجعلت أستعد للرحيل.
وفي الساعة الثامنة أقبل علي أبي، ووجدني مستعدة كما أمر، فخرج بي من المنزل إلى الحديقة، ففتح بابا سريا فيها يطل على الغابات.
وكان هناك مركبة تنتظرني، فصعدت إليها مع جرتريدة، ثم ودعت أبي فسارت المركبة في تلك الغابات يسير في جانبيها فارسان، وكانت ليلة باردة حالكة الأديم.
وما لبثت أن سارت بضعة أميال حتى غفوت، وما صحوت إلا وجرتريدة تهزني بيدها وعليها علائم الرعب.
فانتبهت مذعورة وقلت: ما حملك على إيقاظي؟ - انظري تعلمي.
ورفعت ستائر المركبة ونظرت بين تلك الغابات، وفي ذاك الظلام المخيف، ورأيت المركبة محاطة بستة فرسان مقنعين، وقد أوقفوها عن السير.
وامتلأ قلبي من الرعب، وتلجلج لساني عن الكلام، فلم أستطع الاستغاثة.
وفيما أنا على هذه الحال إذ دنا مني رئيس العصابة وقال: لا بأس عليك يا سيدتي، فلا نريد بك شرا، فاطمئني واتبعينا. - إلى أين؟ - إلى مكان بعيد، لا خوف عليك فيه، فأنت ستكونين كملكة.
ولم يكن هذا الكلام إلا ليزيدني خوفا على خوفي، فقلت: كيف تريد أن أطمئن؟ بل كيف يخطر في بالي أن أعصاكم وأنا ابنة ضعيفة وأنتم جماعة؟ فافعلوا بنا ما تشاءون.
وللحال صعد أحد رجال العصابة إلى مكان السائق، فسار بالمركبة بغير الطريق الذي كنا نسير فيه.
وسارت بقية الفرسان بحراستها.
وما زلنا نسير أربع ساعات متوالية، حتى انتهت المركبة إلى قصر شاهق، ونفخ أحد رجال العصابة في بوق، وللحال فتحت أبواب القصر ودخلت المركبة منه إلى ساحة فسيحة.
فأحدقت النظر أنا وجرتريدة في تلك الأرجاء عسى نعرف منها شيئا، ولكننا لم نوفق لمعرفة شيء.
ثم فتح باب المركبة، وسألني زعيم العصابة أن أنزل، فنزلت مع جرتريدة ومشينا وإياه إلى القصر الذي كان يقودنا إليه رجل يحمل مصباحا، حتى دخلنا إلى قاعة جميلة فأجلسنا فيها، وقال لي: أنت الآن في منزلك، وجميع من فيه تحت إمرتك، فإذا احتجت إلى شيء اقرعي الباب يهرعوا إلى تلبيتك في الحال.
ثم سار بنا إلى غرفتين متجاورتين وقال: هما لكما كي لا تفترقا.
وغادرنا وانصرف.
وأقمنا تلك الليلة إلى مطلع الفجر، ففتحت النافذة ورأيت مياه النهر تجري من تحتها، وقرية جميلة تبينت منازلها وعرفتها.
وعلمت عندها أني سجينة في قصر بومبه، أي قصر الدوق دانجو.
وعلمت للحال سر النظرات الهائلة التي كان يرمقني بها الدوق في الليلة الراقصة التي أحياها له مونسورو.
فأدركت موقفي الخطير، وعولت على الانتحار بأن ألقي بنفسي من النافذة إلى النهر.
وعندما طلع النهار أحضروا لنا الطعام، ولم أذق منه شيئا، وفي المساء أحضروا لنا الطعام أيضا، وشقت جرتريدة الرغيف ورأت فيه ورقة وأخذتها منها وقرأتها.
وإذا هي تحتوي على سطر واحد من غير توقيع، وهو:
لا تخشي شيئا؛ لأن لك صديقا يسهر عليك، وستعلمين غدا أخباره وأخبار أبيك.
وسررت بهذا النبأ وصبرت إلى اليوم الثاني، ولما أحضروا الطعام شققت الرغيف ووجدت هذه الرسالة وهي:
إن الرجل الذي خطفك سيحضر إلى القصر اليوم، في الساعة العاشرة ...
غير أن الرجل الذي يسعى في إنقاذك سيأتي قبله، ويكون في الساعة التاسعة، وهو يحمل رسالة من والدك توصيك بالثقة به؛ لأنه يعلم أنك لا تثقين به بغير هذه الرسالة.
احرقي رسالتي هذه وانتظري.
وكانت هذه الرسالة أيضا بغير توقيع.
وأقمت أنتظر وأنا لا أعرف أأطمئن أم أخاف.
وكنت أنهض من حين إلى حين إلى النافذة أطل منها آملة أن أرى ذاك الرجل الذي وعدني بالمجيء لإنقاذي.
وبينما أنا على ذلك إذ قرع الباب ودخل علي زعيم تلك العصابة الذي لم أقدر أن أعرفه؛ لأنه كان لا يزال مقنعا، وأعطاني رسالة ولم يرض أن يقول لي ممن هي.
ولم أجد بدا من أخذها، وأخذتها وقرأتها وهي لا تزال عندي، وسأطلعك عليها.
ثم قامت إلى خزانة وأخذت منها تلك الرسالة وأعطتها إلى الكونت دي باسي .
ولم يكد يقع نظره على عنوانها حتى اضطرب وقال: إنني أعرف هذا الخط، وهو خط الدوق دانجو. - نعم هو ذاك، واقرأ الآن ما كتب هذا الأمير.
ففضها باسي وقرأ ما يأتي:
إلى ديانا دي ماريدور الجميلة
إن أميرا تعيسا قيدته عوامل غرامك وتمكن حبك من فؤاده العليل سيأتي في الساعة العاشرة من هذا المساء ليعتذر إليك عن تصرف مستنكر، لم يدفعه إليه غير حب لا يقاوم وغرام لا يغلب.
التوقيع
فرنسوا
ولما فرغ باسي من تلاوة الرسالة عقبت ديانا وقالت: ولما تلوت هذه الرسالة هاج قلبي من الخوف، ولكني كنت أرجو النجاة بعض الرجاء من الرسالة التي كانت قد وردت إلي قبلها، وما كنت أخشى هذا الدوق؛ لأني كنت قد عولت على الانتحار، إذا لم يتيسر لي الخلاص.
وكانت تلك الليلة من ليالي الشتاء، حيث يكون النهار قصير الأمد، فما حانت الساعة الخامسة حتى أذنت الشمس بالمغيب، وأقبل الليل فكانت السماء مزدانة بالكواكب، مشرقة بالقمر التم.
ففتحت النافذة وجلست أنظر إلى مياه الغدير تنساب كالأفعوان، وتنكسر فوقها أشعة ذاك الكوكب المنير.
فيعبث بها النسيم فتتماوج، وقد اتشحت بلون ذهبي يحرك سواكب القلوب.
ونظرت إلى الأشجار على ضفة ذاك الغدير، وقد طبع خيالها فوق مياهه، وارتسمت هيئة السماء بكواكبها على تلك المياه، بحيث كنت أرى فلكين وروضتين وقمرين.
وذكراني بالموقف الذي أنا فيه.
ورق فؤادي لرقة ما رأيت، وجعلت أبكي بكاء مرا، ولكني ما ذكرت تلك الساعة إلا واستعذبت ذلك البكاء، وشعرت بحلاوة تلك الذكرى على مرارتها.
وطال جلوسي في تلك النافذة وأنا غارقة في لجج من التصورات، إلى أن كانت الساعة التاسعة.
فانتبهت من غفلة التصور إلى صوت حركة في المياه، فالتفت فإذا بسفينة تمخر في تلك المياه، وفيها ثلاثة رجال يجذفون.
فناديت جرتريدة وقلت لها: هذه هي السفينة المعدة لنجاتنا فيما أظن؛ لأني أراها قادمة إلينا. - ربما كان ذاك.
وجلسنا ننتظر وصولها إلى أن دنت من النافذة وألقت مرساها، وتبينت أولئك الرجال.
ورأيت بأشعة القمر وجه دي مونسورو، نحيلا مصفرا ، وهو يكاد يسقط من الاضطراب.
فصحت صيحة منكرة ورجعت منذعرة إلى الوراء ...
وكانت النافذة التي أنا فيها، لا تعلو عن سطح المياه أكثر من مترين، ورآني كما رأيته، ونظر إلى ما داخل قلبي من الرعب، فتجاهل وقال: أظنك بانتظاري يا سيدتي. - بل أنتظر سهدا يريد إنقاذي، وكنت أجهل من هو. - إذا لم أكن الذي يسعى لإنقاذك فمن يكون؟ - إني أسديك جميل الشكر يا سيدي، وأذكرك بما كتبته لي من أنك قادم من عند أبي. - نعم يا سيدتي، لقد قدرت بأنك لا تثقين بي؛ ولذا أتيت برسالة منه وهذه هي.
ثم أعطاني هذه الرسالة، ففضضتها وتلوت ما يأتي:
ابنتي العزيزة
إن الذي يعطيك رسالتي يا ابنتي العزيزة، هو المسيو دي مونسورو الذي أرسلته السماء لإنقاذك من الخطر المحدق بك، ثقي به كما تثقين بي، وسيخبرك بعد إنقاذك عن رغبتي الشديدة بوفائي لوعدي السابق له.
أبوك
البارون دي ماريدور
ولما انتهيت من قراءتها، قلت: إن أبي يقول إنك ستنقذني، ولكنه لم يقل لي إلى أين ستذهب بي. - سأذهب بك إلى قصر ماريدور حيث تجدين فيه أباك. - إذا سأرى أبي. - نعم، بعد ساعتين.
وسررت لهذا النبأ ... ولكني كنت أشعر بشيء من الخوف من هذا الرجل.
غير أني لم أجد بدا من الذهاب معه.
وقبلت بعد التردد الطويل، وبعد شديد توسله إلي وإقناعه إياي بالبراهين.
ثم نزلت إليه من النافذة، وأخذني بين يديه وضمني ضمة شديدة إلى صدره ...
وفيما أنا أنفر منه سقط الخمار عن رأسي إلى النهر، وصحت في طلبه، فقال: كلا، دعيه يعم على المياه؛ لأن الدوق لا يلبث أن يحضر ويراه، فيعلم أنك قد انتحرت غرقا فينقطع عن مطاردتنا.
لم أجب بحرف، ثم نزلت جرتريدة بعدي، وسارت بنا السفينة إلى الضفة الثانية.
ورأينا ثلاثة جياد معدة لركوبنا، فامتطيناها وسار معنا فارس أردف جرتريدة وراءه.
وسرنا، ولما وصلنا إلى منعطف في الطريق بصرت ولم أجد جرتريدة في أثري، فأوقفت جوادي وسألته عنها مستنكرة غيابها، فقال: اطمئني يا سيدتي، إني قد أمرت الفارس أن يسير بها في طريق آخر، كي يضيع أثرك عن الدوق، فهي تسير الآن في السبل المطروقة، ولا بد أن يبلغ الدوق أمرها ويحسبها إياك، ويتعقبها بدلا من أن يتعقبنا.
ووجدت جوابه مفحما، ولكني لم أزل موجسة خوفا، وامتنعت عن المسير فقال: إن لك معي أيضا كتابا آخر من والدك، وسأطلعك عليه عندما نصل إلى مكان فيه نور، ولا تلبثين أن تقفي عليه حتى تتبعيني راضية حيث أقودك.
وقبلت بهذا الشرط وسرت معه حتى وصلنا إلى فندق بعد مسير ثلاث ساعات.
وأول ما سألته إياه أن أطلع على الرسالة، فأعطاني إياها وقرأت ما يأتي:
أيتها الابنة العزيزة
لا بد أن تكوني قد امتثلت لإرادتي، وسرت مع الكونت دي مونسورو، الذي لا بد أيضا أن يكون قد أخبرك بأن قد وقعت لسوء الحظ موقع الاستحسان من الدوق دانجو ... فخطفك إلى قصر بوجي.
وانظري الآن إلى الموقف الحرج الذي نحن فيه، وإلى ما يتهددنا من العار الذي لا حياة لنا بعده، إذا قدر لك الوقوع فيه لا سمح الله.
ولذا لا نجد طريقة للبعد عن هذا العار، إلا بزواجك من الكونت دي مونسورو.
وأنت متى غدوت امرأته، يقف الدوق عند حده ولا يعود يجرأ على اختطافك.
وفوق ذاك فأنت تجدين بقربك زوجا يحبك، ويكون لك خير محام وخير نصير.
فاجتهدي أن تعقدي هذا الزواج في الحال.
وإني أسأل الله أن يبارك هذا الزفاف، ويجعله هنيا رضيا، وينقذك من كل عدو خائن.
أبوك
الذي لا يأمرك بل يتوسل إليك
البارون دي ماريدور
ولما انتهيت من تلاوة الرسالة، قال: ماذا ترتئين يا سيدتي؟ - وأنت ... على ماذا عزمت إذا قبلت بما يأمرني به أبي؟ - عزمت على أن أذهب بك إلى باريس؛ لأنها خير محل أقدر أن أخفيك فيه. - وأبي؟ - سيحضر إلينا أو نذهب إليه متى زال عنا كل خطر. - حسنا، أنا أقبل بذلك ... ولكن لي شروط ثلاثة أشترطها عليك، ولا أعمل بإرادة أبي إلا متى تمت.
أما هذه الشروط فهي:
أولا:
أن ترد إلي جرتريدة .
ثانيا:
أن لا تصحبني في ذهابي إلى باريس.
ثالثا:
أن لا يعقد بيننا زواج إلا بحضور أبي. - إني أقبل بجميع ذلك، وأشير عليك أن لا تسافري إلا في الظلام، وأن تقيمي في المنزل الذي أعددته لك في باريس وإن كان بسيطا معتزلا؛ لأن الغاية أن تكوني بعيدة عن رقباء الدوق. - لك أيضا ما تريد؛ لأن لا أحب إلي من العزلة في مثل هذه الأحوال.
ثم دعا بثلاثة من الفرسان، فأمرهم أن يوصلوني إلى باريس، ثم ودعني وانصرف.
وسرت في ظلام الليل مع أولئك الفرسان حتى وصلنا إلى هذا المنزل ورأيت فيه جرتريدة.
وسررت برؤياها سرورا عظيما.
وفي اليوم الثاني قرع الباب ونحن جلوس على المائدة، وأمرت جرتريدة أن تفتح الباب، ففتحته ودخل دي مونسورو، ووجف قلبي لمرآه وقلت: ما وراءك من الأخبار عن أبي؟ - لم أذهب إلى ماريدور، بل أنا قادم من قصر بوجي، حيث كنت فيه مع الدوق، وهو يعتقد أنك قد انتحرت غرقا حيث رأى خمارك على المياه.
وقد كان في ريب من ذلك ... ولم أزل به حتى أقنعته، وهو سيكافئني لإخلاصي في خدمته، ويعينني في وظيفة مدير الصيد.
فهلع قلبي لذكر الصيد وذكرت قتله للغزالة؛ حيث كانت أول معرفتي به وزاد كرهي له.
ولبث مقيما بضع دقائق يرشدني إلى وجوب التخفي وعدم الخروج من المنزل.
ثم دلني على كنيسة بجوار البيت، وقال لي: إذا كان لا بد لك من الصلاة يوم الأحد، فاذهبي إليها دون سواها.
وبعدها تحفز للقيام، فقلت: أتذهب؟ - نعم، متى تأذنين بالعودة؟ - أليس معك مفتاح المنزل؟ - كلا، لا يحق لغير زوجك أن يكون لديه مثل هذا المفتاح. - إذا ارجع متى شئت، أو متى كان لديك ما تقوله لي.
وانصرف وأنا متعجبة من حسن سلوكه؛ لأني لم أكن أتوقع منه مثل هذا السلوك.
وفي اليوم التالي كان يوم الأحد، وذهبت إلى الكنيسة وقد تقنعت بخمار ثمين يسترني عن العيون.
وبينما أنا راكعة أصلي، سقط الخمار عن وجهي، فلم أعبأ به لأني كنت في بيت الله ، فلم أفتكر بغير الله.
فنبهتني جرتريدة، والتفت ورأيت الدوق دانجو واقفا في باب الكنيسة مع رفيق له وهو ينظر إلي بغاية التحديق، وسقط فؤادي خوفا وتقنعت جيدا بالخمار.
ولما انتهينا من الصلاة قمت لأذهب، ووجدت الدوق واقفا أمام إناء الماء المقدس، وقدم لي الماء ... فتظاهرت بأني لم أره، وانصرفت مع جرتريدة.
ولكني ما خطوت بضع خطوات، حتى شعرت بأنه يتبعني مع رفيقه.
وكنت أجهل شوارع باريس، فما استطعت أن أخدعه بالمسير في طريق آخر.
وفي المساء جاء مونسورو وأخبرني بجميع ما جرى لي في الكنيسة، وقد أخبره الدوق.
وفي اليوم الثاني خرجت جرتريدة لقضاء بعض الشئون، فلقيها رفيق الدوق وسألها عني، فأخبرته بأني أرملة أحد الضباط.
ورشاها بالمال وصرح لها بأن الدوق دانجو قد رآني شبيهة لامرأة كان يهواها، وعرض عليها كل نفيس في سبيل مساعدته على إدخال الدوق إلى منزلي.
وكانت كل يوم تخرج فتلقى الرجل في انتظارها، وفي كل يوم يأتي مونسورو فأخبره بما كان.
حتى إنه أتاني في إحدى الليالي، فقال لي بأن الدوق قد عينه مديرا للصيد، وهو يطمع أن هذا المنصب يعجل بقبولي.
ثم قال لي: إن الدوق يهواني، وإنه رجل عنيد لا يحول عن مراده.
وبعدها ذكر لي أنه سيسافر.
قلت: فمن يرد عني كيد الدوق؟
فتنهد وقال: كيف تريدين أن أحميك من مثل هذا الرجل العظيم، وأنا لا حق لي بحمايتك!
وسكت، ثم ساد السكوت حينا علينا، إلى أن عاد هو إلى الكلام، فقال: والآن على ماذا عولت؟ - إني أؤثر أن أكون حليلة مونسورو على أن أكون خليلة الدوق، فاذهب الآن وسنرى يوم سفرك في هذا الأمر.
وانصرف مهموما مفكرا، كأنما لم يثق بوعدي، أو كأنما اليأس يجول في قلبه.
ولما انصرف قمت إلى النافذة المطلة على الطريق، فما جلست حينا حتى رأيت رجلين قد وقفا أمام الباب، ورأيت خمسة رجال واقفين أيضا في قنطرة.
وهلع قلبي وقلت: هذا هو الدوق ورفيقه لا محالة.
ثم سمعت أحد هذين الرجلين يقول لرفيقه: أأنت واثق من أن هذا الباب هو باب المنزل؟ - نعم يا مولاي، وستتأكد من ذلك متى فتحت الباب. - إذا افتح.
ووضع ذلك الرجل المفتاح في القفل وأداره به ففتح الباب.
كل ذلك وأنا ناظرة كمن ينظر إلى الموت بعينيه، وحاولت أن أصرخ وأستغيث.
ولكني قبل أن أفعل، رأيت أولئك الخمسة الذين كانوا مختبئين قد هجموا هجوما واحدا، وحالوا بين الباب وبين الرجلين وهم يصيحون: إلى الموت!
ولكن هذا الرجل كان الدوق بعينه، لم يلبث أن ذكر اسمه حتى وجمت تلك الأصوات وردت السيوف إلى أغمادها، ورجعوا جميعهم إلى الوراء معتذرين.
فتكلم الدوق معهم كلاما لم أسمعه، ثم غادرهم ومضى، فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه.
ولم يطل انتظارهم حتى أتيت أنت، وكان ما كان من هجومهم عليك ودخولك الباب الذي كان قد فتحه الدوق، بعد أن أثخنتهم جراحا ... فانصرفوا عنك وهم يحسبونك ميتا، وسقطت أنت مغمى عليك على السلم.
وبادرت إليك وحملتك مع جرتريدة إلى هذه الغرفة التي كنت مختبئا فيها تسمع حديثي مع المسيو دي مونسورو.
وأسرعت جرتريدة وأتت بطبيب، بعد أن عصبت عينيه كي لا يعرف المنزل.
ولكنها شعرت على الطريق بأنه يعد خطواته.
فأوجسنا خيفة وخشينا أن يصل إلينا الأذى من معرفته المنزل.
واضطررت مكرهة إلى إخراجك منه، وبعد أن عصب الطبيب جراحك واطمأننا عليك ... خرج الطبيب معصوب العينين تقوده جرتريدة ...
ولما عادت ساعدتني على حملك، فخرجنا بك من المنزل ووضعناك تحت المذبح على بساط من العشب، وعدنا وقد أخذني الخوف عليك كل مأخذ، ولما وصلت إلى المنزل سقطت مغمى علي.
فانحنى باسي على يدها يقبلها ويقول: إنني لو بذلت حياتي في خدمتك، لما كافأتك عما فعلته لأجلي.
فجذبت ديانا يدها من يده بلطف وعادت إلى حديثها قائلة: وفي اليوم الثاني، خرجت جرتريدة لقضاء حاجات المنزل حسب عادتها.
ولقيت رفيق الدوق بانتظارها، فقال لها: إن الدوق يريد أن يحدثني في شأن هام، وإنه لا بد من هذه المقابلة!
وتظاهرت جرتريدة أنها من حزبه وقبلت رشواه، ووعدته بهذه المقابلة بعد أربعة أيام، أي يوم سفر المسيو دي مونسورو، وهو اليوم المعين لجوابي له عن عقد الزواج ... فرضي بهذا الوعد.
ولما أتى المسيو دي مونسورو أطلعته على كل ما حدث، ولم أخف عنه سوى دخولك إلينا.
وفي مساء اليوم الرابع رأيت وأنا جالسة إلى النافذة، أربعة رجال قادمين إلى المنزل، فلم أشك أنهم الدوق وأتباعه، ثم فتح أحدهم الباب بمفتاح كان معه ودخلوا جميعهم.
فزال مني كل ريب، وأسرعت وأخذت خنجرا جعلته مشهرا في يدي لأقتل به نفسي متى تحقق لي سوء قصد الدوق.
ولكني لم ألبث على هذه الحالة المزعجة حينا، حتى دخلت جرتريدة وقالت: طيبي نفسا يا سيدتي؛ لأن القادم هو المسيو دي مونسورو.
ورد إلي بعض روعي وأرجعت الخنجر إلى مكانه، فبصر به وهو يدخل إلي فارتاع وقال: على ماذا كنت عازمة؟ - قد حسبتك الدوق فعزمت على الانتحار.
وجعل يضطرب وساد السكوت حينا، ثم افتتح الحديث فقال: أتنظرين إلى الذين صحبتهم معي؟ - نعم، إن الواحد كاهن وأظن الآخرين شهود. - هو ذاك أيتها الحبيبة، فهل تزالين على سابق وعدك؟ - نعم، ولكنك تذكر ما اتفقنا عليه من أنه لا يعقد بيننا زواج إلا بحضرة أبي. - نعم، أذكر ذلك ولا أنساه ... ولكن ألا تنظرين إلى خطورة الموقف؟ - إذا فسأقبل بعقد الزواج بيننا، ولكنني لا أكون امرأتك في الحقيقة قبل أن يحضر أبي.
فعض شفته من الغيظ، وقال: أنت حرة في إجراء ما تشائين.
ثم نظر من النافذة وأشار بيده وهو يقول: ولكن انظري من هذه النافذة!
فالتفت ورأيت رجلا ملتفا بردائه وهو يحاول الدخول إلى المنزل، ثم دنا منه رجل آخر بيده مصباح.
وارتعت لهذا المنظر وقلت: من ترى يكون هذان الرجلان؟ - ومن عسى أن يكونا غير الدوق ورفيقه.
فوجف قلبي وقلت: إذا عجل بعقد الزواج.
وارتاع الكونت دي باسي وانتصب واقفا على قدميه وهو يقول: لله ما أشد تعاستي! وما أنكد حظي! ... لأن الشخص الملتف بالرداء لم يكن إلا أنا ... والذي كان يحمل المصباح، لم يكن إلا الطبيب!
فانقبض صدر ديانا وقالت: لست أنت التعيس بل أنا التعيسة ... لأني حسبتك الدوق، ولولا ذلك لما كان حدث شيء بيننا. - إذا أنت امرأته الآن! - نعم، وا أسفاه منذ أمس.
ثم تنهدت وقالت: إني أخبرتك بجميع أمري ... فأخبرني الآن، كيف دخلت إلى هنا؟
فأراها الكونت المفتاح وقال: ألم تعد جرتريدة الدوق بإدخاله إلى منزلك؟ - نعم. - وقد رأى الدوق المسيو دي مونسورو داخلا إلى منزلك، فارتاب به وأعطاني هذا المفتاح لأكون كالرقيب عليه ... ولأدخل المنزل عند مسيس الحاجة.
فقالت له بصوت المؤنب: كيف يقبل من كان مثلك هذه المهمة؟ - قد قبلتها لأني لا أستطيع أن أراك بغير هذه الواسطة، فهل تمنعين عن تعيس مثلي هذه السعادة؟ - معاذ الله، بل أحب أن تعود إلي دائما فتراني وأراك؛ لأن البعد يدعو إلى السلوان. - أنت مخطئة يا سيدتي؛ لأن مثلي لا ينسى مثلك، وقد أرسلني الله لأكون لك خير نصير، وسأبدأ بنصرتك منذ اليوم، فهل تريدين أن تعلمي أخبار أبيك؟ - نعم؛ لأني لا أعلم شيئا منها. - سأتعهد بذلك، فاحفظي بقلبك الطاهر تذكار ذلك المخلص الأمين الذي لا يحيا إلا بك ولأجلك.
فقالت ديانا وقد ظهرت عليها ملامح القلق: ولكن هذا المفتاح الذي معك؟ - سأرده إليك ولا آخذه إلا من يدك، ولكن ثقي بأني مخلص لك، وأنه لو كان لك أخ لما كان يخدمك بمثل هذا الإخلاص. - إني أثق بك أشد الثقة، وهذا المفتاح أرده إليك ليكون دليلا على إخلاصي لك واعتمادي عليك.
ونهض الكونت وهو يقول: سنعلم بعد حين حقيقة حال مونسور ... وستقفين على مجمل أحوال أبيك.
ثم أخذ يدها وقبلها قبلة حارة وخرج، ووقفت ديانا على النافذة تشيعه بالنظر وعيناها مغرورقتان بالدموع.
الفصل الثالث عشر
شيكو - الدير - المؤامرة - تتويج الدوق دانجو
في اليوم التالي الذي مر بما ذكرناه من الحوادث، ذهب الملك بحاشيته العظيمة إلى الصيد يروح النفس من عناء السياسة، وأقام في الغياض والمستنزهات إلى المساء.
ثم عاد في مركبته الملوكية التي كان فيها ندماؤه وشيكو يطرفه بالأحاديث المضحكة، فيطرب لأحاديثه لاهيا بها عن كل أمر.
حتى إذا دنت المركبة من أبواب باريس يتقدمها الموكب الحافل، أطل شيكو منها اتفاقا ورأى جماعة من الناس يهربون من وجه الموكب ويدخلون إلى فندق هناك، كأنهم يخافون من أن يراهم أحد من رجال هذا الموكب الملكي.
فوثب شيكو مسرعا من المركبة من غير أن يستأذن الملك، واختبأ وراء بيت مرتفع كي لا يراه أحد.
فلبث هناك حتى توارت المركبة، فانطلق مسرعا إلى الفندق المذكور.
وكان شيكو معروفا لدى الجميع بشدة إدلاله على الملك.
فاستقبله صاحب الفندق بمنتهى الإكرام، وسار به حسب أمر شيكو إلى غرفة ملاصقة للقاعة الكبرى حيث كان يجتمع أولئك الرجال.
وأقام هناك ينصت إلى حديثهم، فسمع منهم أنهم كانوا يخشون أن يراهم رجال الملك.
ثم بعثوا بواحد منهم ليرى إذا كانت المركبة قد توارت ... فعاد وقال: لم يعد من خطر علينا، ولا مانع لنا عن الذهاب.
فساروا جميعهم ولم يتخلف منهم غير راهب يدعى الأخ غورنفلو كان يشبه شيكو شبها عظيما، ولا سيما في تقاطيع جسمه.
وكان يعرف شيكو معرفة تامة، وله معه صحبة.
وكان مدمنا للشراب مفرطا فيه، وهو سليم النية ساذج القلب على سعة معارفه ووفرة اطلاعه.
فلما رآه شيكو سر لرؤياه وأيقن أنه سيعلم منه سر أولئك الرجال الذين اختبئوا في الفندق هربا من الملك.
وقابله مقابلة حسنة، ودعاه إلى الطعام فأجاب الدعوة شاكرا وجلسا في قاعة منفردة.
وأشار شيكو إلى صاحب الفندق أن يكثر من قناني الشراب على المائدة، ففعل.
وما زال يسقيه وهو يتلطف في سرقة سره، حتى أخذ الشراب منه وباح له بأن كثيرين من أعيان المملكة سيجتمعون هذه الليلة في دير جنفياف، فيدخلون إليه بملابس الرهبان ويقولون عند دخولهم كلمة سرية لا يسوغ لمن لا يقولها الدخول.
فمال عليه شيكو بالشراب، فأخبره بتلك الكلمة.
فعلم عندها أن أعيان المملكة لم يجتمعوا في الدير بهذا الشكل السري، إلا لمؤامرة يعقدونها للإضرار بالملك الذي كان يحبه حبا عظيما.
فذاب شوقا إلى الاطلاع على هذه المؤامرة.
وكان غورنفلو قد أخبره أن الذين يدخلون إلى هذا الدير لعقد هذه الجمعية هم أعضاء معدودون.
فمتى التأمت يعدون الأعضاء، فإذا نقص العدد يبحثون عن الغائب ومعرفة اسمه بكتابة أسماء الحضور.
وإذا زاد العدد يبحثون عن الذي تجاسر على الدخول بغير إذن، ويقتلونه في الحال.
وقد ذكر له الموعد المعين للاجتماع وما يجب على الداخل أن يقول عند دخوله، وعند عدد الأعضاء ... وأعلمه بكل مصطلحات الجمعية المذكورة.
ففهم شيكو كل شيء، ولم يبق عليه غير أمر واحد، وهو منع غورنفلو من الذهاب والحصول على ملابسه ليرتدي بها ويذهب بدلا منه، ففكر شيكو فعلم أن الرشوة لا تفيد في هذا المقام.
ولبث كاتما قصده، وجعل يسقي ذلك الراهب المسكين وهو يتظاهر أنه يشرب معه ويكب الأقداح.
حتى اندلع لسان الراهب من السكر ثم تراخت عيناه وضاع صوابه، فسقط على الأرض كالميت من تأثير الشراب.
وللحال قام شيكو وقفل باب الغرفة، ثم جرد الراهب من ملابسه ولبسها فوق ثيابه ولفه بحصير وأرقده بزاوية من الغرفة، ودعا صاحب الفندق وأوصاه أن يحتفظ بالراهب، وأخبره بأنه سكران وأنه جرده من ثيابه ولبسها بغية إضحاك الملك.
ولم يسع صاحب الفندق مخالفته في شيء، لما كان لشيكو من الشهرة والنفوذ في البلاط.
ثم انطلق شيكو مسرعا ينظر إلى ملابسه ضاحكا، وهو غير مكترث بما يحيق به من الأخطار، حتى وصل إلى الدير، وكانت قد دنت ساعة الاجتماع.
فقال الكلمة السرية للبواب، ودخل إلى ردحة الدير فوجد فيها كثيرا من أعيان المملكة وكبار رجالها كلهم، وجميعهم بملابس الرهبان، فلم يختلط بهم حذرا من أن يعرفوه.
وبعد أن تكامل عدد الأعضاء قرع جرس الدير ثلاثا، إشارة إلى وجوب عقد الجلسة.
فأسرع الحضور إلى الجلوس في كراسيهم، وجلس الدوق دي كيز في كرسي الرئاسة، وعلى يمينه عرش عظيم لم يكن جالسا عليه أحد، وعلى يساره منبر للخطابة.
ولما انتظم عقدهم وبلغ عددهم حد التمام، قرع الرئيس بجرس أمامه وساد السكوت العميق على الحضور.
ثم أشار بيده إلى أحد الأعضاء، فقام إلى المنبر وانبرى يخطب في القوم خطبة حماسية يظهر فيها فساد الأحكام وشدة استبداد الملك، وأنه يجب خلعه إذ لا يصلح للملك.
فصفق له الجميع استحسانا، ولما نزل عن المنبر صعد إليه سواه، ثم تلاه آخر، إلى أن بلغ عدد الخطباء عشرة، وكلهم قد خاضوا في بحث واحد ...
وهو الحث على خلع طاعة الملك، ووجوب التعاضد على تعيين أخيه الدوق دانجو.
ولما فرغ الخطباء، دخل خادم وأسر إلى الرئيس كلاما أجابه عليه بإشارة الامتثال.
ثم وقف وقال: هو ذا الدوق دانجو قادم إلينا.
ولم يكد يتم كلامه حتى دخل الدوق مصفر الوجه، وعليه ملامح الاضطراب، ودخل معه المسيو دي مونسورو وهو أيضا بملابس الرهبان.
فأجال الدوق في الحضور نظرا مضطربا، ثم صعد إلى العرش فجلس فيه هنيهة ريثما سكن ثائر القوم وفرغوا من التهليل، ووقف المسيو دي مونسورو فقال: أيها الكاثوليكيون الأحرار، إن الدوق الجالس على هذا العرش يحب أن يتكلم فاسمعوه.
فصاح الجميع: ليحي الدوق، ليحي منقذ فرنسا ... ليعش مؤيد الكثلكة وحافظ الوطن، وليسقط الظلم ومؤيدوه.
وبعد أن فرغ القوم من هذا الهتاف، وقف الدوق وقال بصوت مضطرب: أيها القوم، إني لم أستطع أن أحيط بنظري الضعيف جميع أنحاء هذا المعمور المتسع ... فأوقفته على فرنسا وطني المحبوب الذي نشأت فيه، فرأيت أن الدين المقدس قد تقوضت معالمه وانهدت أركانه، وأصبح ألعوبة بأيدي الكفرة الظالمين، ومضغة في أفواه الهازئين، وأحبولة لقنص أغراض نصبها ذوو المآرب والغايات.
وهو ديننا القويم، الذي تفيض نفسي حزنا ... لبلوغه إلى هذا الانحطاط.
وحدث هياج بين الحضور؛ لأن كلام الدوق كان فيه إشارة ظاهرة إلى وجوب الانتصار للدين، ولو بإثارة الحرب على الذين قد اتهموا بالزيغ عن محجته.
وصبر الدوق هنيهة ثم عقب قائلا: ولقد وصل صوت تمرمر الشعب إلى أذني ... وهاجت عواطف الدين مكامني ... وسألني نبلاء فرنسا وأعيانها أن أسرع إلى الأخذ بناصر الكثلكة، وأضعها في مقامها الذي يجب أن تكون فيه، فدفعتني تلك العواطف إلى تلبية هذه الدعوة وإجابة أولئك النبلاء ... فمددت ذراعي إلى أولئك المستنصرين ...
وها أنا الآن بينكم ...
فهاج الحضور هياج سرور لهذا الخطاب الوجيز ... وكان بينهم ثلاثة من أسرة لورين، كان أقربهم إلى البرنس الكردينال دين لورين فخطا خطوة إليه وقال له: هل أتيت أيها البرنس إلى هذا المجتمع عن رضا؟ - نعم، وبملء الرضا. - ومن الذي أخبرك بهذا الاجتماع السري؟ - رجل هو من أشد الناس غيرة على غايتكم وتحقيق أمانكم، وهو الكونت دي مونسورو الواقف بجانبي. - إذا تفضل يا مولاي وقل لنا ما الذي ستصنعه من الخير لهذه الجمعية المقدسة التي أنت رئيسها الآن؟ - إني سأخدمها أجل خدمة ... وأرد للكثلكة مقامها الرفيع ... ولست أخدم الدين فقط، بل إني أريد أيضا خدمة موطني وبلادي ... لأن الشخص الشريف هو من يخدم دينه الذي نشأ عليه ... وموطنه الذي ربي فيه؛ لأن خدمة الأوطان من الإيمان، وهي خدمة مقدسة أيضا؛ ولذلك فإني سأبذل قصاراي وأفرغ مجهودي فأجعل هذه الأوطان الجميلة تذوق ما فقدته من حلاوة الأمن والهناء بذنب رؤسائها، وهي الغاية الجلى والقصد الوحيد الذي يدفعني إلى الانخراط في سلككم، وهذا الذي جاء بي إلى هذا المكان.
فصفق الجميع استحسانا لهذا الخطاب حتى ارتجت جوانب الدير وصاح جميعهم بصوت واحد: ليسقط هنري وليحي فرنسوا.
وبينما الشعب يصيح هذا الصياح دخل الكردينال إلى غرفة، ثم رجع وهو يحمل تاجا ملكيا، فدنا بذلك التاج من الدوق وقال له: إن رأسك جدير بأن يزدان بهذا التاج الملكي؛ لأن جميع المحيطين بك وهم من رؤساء فرنسا يخضعون لك أتم الخضوع، فالبس هذا التاج وسر بهم وبأوطانهم وبدينهم إلى حيث يشاء المجد، وأنا الآن ألبسك هذا التاج برضا أولئك النبلاء وبمصادقة الحبر الأعظم الذي أنا وكيله في هذه البلاد، فليكن مباركا عليك، ولتهنأ به أنت وبلادك.
وعندها وضع التاج على رأسه وصاح، فصاح معه الجميع: ليحي فرنسوا الثالث ملك فرنسا العظيم.
فنزل الدوق من العرش والتاج على رأسه وعليه عظمة الملوك، فجعل يتهادى بين الحضور فيعينهم بالمناصب العالية، ويمن عليهم بالرتب والألقاب، وبعد أن فرغ من هذا الطواف دعا الكردينال الحضور إلى الصلاة ، فصلوا جميعهم وختموا هذه الصلاة بالدعاء للملك الجديد.
ثم خرج الدوق فخرج الجميع في إثره ولم يبق منهم غير عشرة أنفار من الأعيان، وثلاثة من أسرة لورين، فاختبأ شيكو ليعلم ما يقصدون من بقائهم في الدير، فتبين له أن تلك الأسرة القادرة لم ترد بتتويج الدوق غير إلقائه إلى التهلكة، وإسقاط الملك هنري بإثارة الأحزاب عليه، والسعي لحصر الملك بتلك الأسرة التي كان يساعدها في الوصول إلى هذه الغاية البابا في رومية بسعي الكردينال دي لورين أحد أعضائها.
وقد كان بينهم محام شهير يعلم الأنساب، فكتب فصلا مطولا أظهر فيه نسب أسرة لورين، وأنها أقرب إلى عرش فرنسا من أسرة فالوا المالكة.
ففحص جميع الحضور هذا الفصل ونقحوه بما عن لهم من الآراء، ثم أعطوه الكردينال ليطلع عليه الحبر الأعظم.
وأطفئت المصابيح فارفض الجميع وذهب كل في سبيله يبنون من آمالهم قصورا مشيدة من الأوهام، وخرج شيكو وهو يعجب من هذا الاتفاق الغريب.
الفصل الرابع عشر
كيف أن سانت ليك وامرأته قد لقيا في طريقهما رفيقا
للسفر
في صباح اليوم الثاني من هذه الحادثة، بينما كان الأخ غورنفلو يفرك عينيه وينظر إلى نفسه ملفوفا بالحصير، وهو يعجب مما هو فيه ويحسب أنه في حلم.
كان فارسان يسيران جنبا إلى جنب في طريق غابة ماريدور التي عرفها القارئ فيما مر به من سياق الحديث.
وكان هذان الفارسان سانت ليك وامرأته في ملابس الغلمان، وهما ذاهبان إلى قصر البارون دي ماريدور والد ديانا، للإقامة فيه ريثما يصفح عنهما الملك.
وقد فضلا الذهاب إلى هذا القصر لشدة بعده عن باريس، ولما كان بين الأسرتين من علائق الوداد.
وفيما هما يسيران فرحين بما لقياه من الحرية، وقد دخلا في الغابة، إذ سمعا صوتا يناديهما عن بعد.
فالتفتا ورأيا فارسا ينهب الأرض بجواده.
فوجف قلب امرأة سانت ليك، وظنت أن هذا الفارس قد أتى يطاردهما من قبل الملك.
فحثت زوجها على الإسراع بالفرار، ولكزت بطن الجواد تريد الهرب، فأوقفها ذلك الفارس الذي كأنه علم بغيتها ، فجعل يصيح: بربكما قفا ولا تهربا مني، لقد أضعتما حاجة نفيسة، وقد أتيت بها لأردها إليكما.
فاختلج سانت ليك عند سماعه لهذا الصوت وقال لامرأته: أتعرفين هذا الفارس؟ - كلا، لأني لا أراه، ولكن يخال لي أني أعرفه؛ لأن صوته شبيه بصوت الكونت دي باسي. - هو بعينه لنقف ريثما يحضر.
فوقفا وبعد هنيهة أقبل هذا الفارس وهو يقول باسما: لقد أضعت رسم زوجتك، يا سيدي ... ألا يسرك أن أعيده إليك؟
فصاح سانت ليك صيحة فرح، عندما تبين وجه الفارس وعلم أنه باسي.
فترجل الفارسان وتصافحا ... ثم دنا الكونت من زوجة سانت ليك يسلم عليها.
فقالت له باسمة: ألعلك قادم أيها الكونت من قبل الملك للقبض علينا؟ - أنت لا تجهلين يا سيدتي شدة كره الملك لي، فهو لا يعهد إلي بمثل هذه المهمة. - إذا، كيف كان اجتماعك بنا؟ - لم يكن إلا اتفاقا؛ لأني نزلت في أول فندق في هذه الطريق، فرأيت على المائدة رسمك، فسألت صاحب الفندق عنه فأخبرني بأنكما كنتما في فندقه، وقد غادرتماه منذ حين، فأخذت الرسم وأسرعت في المسير حتى لقيتكما. - وما الذي حملك على السفر؟ ... ألعلك مغضوب عليك مثلنا؟ - كلا يا سيدتي، بل إني ذاهب إلى ماريدور لقضاء بعض المهام.
فظهرت ملامح السرور على محيا الفتاة، وقالت: إذا ستكون رفيقنا على الطريق. - ذلك ما أبتهج له أشد الابتهاج، فإلى أين أنتما ذاهبان؟ - إلى قرية ماريدور أيضا.
فارتعش باسي لهذا الاسم وقال: لقد فهمت الآن، فإنكما تريدان الاختباء بهذه القرية الجميلة من وجه الملك كما تختبئ الحمامة بين الغصون من وجه الصياد ... فأهنئكما بما ستنالانه من الراحة والصفاء.
وكنت أود لو أني ارتكبت مثل جرمكما لأعيش مثلكما في هذه الغياض سعيدا كما أنتما سعيدان. - إن السعادة قريبة منك إذا أردت؛ لأن من أحب أن يكون سعيدا فليتزوج.
إن السعادة معقودة بالحب. - ذلك لا ريب فيه، ولكن حبا كحبكما لا يكون بين جميع الأزواج. - صدقت لأن هذا الهناء غير مطرد، ولكن من كان مثلك فهو يقاس عليه؛ لأنك محبوب من الجميع .
فتنهد باسي وقال: إن من كان محبوبا من الجميع، فهو غير محبوب من أحد. - إذا دعني أزوجك؛ لأني سأظفر لك بفتاة يكون لك بها قرة لعينك وهناء لقلبك، فتذيقك من حلاوة العيش ونعيم الحياة ما لم تشعر به من قبل. - إني لا أنكر وجود النعيم يا سيدتي، ولكن هذا النعيم لم يخلق لي. - أنت مخطئ؛ لأني سأجد لك هذا النعيم ... فقل لي أتريد أن أزوجك؟ - نعم ولا. - قد فهمت الآن؛ لأنك لا بد أن تكون عاشقا لفتاة لا سبيل لك إلى الزواج بها. - هو ما تقولين يا سيدتي، وأنا أعترف لك بالحقيقة. - ولكن طب نفسا، فسأشفيك من هذا الداء. - ربما، ولكنني لا أظنك تقوين على إيجاد الدواء. - لا، بل سأجعلك سعيدا كما تستحق. - إني أؤثر أن أبقى على ما أنا فيه من الشقاء ... فما خلقت لأكون سعيدا! - إذا، سر بنا إلى حيث نحن ذاهبان ... فتجد أني صادقة فيما أقول. - وإلى أين أنتما ذاهبان؟ - إلى قصر البارون دي ماريدور.
فاضطرب باسي وعبق وجهه بالاحمرار، ثم تجاهل بمعرفته هذا البارون، وقال بعد أن ملك روعه: من عسى أن يكون هذا البارون؟ - هو شخص من أصدقائنا، وهو صاحب هذه القرية التي تسمى باسمه، وله فتاة تدعى ديانا، وهي من أجمل فتيات هذا الزمن.
فهيا بنا إلى هذا القصر ... فأنت واجد فيه ما ذكرته لك من النعيم.
فتنهد باسي تنهدا طويلا، أخفاه وهو يمتطي جواده.
وسار الثلاثة سيرا بطيئا إلى قصر ماريدور، وامرأة سانت ليك لا تفتر عن محادثته بشأن الزواج، وهي تذوب شوقا للوقوف على سر غرامه. •••
وما كان أشد عجب امرأة سانت ليك، عندما دخلوا إلى قصر البارون.
فلم يخرج لاستقبالهم غير ذلك الشيخ الجليل، وقد أحنت ظهره الأيام، وبيضت شعره السنون، وأنحلت محياه الكوارث.
فبرز إلى ضيوفه وهو يتوكأ على عصاه، مرتديا بثوب أسود، إشارة إلى الحداد.
فأنكرت حنة هذا الهزال وهذا السواد، وأجالت في الغرفة نظرا مضطربا تبحث عن ديانا.
فلم تجدها ...
ثم دنت من الشيخ وقد هالتها ملامح حزنه .
فقبلت يده وقالت: ألم تعرفني يا سيدي البارون؟ - اعذريني أيتها السيدة؛ لأن عيون الشيوخ لم تخلق للبكاء، وإني أكاد أفقد بصري لفرط ما بكيت. - نعم، فإني أرى أثر الدموع بين عينيك، فلا بدع إذا لم تعرفني، لا سيما وأنا بملابس الغلمان. - قولي إذا من أنت، لقد أخبرتك أني لا أرى. - أنا امرأة سانت ليك، وربما لا تعرفني بهذا الاسم أيضا، فأزيدك بأني أدعى حنة دي بريزاك.
فصاح البارون صيحة حزن وأسف، وفتح ذراعيه للفتاة فضمها إلى صدره وهو يبكي بكاء مرا.
ثم سألته حنة قائلة: ما لي لا أرى ديانا، هل هي غائبة عن المنزل؟
فنزل هذا السؤال على قلب هذا الشيخ الحزين نزول الصاعقة، وأجاب: أنت تسألينني عن ديانا؟ ...
ألا تعلمين ما أصابها؟
ثم خفت صوته، وارتجفت أعضاؤه.
ثم حبس لسانه عن الكلام، فسقط على كرسي واهي القوى وهو يشهق بالبكاء.
فاضطربت حنة وقالت: بالله يا سيدي ألا ما قلت لي ما أصابها؟ لقد أوجعت قلبي.
فرفع العجوز يديه إلى السماء وقد أفعم قلبه من اليأس، ثم قال وعيناه مغرورقتان بالدموع: ويلاه! إن ديانا أصبحت من سكان القبور.
فاصفر وجه حنة وصرخت تقول: ديانا ماتت!
وصاح زوجها نفس صياحها.
وتظاهر باسي بأنه معتقد بموتها أيضا، وهو يقول لنفسه: أنت ستحبني حبا شديدا أيها البارون.
أما البارون فإنه أجاب بلهجة حزن شديد: نعم، إنها ماتت وقد قتلوها، فادخلوا معي أيها الضيوف الأعزاء لأني أجد في قربكم بعض السلوى.
فمسكته حنة بذراعه، ودخلوا جميعهم إلى قاعة الاستقبال حيث ساد السكوت هنيهة؛ لأنه لم يكن بينهم من يجسر على افتتاح الحديث ...
إلى أن تكلم البارون مخاطبا حنة، فقال: أذكر أنك قلت لي أيتها العزيزة إنك متزوجة ... فهل هذا زوجك؟
وأشار إلى باسي.
فأجابت: كلا يا سيدي، بل هو المسيو دي سانت ليك، الجالس بجانبه.
فانحنى البارون له، ثم قال: إذا فمن هو الذي يصحبكما، ألعله أخوك أو نسيب لك؟ - لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل هو صديق لنا وهو الكونت دي باسي الشهير، صفي الدوق دانجو.
فانتصب البارون واقفا على قدميه عندما سمع اسم الدوق، واتقدت عيناه بشرر الغيظ.
ثم نظر إلى باسي نظرة هائلة ...
فارتعشت حنة وقالت مخاطبة باسي: ألعله يعرفك يا سيدي الكونت؟ - كلا ... يا سيدتي، فإن هذه هي المرة الأولى التي تشرفت فيها برؤيته.
أما البارون فإنه لم ينتبه لكلامها، بل رمق الكونت بنظرة ملؤها الغضب والوعيد، وقال: أنت صفي هذا الوحش الكاسر، وصديق هذا الشيطان الرجيم، ثم تجسر على القدوم إلي والوقوف بوجهي؟
فنظر سانت ليك إلى امرأته، وقال: ماذا أرى؟ ... أهو مصاب في عقله؟ ... لأن كل ما نراه منه يدل على الجنون ... - لا أخال ذلك ... بل أظنه كارها للدوق؛ لأنه لم يغضب إلا عند ذكره.
فنظر البارون إلى حنة، وأخذ يدها بين يديه فقال: أنت تنظرين إلي نظر الرعب، وقد هالك ما سمعته فلا تستغربي غضبي لذكر الدوق؛ لأنه هو قاتل ابنتي ومفجعي بمن أحب.
فأدمعت عين الفتاة وقالت: إن المصاب عظيم لا سبيل معه إلى العزاء، ولكن الكونت دي باسي هو أعظم نبيل في فرنسا، فلا يمكن أن يكون مطلعا على هذا الجرم الفظيع، بل يجهل مثلنا حقيقة أسراره، ألا تراه يبكي معنا؟
فالتفت الشيخ إليه وقال: أصحيح ما تقول؟
فانحنى الكونت من غير أن يجيب.
فقال الشيخ: لا عجب إذا كان جميع الناس يجهلون موت ابنتي حتى أصحابها؛ لأني لم أكتب كلمة، ولم أنبس ببنت شفة، بل حملت هذا السهم بقلبي، كما يحمل الطائر سهم الصياد تحت جناحه، ويذهب به ريثما يستقر ويموت ...
فقالت الفتاة باكية: بالله تكلم أيها الشيخ النبيل؛ لأن الكلام يعزيك.
فتنهد البارون وقال: إن هذا الخائن الذي هو وصمة عار تصم النبالة والشرف، قد رأى ديانا فراقت بعينيه فاختطفها إلى قصره في بوجي ... أما ديانا فإنها فضلت الموت على العار، فألقت نفسها في المياه حيث ماتت غريقة ... شهيدة الطهارة والنبل.
فاضطرب الجميع لهذا الخبر، وقالت حنة: إن ذاك الإثم قد بلغ منتهى الفظاعة، ومن كان في مقامك من النبل أيها الكونت، فهو لا يقيم ساعة مع هذا البرنس الأثيم.
أما باسي فإنه لم يجب بحرف، بل إنه تقدم من البارون دي ماريدور وقال بسكينة وهدوء: أيسمح لي مولاي البارون بخلوة خاصة؟
فامتثل الشيخ ونهض، فسار بالكونت إلى إحدى الغرف تاركا سانت ليك وامرأته في حيرة من هذا الاختلاء، وهما لا يعلمان المراد منه.
ولما خلا الكونت بالبارون قال له: أنت قد أهنت يا سيدي رئيسي الدوق أمامي، فوجب علي أن أسألك الإيضاح، ولا تحسب أني أريد الانتقاد فيما أقول، بل إن كل قصدي أن أدفعك إلى حكاية أمرك تلطيفا للأحزان وتوصلا إلى الخدمة، فتفضل يا سيدي، واشرح لي عما أشرت إليه من أمر هذه القصة المحزنة. - اسمع لأن حديثي لا يطول وإليك البيان.
ذلك أني أعرف رجلا نبيلا يدعى المسيو دي مونسورو أحب ابنتي حبا شديدا، وخطبها إلي فلم تقبل به ابنتي زوجا، ومع ذاك لقد بقي الوداد بيننا على ما كان، ولم يقطع هذا الرفض العلائق بيننا، بل زاد إخلاصا فوق إخلاصه.
وكان هو من أنبأني بخيانة الدوق، وهو الذي أرشدني إلى طريق خلاصها وقدم نفسه لهذه الخدمة بشرط أن أزوجه إياها؛ لأنه سيركب أشد الأخطار بمقاومته للدوق، ولا حق له بحمايتها إذ لم يكن زوجها، وأنه لا يقتحم مثل هذه الأهوال إلا صيانة للشرف وغيرة على العرض، فرأيت كلامه حقا، وبرهانه سديدا، وغايته نبيلة، فصادقت على ذلك وانطلق لخلاصها، ولكنه وا أسفاه لم يصل إلا بعد انتحارها ... - ألم يكتب لك شيئا منذ ذلك الحين؟ - كلا، وما أظنه إلا ليأسه من حبوط مسعاه.
فأحنى باسي رأسه وقد علم أن مونسورو يود أن يكتم خبر حياة ديانا حتى عن أبيها خوفا من الدوق.
فنظر إليه البارون وقال: هذه هي الحكاية وقد قصصتها عليك، فما تقول؟ - لا أقول شيئا الآن، سوى أني مكلف من قبل الدوق أن أذهب بك إلى باريس؛ لأن سموه يرغب بأن يراك.
فارتعش البارون وقال: أنا أذهب إلى قاتل ابنتي؟ ... وما عسى أن يريد مني هذا الكاسر ؟ - لا أعلم، وربما كان يريد الاعتذار. - كلا، لأن هذا الذنب لا يقبل الغفران، وأنا لا أذهب إلى باريس. - أرجو أيها البارون أن تسمح لي بالإلحاح عليك؛ لأني ما أتيت إلا للذهاب بك.
فاحتدم البارون غيظا، وقال: إذا، سأسير وإياك والويل لقاتل ابنتي؛ لأن الملك إذا لم يصغ إلي، فسيصغي إلي نبلاء فرنسا؛ لأنها لا تخلو من الأشراف.
ثم وضع يده على قبضة حسامه وقال: نعم، سأذهب معك ... لقد أنساني الحزن أن لي حساما طالما كان حيلتي في المعارك. - وإني أوصيك بالسكينة والصبر أيها النبيل، فأنت ستجد في باريس من ينتصر للشرف والمروءة.
فليهدأ بالك وتهيأ للسفر في الغد ...
ثم خرجا من الغرفة وذهبا إلى سانت ليك وامرأته حيث أقاموا سوية بقية ذاك النهار.
الفصل الخامس عشر
الأب والابنة
وفي اليوم الثاني ذهب البارون مع باسي في طريق باريس، بعد أن استأذنا من سانت ليك وامرأته اللذين بقيا في منزل البارون بعد إلحاحه عليهما بالبقاء.
وسار الفارسان يقطعان تلك المسافة الشاسعة وباسي يسكن من جأش ذلك الكهل العجوز ويطيب خاطره، وينفذ إلى قلبه أشعة من الآمال كانت تعين ذاك المسكين وتسليه بعض السلوى، حتى وصلا إلى باريس، فذهب به الكونت توا إلى قصره، وامتنع البارون عن الدخول؛ لأنه حسبه قصر الدوق، فأعلمه أنه في منزله، فدخل وأعد له فيه أحسن الغرف.
ثم غادره وحده ريثما يستريح من عناء السفر، وذهب فخلا بالطبيب الذي كان قد جعله قبل أن يسافر رقيبا على منزل ديانا، وأخبره الطبيب بأنه قد اكترى غرفة تجاه ذاك المنزل وأقام فيها يراقب كل شيء في مدة تغيبه ...
سأله: ماذا رأيت؟ هل عاد المسيو دي مونسورو؟ - نعم، لكنه خرج كما دخل، أي لم يستفد شيئا. - كيف عرفت ذلك؟
واحمر وجه الطبيب وتلعثم حينا.
ثم اندفع يقول: عرفت هذا من جرتريدة يا مولاي، فهي تحبني بغيرة وإخلاص، كما أن مولاتها تحبك ولا صبر لها عنك ...
واختلج فؤاد باسي وقال: أهذا ما علمته أيضا من جرتريدة؟ - نعم يا مولاي، وقد علمته منها أيضا بالنظر؛ لأني قد دخلت إلى منزلها ورأتني فيه، وأخبرتها بأني ذاك الطبيب الذي جئت إلى منزلها معصوب العينين لمداواتك.
وكانت أشعة الفرح تسطع عند ذكرك بين عينيها، وكانت كلما رأتني تجعل حديثها معي عنك.
ولا تنقطع عن ذكرك، وعلائم الحب لا تخفى على أحد، ولا سيما على العشاق.
فامتلأ فؤاد باسي سرورا مما سمع وسأله: كم مرة جاء دي مونسورو إلى المنزل؟ - مرة واحدة فقط. - والدوق؟ - لم يحضر على الإطلاق، ولم يدخل المنزل أحد في غيابك غير مونسورو.
وتركه باسي وقد لقي بكلامه سرورين؛ أحدهما: أن ديانا لا تزال تحتقر زوجها وتبغضه، والثاني: تيقنه من أنه محبوب من تلك الفتاة التي هي أول من عرف بها الهوى، وهي أول من بعث أشعة الحب إلى قلبه الذي لم يعرف الغرام قبل أن يتوله بها.
ثم ذهب إلى البارون وهو مشفق عليه أشد الإشفاق؛ لأنه كان لا يزال معتقدا بموت بنته.
وسار به إلى الشارع المقيمة فيه ديانا.
ولما وصلا إلى المنزل، ترجل باسي عن جواده ولبث البارون ممتطيا جواده، وهو يحسب أن هذا المنزل هو للدوق.
لكنه ما لبث أن أحاط بصره بذاك البيت الصغير حتى احتدم غيظا، واتقدت عيناه بشرر الغضب فنظر إلى باسي وقال: عفوا أيها الصديق، فإني لم أتعود العيش في باريس، وما أنا بواقف على شيء من أسرارها، لكن الذي أراه أن مثل هذا المنزل الحقير غير جدير بسكنى رجل عظيم كالدوق، ولا أظنه إلا منزل خليلة له أو حظية من حظاياه، فإذا كان ذلك فليعلم هذا البرنس السافل ولتعلم أنت أيضا أن البارون دي ماريدور هو أرفع من أن يقابله الدوق في منازل حظاياه، وفوق ذلك فإني أعجب منك بعد ما رأيته من نبلك كيف تقودني إلى مثل هذا المكان، ألعلك تريد أن تظهر لي أن ابنتي كانت تعيش في مثل هذه البيوت، لو لم تؤثر الموت على العار وتنتحر فرارا من هذا العيش الدني؟
فابتسم باسي ابتساما صادقا اطمأن له الشيخ، ثم قال له: لا تخش أيها البارون النبيل أمرا، فإنك مخطئ في جميع ما تراءى لك من التصورات، وإن هذه الفتاة التي سندخل إليها من أكمل النساء، وأطهر الفتيات. - ومن عسى أن تكون هذه الفتاة؟ - هي امرأة نبيل من أصحابك قد أحبها الدوق. - كيف تقول إنها امرأة نبيل من أصحابي، ثم تقول إن الدوق قد أحبها؟ - ذلك لأني تعودت أن لا أنطق إلا بالحق في كل ما أقول، فادخل معي وسيتبين لك صدق مقالي. - إذا احذر، فإني عندما كنت أبكي ابنتي كنت تمسح دموعي وتقول لي تعز فإن مراحم الله كثيرة، فكأنك تعدني بأن أرى أعجوبة من السماء بما تمهده لي من العزاء.
فقال له باسي وهو يبسم دائما: ادخل يا سيدي وسترى!
وترجل البارون ودخل مع باسي.
حتى إذا وصلا إلى صحن الدار برزت لهما جرتريدة، فانذهلت انذهالا شديدا لرؤيتهما، ووقفت واجمة لا تعلم ماذا تقول.
وأخرجها باسي من هذا الموقف وقال لها: اذهبي إلى مدام دي مونسورو، وقولي لها بأن الكونت دي باسي يريد أن يكلمها في الحال.
ثم عقب فقال لها بصوت منخفض: إياك أن تذكري لها شيئا عن البارون.
أما البارون فإنه اختلج فؤاده عندما سمع باسي يلفظ اسم مدام دي مونسورو.
فكرر هذا اللفظ بعجب شديد وهو يقول: ماذا أسمع؟
فأخذه باسي بيده ودخل به إلى قاعة الاجتماع، وفيما هما يدخلان إذ سمع البارون صوت ديانا تقول لجرتريدة: قولي للكونت دي باسي أن يدخل، فإني آتية إليه في الحال.
فارتجف البارون عند سماعه هذا الصوت وقال: إلهي! ماذا أسمع؟!
ثم فتح الباب ودخلت ديانا باسمة وهي لا تتوقع أن ترى أباها، فلما رأته ورآها صاح الاثنان صيحة منكرة، وأكبت ديانا على عنق أبيها ودموع الفرح منهملة من عينيها، فسقط البارون على مقعد واهي القوى، وقد كاد يقتله الفرح.
وصرخت ديانا تقول: ويلاه! ... ماذا أصاب أبي؟ وما هذا الاصفرار الذي أراه في وجهه؟ ... إلي أيها الكونت، فإني أراه مغمى عليه. - لا بأس أيتها السيدة، فهو سيفيق من إغمائه الذي لم يكن إلا لفرط سروره؛ فإنه كان يحسبك ميتة. - ويل للظالمين، ألم يكن بينهم من يشفق على قلب والد عجوز!
ثم أفاق البارون من إغمائه، فضم ابنته إلى صدره، وقد غسل وجهها بدموع الفرح.
وبعد ذلك نظر إلى باسي وقال: لقد أخبرتني أننا في منزل مدام دي مونسورو، فأين هي تلك السيدة؟
فتنهدت ديانا وقالت: وا أسفاه! أنا هي تلك الشقية يا أبي، وإن دي مونسورو هو صهرك. - عجبا! ... كيف يكون هذا الرجل صهري وأنا لا أعلم بهذا الزواج؟ - ذاك لأني لم أكن قادرة على أن أكتب إليك حذرا من أن تقع رسائلي بيد الدوق، وفوق هذا فقد كنت أحسب أنك عالم بكل شيء. - إذا كان هذا، فما الذي منع زوجك عن إخباري؟ وما علة هذا الكتمان؟ - إنه لم يكتم عنك هذا الزواج فقط، بل كتم عنك أيضا كوني حية ... - أيصبح مونسورو صهري وأنا لا أعلم؟ إن هذا عجيب.
فقالت له ديانا بصوت المؤنب: ألست أنت الذي أمرتني بزواجه يا أبي؟ - نعم، بشرط أن ينقذك مما كنت فيه.
فسقطت ديانا على كرسي، وهي تكاد أن يغمى عليها من الأسف وقالت: نعم، فلقد أنقذني من العار، لكنه لم ينقذني من الشقاء. - إذا فما الذي دفعه إلى أن يجعلني أعتقد بموتك وأبكيك البكاء المر وأنت حية؟
فتأوهت وقالت: هذا ما لا أعلمه، ولكن يخال لي بأنه لم يفعل ذلك إلا تجنبا لمكيدة يكيدها لي الدوق، وسيبقى الكونت معنا فيحمينا من شر هذا الدوق، أليس كذلك يا كونت؟
فاحمر وجه باسي وقال: لا يحق لي يا سيدتي أن أتداخل في شئونكم العائلية، وقد فعلت ما يجب علي فعله، فجئتك بأبيك الذي سيكون لك خير نصير، فلم يبق علي غير الاستئذان بالانصراف.
فقال البارون: إن دي مونسورو لم يفعل ما فعل إلا خوفا من غضب الدوق، ولا أرى الكونت إلا مصيبا في خوفه مثل هذا الخوف أيضا.
فرشقت ديانا الكونت دي باسي بنظرة ملؤها الحنان والاستعطاف، كأنها تقول له: أنت ... أيها البطل الشهير ، يخلق بك أن تخاف الدوق كما خافه مونسورو!
ففهم الكونت معنى هذه اللحظة الناطقة، فتبسم ثم نظر إلى البارون فقال: أرجو مولاي البارون أن يسأل ابنته إذا كانت راضية عن هذا الزواج الذي صادقت عليه؟
فتأوهت ديانا تأوها طويلا دل على شدة شقائها، وكان خير جواب.
فقال باسي: والآن يا سيدي البارون، ألست أنت الذي أمرت ابنتك أن تقترن بالبارون؟ - نعم، بشرط أن ينقذها، وإذ قد أنقذها ووفى بوعده كشريف؛ فقد وجب علي أيضا أن أفي بعهودي وأسلك مسلك الأشراف، فهي إذا له وهو لها، ولا سبيل إلى الإخلاف.
فتنهدت ديانا وقالت: أواه! يا ليتني مت قبل هذا!
أما باسي فإنه نظر إلى ديانا نظرة حزن وجزع وقال: أرأيت يا سيدتي، إني كنت مصيبا حين قلت بأنه لم يبق علي غير أن أستأذن بالانصراف؛ لأن أباك يحب الوفاء بما وعد.
ودنت ديانا من باسي وقالت: لا تطعن قلبي أيها الكونت الطعنة الأخيرة، فإن أبي لا يعلم بعد أني أخاف هذا الرجل وأكره هذا الزوج، وأنظر إليه كما ينظر المحكوم عليه بالقتل إلى الجلاد ...
فقال البارون: ولكنه أنقذك يا ديانا مما هو أشد من الموت، وعرض نفسه لأشد الأخطار كي ينقذ شرفك من العار، فما هذا الكره الشديد؟ وما علة هذه الشكوى؟
فقال باسي: نعم، إنه أنقذها أيها البارون من يد رجل أثيم، لكنه لم ينقذها صيانة للشرف، بل هو قد سلك في ذلك سبيل المآرب الذاتية، ولا أحد يعلم ما هي غايته؛ لأن كل أعماله خفية مغلقة، ولا يبعد أن يكون وراء هذا الحجاب سر هائل ستكشفه لنا الأيام، غير أني أقول بأني لو كنت في مكان مونسورو وأنقذت ابنتك كما أنقذها، لما طلبت تعويضا عن هذه الخدمة التي يقبح فيها كل عوض. - ولكن فاتك أيها الكونت أنه يحبها، وذنوب الحب قريبة منال الغفران.
فبدرت كلمة من باسي وقال: وأنا ألا ...
ثم ألجمه الحياء عن أن يتم عبارته، فوجم عن الكلام.
ولكن ديانا فهمت كل ما كان يريد أن يقول ، فدنت منه وقد صبغ الحب وجنتيها بحمرة الخجل، ثم قالت: إنك وقفت على دخائل قلبي، وطلبت إلي أن أقبل مساعدتك كأخ وصديق، وتذكر أني قد قبلت منك هذا الإخلاص، والآن أسألك أيها الصديق، وأيها الأخ، هل تستطيع أن تساعدني في شيء؟
فقال البارون: ولكن الدوق دانجو، كيف لنا بمقاومة هذه الصاعقة التي أرسلها الله على الأرض لعقاب البشر؟
فقال باسي: طب نفسا أيها البارون، فلست من الذين يرهبون غضب الأمراء، ومع ذلك فليس الدوق الذي يجب أن نحذر منه، بل ينبغي الحذر من مونسورو، فإني سأدع هذا الدوق يرجع عن غروره ويكون لك عونا على صهرك.
فلم يحفل البارون بهذا الكلام، وتجسم في قلبه الخوف من الدوق، فقال: لكن إذا علم الدوق بأن ديانا في قيد الحياة ...
فاستاء باسي مما سمع وقال: إن مغزى كلامك يدل على الريبة، وربما خطر لك أن مونسورو هو أقدم مني في صحبة الأمراء، وأنه أرفع مني مقاما وأسمى منزلة في عيونهم، فإذا كان ذلك فلندع الكلام في هذا الشأن، وارفض كل ما عرضته عليك من الخدمة ... ولا تأبه بمساعدة الدوق التي عرضتها عليك، وألق معظم اتكالك على ذاك الرجل الذي جعلته موضع ثقتك ...
أما أنا فقد انتهيت من عملي، وقد قمت بما تفرضه علي واجبات النبل من الخدمة، فلم يبق علي سوى أن أودعكم، وأدعو لكم بالهناء الدائم.
ثم قفل يريد الانصراف ... فتمسكت ديانا به وجثت أمامه على ركبتيها وهي تقول: بالله لا تذهب ولا تدعنا وحدنا، فإني أتوسل إليك أن تبقى بقربنا وأن تساعدني على ما أنا فيه.
فضم باسي يد ديانا بين يديه وهو يرتعش من تأثير الغرام ... وقد سقط غضبه عند توسلها كما تسقط الثلوج المتراكمة لابتسام الشمس ... ثم أوقفها ونظر إليها نظرة ملؤها الحب والحنان وقال: إذا كان ذلك فإني أقبل هذه الخدمة التي اعتبرها خدمة شريفة مقدسة، وثقي بأني سأخدمك خير خدمة، وسأجتمع بالدوق وأنقذك مما أنت فيه قبل مرور ثلاثة أيام، وإلا فلست الكونت دي باسي.
ثم اقترب منها أيضا، وقال لها همسا: نحن الآن خصمان لدودان للمسيو دي مونسورو، فاذكري أنني أنا الذي أتيت إليك بأبيك، وكوني لي كما أنا لك.
فشددت ديانا على يده، وقالت: إني لا أنسى حنوك إلى الأبد.
فودعها الكونت وانصرف.
الفصل السادس عشر
كيف علم الدوق دانجو أن ديانا دي ماريدور في قيد
الحياة
بينما كان الكونت دي باسي في منزل ديانا يجمعها بأبيها، ويعدها بأن يجد لها مخرجا مما هي فيه، كان الملك وبطانته في قرية شارتر يصلي إلى الله في كنيستها ويتوب عن خطاياه، وهي عادة له كان يجريها في كل عام في يوم مخصص.
فيقتدي به جميع أعوانه والمقربين إليه.
وكان في جملة أولئك التائبين المصلين الدوق دانجو.
ففيما هم وقوف في ساحة الكنيسة، والدوق مشتت البال ساهي الطرف، إذ شعر برجل قد التصق به.
فالتفت وصاح منذهلا يقول: أهذا أنت يا باسي؟ وما جاء بك؟ - نعم يا مولاي، وقد أتيت من باريس على جناح السرعة، لأكلمك في بعض المهام. - لماذا لم تأت من قبل فتشترك معنا بهذا التذكار السنوي؟ - ذلك لأني كنت بعيدا عن باريس منذ ثلاثة أسابيع، ولم أعد إليها إلا اليوم. - وما عسى أن يكون حدث أثناء غيابك من المهام؟ - إني لأجل هذا أتيتك، فعين لي موعدا أجيئك فيه. - سنلتقي بعد الفراغ من الصلاة، فإنها على وشك الانتهاء، ومتى خرجنا من الكنيسة نذهب في الحال إلى المنزل فنتحدث بما نشاء.
فوقف الكونت مع الواقفين.
وبعد حين انتهت الصلاة.
فخرج الجميع يتقدمهم الملك وعلى وجهه آثار الخشوع، وفي جملتهم الدوق.
فدنا من الملك واستأذن منه بالذهاب، فأذن له ...
فسار على الفور مع الكونت دي باسي حتى بلغا إلى المنزل، فاختليا فيه ودار بينهما الحديث الآتي ...
فقال الدوق: اجلس أيها الصديق وحدثني بما جرى لك، فإني حسبتك في عداد الأموات، وقد سر جميع أعدائك لبعدك، ولكن لندع الآن هذه الأحاديث وقل لي ما علمته من شأن تلك الفتاة التي كنت تسير في إثرها، فقد عرفت شيئا من أمرك .
وقال باسي وهو يحتدم غيظا: مولاي يجب أن تحصد ما زرعت، أي العار والخجل.
فاصفر وجه الدوق وقال: ماذا تقول؟ - لقد سمع مولاي ما قلته، فلا حاجة إلى الإعادة. - أوضح ما تقول أيها الكونت ودع الهزل، فليس الهزل من شأنك.
وقال باسي: لست بهازل يا مولاي؛ لأن ما سمعته هو الذي أريد أن أقوله، فاذكر أمر تلك الفتاة تعلم صحة ما أقول. - ولكن من هي تلك الفتاة؟ - هي بعينها. - هل رأيتها؟ - نعم. - وهل كلمتها؟ - نعم، ولا بدع إذا كان يظن مولاي بأنها ميتة؛ لأن كل ما فعل كان يؤيد هذا الظن.
فاصفر وجه الدوق ووقف باهتا يضطرب مغتاظا مما سمع، ولم يبال باسي بما رأى عليه من سمات الغضب، بل عقب وقال: إنك يا مولاي، وإن كنت قد ألقيت بتلك الفتاة الطاهرة النبيلة إلى مهاوي الفجور، غير أنها قد نجت من تلك الوهدة الشائنة، ولكنك لم تبرأ بعد من وصمة جرمك الهائل؛ لأن تلك الفتاة التي نجت من مخالب الموت والعار قد وقعت بما هو أشد من الموت ومن العار.
فقال الدوق وهو يضطرب كريشة بمهب الريح: قل ما أصابها؟ - إن الذي أصابها يا مولاي هو أن رجلا أنقذ شرفها من العار وحياتها من الموت ... ولكنه كافأ نفسه عن هذه الخدمة بما ودت لو لم يكن قدم لها؛ فإن تلك الفتاة التي كانت تدعى الآنسة دي ماريدور قد اضطرت بالرغم منها أن تدعى مدام دي مونسورو؛ حذرا من أن تدعى خليلة الدوق دانجو.
فاصفر وجه الدوق اصفرارا شديدا من الغيظ وقال: أصحيح ما تقول يا كونت؟ - هي الحقيقة بعينها؛ لأن مثلي لا يعرف الكذب أيها الدوق. - إني ما أردت بسؤالي أن أظهر عدم الثقة بكلامك، لكني أوردته على سبيل الإنكار لما أتاه مونسورو؛ لأنه لم يدر في خلدي أن رجلا من أتباعي يجسر على خيانتي ومزاحمتي فيمن أحب. - ولماذا تستنكر ذلك؟ - لأنه منكر بالطبع ... ألعلك كنت تفعل فعله ... لو كنت في مكانه؟ - بل كنت أصنع أحسن من ذلك، أي كنت أحذر سيدي الدوق وأقول له إن شرفه معرض للضياع. - تمهل أيها الكونت واعلم أني لا أحاكم. - هذا خطأ منك، فإنك إذا كنت دوقا، فأنت رجل نبيل أيضا، ومن شروط النبالة الوفاء. - إذا أسألك أن تكون الحكم بيني وبين مونسورو. - أنا؟ - نعم أنت، وأريد أن تحكم بالقسط بيني وبينه، ألا تعد هذا الرجل خائنا لي بعد فعله الشنيع وهو يعلم نواياي؟ - ما هي نواياك؟ - لم تكن نيتي في اختطاف الفتاة واغتصابها، بل كان جل قصدي أن أدعها تحبني مع مرور الأيام.
فابتسم باسي ابتسامة المتهكم وقال: أهذه هي نواياك يا مولاي؟ - نعم، ولقد حافظت على هذه النيات إلى آخر دقيقة، بالرغم من معارضة مونسورو لي فيها. - ماذا أسمع يا مولاي؟ ... ألعل مونسورو كان يدفعك إلى اغتصابها؟ - نعم، وهو الذي اختطفها وبعث بها إلى قصري في بوجي، وهذا كتاب منه سأطلعك عليه لتستدل منه على صحة ما أقول.
ثم غادره الدوق حينا وعاد يحمل رسالة مفضوضة، فألقاها إلى باسي وقال له: اقرأ.
فأخذ الكونت الرسالة بيد ترتجف، وتلا بصوت أجش ما يأتي:
مولاي ...
ليطمئن بال سموكم، فإن الطير قد وقع في الشرك وستنالون ما تبتغونه من غير خطر؛ لأن الفتاة مسافرة في هذا المساء إلى منزل عمتها، حيث تقيم فيه ثمانية أيام، وسأخطفها في الطريق وأبعث بها إلى قصركم في بوجي، فتنالون منها ما تشاءون، وأنا هنا أحول الأنظار عن كل ريب.
خادم سموكم المطيع
مونسورو
فقال الدوق: ما تقول أيها الكونت بعد أن قرأت هذا الكتاب؟ - إنه خدمك أجل خدمة. - تريد أن تقول إنه خانني أشد خيانة، فإنه لم يكتف باختطافها مني، بل إنه جعلني أعتقد أيضا أنها لم تعد في قيد الحياة.
فأجابه الكونت يقول بلهجة المتهكم: لا أنكر أن هذه الخيانة عظيمة لا تطاق، لكن حبه للفتاة يمهد له سبيل العذر عن هذه الخيانة، وقد فعل أيضا ما لست تعلمه، وهو أنه أقنع الأب والابنة أنك أنت المغتصب، وأنه هو المنتصر لهما غيرة على الشرف وصيانة لكرامة الأسرات ، فجاء إلى قصر بوجي مصحوبا بكتاب من أبيها يأمرها فيه بالوثوق به والمسير معه، فأنقذها من القصر على قارب صغير خاض فيه النهر إليها، وجاء بها إلى باريس، فما زال يعظم لها أمرك، ويحذرها من عودة الوقوع في أشراكك، حتى اضطرت على الكره منها إلى إجابة مطالبه، فقبلت أن تكون له امرأة، وهي عروسه منذ بضعة أيام.
فاحتدم الدوق غيظا وهدد السماء بقبضتيه وقال: من الذي ينقذه من غضبي بعد هذه الخيانة الهائلة، وسترى أيها الكونت كيف يكون انتقامي!
فعبس باسي وقال: كلا يا مولاي، فإن الأمراء لا ينتقمون، بل يظهرون الجريمة ويعاقبون عليها عقابا؛ لأن من كان قادرا على البطش فهو معاقب لا منتقم. - وكيف ترى أن يكون العقاب؟ - أن تطلق سراح ابنة ماريدور. - أتظن بأن ذلك مستطاع؟ - نعم، وهو سهل أيضا، فإن زواجه بها كان مغتصبا ولا يصح الزواج بالاغتصاب، فاجتهد إذا بإلغاء الزواج تحسن إلى الفتاة، وتعاقب الخائن، وتنهج نهج الأمراء والأشراف، فإني يسوءني أن يقال بأن الكونت دي باسي يخدم أميرا لا ينتصر للنبل والنبلاء. - سيكون ما تريد أيها الكونت، لكن قل لي كيف يمكن نقض الزواج؟ وبأية طريقة يلغى؟ - ذلك بأن تدع أباها يبدأ بالطلب. - ولكنه بعيد عنا، فهو في ماريدور. - كلا يا مولاي، بل هو في باريس. - ألعله في منزلك؟ - بل هو مقيم مع ابنته، فاجعله يا مولاي يغير عهده فيك، ويثق بك، فيباركك ويذكر اسمك بالخير ما بقي له من العمر ... لا تنظر يا مولاي إلى نبله وكرم أصله، بل اعتبر أنه أب، وأن ابنته شقية، وأن هناءهما موقوف على كلمة تصدر من فمك. - سأفعل جميع ذلك أيها الكونت ... فمتى أقدر أن أرى ذاك البارون؟ - عند عودتنا إلى باريس، فهل أتكل على وعدك؟ - طب نفسا لأني موف بما أقول. - وأين أراك في باريس؟ - غدا صباحا في قصر الملك.
فافترق عنه باسي وطار بأجنحة الغرام إلى ديانا ليخبرها بما كان، وإلى البارون ليعزيه عما هو فيه.
الفصل السابع عشر
ما حدث بين الدوق دانجو والمسيو دي مونسورو
وعاد الملك بحاشيته العظيمة إلى باريس.
وفي صباح اليوم الثاني أقبل الكونت دي باسي إلى القصر، وجعل ينتظر في البلاط مع الواقفين في انتظار خروج الملك، وكان في جملتهم دي مونسورو.
وفيما هو واقف يتحدث مع شيكو، وينظر إلى مونسورو من حين إلى حين نظرات ملؤها الكره والوعيد، إذ أتاه رسول يدعوه من قبل الدوق.
فدخل عليه ووجده جالسا في كرسيه، وبيده تلك الرسالة ينظر فيها، وملامح الغضب بادية في محياه العبوس.
فنظر إلى الكونت وقال: أوصل مونسورو؟ - نعم، وهو ينتظر في ردحة البلاط، فهل أنت باق على عزمك؟ - نعم، وهو عزم ثابت لا يتغير؛ لأني ما فكرت في جرمه إلا ورغبت أن أسحقه سحق الزجاج. - وستأمر أيضا بفصل الزوجين وإلغاء هذا الزواج المغتصب؟ - نعم، لأنه أمر اتفقنا عليه ولا يمكن أن أحول عنه، والآن اخرج وادعه لي لأني أريد أن أكلمه.
فخرج باسي وهو موعب فرحا إلى ردحة البلاط، فنظر إلى مونسورو بملء العظمة وأخبره أن الدوق يريد أن يراه.
فامتثل مونسورو ودخل إلى غرفة الدوق.
أما باسي فإنه وقف بين أصحابه يتحدث معهم وقلبه منشغل بما يجري في الغرفة.
وفيما هم يتحدثون إذ سمعوا الدوق يصيح صياح الغضب، وقد تلا هذا الصوت صوت زجاج قد كسر على الأرض بحدة، فامتلأ فؤاد باسي سرورا وقال في نفسه: هو ذا الدوق قد وفى بوعده، وسأكون لديانا وتكون لي.
وجعل الحضور الذين سمعوا صياح الدوق يتكهنون ويرجمون بالغيب عن السبب الذي حمل البرنس على مثل هذا الغضب على مونسورو الذي اشتهر أخيرا بالميل إليه.
وفيما هم على مثل ذلك، إذ فتح باب الغرفة وخرج منها مونسورو، فخرج معه الدوق إلى الباب يودعه بألطف الابتسام قائلا: إلى اللقاء أيها الصديق.
فقال له مونسورو، على مسمع من الحضور الذين ذهلوا لما رأوه من الانقلاب: إذا سأقدمها في المساء لجلالته. - افعل ما تشاء لأني سأهيئ كل شيء.
ثم همس في أذنيه بعض الكلام.
فانحنى مونسورو وقال: سأصدع بأمر سموكم.
ثم انحنى مسلما ، وذهب إلى أولئك المجتمعين فقال لهم وعلائم البشر بادية في محياه: اسمحوا لي أيها الأسياد، أن أوقفكم على أمر تجهلونه ... وهو أن مولاي الدوق قد أذن لي أن أشهر زواجي الذي عقدته منذ مدة مع السيدة ديانا دي ماريدور، التي سأقدمها في هذه الليلة إلى جلالة الملك.
فنزل هذا الكلام على فؤاد باسي نزول الصاعقة، وأدار وجهه إلى باب غرفة الدوق، فوجده لا يزال واقفا على الباب، فرماه بنظرة غاية في الاحتقار.
فاصفر وجه الدوق ودخل مذعورا وأوصد الباب خلفه.
أما باسي فإنه وضع يده على قبضة حسامه، وجرد بعضه وهو يلتهب غيظا.
ولكنه لم يلبث أن ذكر ديانا، حتى لطفت تلك الذكرى حدته، وعاد إليه صوابه.
فخشي إذا بقي في ذاك البلاط المكروه أن تبدر منه بادرة حدة يصنع فيها ما لا تحمد عقباه.
فخرج من بين رفاقه وهو يلعن ذاك الأمير الكاذب.
وانطلق واليأس ملء فؤاده إلى منزل ديانا ... فدخل عليها وقال: احتقريني أيتها السيدة وأبغضيني، لقد ظننت نفسي رجلا، وقد حسبت أني أقدر أن أصنع شيئا ...
فإذا أنا رجل خامل ضعيف لا أستطيع أمرا، حتى إني لا أقدر أن أسحق قلبي وأنزع هذه الحياة الشقية.
والآن فإني أقول: أنت زوجة مونسورو الشرعية، وأنت ستقدمين لجلالته في هذا المساء، وإني تعيس شقي لا حظ لي في هذه الحياة، أما الدوق دانجو فهو رجل خائن سافل.
ثم ترك ديانا وأباها وهما لا يعلمان ما يقولان.
وخرج والدم يكاد أن يخرج من عينيه، فركب جواده وأطلقه ينهب الأرض نهبا وهو لا يعلم أين يسير. •••
ولا بد أن يكون القارئ ينتظر أن نقص عليه السبب الذي حمل الدوق دانجو على موالاة مونسورو ونقضه لعهده مع باسي.
ولذلك، فإننا نذكر ما جرى من الحديث بين مونسورو والدوق، فيقف القارئ على ما يود الوقوف عليه من تفصيل هذه الحادثة، فنقول:
كان الدوق يتنازعه عاملان عندما دعا إليه بمونسورو؛ وهما خيانة هذا الرجل له بعد ثقته الشديدة بإخلاصه.
وحمية الكونت دي باسي، وما أظهره في سبيل الدفاع عن البارون دي ماريدور.
وكلا العاملين قد أثارا غضبه، وهاجا مكامن حقده على ذلك الرجل الذي كان موضع ثقته في كل أمر.
فلما دخل مونسورو قابله الدوق بوجه عابس وهو يكاد يتميز من الغيظ، وملامح الانتقام بادية بين عينيه.
فلم يكترث مونسورو بما لقيه من برود هذه المقابلة، وتكلف هيئة عدم المبالاة فقال: بماذا يأمر مولاي؟
فقال له الدوق: لا تخش بأسا؛ لأننا منفردان بهذه الغرفة حيث نستطيع أن نتباحث فيما نريده بحرية وجلاء.
فانحنى مونسورو ... ودار بينهما الحديث الآتي:
فقال الدوق: قلت لك إننا سنتكلم بحرية ومن غير خوف، فأنت خادم أمين، ولي بك من الثقة بقدر ما عندك لي من الإخلاص. - ذاك لا ريب فيه يا مولاي. - وأنا لا أشك بذلك أيضا؛ لأنك طالما أرشدتني إلى اعتصاب أعدائي ضدي، وطالما عرضت نفسك إلى الأخطار في سبيل خدمتي، ولا سيما في الحادثة الأخيرة التي تستحق عليها خير الجزاء. - وأية حادثة يعني مولاي؟ - حادثة تلك الفتاة المسكينة ابنة البارون ماريدور.
فتأوه مونسورو، ووضع يده على عينيه، كأنه يريد أن يطرد تلك الذكرى.
فقال له الدوق: أراك آسفا على تلك الفتاة! - نعم يا مولاي، أولست مشاركا لي بهذا الأسف؟ ألعلك نسيت ذلك المصاب؟ - كيف أنساه؟ ... وأنت الذي اختطفت لي تلك الفتاة ... فإذا كنت أنساه، فقد وجب أن أنسى صداقتك ... وجميع ما بذلته لي من الخدمات. - لا تحزن يا مولاي؛ لأن موتها إذا كان ذنبا فإن الله غافر لك هذا الذنب، فإنك لم تكن تريد لها مثل هذا الموت. - ربما كان ذلك، لا سيما وأن موتها قد ألقى حجابا كثيفا على تلك الحادثة المشئومة.
وكان الدوق يتكلم بصوت يرتجف من غيظ لم يستطع ستره ... فأدرك مونسورو للحال أن الدوق عارف بدخيلة الأمر، ولم يجد بدا من التصريح فقال: أيأذن لي مولاي أن أتكلم بحرية وجلاء؟
فقال له الدوق بعظمة وانذهال: إني أعجب لما تقول! ... ولا أدري ما الذي يمنعك عن قول ما تريد أن تقوله. - ذلك لأني خشيت أن تستاء من اتخاذي الحرية فيما سأقول.
فقهقه الدوق ضاحكا ضحكا غريبا، يدل على أنه قد بلغ منتهى درجات الغيظ، بحيث لم يبق أقل ريب لدى مونسورو فقال: ألعل سموكم تعتقدون أن ديانا دي ماريدور لا تزال في قيد الحياة؟ - نعم، ولم يعد مجال إلى التستر والكتمان؛ لأني لا أعلم على أي محمل يجب أن أحمل تصرفك؟
فإنك كنت تعلم شدة حزني لموت تلك الفتاة، وكنت تعلم أني لا أذوق طعم الرقاد لفقدها.
فكانت كلمة منك تشفيني مما أنا فيه، وترد إلي ما فقدته من الهناء بفقدها.
ولكن هذه الكلمة لم تقلها، فكأنك كنت فرحا لأحزاني، فكيف تريد أن أعتبر هذا السلوك؟
وكان الدوق يتكلم وهو في أشد حالات الحنق.
فوقف مونسورو وقال: إن لهجة سموكم تدل على الشكوى مني، وأنكم حانقون علي.
فوقف الدوق أيضا وخطا خطوة نحوه وقال: أيها الخائن، إني أشكوك وأعزز أسباب شكواي بالبراهين، فإنك قد خنتني شر خيانة، وسلبت مني تلك الفتاة التي كنت هائما بها.
فاصفر وجه مونسورو ... ولكنه لم يفقد شيئا من جرأته وثباته وقال: نعم، إن ما تقوله صحيح. - أتعترف بجريمتك أيضا من غير خوف أيها الوقح المحتال؟ - تفضل يا مولاي واخفض صوتك بالكلام، فلقد نسيت كما يخال لي بأنك تحادث رجلا شريفا وخادما صادقا.
فأخذ الدوق يضحك ضحك غيظ وهزء، فعقب مونسورو قائلا من غير أن يعبأ بضحك الدوق: خادم مخلص للملك.
فوقف الدوق عندما سمع هذه الكلمة، وقال وهو يرتجف من الرعب: ماذا تعني بما قلت؟ - أريد به أن مولاي لو أصغى لكلامي لعلم أن لي الحق بأخذ تلك الفتاة التي يحبها سموه.
فوقف الدوق حائرا باهتا لهذه الجسارة، وهو لا يعلم بماذا يجيب.
أما مونسورو فإنه قد أتم حديثه قائلا: وإني إذا كنت قد سلبت تلك الفتاة كما يقول مولاي، فذلك لأني أنا أحبها أيضا. - ألا تعلم أيها الوقح أني أنا أحبها؟ - هذا أكيد يا مولاي، لكن ديانا دي ماريدور لا تحبك. - ألعلها تحبك أنت؟ - ربما كان ذلك. - كذبت ، فإنك قد اختطفتها بالحيلة كما اختطفتها أنا، ونحن على السواء بإزائها.
ولكني أنا السيد، سقطت وأحبطت ... وأنت الخادم التابع نجحت وظفرت ... وهذا غاية العجب! فاعلم أنه إذا كان لك الخيانة فإن لي القوة. - مولاي، إني أحبها. - وما يهمني ذلك، فقد كان يجب ألا تعرض نفسك لحب فتاة تروق بعين سيدك ومولاك. - مولاي اذكر. - أتنذرني أيضا أيها الخائن؟ - لا أنذرك يا مولاي، ولكني أقول لك احذر لأني أحب تلك الفتاة، وما أنا بخادمك كما قلت الآن، فإن امرأتي هي لي كما أن لي الأرض التي أملكها، فلا يحق لأحد أن ينازعني فيها حتى ولا الملك نفسه، ولذلك فقد أردت أن أتزوج بهذه الفتاة وتزوجتها.
فقام الدوق إلى المنضدة، يريد قرع الجرس ودعوة الخادم، وهو يقول: أنت أخذتها ولكن ستردها.
فأسرع مونسورو وحال بينه وبين المنضدة قائلا: أنت منخدع يا مولاي، فلا تخطئ بالإساءة إلي واعدل عن هذا القصد السيئ، فليس هو في شيء من الحكمة، فأنت إذا دعوت الخدم وأهنتني أمام الناس ...
فقاطعه الدوق وقال: إذا فسترد تلك الفتاة. - كيف تريد أن أردها وهي امرأتي أمام الشرع وأمام الله؟ - إذا كانت امرأتك أمام الله، فأنت ستردها أمام الناس. - إذا فأنت عارف بكل أمر. - نعم، لأن عيني لا تغفل، ولا يمكن لمثلك أن يخونني مثل هذه الخيانة، فأنت ستلغي عقد هذا الزواج المغتصب، بل أنا أنقضه بنفسي ولو عقد أمام جميع الآلهة في كل السماوات. - رويدك، يا مولاي ... لقد بلغت بك الحدة إلى الجحود والكفران. - لا تقطع علي الحديث ولا تعترضني فيما أقول؛ لأني آمرك أن ترد في الغد تلك الفتاة إلى أبيها، وأن تستقيل من المنصب الذي قلدتك إياه، وأن تستعد للذهاب إلى المنفى الذي سأرسلك إليه، وهذا جل ما أريده الآن!
فاصدع بهذا الأمر!
وإذا خطر لك العصيان، فاحذر لنفسك ... لأني أسحقك كما أسحق هذا القدح.
وأخذ الدوق عند انتهاء كلامه قدحا من الزجاج وألقاه بحدة إلى الأرض.
فوصل صوته إلى الواقفين في البلاط، وعلموا أن الدوق حانق على صفيه كما قدمناه.
أما مونسورو فإنه لم يكترث بما سمع من تهديد الدوق، وأجابه بمنتهى البرود يقول: إني لا أرد تلك الفتاة، ولا أنقض عقد الزواج المقدس، ولا أستقيل من منصبي، ولا أبرح فرنسا ... وفي الجملة فلا أصدع بحرف من أوامرك هذه.
فبهت الدوق وقال: لماذا؟ - لأني سأستغيث بملك فرنسا، وأطلب مراحم ذاك الملك الذي وضع على رأسه التاج، وبويع في دير سانت جنفياف.
فإن هذا الملك الشريف الكريم ... لا يرفض إجابة أول ملتمس يعرض عليه.
فإني أحبها وهذا خير عذر لي فيما أراه.
فقال الدوق: وأنا أيضا أحبها. - هذا أكيد ... وأنت سيدي وملكي، ولكن حبي لها هو فوق كل حب.
فاصفر وجه الدوق اصفرارا شديدا، وتقدم نحو مونسورو فقبض على يده بيد مرتجفة وقال: أخفض صوتك أيها الكونت ... واعرض هذا الملتمس؛ لأني مصغ إليك.
فهدأ روع مونسورو وقال: إني يا مولاي من أشد الناس إخلاصا لسموكم، وما كنت أود أن أصنع شيئا مما صنعته.
ولكن هو الحب يا مولاي، وهو شديد السلطان، وقد فعلت ما فعلت مكرها مرغما.
فإذا كنت قد أذنبت، فإن الحب شافعي. - قلت لك أيها الكونت إن عملك خيانة لا تقبل الصفح. - إن حلمك أوسع من ذنبي، فلا أقنط من مراحمك وعفوك ... ولقد رأيتك يا مولاي أعظم أمير في هذه البلاد، ثم رأيت نور المستقبل يضيء لك، ونجم سعدك يشرق في أفق المجد، ورأيتك في شاغل عن هزل الغرام بجد ذلك المستقبل الخطير اللامع، فقلت: لأدع هذا الأمير العظيم يجتهد في تحقيق أماني مستقبله، ولأجتهد في تحقيق أماني قلبي.
فلما دان له ما يريد وخفق فوق رأسه العلم الملكي ...
فاعترضه الدوق وقال: توقف أيها الكونت وحسبك ما قلت. - إذا أنت تصفح عني؟
فنظر الدوق إلى الحائط، فرأى معلقا عليه رسم الكونت دي باسي كأنه ينظر إليه ويؤنبه على ما سيفعل، ويذكره بسابق وعده، فاختلج لمرآه وقال: كلا، لا أصفح عنك؛ لأني لا أستطيع مثل هذا الصفح، والله يعلم أني لا أسألك رد هذه الفتاة كي تكون لي ، بل لأن أباها يطلب أن ترد إليه.
وفوق ذلك فهي تقول إن زواجك بها كان مغتصبا، وتطلب الانفصال عنك والانتقام منك.
فاعلم إذا أن من واجبات الأمراء العدل، وأني سأدع العدل يجري في مجراه ...
لأني أمير والعدل من أهم واجباتي.
فقال منسورو: ولكن فاتك يا مولاي أنه إذا كان العدل من واجبات الأمراء، فإن عرفان الجميل من واجبات الملوك. - ماذا تقول؟ - أقول إنه لا يخلق بالملك أن ينسى الذي أقامه على العرش وألبسه التاج، وأنت تعلم أنك مدين لي بذاك التاج.
فوقف الدوق منذعرا، وقال بصوت منخفض خافت تتبين منه لهجة الرعب: ألعلك تخون الملك أيضا كما خنت الأمير؟ - إني لا أخون أحدا ولست بخائن، ولكني لا أخلص الخدمة إلا لمن يحسن إلي ويكافئني بما أستحقه من حسن الجزاء.
فأسقط في يد الدوق، وشعر بأنه مغلوب.
فعاد إلى اللطف واللين، ونظر نظرة ثانية إلى صورة الكونت دي باسي، فتأوه تأوها شديدا وقال: أنت أيها الكونت رجل نبيل، وقد علمت أني لا أستطيع موافقتك على ما تريد. - ولماذا يا مولاي؟ - لأن ذاك غير خليق بي وبك، فاترك هذه الفتاة أيها الصديق العزيز، وأنا أعيضك عنها بما تشاء.
فاصفر وجه مونسورو من الغيرة وقال: ألا تزال تحبها يا مولاي؟ - كلا، إني لا أحبها، وأقسم على ذلك بأعظم الأيمان. - إذا فمن الذي يجسر على أن يعترض سموكم؛ لأنها امرأتي وأنا رجل نبيل، فمن يحق له أن يتدخل في شئوني العائلية؟ - ذاك أكيد، ولكنها لا تحبك. - إذا كانت لم تحبني اليوم، فستحبني في الغد ... وماذا يهمني إذا أحبتني أو كرهتني. - افعل ما أريد واجعله إكراما لي. - حبذا يا مولاي لو استطعت إليه سبيلا ... ولكني لا أطيق سلوانها ...
فاحتدم الدوق غيظا وأطبق يده من الحنق، كأنه يريد أن يسحق بها ذاك الرأس الذي لم يستطع أن يتغلب عليه، ثم قال: والآن ...
فقال مونسورو: أرجو من جلالتكم أن تتأملوا.
فارتاع الدوق لذكر لفظ الجلالة، وجعل العرق البارد يتصبب من جبينه، ثم قال: إذا أنت عازم على إشهار أمري وإطلاع الملك على سري. - لا أجد بدا من ذاك، إذا كنت تريد أن تمس شرفي، فإذا كانت خدمة الملك الجديد لا تنفعني ... فإني أعود إلى خدمة الملك القديم. - ويحك! ... أين أضعت شرفك وعهودك؟ ألا تعلم مقدار هذه الخيانة؟ ... - نعم يا مولاي، ولكن حبي هو أعظم منها. - أنت سافل دنيء. - إني أحب الدوق حبا شديدا لا تذكر في جانبه السفالة.
فخطا الدوق خطوة نحوه، وقد اتقدت عيناه بشرر الغيظ ووضع يده على حسامه وهو يحاول قتله.
ولكن مونسورو أوقفه بنظرة وابتسامة ثم قال: أنت لا تستفيد شيئا من قتلي؛ لأن من الأسرار ما لا تدخل مع أصحابها إلى القبور، فخير لنا أن نبقى على ما كنا عليه، أنت ملك شفوق رحيم، وأنا تابع مخلص أمين.
ففرك الدوق كفيه من الغيظ، حتى إنه كاد يدميهما ويمزق جلدهما بأظافره.
ثم أخذ يمشي في الغرفة بخطوات غير موزونة، وهو يكاد يجن من جسارة مونسورو الذي لم يستطع أن يعاقبه على جرأته، ولا يجسر على معاداته لما بينهما من الروابط الهائلة.
فإنه لو فاه بكلمة من حادثة الدير لذهبت جميع أمانيه ضياعا، ولقتله أخوه الملك شر قتل.
فقال له مونسورو: رويدك يا مولاي، ولا تذهب بك الحدة عن عرفان الجميل، فأنت من أعظم الأشراف، وأنت مثال النبل في هذه البلاد ... ألا تحسن إلى رجل يبذل حياته في سبيل خدمتك، وهو من أخص الأعوان، وأخلص المخلصين.
فوقف الدوق برهة يتأمل، ثم نظر إليه وقال: والآن ماذا تريد؟ - أطلب إلى جلالتكم أن ...
فقاطعه الدوق وقال: تبا لك من وقح، ألا تزال تذكر هذا الاسم أيها التعيس، أتريد أن أتوسل إليك كي تمتنع عن ذكره؟ - سأمتنع عن ذكره يا مولاي. - قل إذا ما تريد؟ - أريد قبل كل شيء أن تصفح عني. - لقد صفحنا عنك. - ثم تصالحني مع البارون دي ماريدور. - سنفعل ذاك أيضا. - ثم توقع على عقد زواجي بابنته ديانا دي ماريدور. -سنفعل ذاك أيضا، ثم ماذا؟ - لم يبق لي سوى التماس واحد، وهو أن تتعطف على امرأتي بابتسامة يوم أقدمها للملكة. - هذا كل شيء؟ - نعم يا مولاي، ولا أطلب غير ذاك إلا أن أوقف حياتي في سبيل خدمتك. - طب نفسا، فسيكون لك كل ما تريد.
فخرج مونسورو وهو يقول في نفسه: لم يعد علي إلا أن أعلم كيف عرف الدوق.
الفصل الثامن عشر
الدوق دي كيز في اللوفر
وفي اليوم التالي، بينما كان جلالته ينادم شيكو وهو مفكر مهموم، إذ قدم إليه رئيس الشرطة وقاله له: لدي يا مولاي حديث هام، يجب أن ألقيه في الحال على مسمع جلالتكم. - وماذا عسى أن يكون هذا الحديث الهام الذي تقطع علي فيه ألذ حديث خلواتي؟
ألعل البلاد ثارت؟ ... أم خرج أمراؤها يتآمرون علي؟ - هو ذاك يا مولاي، لقد حدثت مؤامرة هائلة في دير سانت جنفياف اجتمع فيها أكثر أعيان المملكة، وقاموا بضع ساعات يتآمرون على مولاي الملك، فأنفقت كثيرا من المال حتى توصلت إلى إدراك كنه أسرار هذه المؤامرة ومعرفة أسماء المتآمرين، فأقبلت مسرعا أخبر جلالتكم بما كان تلافيا لما سيكون. - حسنا فعلت أيها القائد، ولكننا عرفنا ذاك من قبل من غير أن ننفق شيئا، فهل تزيدنا على ما نعلمه؟
فأجفل رئيس الشرطة وقد كان يظن أنه هو وحده الواقف على هذا السر العميق، وقال وهو يتلعثم: عفوا يا مولاي، فإني أعلم أن عين جلالتكم لا تغفل، وشهد الله بأني بذلت النفيس وخاطرت بالنفس لاكتشاف هذا السر، وقد سرني معرفتكم له من قبلي؛ لأنكم قد اتخذتم ما ينبغي اتخاذه من التدابير ولا ريب، فإني ما أقدمت إليكم بهذا النبأ الهائل إلا والرعب ملء قلبي؛ لأن المتآمرين أشداء أقوياء لهم رهبة وبأس. - خفض عليك أيها القائد؛ لأننا ذاكرون لإخلاصك، شاكرون لتيقظك، وهذه حوالة على وكيل الخزانة تدل على رضانا عليك، وحسن ظننا بك، فابق على ما كنت عليه من المراقبة ... واذكر لنا الآن أسماء أولئك المتآمرين ... لعله يوجد بينهم من لم يصل اسمه إلينا.
فهدأ روع رئيس الشرطة، وأخذ يشرح لجلالته ما علمه من مؤامرة الدير التي يذكر القراء كيف أن شيكو قد وقف على تفاصيلها عندما تلبس بلباس الأخ غورنفلو، وولج الدير بثياب الرهبان، فحضر جميع تلك المؤامرة ...
ولما فرغ من حديثه شكره الملك وأطلق سراحه.
فلم يخل المكان هنيهة للملك وشيكو حتى أقبل الحاجب يخبر بقدوم الدوق دانجو.
فكظم الملك غيظه، وتكلف هيئة الانبساط، فلقي أخاه طلق الوجه باسم الثغر.
وفيما هم يتحدثون إذ سمع من الخارج ضوضاء عظيمة، ووقع حوافر خيول كثيرة.
فأطل الجميع من النافذة فرأوا الدوق دي كيز داخلا بجواده في باب اللوفر العظيم، وهو محفوف بكثيرين من أعيان المملكة وسراة الشعب، والجماهير محيطة به تدعو له دعاء الخلفاء، وهو يجيبهم خير تحية تزيد تعلقهم به وحبهم له.
فذعر الملك مما رأى وقال: ما عسى أن يريد هذا الدوق بقدومه إلينا، وما هذا الموكب الحافل الذي لا يركب به الملوك؟
ثم عاد من النافذة فجلس في مكانه، فلم يقم حينا حتى فتحت أبواب القصر وعلا الضجيج فيه، وتسابق الحجاب ينبئون جلالته بقدوم الدوق دي كيز.
ثم دخل الدوق ودخل في إثره كثيرون من الأعيان، وسلموا على الملك.
ثم انحنى الدوق مسلما بملء الاحترام، فلم يستطع الملك كتم غيظه فأمره بالجلوس، ثم قال: لا أنكر أنك ابن عمي، وأنت أمير، ولكن قد تجاوزت بهذا الموكب الحافل المحيط بك حد الأمراء، ولم يبق إلا أن تقرع لك الطبول لتكون في مقام الملوك.
فوقف الدوق وقال: تعلم يا مولاي أن الطبول في العاصمة لا تقرع إلا للملوك، وأما في الولايات والأقاليم فهي تقرع لرؤساء الجيوش والأمراء، فهي إذا قرعت هنا لأمير خرج لها دوي شديد وكذلك هناك.
فعض الملك شفتيه من الغيظ، وغير نسق الحديث فقال: أأنت قادم من مركز الجيش؟ - نعم يا مولاي. - أظن لم تدخل العاصمة إلا في هذا الصباح.
فاحمر وجه الدوق وقال: نعم يا مولاي، إني قدمت اليوم. - إن الزيارة الآن هي شرف عظيم لنا أيها الدوق.
فقال الدوق: لا ريب أن مولاي يريد المزاح فيما يقول، وإلا فكيف يصح أن أشرف بزيارتي ملكا عظيما هو مصدر كل شرف.
فقال الملك بلهجة المتهكم: أريد أن أقول يا ابن عمي العزيز إنه ينبغي على كل مؤمن حسن العقيدة أن يبدأ عند إيابه من السفر بزيارة الكنائس والأديرة، وتقديم فروض الشكر لله؛ لأن الملوك بعد الله.
فاحمر وجه الدوق احمرارا شديدا عند ذكر الدير، ونظر إلى الدوق دانجو نظرة ارتياب.
ثم نكص برأسه ولم يجب ...
فعقب الملك بلهجة التهكم نفسها قائلا: ولقد يسرني في كل حال نجاتك من أخطار الحروب، وإن كنت تعرض نفسك في كل حين إلى أشد الأخطار، فأنت بطل مجرب قد عرفت المخاطر فهربت منك.
لكني أنصح لك يابن عمي العزيز، أن تلبس لباس الحكمة ولا تلقي بنفسك العزيزة إلى غمرات الموت؛ لأن ذاك شديد علينا، نحن الذين لا شاغل لنا غير حفظ قواعد الدين والتفنن في أساليب العبادة.
فقال الدوق: نعم يا مولاي؛ لأننا نعلم جميعا أنك رجل صالح شديد البر والتقوى، لا تحفل بالملاذ ولا يلهيك أمر دنيوي عن الواجب الديني؛ ولذا جئنا إلى جلالتكم بملء الثقة. - ومتى لم يكن لكم بي مثل هذه الثقة؟ - عفوا يا مولاي، فإنما أردت بالثقة ثقتي بإجابة الملتمس الذي أتينا لأجله. - إذا فأنتم قادمون إلينا مقترحين؟ - نعم يا مولاي. - اعرض إذا علينا ما تشاء؛ لأننا مصغون إليك. - إن ما سأقوله يا مولاي أمر عظيم جلل، لم ير مثله التاريخ بغير أيام الصليبيين؛ أيام كانت الناس تلتهب غيرة على حمى الكثلكة والذود عن ديننا القويم.
ولقد خصك الله يا مولاي بعرش عظيم تلتف من حوله قلوب الملايين من المؤمنين، فصن الدين المكين بصولة ذاك العرش، يصن الدين عرشك فيؤيدك دعاء الشعب وينصرك الله. - ومن الذي يهدد ديننا أيها الدوق؟ ومما تخشى عليه؟ - إني أخشى عليه من الهوكينوت، لقد انتشروا في البلاد أيما انتشار، وتفرقت دعاتهم في كل الأقطار الكاثوليكية، وأصبح الشعب ميالا إلى سماع أقوالهم.
فإذا لم تبعثر تلك الكلمة وتقطع ذاك اللسان، فلا تلبث كلمتنا أن تتبعثر، ولا يلبث ديننا أن يعتريه الفساد .
فنظر الملك إلى شيكو وتبادل الاثنان إشارة خفية.
ثم قال جلالته: إني ممتن لغيرتك أيها الدوق، شاكر لحسن تقواك ... ولذا فإني أظهر لك رضاي عن هذا المشروع ... فقل كيف ترى أن يكون؟ - أن تؤلف من أنصار الكثلكة حزبا عظيما، فتعينون جلالتكم رئيسا لهذا الحزب. - هو ذاك، فاجمع كبار أولئك الأنصار، وائتني بهم لأعين عليهم ذاك الرئيس.
فظهرت على وجه الدوق علائم البشر وقال: متى يا مولاي تريد أن يكون هذا الاجتماع؟ - غدا إن شاء الله.
فانحنى الدوق مسلما وخرج، فخرج معه جميع الحضور.
وأراد الدوق دانجو أن يسير في إثره.
فاستوقفه الملك وقال: ابق أيها الدوق؛ لأني في حاجة إليك.
الفصل التاسع عشر
الملك والدوق دانجو
وكان جلالته قد أطلق سراح كل من في القاعة حتى ندمائه، فلم يفضل لديه غير أخيه وشيكو.
وكان الدوق دانجو قد تمكن في حادثة الدوق دي كيز أن يخفي اضطرابه عن كل الذين كانوا ينظرون إليه، ما عدا شيكو.
فإن نظراته كانت تنفذ إلى أعماق قلبه، فيستخرج جميع خباياه ويطلع عليها جلالته بالرمز.
فلما خلا بهم المكان، نظر الملك إلى أخيه الدوق وقال له: أتعلم أيها الأخ العزيز أني من أسعد الملوك. - إذا لم تكن أنت سعيدا، فمن عسى أن يكون؟ - نعم إني من أسعد البشر، وذاك أني إذا لم أتوفق إلى ابتكار الآراء الصائبة، فإني أجد حولي كثيرين من المخلصين الذين يبتكرون مثل هذه الآراء.
ألا ترى ذاك المشروع العظيم الذي اقترحه ابن عمنا الدوق دي كيز؟
فأحنى الدوق رأسه إشارة إلى المصادقة.
فعقب جلالته قائلا: نعم إنه خير مشروع؛ لأننا تحت مظاهر التحالف الديني نجهز فرنسا من حدود كاليس إلى لانكيدوس، ومن بريطانيا إلى بورغونيا، بحيث يكون لنا جيش عرمرم، نزحف به إلى إنكلترا وفلامندا وإسبانيا من غير أن يقع لأولئك الشعوب أقل ريبة بنا.
ومثل هذا الفكر العظيم يستحق كل عناية واهتمام، بل يستحق مبتكره أن يجازى خير الجزاء، فهل تظن بأن الدوق دي كيز هو الذي ابتكره؟
فهز الدوق رأسه وقال : أنت تعلم علمي يا صاحب الجلالة، أن الكردينال دي لورين هو أول من اقترح هذا المشروع، وذاك منذ عشرين عاما، أي من عهد مذبحة برتيلماوس.
وهذه المذبحة وحدها هي التي منعت نفاذه. - إذا فأنا مدين بهذا الرأي الثاقب للكردينال دي لورين. - كلا. - الدوق دي ماين؟ - كلا. - إذا فلمن؟ - لي أنا يا مولاي.
فتكلف هنري هيئة الدهش وقال: أنت أيها الأخ الأمين المخلص واضع هذا الفكر العجيب، وأنت الذي تسهر على نجاح المملكة بينما أنا أتيه في غياهب الخمول، وأخيرا أنت ذلك المخلص الصدوق الذي كنت أحسبه في مصاف أعدائي، وإني أعد نفسي مجرما بعدها، ولا أبرئك أيضا من تبعة ذاك الذنب.
فأنت تكتم عني مثل هذا الإخلاص، والآن فقد خطر لي خاطر. - ما هو؟ - إن هذا الحزب يحتاج إلى رئيس كما ذكرنا اليوم. - ذاك لا ريب فيه. - وهذا الرئيس ينبغي أن يكون شجاع القلب، ولكني لا أجد بين المحيطين بي المخلصين لي من يصلح لهذه الرئاسة.
فإن كاليس شجاع، ولكنه لا يهتم بغير الغرام.
وموجيرون شجاع، ولكنه أنوف فخور.
وأبرنون شجاع، ولكنه مدلس كذاب.
وهكذا جميع أصحابي، فإن لكل واحد منهم عيبا يبعده عن مثل هذا المنصب؛ ولذا فقد خطر لي أن أعين الدوق دي كيز لأني لا أجد أخلق منه لهذا المنصب.
فرعب الدوق دانجو وقال: ما تقول يا مولاي؟ أتعين الدوق دي كيز في مثل هذا المنصب الخطير؟ - نعم، فإن هذا المنصب الخطير يقتضي له رجل خطير أيضا. - ولكن ... احرص يا مولاي ... فإن الرجل نافذ الكلمة، شديد القوة. - ولذلك أردت تعيينه، فإني في حاجة إلى مثل هذه القوة. - ولكن ألا تعلم يا مولاي أن الدوق دي كيز قائد الجيش العام، وأن أخاه الكردينال رئيس الكنيسة، وأن الدوق دي ماين آلة في أيديهما، فكأنك تريد أن تجمع السلطتين في بيت واحد، وتعززها بهذه القوة الجديدة.
وفي ذاك خطر على العرش يجب أن تخشاه.
ولو كان هذا الدوق أميرا فرنسيا لهان الأمر، وساغ لنا أن نقول إن مجد فرنسا يشغله عن المطامع الذاتية، ولكنه من اللورين؛ فهو يؤثر نفسه على صالح تلك البلاد التي يخدمها ويعيش في ربوعها.
فقال الملك: أنت مصيب في رأيك، وقد افتكرت في العاقبة مثلك، ولكنني أحببت أن أستطلعك الرأي ... أما وقد تيقنت الآن من إخلاصك، ووثقت من صداقتك لي، فلم يعد بد من إطلاعك على أفكاري بشأن هذه الأسرة ومخاوفي منها.
فاعلم الآن أني أكرهها الكره الشديد، وأضمر لها أشد الحقد؛ لأنها سبب أحزاني وعلة جميع مخاوفي.
فإنه لا يمر بنا يوم حتى يسلبني أولئك الثلاثة قوة من قواي، ويطفئون نورا من أنوار مجدي، سواء بالقوة أو بالحيلة والدهاء، حتى صرت أتهيب من كيدهم وأترقب الفرص للإيقاع بهم.
ولكن هيهات أن يكون لي ذلك، فإن بأسهم شديد وكلمتهم مجتمعة، ولو علمت من إخلاصك من قبل ما علمته اليوم، لكنا اتفقنا يدا واحدة عليهم، ونكلنا بهم شر تنكيل.
ولكن وا أسفاه! قد فات الأوان. - لماذا تظن ذلك؟ - لأن صدامهم بعد اشتدادهم متعب لي، وأنا أتجنب الآن كل تعب؛ ولذا فإني سأعين الدوق دي كيز وأنجو من المتاعب. - ذاك إليك، ولكن تخطئ في ذاك الخطأ الشديد. - لا أنكر ما تقول، ولكن من تريد أن أعين بدلا منه في هذا المركز الخطير، بعد أن تبين لي من حديثه أنه يريد أن يكون ذلك الرئيس؟ - وأين وجه الخطر؟ - إن الرجل الذي سيتولى هذا الحزب سيكون عدوه الألد. - إذا، فعين مكانه رجلا قادرا مثله، فإذا أضفت قدرة هذا الرجل إلى قدرتك يكون لك قوتان تغلب بهما كل قوة. - هذا فكر حسن، ولكن أين أجد هذا الرجل القادر المستكمل لهذه الشروط. - انظر حواليك تره. - لم أعلم من تريد، إلا إذا كان مرادك شيكو. - ألا ترى في القاعة غير شيكو؟ - لا أرى إلاك! - ألا تجد بي الكفاءة لهذا المركز؟
فتظاهر الملك بالانذهال والعجب الشديد وقال: أنت تقبل أن تكون رئيسا لحزب كهذا؛ حيث يجب على الزعيم أن يعمل ليل نهار، وأن ينظر في كل شيء من مهام العامة، ويختلط بين زعانف الناس ، ويلج في كل مكان، ويراجع بنفسه كل خطاب يتلى، ويقرأ كل منشور يذاع ... أنت الذي تعد بعد الملك أعظم عظيم في فرنسا، تتدانى إلى مثل هذه الأعمال، إن ذاك غريب لا يحتمل التصديق! - نعم، إني لا أصنع شيئا من ذاك لأجلي، ولكني أفعل كل شيء لأجلك، فإذا شئت أن تعينني في مكان الدوق دي كيز، فإني أقبل المركز راضيا، فنصون عرش أسرتنا من أطماع تلك الأسرة. - وهو غاية ما أتمناه، لقد جعلتني في الحقيقة من أسعد الناس لقبولك هذا المركز، فأنا سأعينك فيه، ولكن احرص أيها الأخ العزيز من الدوق دي كيز فإنه طويل الباع، وربما دفع البلاد إلى حرب مدنية، فإنه لم يجدد البحث في هذا الحزب إلا على أمل أن يكون رئيسا له، وهذا الذي أخشاه. - إذا كان هذا الذي تخافه يا مولاي، فطب نفسا؛ فأنا سأتفق مع الدوق على وجه يضمن السلام. - متى؟ - في الحال؛ لأني سأجتمع به الآن وأباحثه في هذا الشأن مليا. - كيف ذلك؟ أتذهب إليه؟ أولا تعلم أنه محط لنا؟ - لا تخف؛ لأني أحرص مثلك على ذلك، وإني لا أذهب إليه بل أجتمع به في غرفتي حيث ينتظرني. - أهو ينتظرك في الغرفة؟ - نعم يا مولاي. - كيف ذاك؟ لقد رأيته بعيني خارجا من باب اللوفر. - نعم، ولكنه سيعود إلي من الباب الآخر. - إذا اذهب إلى لقائه، وسنرى ما يكون.
فقام الدوق ودنا من أخيه ليقبل يده، حسب العادة المألوفة في ذاك العهد.
فجذب الملك يده مسرعا وقال: لست الآن بملكك ومولاك، بل أنا أخوك وصديقك بعدما ثبت لدي إخلاصك وإخاؤك.
ولذا فإني أمد يدي إليك للمصافحة لا للتقبيل.
فصافحه الدوق وقد انطلت عليه خدعة الملك، وخرج من حضرته وقلبه ممتلئ فرحا.
ولكنه لم يكد يخرج من غرفة الملك، حتى خرج الملك أيضا من باب آخر.
ثم تبعه شيكو ...
فذهبا توا إلى غرفة ملاصقة لغرفة الدوق دانجو، كانت لمارغريت دي نافار.
ولم يكن يفصل بين الغرفتين غير حاجز رقيق من الخشب، بحيث لا يفوت الواقف المتنصت فيها كلمة من المحادثات التي تدور في غرفة الدوق دانجو.
وكان ذهاب الملك إليها بإغراء شيكو، ليقفا على حديث الدوقين.
الفصل العشرون
الدوق دي كيز والدوق دانجو
أما الدوق دانجو فإنه ذهب مسرعا إلى غرفته، فوجد الدوق دي كيز ينتظره فيها.
وقد ظهرت على وجهه علائم السأم والملالة.
وكان الملك أيضا قد جلس في مكمنه وأصغى إلى ما دار من الحديث بين الدوقين، وهو كما يأتي:
قال الدوق دي كيز: إني قد استبطأتك جدا، حتى خطر لي أن جلالته قد أبقاك لديه للمباحثة في شأننا الخطير.
قال الدوق دانجو: هو ذاك أيها الصديق، فلقد تباحثنا مليا في هذا الشأن الخطير. - وماذا كان جواب جلالته؟ - إنه مصادق على هذا المشروع، ولكنه يخشى من تعيينك رئيسا للحزب. - إذا فنحن على أهبة الانخذال. - وأنا أخشى ما تخشاه أيها الصديق؛ لأن جلالته أصبح كثير المظان في هذه الأيام، حتى إنه ليحرص من أخلص خلصائه. - يا للداهية! فإن هذا المشروع سيموت قبل أن يولد وسينتهي قبل أن يبدأ.
ثم وجم الاثنان حينا عن الكلام ... إلى أن عاد الدوق دي كيز إلى الكلام فقال: إذا، فإن جلالته لم يقابلني تلك المقابلة السيئة إلا وفي نيته رفض مطلبي. - هذا ما أرتئيه أنا أيضا.
هذا لا ريب فيه أيضا ... ولكني لم أدع له مجالا لنقضه، لقد بادرت إلى إسعافك بجميع ما خطر لي من الوسائل، حتى تمكنت أخيرا من الفوز. - كيف ذاك؟ - ذاك أن جلالته قد أناط بي نقض المشروع وإبرامه ... فإذا كنت أنت رئيس الحزب فهو ساقط لا محالة؛ لأنه لا يصادق على تعيينك لحذره منك ... ولكنه يقبل به على شرط واحد، وهو أن أتولى أنا تلك الرئاسة.
فامتعض وجه الدوق دي كيز، واتقدت عيناه بشرر الغضب ... ولكنه لم يلبث أن رجع إلى نفسه، فكظم الغيظ، وتلبس بلباس الصبر والسكينة، فقال بعد أن تظاهر بأنه يعمل الفكرة: أنت إذا كنت قد قبلت بمقترح جلالته، فأنت ولا ريب خير سياسي عرفته إلى الحين. - لينعم بالك لقد قبلت . - كيف قبلت على الفور من غير مهلة ولا تردد؟ ألم تخش أن يقع له بك ريبة؟ - نعم، ولكن الحوادث ساعدتني على سرعة القبول، ومع ذلك فإني لم أبت بالأمر، ولم أجعله في حد النهاية بغية أن أراك وأقف على آرائك. - كيف ذلك؟ ولماذا؟ - ذلك لأني لا أعلم إلى أي حد تصل بنا هذه الحادثة. - لا أقدر أن أقول إلى أي حد تصل بنا، ولا أستطيع أن أكشف لك الحجاب عن نتائج أعمالنا.
إنها منوطة بالغيب، والغيب بيد الله.
لكني أستطيع أن أوضح الفائدة التي سننالها من هذا الحزب، وهي أن الحزب سيكون بمثابة جيش ثان.
ولكوني أنا أتولى رئاسة الجيش العام، وبيد أخي زمام الكنيسة، سيصبح لنا مطلق السلطان في البلاد إذا وحدنا كلمتنا، وجعلنا القوات الثلاث قوة واحدة. - هذا لا ريب فيه، وقد فاتك أمر آخر هو أني ولي عهد الملك الذي لم يرزق ابنا يخلفه إلى الآن. - لم يفتني ذاك، فأنت وإن كنت ولي العهد، فيجب عليك أن لا تأمن الحوادث، وأن تحرص من كل شيء. - أية حوادث تعني؟ ومن أي أمر علي أن أحرص؟ - أول من يجب الحرص منه هو ملك النافار. - أنت واهم فيما تقول؛ لأن هذا الرجل لا يحمل على شيء من القلق؛ لأنه مهتم بالغرام.
فضحك الدوق دي كيز وقال: لست أنا الواهم يا مولاي؛ لأني قد أصبت مرمى الحرص، ولكن الله قد فطر فؤادك على السجية الطيبة والنية الخالصة، فأصبحت تغرك الظواهر وتثق بالأعداء.
أما ملك النافار فهو أشد منك شوقا إلى عرش فرنسا، وهو يتوقع لبس ذاك التاج في كل يوم.
ولذا فهو يرقب حركاتكم وسكناتكم، فلا تخفاه خافية من أمركم على الإطلاق، وعيونه وأرصاده مثبتة في كل مكان، حتى في غرفكم التي تبيتون فيها.
وإني لا أجد له مثلا إلا مثل الهر الذي يشم رائحة الجرذ، فيبيت طول ليله سهران يتحين فرصة لينقض بها على فريسته ويمزقها بأظافره، فهو يرقبكم كمراقبة الهر لفريسته.
ولا بد لتلك الفريسة أن تخرج من مكمنها ، فتغرز فيها أظفار ذاك المراقب الذي لا يغفل.
وربما لا توافقني على هذا القول الآن، ولكن اصبر ريثما يصاب من هو أسمى منك؛ أي أخوك الملك.
فترى عندئذ ذاك الرجل الذي يشغل عنكم بملاهي الغرام كيف ينقض على باريس انقضاض الصاعقة، ويجلس على ذاك العرش الذي لا يشغله عن الصبوة إليه شاغل من ملاذ الحياة.
وسترى عندما يصاب أخوك!
فبهت الدوق دانجو لكلام محادثه، وقد نبهت حواسه إشارته إلى مصير أخيه فقال: ماذا تريد بإصابة أخي؟ ... ومن أي حادث تخشى على الجالس على العرش؟
فقال الدوق دي كيز: إن الحوادث كثيرة في أسرتكم، وأنت تعلم ذاك كما أعلمه أنا، بل كما يعلمه كل واقف على أحوال البلاط.
لقد طالما رأينا رجال تلك الأسرة وهم على أتم العافية يصابون بداء فجائي يخطف أرواحهم ببضع ساعات.
فقال الدوق بصوت أجش: نعم، لا أنكر عليك ذاك، فقد قدر لرجال أسرتنا أن يكونوا عرضة للأقدار وكوارث الدهر ... ولكن أخي هنري الثالث هو والحمد لله حسن الصحة، ولا خوف عليه من مثل هذه الكوارث، لا سيما بعد أن نجا من معارك القتال.
فقال الدوق دي كيز: نعم، ولكن ألا تذكر يا مولاي كيف كان موت أبيك هنري الثاني؟ فإنه كان في أتم عافية كأخيك، وقد نجا من معامع القتال كأخيك أيضا، لكنه أيضا لم يسلم من تلك الحربة التي أجهزت عليه.
نعم إن الملكة قد قتلت به الكونت مونغوميري، ولكن جلالته مات أيضا ولم يكن موته طبيعيا ...
ثم انظر إلى أخيك الملك فرنسوا، فإنه كان أيضا كأبيك وأخيك الملك هنري، ولكنه أحس يوما بألم في أذنه فمات، ولا أحد يعلم علة هذا الموت وكيف وصل إليه هذا الداء.
ولكني قد سمعت كثيرين يقولون همسا بالآذان إن هذا الداء الذي أصاب فرنسوا الثاني كان مسببا عن سم قتال وضعه في أذنه رجل عظيم مثله، لا نستطيع التصريح باسمه.
فاحمر وجه الدوق دانجو، فتظاهر دي كيز بعدم الانتباه، واستمر في حديثه قائلا: نعم أيها الدوق العزيز، إن اسم الملك قد أصبح شؤما في هذه الأيام على حامله.
فمن يسمى بملك فكأنه قد دعي بالمنكود؛ لأن اسم الملك أصبح مرادفا لاسم النكد والشقاء.
ثم انظر أخيرا إلى أنطوان دي بوربون، ألم يمت على إثر ضربة أصابته في كتفه؟
فهل كان موت أحد من هؤلاء الثلاثة طبيعيا؟
هذا ما أرويه عن ملوك هذه الأسرة، ولو شئت أن أعدد من أصيب من أعضائها بمثل هذه النكبات والحوادث الفجائية، لطال تعدادي وضاق المقام دون حصر هذه الحوادث.
ولكني أختم كلامي، بذكر ما أصيب به الملك شارل التاسع، فإن موته كان غريبا، فهو لم يصب بأذنه ولا بكتفه، بل كانت إصابته بفمه.
ألا تذكر هذه الحادثة أيها الدوق؟ - كلا، ولا أعلم شيئا منها. - ربما قد نسيتها لطول العهد بها، أما الحادثة الغريبة فهي أن الملك شارل التاسع قد مات وهو يقلب صفحات كتاب الصيد.
وذلك أن صفحات الكتاب كانت ملوثة بدهان سام، فكان يضع إصبعه في فمه ليأخذ منه الرضاب المسهل لقلب الأوراق، فترجع ملوثة بالسم، ثم يعيدها إلى فمه فيسري السم إلى دمائه.
وهكذا فإن الملك قد مات مسموما.
فاحتج الدوق دانجو وقال: ماذا تقول أيها الدوق؟ ... وماذا تريد بتعداد هذه المآثم والذنوب؟ - إني لا أدعوها بذنوب، بل جل ما أريد أن أقوله هو أن أسرتكم عرضة للحوادث.
ألا تذكر ما جرى لشارل التاسع أيضا عندما كان في الصيد يوم أطلقت أنت عيارك الناري على الفريسة التي كنتم تطاردونها، فبدلا من أن يصيب عيارك الفريسة أصاب من لم تكن تريد أن تصيبه.
فجميع ذلك يدل على أن كل عضو من أعضاء أسرتكم عليه أن يحذر دائما من كل أمر.
وأن يخاف دائما من طوارق الحدثان.
فلما انتهى الدوق دي كيز من قص الحكاية الأخيرة، أراد الدوق دانجو أن يصرف التهمة عنه، ويحول الدوق دي كيز عن أن يظن به ذاك الظن السيئ فقال: أنت مخطئ فيما ظننته من إطلاقي العيار الناري على الملك بدلا من تصويبه إلى الفريسة؛ فإن وريث شارل التاسع هو أخي هنري الثالث وليس أنا.
فأية فائدة لي من قتله وأنا لم أكن ولي عهده في ذلك الحين؟ - تمهل يا مولاي، وأصغ إلي ... فأنت تعلم أكثر ما أعلم من جميع هذه الأمور.
وأنت عندما أطلقت عيارك على شارل التاسع أو على الفريسة كما تريد، كان لديك تاج بولونيا الذي يدنيك من العرش الفرنسي، كما أن موت شارل التاسع يرقيك درجة في سبيل الوصول إلى ذلك العرش العظيم، ولكن أخاك هنري الثالث أسرع في الحال من فارسوفيا إلى باريس وتولى الأريكتين.
فلم يعد يفيدك غير ما ذكرناه من أمثال تلك الحوادث لتحقيق أمانيك.
فهل تريد الآن أن تعلم ما أقصد إليه بعد هذا الجلاء؟
فتأفف الدوق دانجو من هذه المباحثة، وقد أراد أن يضع حدا لها، فقال: أفصح أيها الدوق، وقل بأتم الجلاء عن الغاية التي تريدها من حديثك الطويل. - إن ما قلته جلي واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.
ومع ذلك فإني أوضح لك جهد الطاقة، وبقدر ما يسمح به هذا المقام الضيق.
فأقول: تقدم لي القول إن كل ملك من ملوك أسرتكم كان له حادثة أصيب فيها وكانت علة وفاته.
أما الملك هنري الثالث فأنت وحدك حادثته الوحيدة وعلة مصابه التي لا يجد منها مناصا.
ولا سيما متى كنت رئيس هذا الحزب العظيم، الذي سيعينك عليه بدلا مني.
فأنت تغدو بهذه الزعامة ملكا على الملك نفسه، ورئيسا على كل رئيس. - إذا، فإن من رأيك أن أقبل الرئاسة. - لست أرتئي قبولك فقط، بل إني أتوسل إليك أن تقبل.
فاختلج فؤاد الدوق دانجو وظهرت على وجهه ملامح البشر فقال: وأنت ماذا تصنع في المساء؟ - طب نفسا، فإني سأجمع جميع رجال الحزب في هذا المساء، وأبث الناس في أنحاء باريس يتظاهرون برغبة جلالته في ضم هذا الحزب والمصادقة عليه.
وسأدع الجميع يتسابقون في الانخراط في سلكه والتوقيع على عقوده، بحيث ستكون باريس في هذه الليلة أعجوبة من الأعاجيب. - حسنا تفعل أيها الصديق، وسنلتقي في المساء. - سنلتقي من غير بد، فاذكر دائما حديثنا الأخير. - أذكر ذلك ولا أنساه.
ثم انقطع الصوت ... •••
لم يعد الملك يسمع شيئا من حديث الدوقين، فعرف أن المحادثة قد انتهت.
وأن هذين الخائنين قد افترقا ...
فرجع مع شيكو إلى قاعته وهو يلتهب من الحنق على أخيه، وقد وقف على جميع خداعه وأسراره.
فلما خلا بهما المكان قال لشيكو: ماذا تقول فيما سمعته؟ - أقول إن كل ملك من ملوك أسرتكم كان له حادثة يصاب بها كما قال الدوق دي كيز.
ولكن كل ملك من هؤلاء الملوك كان يجهل ما سيصاب به، ولا يعلم شيئا من تلك الحادثة التي تنذره.
فإن هنري الثاني لم يكن يتوقع أن يصاب في عينه.
وفرنسوا الثاني لم يكن يحسب أنه سيصاب في أذنه.
وأنطوان دي بوربون لم يخطر في باله أنه يموت بضربة تصيبه في كتفه.
وشارل التاسع لم يدر في خلده أنه سيموت بفمه.
وهكذا فإن كل ملك قتل غيلة وغدرا كان يجهل عدوه الذي يهدده، أما أنت أيها الملك فأنت موفق أكثر من الأسلاف ...
فأنت تعرف المعرفة الصحيحة أن عدوك الذي يريد قتلك، هو أخوك؛ فتدبر. - نعم يا شيكو، إن الأيام بيننا وسنرى ما يكون.
وبات الملك تلك الليلة وهو منقبض الصدر مما لقيه من كيد أخيه، وجعل يدير وسائل الانتقام.
وبات الدوق دانجو وهو منشرح الصدر فرح القلب، يعلل النفس بالأماني، ويؤمل أن يرقى إلى سدة العرش، ويلقي بأخيه إلى الحضيض.
الفصل الحادي والعشرون
شيكو ينصح باسي بالهروب من باريس
ولنعد الآن إلى باسي، وهو أهم من تتطلع إليه أفكار القراء في هذه الرواية.
فإنه بعد أن خرج من منزل مونسورو، وأظهر لها حبوط مسعاه، وأنه غير قادر على إنقاذها من قبضة زوجها، ذهب إلى منزله واليأس ملء قلبه.
فحم لهول ما لقيه من خيانة الدوق.
وأقام ثلاثة أيام على فراش الحمى تتنازعه عوامل الموت والحياة.
ثم تغلب الصبي على فتكات الحمى، فشفي من دائه وعاد يفكر تفكير المهموم بتلك الفتاة التي خلبت قلبه، وهو لا يهدأ له بال، ولا يقر له جفن، ولا يعلم بأية وسيلة يلقاها.
وبينما هو يتقلب على أحر من نار الغضا، إذ دخل عليه الدوق دانجو بحجة العيادة.
فارتاع باسي لمرآه، وتظاهر بالتوجع كي لا يضطر إلى تكلف البشاشة.
غير أن الدوق لم تخف عنه هذه المظاهرات، فكظم الغيظ وأخبره أنه في حاجة إليه في المساء.
فامتنع باسي عن إجابته متذرعا بحجة الداء، فخرج الدوق يتعثر بأذيال الخيبة، وهو حانق عليه أشد الحنق. •••
وبعد خروج الدوق، دخل على باسي طبيبه الخاص رامي، وابتدره بالكلام فقال: ينبغي يا مولاي أن تسير معي لقضاء أمر هام. - وماذا عسى أن يكون ذاك يا رامي؟ وأنت تعلم ما أنا فيه من النكد والهموم. - أعلم جميع ذلك يا مولاي، ولم أدعك إلى المسير معي إلا بغية تفريج هذا الهم ...
وقد خشيت من أن تجيب الدوق إلى ما طلب ... فتحبط جميع مساعينا ...
فأسرع يا مولاي واتبعني قبل أن يفوت الأوان.
وكان باسي يثق بهذا الطبيب ثقة عمياء، وقد رآه يكلمه وملامح الارتياح والبشاشة تلوح بين ثنايا وجهه، فعلم أنه لا بد من المسير معه.
فأسرع إلى لبس ثيابه، وخرج في إثر طبيبه وهو لا يعلم أين يسير.
وما زالا يسيران إلى أن بلغا إلى منزل منفرد قفر، تحيط به حديقة كبيرة، فأخذ الطبيب مفتاحا من جيبه وفتح به باب الحديقة، ثم دخل بسيده وقال: لقد انتهت مهمتي الآن يا مولاي، فأنا سأقيم تحت هذه الشجرة، أما أنت فعليك أن تطوف في هذه الحديقة، فأنت ستجد من ريحانها ترويحا للنفس وتفريجا للكربة.
فتركه باسي وسار في الحديقة حتى رأى منزلا صغيرا مستترا بين أشجارها الغضة.
فهرع إليه ...
فلما دنا منه رأى فتاة جالسة على مقعد تحت شجرة ملتفة الأغصان، وهي واضعة رأسها بين يديها ومطرقة بنظرها إلى الأرض، لا تكترث بما حواليها من مناظر الطبيعة.
لكنها لم تلبث أن سمعت وقع أقدام قريبة منها حتى أفاقت من غفلتها، ولفتت لفتة الغزال الشارد تنظر من القادم.
فصاح باسي صيحة الدهشة والسرور، وأسرع إليها وهو يختلج فرحا بهذه اللقيا ... لأنه لم يخطر له في بال أنه سيلاقي في هذه الحديقة من يحب.
أما ديانا فإنها هشت إليه وأجلسته بالقرب منها.
فجعلا يتناجيان ويتشاكيان الغرام، إلى أن بلغ بهما الحديث إلى ذكر زوجها، فقالت: إنه شديد الغيرة علي، ولا سيما في هذه الأيام، حيث كنت تمر في كل ليلة من تحت المنزل ... حتى إنه اضطرني إلى السفر إلى ماريدور.
فدهش باسي مما سمع وقال: أما مروري بالمنزل، فإني من يوم أخبرتكم بخيانة الدوق إلى اليوم لم أخرج من المنزل ساعة لما أصبت به من الحمى.
ولعل الذي كان يراه زوجك هو الدوق، ثم كيف يضطرك إلى السفر؟ ومتى يكون هذا؟ - إنه اضطرني إلى السفر خفية كي يبعدني عن باريس، وإذ لم أجد وسيلة لإرجاعه عن عزمه، فقد بالغت في الحيلة كي أجد طريقة تجمعنا قبل هذا الرحيل ...
واستعنت على ذلك بخادمتي وبطبيبك الخاص، حتى ظفرت بالمراد ونعمت بلقياك.
فاجهد الآن أنت في طريقة تجمعني وإياك في ماريدور؛ لأني أخشى أن نقيم فيها مدى العمر.
فأكب باسي على يديها يلهبها بقبلات الغرام، وقال: طيبي نفسا أيتها الحبيبة، فسألحق بك وهناك لا نعدم وسيلة تحجبنا عن أعين الرقباء.
فبعد أن أقام العاشقان في تلك الحديقة ما شاء الهناء، افترقا على أمل اللقاء.
وكلاهما ينشد بلسان الغرام:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
ثم خرج باسي، فلقي الطبيب حيثما تركه ... فذهب الاثنان إلى المنزل.
وعندما دخل باسي إلى غرفته وجد فيها كتابا باسمه، ففضه وقرأ فيه ما يأتي:
لا تقم بعد أن تقرأ رسالتي ساعة في باريس ... بل فأسرع بالرحيل إلى مكان يحجبك عن العيون ... ريثما يهدأ ثائر الملك، فتعود ...
ثم ألق هذه الرسالة في النار؛ لأني إذا قد نصحت صديقي، فقد خنت ملكي ...
شيكو
فبهت باسي هنيهة، ثم علم أن الملك قد أخذ أخاه بالخيانة، وأنه سينتقم من جميع أعوانه.
فدعا للحال بالطبيب وقال: أسرع بتهييء معدات الرحيل؛ لأننا مسافران في الحال إلى ماريدور.
ثم ألقى الرسالة في النار وهو يشكر شيكو.
وبعد ساعة خرج مع الطبيب من أبواب باريس في طريق ماريدور.
الفصل الثاني والعشرون
هروب الدوق، ومحاولة مصالحته مع الملك
أما الدوق فإنه خرج من منزل باسي إلى منزل الدوق دي كيز، وهو حانق على باسي طيب النفس لما توهمه من خدعة الملك، فأقام مع الدوق دي كيز يتآمران إلى ما بعد منتصف الليل.
وأما الملك فإنه قد عزم العزم البات على معاقبة أخيه أشد العقاب وإبعاد كل أعوانه.
فبدأ بمونسورو، فأرسله إلى الضواحي بحجة أنه عازم على الصيد في الغد.
ثم أرسل جميع أعوان الدوق إلى جهات مختلفة، وأمر بالقبض على كثيرين منهم.
ثم أمر حراسه أن يحيطوا بغرفة الدوق، وأن لا يأذنوا له بالخروج منها.
وبعد منتصف الليل بساعة، أقبل الدوق وهو منشرح الصدر يعلل النفس بالأماني.
فدخل إلى غرفته وهو لم ير الحراس، ولم يفطن إلى أمر من انتقام أخيه.
فلما كان الصباح، حاول الخروج لمقابلة أخيه، فمنعه الحراس وأخبروه بما تلقوه من أمر جلالته بشأنه.
فأجفل الدوق لهذا الخبر، وحرق الأرم من الغيظ، ثم أنذر وتوعد وحاول الخروج عنوة.
ولما رأى أن ذلك محال، عاد إلى غرفته وهو يزأر كاللبوة فقدت أشبالها.
ولم يقم هنيهة حتى دخل عليه الملك وهو يبسم تبسم الهزء والاحتقار.
فدار بينهما حديث طويل، أظهر له الملك في ختامه كيف اطلع على خيانته.
ثم تركه وانصرف.
فعرف الدوق أنه لم يعد له مناص من قبضة أخيه، وجعل يفكر مهموما بوسائل الخلاص.
لكنه لم يهتد إلى رأي سديد.
ولم ينتصف النهار حتى شاع خبر سجن الدوق في كل باريس، وعلم أكثر المقربين بأن الملك سيصعق أخاه، وسيضربه الضربة القاضية التي طالما توقع حدوثها العارفون بأسرار البلاط.
أما الدوق فإنه أقام في غرفته منفردا، وقد علم بأنه لا ينقذه من غضب أخيه ودسائس أعدائه غير الهرب.
ولكن كيف يجد سبيلا إلى الفرار وهو محاط بحراس لا يغفلون عنه طرفة عين.
فلبث إلى منتصف الليل، وهو لا يقر له بال، ولا تخمد له لوعة.
وبينما هو جالس يفكر تفكير القانط، إذ بكرة قد كسرت زجاج النافذة ووقعت أمام رجليه.
فأجفل الدوق، وشعر للحال أن يدا قادرة قد مدت إلى إسعافه.
ثم أكب على الكرة، فأخذها ومزق جلدها بأسنانه، فرأى في طيها رسالة.
فقرأ فيها وهو يختلج من الاضطراب ما يأتي:
إذا كنت تؤثر الحياة فافتح الخزانة الكائنة في غرفتك، تجد في علبة صغيرة فيها سلما من الحرير، فعلقه في حديد النافذة تجد في انتظارك جميع معدات الفرار.
محب لك
فطار فؤاد الدوق من الفرح، وأسرع في الحال إلى الخزانة، فوجد فيها العلبة وفي طيها السلم.
فتركها في مكانها، وذهب إلى الباب يتفقد الحراس ... فوجدهم نائمين.
فاطمأن وأخذ السلم فعلقها في النافذة، بعد أن تأكد من متانتها وطولها، ثم نزل عليها حتى بلغ إلى الأرض.
فوجد بانتظاره فارسا مقنعا فقال: من أنت؟
فقال الفارس: طب نفسا، فأنا ابن عمك هنري.
فدهش الدوق وقال: أنت هنري دي نافار، وكيف أكافئك عن هذا الجميل؟ - خير ما تكافئني به إلى الآن أن تسرع في الهرب إلى دانجو، وستجد على باب السور أعوانا لك ينتظرون قدومك ... فأسرع الآن قبل فوات الفرصة.
فركب الدوق وانطلق بهما الجوادان يقطعان الأرض نهبا حتى خرجا من باريس.
فلقيا خمسة فرسان بالانتظار.
فودعه هنري وعاد إلى باريس، وانطلق الدوق مع رفاقه في طريق دانجو وهو لا يكاد يصدق بالنجاة. •••
لنعد الآن إلى باسي، فإنه غادر باريس مع طبيبه الخاص، فجعل يسير في الليل ويستريح بالنهار ... حتى بلغ بعد ستة أيام إلى قرية ماريدور.
وكانت ديانا قد وصلت إليها قبله بيوم واحد مع أبيها، فذهب ساعة وصوله إلى زيارة البارون.
فوجد هناك سانت ليك وامرأته.
فقابلاه بمنتهى الدهشة والسرور.
أما ديانا فإنها كانت تنظر إليه نظرات ملؤها الحب والحنان لم تخف عن سانت ليك وامرأته.
فكانا يبتسمان لرؤية هذين العاشقين اللذين لم يستطيعا إخفاء ما يكابدانه من لواعج الغرام ...
ويذكران حبهما القديم.
واغتنم باسي وديانا فرصة غياب مونسورو في باريس ، فكانا يقضيان أكثر ساعاتهما مختليين في الغابات، يتناجيان ويجنيان ثمر الغرام.
إلى أن افتضح سرهما أمام سانت ليك وامرأته.
فباحت ديانا للزوجة.
وباح باسي للزوج بسر الغرام.
فجعل الزوجان يساعدانهما مكافأة لباسي عما صنعه معهما من الجميل في يوم عرسهما. (كما يذكر القراء في مقدمة هذه الرواية.)
ولم يمض على قدوم باسي ثلاثة أيام، حتى شاع قدوم الدوق دانجو، فلم يجد باسي بدا من الذهاب إليه.
فذهب فرآه قد أقام البلاد وأقعدها وهو يستعد ويتأهب لإثارة حرب داخلية انتقاما من أخيه.
فتأهل به الدوق وأخفى ما يحمل عليه من الحقد.
ثم علم منه أن مونسورو لا يزال في باريس، وأن امرأته قد قدمت إلى القرية مع أبيها.
فأفعم فؤاد الدوق فرحا، ونسي كل ما هو فيه من القلاقل والمشاغل.
فلم يلبث أن خرج من عند باسي، حتى ذهب مسرعا إلى زيارة ديانا التي قابلته بفتور كاد يحبط كل أمانيه.
وعاد في اليوم التالي أيضا إلى مثل هذه الزيارة، فقابلته بنفس الفتور.
وكان باسي حاضرا، فعلم الدوق مما كانا يتبادلانه من نظرات الغرام أن الفتاة عاشقة لباسي، وأنه يضرب في حديد بارد.
فثارت فيه كوامن الأحقاد، حتى كاد يبطش بصفيه القديم، لكنه أخفى ما به من الغيرة.
وعاد إلى المنزل وهو يفكر باختطاف ديانا والانتقام من باسي.
وفي اليوم الثاني، بينما كان الدوق واقفا في منزله يسرح الطرف من النافذة في الحقول، وهو قانط من الحب، إذ بصر بفارس ينهب الأرض حتى وصل إلى القصر.
فترجل عن الجواد ودخل مسرعا إلى ردهة القصر.
فعرف الدوق أنه مونسورو، وأسرع إلى مقابلته لما رأى على وجهه من ملامح الاهتمام.
فلما اختليا قال له مونسورو: مولاي، إن جلالة الملكة قادمة إلى دانجو لمقابلة سموكم.
فارتاع الدوق لهذا الخبر وقال: ما عساها تريد مني؟ - إنها آتية لعقد الصلح بينكم وبين جلالته. - ذلك محال؛ لأن أخي لا يريد الصلح بل هو يرغب بالانتقام، وما هو بأشد نزوعا مني إلى الشر وتكدير كأس السلام. - هو ما قلته لكم يا مولاي، وما أتيتكم إلا بالخبر اليقين. - إذا فارو لي ما جرى بعد غيابي؟ وما حمل أخي إلى مبادرتي بالصلح ولم أبدأ بعد بالحرب؟ - هو ظنه بأن الذي ساعدك على النجاة لم يكن غير هنري دي نافار.
فأشارت عليه جلالة الملكة والدة سموكم، أن يكون وإياك على هذا العدو الطامع بالعرش.
وذاك حذرا من أن تتفق وإياه.
ثم اقترحت على جلالته أن تأتي إليك وتعود بك إلى باريس، على أن تضمن لك عفوه ورضاه.
فقبل جلالته بذلك ... وهي الآن قادمة، وربما وصلت بعد ثلاثة أيام. - حسنا ... فاذهب واسترح في منزلك من عناء السفر، وسأعمل الروية في هذا الشأن.
فودعه مونسورو وعاد إلى منزله وهو يلتهب شوقا إلى امرأته.
الفصل الثالث والعشرون
مبارزة مونسورو وسانت ليك، ورامي ينقذ مونسورو
أما ديانا وباسي، فلم يكونا ينتظران عودة مونسورو بمثل هذا الشوق.
فوقع قدومه عليهما وقوع الصاعقة؛ لأنه حال دون اجتماع هذين العاشقين ... اللذين حسبا أن أيام سعادتهما بهذه الخلوات لا تفنى.
وبينما كان العاشقان يفتكران في طريقة تجمع بينهما، كان سانت ليك يفتكر بطريقة تمكنه من مكافأة باسي بقتل مونسورو، والجمع بين العاشقين بلقاء لا فراق بعده.
فجعل ينظر إلى ديانا نظرات الغرام.
ولما لاحت له فرصة بالقرب من زوجها، تلبس أمامه بهيئة العاشق السعيد.
وجعل يروي أمامه قصصا مبهمة تدل على أن علائق الحب مستحكمة بينه وبين ديانا الذي كان ضيفها مع امرأته.
وأقام على ذلك ثلاثة أيام، وهو لا يدع فرصة تمكنه من إثارة الغيرة في قلب مونسورو إلا اغتنمها، حتى ترك ذلك المسكين في حالة تحمل على الإشفاق.
كل ذلك وباسي وديانا يجهلان نوايا سانت ليك، ويذللان كل صعب لاجتماعهما ...
فاهتديا إلى طريقة تمكنهما من اللقاء، وهي أن باسي كان يأتي في كل يوم فيصعد على السور المحيط بالحديقة، وينزل إليها فيجد ديانا تنتظره تحت شجرة غضة في وقت معين، فينهبان الملذات بينما يكون مونسورو عند الدوق يتآمر وإياه على خلع الملك.
وكان سانت ليك واقفا على جميع ذلك؛ لأن باسي كان يخبره عن كل شيء.
فينما كان مونسورو عائدا يوما من عند الدوق إذ أبصر عن بعد برجل قد خرج من الحديقة متسلقا سورها، ثم قفز إلى الأرض، فامتطى جوادا وانطلق به ينهب الأرض.
فهرول مونسورو مسرعا ليتبين ذلك الرجل.
ولكنه لم يلبث أن بلغ إلى الحديقة، حتى توارى الفارس عن نظره ولم يعد يراه.
فجن من الغيرة، وأول ما تبادر إلى ذهنه سانت ليك، فالتهب صدره حنقا عليه.
ودخل إلى المنزل وهو عازم على مبارزته والانتقام منه بالقتل.
وعند الظهر، جلس أهل المنزل على المائدة، وبينهم سانت ليك، فلما فرغوا من الطعام نظر مونسورو إلى سانت ليك نظرة الاحتقار وقال له بلهجة المتهكم: لي كلمة ألقيها إليك أيها الضيف العزيز ... أتسمح لي بمقابلة؟ - نعم، فمر بما تشاء.
فخرج مونسورو، وخرج بإثره سانت ليك حتى وصلا إلى السور.
فوقف مونسورو حيث خيل له أنه رآه وقال له: ألست أنت الذي رأيته يتسلق هذا السور ... عند الصباح؟
ففطن سانت ليك إلى ما يعلمه من اجتماع باسي بديانا، وعلم أن مونسورو رآه عند الصباح وحسبه سانت ليك.
فقال في نفسه: هذه فرصة مناسبة للمبارزة، وبلوغ ما أتمناه من خدمة باسي بقتل هذا الرجل.
ثم نظر إلى مخاطبه نظرة المتهكم، وقال: نعم. - ماذا أردت بدخولك الحديقة على هذا النمط؟ وما كان المانع عن الدخول إليها من بابها؟ - لأني رأيتها مقفلة الأبواب كثيرة الحجاب، ثم رأيتها جنة دانية القطوف فهبطت إليها من السماء.
فاحتدم مونسورو من الغيظ وقال: ولكن ستبقى فيها حيث طاب لك المقام، ثم سيدفن معك هذا السر لأنه خليق بالكتمان.
فضحك سانت ليك ضحك الساخر، ثم قال: لك ما تشاء أيها الزوج الغيور.
فامتشق الزوج حسامه، وقال: أرى على جنبك سيفا طويلا، فإذا كنت تتقلده لغير الزينة فجرده من غمده.
فجرد سانت ليك حسامه والتقى السيفان، فأخذا في مبارزة عنيفة زمنا طويلا.
حتى لاحت لسانت فرصة من خصمه، فابتدره بطعنة قوية خر بها على الأرض صريعا.
وخرج الدم من صدره يتدفق كأفواه القرب.
ثم أطبق عينيه قائلا: لتلعنك السماء.
فأكب سانت عليه، ووضع يده على قلبه فلم يشعر بحركة، فعلم أنه مات.
وللحال، مسح سيفه بأطراف ثوبه وانطلق مسرعا إلى امرأته، فخلا بها وقال: أسرعي بإعداد مهمات الرحيل لأننا مسافران الساعة.
فارتاعت حنة مما سمعت وقالت: ما بالك مضطرب الصوت؟
وما السبب في هذا الرحيل؟ - لقد طعنت طعنة ترقص لها عجائز هذه القرية، ولكنها تضمن سعادة من نحب. - بالله أوضح ما تقول، فلقد شغلت قلبي. - لقد قتلت مونسورو، ولم يعد شيء يحول بين العاشقين.
فاضطربت لهذا النبأ وقالت: والآن ماذا نفعل؟ - نسافر في الحال. - وديانا؟ - لا ندعها تعلم بشيء، بل نسافر خفية وسنكتب من باريس عن حقيقة الأمر.
فأسرعي بتهيئة المعدات بينما أكتب رسالة إلى باسي.
فذهبت حنة بشأنها وجلس سانت ليك على منضدة، فكتب إلى باسي ما يأتي:
أيها الصديق العزيز
أكتب إليك وأنا على أهبة الرحيل إلى باريس، لأخبرك بما دعاني إلى هذا السفر الفجائي، وهو أني قتلت في هذه الساعة الكونت دي مونسورو.
ولا أخالك تظن بأني قتلته غدرا أو عدوانا، بل قد قتلته والسيف في يده ...
وهو الذي دعاني إلى المبارزة ...
أما سبب هذه المبارزة، فهو أنه رأى رجلا يتسلق جدار الحديقة (وأظنك ذاك الرجل).
فحسبني إياه ...
وأقبل إلي يستوضح مني عن هذا السلوك، فأفضى به الأمر إلى الموت.
أما الآن وقد خلا لك الجو، فاسمح لي أن أعزيك بوفاة هذا الفقيد العزيز.
وسنلتقي في باريس، إن شاء الله.
محبك
سانت ليك
ثم طوى الرسالة ودعا الخادم، فقال له: اذهب بهذا الكتاب إلى الفندق المقيم فيه الكونت دي باسي، وأعطه إياه.
وبعد ذلك سار مع زوجته في طريق باريس، بغير أن يطلع على سفرهما أحد. •••
ولم يمض على ذلك ردح من الزمن، حتى شاع في جميع القرية مقتل مونسورو.
وبلغ الخبر إلى الدوق دانجو ...
فسر لموته سرورا مزدوجا؛ لأنه دفن مع هذا الرجل جميع ما كان يربط بينهما من الأسرار الهائلة.
وزادت مطامعه في اختطاف ديانا.
لكنه لما وصل إليه هذا النبأ تظاهر بالحزن الشديد، وأسرع في الحال إلى زيارة منزل ديانا لتعزيتها بوفاة زوجها.
وما كان أشد دهشته عندما دخل إلى المنزل، وهو يردد بين شفتيه عبارات العزاء ...
عندها وجد مونسورو مسجى على فراشه، وقد تلبس بلباس الحياة.
فأقام عنده حينا وهو مندهش من هذا الاتفاق، ثم سأله عن جرحه وعن الذي جرحه.
فأنكر مبارزته مع سانت ليك إبعادا للظنون.
وادعى أن أحد اللصوص قد اغتاله على الطريق، وطعنه بمدية لم تصب منه مقتلا.
فانصرف الدوق قائلا في نفسه: يا ليتها كانت القاضية!
أما باسي، فإنه تأثر التأثر الشديد عندما اطلع على كتاب سانت ليك.
وأيقن أن صديقه قد اختلق حجة للمبارزة، كي يجد سبيلا إلى قتله.
وفيما هو عازم على الخروج من منزله إلى تعزية ديانا، إذ دخل عليه طبيبه الخاص.
ورأى عليه إشارات الكآبة، فعلم ما كان من تأثير كتاب سانت ليك عليه.
فأخبره بأن مونسورو لم يمت، بل هو جريح، وسيبرأ بعد القليل من الزمن البرء التام.
فاستغرب باسي ما سمعه من الطبيب، وقال: عجبا! كيف ردت الحياة إلى هذا الرجل، بعد أن نفذ إليه حسام سانت ليك؟ - إن مرجع الفضل بذلك إلي يا مولاي.
ذلك أني كنت مارا من جهة منزل ديانا، فرأيت جمهورا من الناس محيطين بما لم أعلم.
ثم سمعت النائحة، فعلمت أنهم يجتمعون حول جثة، فأسرعت لأتحرى الخبر.
فرأيت الكونت دي مونسورو صريعا على الأرض، غارقا في بحر من الدماء ولا حراك به.
وكانوا كلهم يعتقدون أنه ميت.
ففحصت النبض والقلب، فرأيت فيهما دلائل الحياة.
فأمرتهم بإدخاله إلى المنزل، ثم كشفت عن الجرح فإذا هو غير خطير، ولم يكن قد أغمي عليه إلا لما نزف منه من الدماء.
فطيبت خاطر أهله وضمدت الجرح.
ثم تأملت بذلك الموقف الذي كنت فيه، ورأيت أن حياة هذا الرجل في يدي، وأن سعادتك ونعيمك متوقفان على قتله.
فغلبت علي عواطف المروءة، فعالجته وأنقذته من الموت، وسيندمل جرحه في أقرب حين . - لقد أحسنت يا رامي بإنقاذ هذا الرجل، ولو لم تبادر إلى معالجته لعد عملك من أعظم الجنايات، ولكنت قاتلا مجرما، إذا نسي الناس جرمك فلا ينساه الله.
الفصل الرابع والعشرون
عودة الدوق دانجو إلى باريس وحيلة مونسورو
وبعد ذلك بثلاثة أيام أقبلت الملكة كاثرين أم الملك إلى دانجو، فقوبلت باحتفال عظيم، وخرج الدوق مع جميع أعوانه إلى ظاهر القرية لاستقبالها.
ثم خلت بابنها الدوق زمنا طويلا، عقدت فيه شروط الصلح بين الملك وأخيه.
على أن يصفح الملك صفحا عاما عن أخيه وعن كل أعوانه، وعلى أن يرضخ الدوق للطاعة ويمتنع عن إثارة المشاغب والفتن، ثم اتفقا على الرجوع إلى اللوفر، على أن يضمن له حسن الاستقبال.
وفي اليوم التالي، أخبر الدوق جميع أعوانه بما عزم عليه من الرجوع إلى باريس.
فأخذوا يتأهبون للرحيل.
ثم خطر للدوق أن يذهب بمونسورو أيضا؛ لأنه لا يحتمل البعد عن ديانا.
فذهب إلى منزله، وأخبره بجميع ما كان بينه وبين أمه، وكيف عقد الصلح بينه وبين أخيه.
وطلب إليه أن يرجع معه إلى باريس.
فتعلل مونسورو بجرحه؛ لأنه أدرك غاية الدوق.
فأقنعه الدوق بضرورة الرحيل وأنه سيجد من عناية الأطباء في العاصمة ما لا يجده في هذه القرية الحقيرة، فاضطر الكونت إلى الإذعان، وخرج الدوق راضيا مطمئنا.
أما باسي فإنه اغتنم فرصة جرح الكونت دي مونسورو، فجعل يتودد إليه، ويتزلف منه حتى وقع من قلبه خير موقع، ونال من قرب ديانا أكثر ما يشتهيه.
وفي اليوم الثاني سار موكب الدوق تحف به أعوانه، وقد صنعوا للكونت مونسورو محملا لعدم تمكنه من الركوب.
فكان فيه أشبه بالسجن، غير أن باسي كان يؤانسه من حين إلى حين، ثم يعود إلى ديانا كلما وجد عينا غافلة من الدوق.
وما زالوا على ذلك إلى أن وصلوا إلى باريس بعد سبعة أيام، فدخل الجميع إلى اللوفر.
فقبل الملك أخاه، وزالت من قلبيهما الأحقاد.
أما مونسورو فإنه ذهب إلى المنزل القديم الذي كانت تقيم فيه ديانا قبل الزواج، فأقام فيه مع زوجته.
وذهب باسي إلى شيكو، فشكره الشكر الجزيل، ثم ذهب إلى سانت ليك الذي توصل إلى الحصول على رضا الملك وعفوه، فكان بينهما حديث طويل.
أما باسي فإنه لزم منزل مونسورو، لا يخرج منه إلا إلى قصر الدوق، فيقيم بحضرته ريثما تنتهي مدة الخدمة، ثم يقفل راجعا إلى منزل من يحب بحجة إشفاقه على مونسورو وتسليته في مرضه.
وكان الدوق يزور أيضا هذا المنزل في كل يوم، ولكن مونسورو يقطب جبينه عند مرآه ولا يسمح لديانا أن تبرز إليه، وفي كل مرة كان يعود هذا المريض، كان يجد باسي لديه وهو محفوف بإكرام أهل المنزل، محبوب من الجميع.
فكان الدوق حانقا على باسي، عالما بحبه لديانا وخداعه للزوج، ولكنه لم يثبت له أمر هذا الحب بالبرهان الجلي.
إلى أن زاره في إحدى الليالي حسب العادة، وكان قد قرب من أن يتماثل للشفاء.
فلم يجد باسي في تلك الليلة على خلاف المألوف.
لكنه لم يجد أيضا ديانا.
فلما دنا وقت انصرافه نهض، وبدلا من أن يذهب رأسا إلى الباب الخارجي ذهب إلى غرفة ديانا.
فصاح به مونسورو: قد ضللت يا مولاي الطريق.
ولكن الدوق قد تظاهر بالصمم وفتح باب الغرفة، فرأى فيها ديانا وبالقرب منها رجل لم يتبين وجهه في الظلام.
فاكتفى بما رآه وانتبه لصوت مونسورو، فاعتذر وخرج مع رفيق له كان واقفا على الباب وقفة المتنصت.
فلما صارا في الطريق قال له: إن الموعد غدا يا مولاي عند منتصف الليل. - وأي موعد تعني؟ - موعد ديانا مع من تحب. - وكيف عرفت ذلك؟
سمعت العاشقين يتواعدان، وآخر ما سمعتها تقول له: غدا عند منتصف الليل تصعد إلي من النافذة على السلم الحريرية، ونبهني إلى قدومك بالصفير. - ألم تعلم صاحب هذا الصوت؟ - أظنه باسي، ومع ذلك فإذا أمر مولاي فسأكمن له في الغد ساعة الموعد، فأقف على كل شيء. - سنكمن معا أيها الرفيق، والويل لباسي إذا كانت قد بلغت جسارته إلى هذا الحد.
وكان مونسورو قد علم أيضا من أحد خدمه أن امرأته تخونه، ولكن ذلك الخادم لم يعرف ذلك الرجل.
فكان أول ما تبادر إلى ذهن هذا الزوج التعيس أن ذلك الرجل لم يكن غير الدوق.
فالتهب فؤاده غيظا، وعزم على أن يكمن في الليلة الثانية خارج المنزل، وعلى أن يقتل كل من يتأكد له أنه معتد على عرضه، مهما بلغ مقامه من السمو.
غير أن باسي لم يعلم بشيء من هذه المكامن، فأقبل في الليلة الثانية عند منتصف الليل، حتى وصل إلى منزل مونسورو.
فرأى نورا في غرفة ديانا.
فصفر ثلاث مرات حسب الاتفاق، فأطفئ النور في الحال، ثم فتحت النافذة وخرج منها رأس ديانا، التي جعلت تفحص الطريق بنظر الخائف حتى وقع بصرها على باسي من خلال أشعة القمر.
فبرقت أسرة وجهها من الفرح، وقالت له بصوت الهامس: ألق إلي بالسلم لأعلقها، وأسرع بالصعود لأن أهل المنزل نيام.
فأخذ باسي سلما حريرية من جيبه، ورمى بطرفها إلى ديانا فربطته إلى حديد النافذة.
ثم صعد إليها ودخل منها إلى الغرفة، فأرجع السلم إلى جيبه وعادت هي فأشعلت النور.
ومن غرائب الاتفاق أنه بينما كان باسي يصعد إلى حبيبته على السلم، كما كان يصعد من قبله روميو إلى لقاء جولييت.
كان مونسورو ينزل على سلم المنزل، متكئا على ذراع الخادم كي يكمن لذاك العاشق، الذي أخبر عنه أنه يقدم إلى منزله كل ليلة عند منتصف الليل.
فلما وصل إلى الطريق كان باسي قد بلغ إلى الغرفة، وقد طوقته يدا ديانا تلهب فمه تقبيلا.
فدهش مونسورو بعد أن أقام هنيهة، إذ لم ير أحدا ... وقال لخادمه: كان ينبغي أن أقيم من المنزل وأرقب غرفتها. - كلا يا مولاي، والذي أراه أنه خير لنا لو أقمنا في مكمن على الطريق.
فأنت ستقتل ذلك القادم من غير بد.
فإذا قتلته على الطريق تزول الشبهات وتدرأ عنك ملامة الناس، على أنك لو قتلته في المنزل لما أمنت تقول الأعداء.
وفوق ذلك، فقد يأتي ذلك الرجل فيدخل إليها خلسة من غير أن تراه.
ولكنك لو كنت خارج المنزل، فلا بد من أن تراه عند دخوله؛ لأنه سيدخل من النافذة أو من الباب.
فأذعن مونسورو لرأي خادمه وقال: أنت مصيب فيما تقول، فأين ترى أن نكمن؟ - في هذه الحفرة ... لأننا سنرى فيها كل من يمر، بغير أن يرانا أحد.
ثم توجه الاثنان إلى الحفرة التي عينها الخادم، فأقام مونسورو يرقب بعين ساهرة مرور الناس.
وجعل الخادم يهيئ البندقية لمولاه ويحشيها.
فلم يلبثا فترة من الزمن حتى سمعا وقع حوافر خيل.
فالتهبت مقلتا مونسورو بشرر الغيظ، وأطل من مكمنه ينظر نظرة الذئب المفترس.
فنظر فارسين يدنوان من المنزل حتى إذا بلغا إليه، ترجل أحدهما عن جواده، ثم ترجل الآخر على إثره.
فربط الجوادين إلى حلقة في الحائط، وقال أحدهما لرفيقه: أظن أننا قد وصلنا متأخرين وأنه أصبح في المنزل. - كيف كان الحال، فإننا إذا لم نره داخلا ... فلا بد لنا من أن نراه خارجا. - حسنا، ولكن كيف يتيسر لنا أن نراه؟ - ذلك سهل ميسور، وهو أنك تطرق الباب فتدخل مستطمنا باسمي عن صحة مونسورو.
ومتى طرقت الباب وأحس بدخولك، فهو لا بد أن يخرج حذر الفضيحة، فأراه من غير بد. - حسنا ... فابتعد الآن قليلا عن المنزل ... وأنا سأطرق الباب.
ثم أعطاه لجام جواده.
أما مونسورو فإنه سمع صوت المتحادثين، ففهم أن واحدهما الدوق دانجو والآخر أورلي.
فاحتدم غيظا وقال: لقد تحققت الآن أن هذا الرجل لا يدور في عروقه دم ملكي، وليكن دوقا أو ملكا، فإني قاتله لا محالة.
ثم نظر إلى الخادم وقال: أشعل الزناد، لقد آن لهذا الفاجر أن يموت.
وبينما أولي يعطي لجام الجواد إلى الدوق، إذ سمع صوت مونسورو ... ونظر إلى شرر الزناد يضيء، فاضطرب من الخوف على مولاه وقال: هو ذا كمين يا سيدي، فلنسرع بالرحيل.
فقال الدوق: وأي كمين تعني؟ - سمعت صوتا خارجا من هذه الحفرة، ورأيت شرر الزناد ... فلنسرع يا سيدي ... فلعل الكامن في هذه الحفرة من أتباع باسي. - لقد أصبت بحذرك؛ لأني أرى ما تراه فلنذهب إذا.
ثم امتطى الاثنان جواديهما وانصرفا.
فهب مونسورو من مكمنه وهو يرتعش من الغضب، وقال لخادمه: اذهب في الحال، وهيئ لي المركبة ... لأني ذاهب إلى منزل الدوق. - سيدي، ماذا تفعل أتذهب إليه في مثل هذه الساعة؟ - نعم، وإذ لا أستطيع أن أنتقم بالسيف فلأنتقم بالحيلة.
ودخل بعد هذا القول إلى المنزل مغضبا متوعدا، فجعل يفتح الأبواب بمنتهى الحدة، ويكسر كل ما وقع أمام عينيه من أثاث المنزل، حتى انتبه العاشقان.
فأسرع باسي بالهرب، فربط السلم بالنافذة ونزل منها مسرعا، فنجا مما كان يتوقعه من الخطر.
وبلغ إلى الأرض آمنا.
بينما كان الدوق يسير وجلا في جهة قصره.
والكونت مونسورو يزبد حانقا، ويملأ المنزل صياحا لتأخر الخدم في تحضير المركبة.
وبعد أن أعدت المركبة ركب فيها الكونت، وأمر السائق بالذهاب إلى قصر الدوق.
فسار به حتى وصل إلى القصر.
فاستأذن بالدخول، فنزل خبر قدومه على الدوق نزول الصاعقة، لكنه لم يجد بدا من قبوله.
فأذن له.
فلما دخل الكونت، تكلف الدوق هيئة القلق والتودد فقال: هذا أنت يا كونت؟ وكيف تقدم إلي في مثل هذه الساعة وأنت لا تزال مريضا؟
ألا تشفق على نفسك؟ - لم أقدم يا مولاي إلا لخدمة سموكم التي أوثرها على نفسي. - قل إذا أيها الصديق الوفي عما حملك على المجيء؟ - إن ما أتيت لأجله لا يقال أمام الناس.
فصرف الدوق من حوله بإشارة.
ولما خلا المكان بالاثنين، قال له الكونت: أراك قادما حديثا من الشوارع. - كيف عرفت ذلك؟ - أرى الوحل لا يزال طريا فوق رجليك. - هذا صحيح يا سيدي. - أتراك تمتهن غير مهنة رئيس الصيد؟ - نعم، لأني قد امتهنت أيضا مهنة الرقباء على الطرق. - وماذا تريد بهذه المراقبة؟ - أريد أن أعرف من يمر بها.
ثم جلس على كرسي قبل أن يأذن له الدوق بالجلوس ... وقبل أن يجلس نفسه.
فقال له الدوق بلهجة المتهكم: أتأذن لي أيها الكونت بالجلوس؟ - لا تتهكم يا سيدي على أصدق الناس إخلاصا في خدمتك ... وشهد الله لو تمكنت من الوقوف لما جلست ... ولكنني مريض كما تعلم. - إذا قل ما الذي جاء بك إلي؟ - إني قادم من قبل سمو الدوق دي كيز. - إذا ادن مني واخفض صوتك لئلا يسمعنا أحد.
فلما دنا منه قال له الدوق: ماذا تريد أن تقول بلسان الدوق، هل كتب إليك؟ - كلا. - إذا لقد اجتمعت به في المعسكر. - لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل هو قد أتى إلى باريس.
فدهش الدوق دانجو مما سمع وقال: كيف أتى إلى باريس؟ وكيف لم أره؟ - إنه لم يأت إليكم حذرا من أن يعرضكم للخطر. - ولكن ألا يخبرني على الأقل بقدومه؟ - لقد أخبرك يا سيدي، ألم أحضر إليك لهذا الشأن؟ - حسنا، ولكن ما الذي حمله على المجيء؟ - قد أتى إيفاء للموعد الذي ضربته له.
فارتاع الدوق وقال: أنا ضربت له موعدا؟ - نعم يا سيدي، وأنا الذي ضربت له هذا الموعد بأمرك، وغدا يحين الأجل المضروب، فإذا كنتم قد نسيتم، فابن عمكم لم ينس.
فاصفر وجه الدوق؛ لأنه كان قد عزم بعد صلحه مع أخيه أن يقلع عن الدسائس، ثم قال: نعم لقد ذكرت ذلك، ولكني قد رجعت عن جميع هذه الأفكار ...
ولذا فقد نسيت هذا الموعد. - إذا يجب أن يعلم الجميع ذلك، حذرا من أن يسيء ظنه بك، فيصبح عليك بعد أن كان معك. - لو كان معي لما عدم وسيلة في سبيل إنقاذي، أيام كان محجورا علي في اللوفر. - ذلك لأنه كان أيضا غير آمن عقاب الملك، فاضطر إلى الخروج من باريس.
ولكنك عندما بلغت إلى دانجو، ألم يكتب إليك انك إذا رغبت أن تمشي إلى باريس فهو سيكون معك في طليعة الجيش؟ فلست الآن بحليف الدوق فقط، بل أنت شريكه بالجرم.
فعض الدوق على شفتيه من الغيظ.
ثم غير نمط الحديث فقال: قلت لي إنك آت من قبل الدون دي كيز، فماذا عهد إليك أن تقول؟ - كل شيء يا سيدي؛ لأنه يعلم أني موضع ثقتك وصفيك. - إذا قل ما هي غايته؟ - هي دائما نفسها يا سيدي، وهي جعل الدوق دانجو ملك فرنسا.
فبرقت أسرة الدوق من الفرح وقال: هل الفرصة مناسبة الآن؟ - ذلك مناط بحكمتك وحسن تعقلك، وها أنا مفصح لك عن جميع ذلك بالكلام الموجز، فأقول إن عيد الرب قريب، وإن الملك سيخرج حسب عادته في كل عام فيزور جميع الأديرة.
وعندما يبلغ إلى دير جنفياف، يدخل إليه فلا يخرج منه إلا وأنت في مكانه على العرش.
هذه هي الخطة التي سيجرون عليها.
هل تعترض في شيء؟
فوجم الدوق ولم يفه بحرف.
فقال الكونت: ما بال مولاي لا يجيب؟ - ذلك لأني أفتكر ... - بماذا؟ - أفتكر أن أخي لم يولد له ولي للعهد إلى الآن، ولن يولد له لما هو عليه من الهزال وضعف البنية.
فإذا صبرت فإني أبلغ إلى ما أتوق إليه من غير أن أعرض نفسي للأخطار؛ لأنه لا يوجد لعرش فرنسا وريث غيري من بعده. - أنت مخطئ يا مولاي؛ لأن أمراء دي كيز إذا كانوا لا يستطيعون أن يكونوا ملوكا، فهم قادرون على تنصيب الملوك، فإذا خرجت عن رأيهم فإنهم يجدون وريثا سواك.
فقطب الدوق جبينه وقال: من يجسر أن يتولى مكاني على عرش شارلمان؟ - إن أسرة البوربون هي مساوية لأسرتكم في حقوق التاج. - أتريد بذلك أنهم يولون ملك النافار؟ - هو ذاك يا سيدي، فإنه شجاع مقدام. - نعم، لكنه بروتستانتي. - ألم يعتنق المذهب الكاثوليكي في مذبحة برتلماوس؟ - نعم، لكنه عاد إلى سابق اعتقاده بعدما أمن الخطر. - وما الذي يمنعه أن يصنع لوقاية تاجه ما صنع لوقاية حياته؟ - وهل كان ما تظن؟ ... أتخال أني أدع حقوقي تضيع من غير دفاع؟ - إن أعداءك من رجال الحرب أيضا. - لكني أترأس الحزب الديني. - وهم حياته التي يحيا بها. - إني أنضم إلى أخي. - لكنه يكون قد مات. - إني أدعو إلى نصرتي ملوك أوروبا. - إن الملوك تساعد الملوك، ولكنها لا تثير الحروب على الشعوب. - كيف ذلك؟ - إن أسرة دي كيز مستعدة لكل خطب يا سيدي، حتى إلى قلب الملكية نفسها، وتأسيس جمهورية كسويسرا وجينوه وفينيسيا. - لكن حزبي لا يأذن بمثل هذا الانقلاب. - هذا إذا كان لك أحزاب يا سيدي، أما أحزابك اليوم فهي أنا وباسي، وليس لك نصير سوى هذين الرجلين. - إذا فأنا ضعيف خامل، وماذا عسى أن ينتفع دي كيز من ضعفي وخمولي؟ - ذلك أنك لا تستطيع أن تقدم على أمر إذا كنت فردا، أما إذا كنت يدا واحدة، فأنت تصبح قادرا على كل شيء، فقل يا سيدي كلمة واحدة تغدو ملكا من غير بد.
فنهض الدوق مضطربا مذعورا، وجعل يمشي في الغرفة بخطوات قلقة، ثم وقف أمام مونسورو وقال: لقد أصبت أيها الكونت، فلم يعد لي من أحزابي غير أنت وباسي.
فبرقت أسرة مونسورو من الفرح وقال: إذا لقد علمت أني صادق فيما أقول. - نعم، قل الآن ما تشاء. - ليس لي ما أقوله بعد ما أوضحته لك، سوى أن تصادق على مقتل الملك في الدير. - إني أصادق. - لا يكفي القول وحده في مثل هذا المقام يا مولاي، بل ينبغي أن تخط بيدك ما قلته بلسانك. - إنهم يريدون أن يتسلحوا بتوقيعي! - هو ذاك يا مولاي. - إذا فإني لا أكتب ولا أصادق. - كلا بل تصادق يا مولاي؛ لأن الرفض خيانة تضر بك، وفوق ذلك فإني أخشى عليك العاقبة. - أية عاقبة تخشى؟ - عاقبة الموت. - أيجسرون أن يمدوا يدا أثيمة إلى أمير من الأسرة المالكة؟ - نعم يا مولاي؛ لأن تلك اليد ستمد إلى الملك نفسه.
فبهت الدوق هنيهة، ثم قال: إذا سأوقع في الغد. - كلا يا سيدي، بل ستوقع الليلة وفي هذه الساعة؛ لأن ذلك خير لك. - ومن يكتب الصك؟ - هو مكتوب وها هو.
ثم أعطاه الصك.
فأخذه الدوق وقرأه بنظر قلق مضطرب، ثم وقع عليه بيد مرتجفة، وأرجعه إلى الكونت الذي كان ينظر إليه خلسة بعين تلتهب من الغضب والحنق، فأخذه مونسورو ووضعه في جيبه.
ثم نظر إلى الدوق فقال: والآن يا سيدي، فلم يبق إلا أن أنصحك باتباع الحكمة، وعدم الخروج في الليل مع أورلي كما صنعت الليلة منذ وقت قصير. - ماذا تعني بذلك؟ - أريد أنك كنت ترود حول منزل امرأة يحبها زوجها حبا يقرب أن يكون عبادة، وربما دفعته الغيرة إلى قتلك حيثما يجدك.
فبهت الدوق لكلام الكونت، وقال: ألعلك تريد بتلك المرأة وذلك الزوج أنت وامرأتك؟ - نعم، ولا أنكر عليك؛ فإن ديانا ماريدور هي امرأتي أمام الله والناس، وأقسم لك بهذا الخنجر أنها ستبقى لي وحدي، فلا يدنو منها ملك ولا أمير.
ثم جرد خنجره، ووقف أمام الدوق وقفة المنذر المتوعد، فقال الدوق: أتنذرني يا كونت؟ - كلا يا سيدي، ولكني جردت الخنجر لأقسم لك عليه أن زوجتي ستكون لي وحدي. - لقد فات أوان انتباهك أيها الأبله؛ لأن زوجتك أصبحت بيد سواك.
فصاح الكونت صيحة منكرة، وهز الخنجر بيده هزة القانط، ثم قال: أأنت هو هذا الرجل؟
فدنا الدوق من الجرس كي ينادي بقرعه الخدم عند مسيس الحاجة، وقال: إن منظرك يحمل على الإشفاق. - أنت واهم فيما تظن وأنت تقول زوجتي أصبحت في يد سواي. - نعم، وأنا أعيد ما قلت. - إذا اذكر لي اسم هذا الرجل؟ - ألم تكن الليلة كامنا في الحفرة مع خادمك؟ - نعم. - إن ذلك الرجل كان مختليا في الوقت نفسه مع زوجتك في غرفتها. - أرأيته داخلا إليها؟ - كلا، بل رأيته خارجا من عندها. - أخرج من الباب؟ - كلا، بل من النافذة. - أعرفته؟ - نعم. - إذا فاذكره لي أيها الدوق، وإلا خرجت عن موقف الرشاد.
فابتسم الدوق ابتسام الساخر، ثم قطب جبينه وقال: أقسم لك أيها الكونت بدمي الملكي، وبالله العلي، أني سأخبرك باسم هذا الرجل بعد ثمانية أيام. - أتقسم بذلك؟ - نعم، فقد سبق إليك قسمي.
فضرب مونسورو بيده على صدره في المكان الذي وضع فيه الصك، وقال: إذا بعد ثمانية أيام أيها الدوق، والويل لمن يخون.
ثم خرج مزبدا حانقا، وهو ينظر إلى الدوق نظرات الإنذار والوعيد.
الفصل الخامس والعشرون
المكيدة
مضى على ذلك الحديث ثمانية أيام، وباسي منهمك في غرامه لا يعبأ بما يكيد له الدوق.
ومونسورو مشتغل بظنونه، لا يهدأ له بال ... وهو موجس خيفة من الدوق.
والدوق منقبض الصدر يتراوح بين الاندفاع مع تيار الغيرة والانتقام من باسي، وبين الصفح عن ذلك البطل حفظا لجميله واحتفاظا بوداده، إلى أن كان اليوم الثامن.
وكان ذاك اليوم يوم عيد، والملك والدوق وجميع أتباعهما جلوس في المعبد.
وكان الدوق جالسا بين باسي ومونسورو.
فبينما هم جلوس إذ دنا رامي من باسي، وأعطاه ورقة.
فنظر إليه الدوق نظرة القلق؛ لأنه كان يعلم من جواسيسه أن هذا الرجل رسول باسي إلى ديانا.
ثم قطب حاجبيه وجعل يسارق باسي النظر، فرآه قد وضع الرسالة في طي قبعته.
وجعل يقرأ ما فيها، ولوائح السرور تجول بين عينيه.
فعلم الدوق أن الرسالة من ديانا، وأنها تدعوه إلى موعد من غير بد.
فلم يطق الصبر إلى انتهاء الصلاة.
فأدار وجهه إلى مونسورو فقال: أتذكر أيها الكونت ما وعدت به منذ ثمانية أيام؟ - إن مثل هذا الوعد لا ينسى يا مولاي، وأنا أنتظره بفارغ الصبر. - طب نفسا فستعلم كل شيء في هذا المساء، وستنتقم من المسيء إليك شر انتقام. - إذا فأنت ذاكر لي اسمه؟ - كلا أيها الكونت، بل إني سأريك إياه الليلة في مكانك من عروسك، فتصنع به وبها ما تشاء.
ولكن النتائج لا تدرك إلا بمقدماتها، ومقدمة هذا الانتقام إغراء العاشقين. - كيف ذلك يا مولاي؟ - ذلك أن تذهب في الحال قبل انتهاء الصلاة إلى منزلك، فتخبر زوجتك أني مرسلك بمهمة مستعجلة إلى ضواحي باريس.
ثم تودعها على أنك مسافر في الحال، وتأتي فتختبئ في قصري إلى أن تحين ساعة الانتقام.
فاذهب الآن مسرعا، وإذا كنت حريصا على شرفك، فاحرص على سرك.
فنهض مونسورو، وخرج من الكنيسة خروج الظافر إلى أن بلغ المنزل.
فأخبر امرأته أنه مسافر إلى حين.
ثم أخذ معدات السفر للزيادة في إغرائها، وانطلق مهرولا إلى قصر الدوق.
وبعد انتهاء الصلاة، سار باسي بالموكب الملكي إلى أن بلغ القصر، فاستأذن من الدوق.
فصرفه وهو يبتسم له ابتسام الأبالسة.
غير أن باسي لم يفطن لهذا الابتسام لانشغال قلبه بالرسالة، وذهب وقلبه موعب فرحا إلى منزل مونسورو، فولجه متذرعا بحجة الصداقة.
فقابلته ديانا على الباب، وعلائم البشر تجول بين ثنايا وجهها الجميل، وقالت: أترى وصلت إليك الرسالة؟ - نعم أيتها الحبيبة، وقد أتيت ممتثلا طائعا يدفعني الشوق المبرح إلى لقاء من أحب. - ما دعوتك أيها الحبيب إلا لنتفق على موعد للقاء، فقد اشتدت مراقبة زوجي الغيور، حتى لم نجد إلى الخلوة سبيلا.
ولكن للعشاق إلها يكلؤهم بلطفه، فقد دبرت التقادير ما نسعى إليه منذ أيام. - كيف ذلك أيتها الحبيبة؟ - إن مونسورو قد خرج الساعة من عندي في سفر يغيب فيه يومين بأمر الدوق، وأنت الآن سجين عندي إلى أن يعود. - بورك من سجن أود الموت فيه.
ثم أكب على عنقها يقطعه تقبيلا، ودموع الفرح تنهل من عيون العاشقين.
أما الدوق فإنه لم يكد يلج قصره، حتى دعا بصفيه وكاتم أسراره الخاص.
فلما خلا بهما المكان، أدناه الدوق منه وقال: كن الليلة على أهبة الحذر، فقد عزمت على أن أضرب الضربة القاضية. - كيف ذلك يا مولاي؟ ...
وما للغضب آخذ منك هذا المأخذ؟ - لقد زادت جرأة باسي، حتى إنه أصبح يتلو رسائل غرامها إليه أمامي.
وبلغ من دهاء مونسورو أنه يقيدني بالمواثيق وينذرني كما يشاء.
فأنا سأدع الواحد يقتل الآخر، وأنتقم من القاتل بالقتل، فأنال بغيتي من الاثنين.
ثم قص عليه اتفاقه مع مونسورو، وكيف أنه مختبئ عنده إلى أن يجن الظلام.
فيذهب بفريق من الأشقياء إلى المنزل، حيث يجد فيه باسي وديانا على فراش الغرام.
وبعد أن انتهى من حديثه هذا قال: والآن فائتني بأربعة من القتلة الأشرار، وادفع لهم قدر ما يشاءون من المال.
ثم أخبرهم إذا وجب الأمر أنني أظللهم بحمايتي، كي يقدموا على جميع ما أريد من غير خوف.
ولينتظروني خارج القصر، حيث أوافيهم عند الساعة التاسعة والنصف من هذا المساء.
فامتثل الرجل لأمر الدوق ...
وانصرف في الحال لإنفاذ أمره.
أما الدوق، فإنه دخل إلى الغرفة التي كان فيها مونسورو، فاختليا ساعة طويلة، خرج بعدها الدوق في شأنه، وبقي الكونت حيث كان.
الفصل السادس والعشرون
الانتقام
بينما كان مونسورو خارجا عند الساعة التاسعة من اللوفر بعشرة من رجاله يتميز غضبا وحنقا على عدو لا يعرفه، وهو ذاهب إلى منزله لقتل امرأته ومن تهواه.
وبينما كان الدوق يتردى برداء واسع يستر وجهه عن الناظرين، وهو يتأهب للخروج في إثر مونسورو إلى الموضع عينه.
كان باسي وديانا جالسين على مقعد في غرفة تنبعث أشعة مصباحها الضعيفة، فيتماوج ظلها فوق شعر ديانا، التي كانت تعبث بها إحدى يدي عشيقها وهو مطوق بيده الثانية عنقها الجميل، يلهبه من حين إلى حين بقبلات الغرام.
وكأن العاشقين قد علما بما سطر لهما في لوح المقدور، فكانت مرتسمة على وجهيهما ملامح من الحزن العميق، تكاد تضرب على نعيمهما الحاضر.
وكان كلاهما يتنهد، حتى يخاله السامع أنه في أقصى دركات الشقاء، ثم لا يلبث أن ينظر إلى وجه من يحب، حتى تتبدل تلك الكآبة إلى هناء، ويستحيل ذلك الحزن إلى فرح تبتهج له النفوس وتقر به العيون، فلا يعلمان أهما في شقاء أم هما في نعيم!
وبينما كان باسي يسرح طرفه بمحاسن تلك الحسناء، بصر بعينيها فإذا هما مغرورقتان بالدموع.
فأجفل منذعرا وقال: ما بالك أيتها الحبيبة تبكين؟
فلم تجبه بحرف، بل نظرت إليه بتلك العين الباكية نظرة كئيبة، ثم أرخت بنظرها إلى الأرض.
وانصرفت إلى التصور والذهول فطوقها باسي بذراعيه، ومسح بشفتيه تلك القطرات المتساقطة على خديها، ثم قال: بالله أيتها الحبيبة ... ألا ما أخبرتني بأحزانك، فقلد قطعت قلبي بهذا البكاء.
وماذا أسال دموعك؟ بل ما يعوزك من السعادة وهي كلها بقربك وفي قبضة يدك؟ - لا تذكر لي السعادة أيها الحبيب؛ لأن قلبي يحدثني بانقلابها، وأن يستحيل ذلك الهناء إلى تنغيص وكمد. - وأي تنغيص بالله، وأي كمد ما دام قلبانا في الغرام صافيين، لا يكدرهما هجر ولا ينغصهما جفاء؟ - ولكن الدهر ليس مثل قلبنا أيها الحبيب، وكأن أيامه التي لا تتشابه بالأحكام قد أقسمت ألا تسعد قلبين يتشابهان في الغرام. - لقد شغلت قلبي بما تقولين، وإني أقرأ بين عينيك رسالة حزن وكدر، فهل سطر لنا في لوح الدهر شيء من ذلك؟ - بل هي نسخة الدهر تنظرها بعيني وتسمعها بكلامي؛ لأني أشعر بسهم الشقاء ينفذ إلى قلبي.
فأحمله مطرقة صامتة، لا أعيد ولا أبدي كما تحمل الحمامة سهم الصياد تحت جناحها، ريثما تستقر وتموت.
فذعر باسي لما سمع وقال: إن الحمامة أيتها الحبيبة لا تقوى على انتزاع السهم من تحت جناحها؛ لأنها لا تقدر عليه ...
فهل إذا كنت مثل الحمامة في طهارة قلبك، تكونين مثلها في العجز والضعف عن نزع هذا السهم؟
وبعد فمم تخشين وأنا بقربك؟ وماذا ينغصك ويدي معقودة في يدك، وغرامنا ثابت وطيد لا يفصله غير الله؟ - إني أخشى ذلك الله، ولا ينغصني في هواك غير تبكيت الضمير؛ لأني لزوجي قبل أن أكون لك، ولكن نفسي علقت بك دون ذلك الزوج، ولم تخش معصية الله. - ما بالك نادمة أيتها الحبيبة؟ أكان عقد قرانكما برضا الله؟ ألم تعقد هذا الزواج يد الحيلة والإثم؟
فهل يرضى الله عن الآثام؟
وبعد ... فمن ربط قلبينا بهذا الوثاق إن لم تكن يد الله؟ فكيف تخشين عصيانه بهذا الغرام؟ بل كيف لا تشفقين من جرح قلبي بمثل هذا الكلام؟
فاختلجت ديانا وطوقت عنق من تحب بيديها، ثم وضعت فمها على فمه وقبلته بكلمة: «أحبك.»
ولكنها لم تكد تنتهي من لفظ تلك الكلمة، حتى دوت أرجاء الغرفة بصوت هائل.
ثم كسرت النافذة ودخل منها ثلاثة رجال مدججين بالسلاح، ودخل في إثرهم رجل رابع مقنع الوجه وهو يحمل بإحدى يديه غدارة، وبالأخرى حساما مجردا.
فأجفل باسي وارتاع لصيحة منكرة بدرت من ديانا، فوقف هنيهة منبهتا من غير حراك.
ثم رجع إليه هداه.
وأول ما خطر له أنه تخلص من ذراعي ديانا، وجرد حسامه للدفاع.
فصاح الرجل المقنع برفاقه يقول: لا تخشوا لأنه سيقتله الخوف قبل أن تقتلوه.
فصاح به باسي يقول: كذبت أيها الجبان، فلست ممن يخافون.
وكانت ديانا قد قربت منه أيضا، فقال لها: ابتعدي عني يا ديانا، إذا كنت تحبين خلاصي.
فلم تصغي إليه، بل اقتربت منه وطوقته بيديها.
فأبعدها عنه بعنف قائلا: إن حنوك هذا سيكون السبب في قتلي.
فلم تجد بدا من الخضوع ، ووقفت وراءه تصلي أمام صليب من العاج.
فقال الرجل المقنع بصوت المتهكم: لقد ثبت لي الآن ودادك يا باسي، فلله أنت من صديق عرف أن صديقه مسافر، وأن زوجته تخشى المبيت وحدها، فأتى يؤانسها في ظلام الليل.
فعلم باسي أن صاحب هذا الصوت هو مونسورو، فقال: أزح القناع الآن يا كونت، لقد عرفتك ولم يعد من حاجة إليه. - لك ما تريد أيها الصديق المخلص.
ثم أخذ القناع عن وجهه، ورمى به إلى الأرض، فظهر من تحته وجه مونسورو وهو باصفرار يشبه اصفرار الأموات.
فسترت ديانا وجهها بين يديها وقالت: ويلاه!
أما باسي، فإنه نظر إليه نظرة ازدراء وقال: افعل الآن ما أنت قادم لأجله، فإما أن تقاتل فتموت، أو تدعني أذهب على أن نلتقي في الغد.
فضحك مونسورو ضحكا طويلا، هلع له قلب ديانا من الخوف، وارتجف له باسي من الغيظ.
ثم قال بعد ضحكه الطويل: كلا أيها الصديق، فأنت أتيت لتنام في هذا المنزل، إذا فلتنم نومة لا هبة بعدها إلى الأبد.
وبعد ذلك دخل من النافذة رجلان أيضا، وانضما إلى رفاقهما، فنظر إليهما باسي نظرة هادئة وقال: لقد أصبحوا ستة، فأين الباقون؟
فأجاب مونسورو قائلا: إنهم ينتظرون على الباب.
فوقعت ديانا جاثية على ركبتيها وهي لا تعلم ماذا تقول.
ونظر باسي إلى مونسورو فقال: ألا تعلم أيها الكونت أني من رجال الشرف؟ - لا ريب عندي في ذلك، فلقد تأكدت من شرفك وإخلاصك، كما تأكدت من طهارة زوجتي وعفافها.
فاحتدم باسي غيظا، ثم عادت إليه سكينته فقال: قل ما تشاء الآن أيها الكونت، فستأتي ساعة الحساب، ولكني أقسم لك بالله إني ألتقي بك متى شئت ... فلا تجعل منزلك ساحة للقتل. - لا تقل ستأتي ساعة الحساب، بل قل أتت.
ثم أشار إلى رفاقه وقال: هلم أيها الشجعان.
فانذهل باسي وقال: إذا فأنت لا تريد مبارزتي، وأنت لست بشريف، بل أنت تريد قتلي بخناجر الأشقياء.
ولكن ثق أيها الكونت، إن هذه الخيانة الشنعاء لا تروق لعيني الدوق.
فضحك مونسورو ضحكة الاستهزاء ، وقال: إن الدوق نفسه الذي أرسلني.
فأنت ديانا أنين القنوط.
ورجع باسي خطوة إلى الوراء، فرأى بالقرب منه منضدة، فوضعها بينه وبين أعدائه لتكون حاجزا يقيه خناجر أولئك الأشقياء، وأشهر حسامه في وجوههم وهو يقول: تقدموا الآن، ولكن اعلموا أن هذا الحسام قاطع صقيل.
فوثب إليه جميع أولئك الأشقياء وثبة كلاب الصيد على الفريسة، فكان أجرؤهم أقربهم إلى الموت، وهجم عليه آخر منهم فكان نصيبه نصيب رفيقه الأول، ولم يشعر بحسام باسي وقد بلغ إلى قلبه حتى صاح صيحة ألم شديدة، وانقلب يهوي صريعا إلى الأرض.
وسمع باسي صوت خطوات مستعجلة في الرواق، فظن بأنها خطوات أعداء وأنه أصبح بين نارين.
فهرول مسرعا إلى الباب ليمنع دخول القادمين.
ولكنه لم يكد يبلغ إليه حتى فتح الباب، وبرز منه رجلان مدججان بالسلاح.
فما رآهما باسي حتى صاح صيحة الفرح وهو يقول: هذا أنت يا سانت ليك ... هذا أنت يا رامي ...
فأجاب سانت ليك يقول: طب نفسا أيها الصديق الحميم؛ لأننا قد أتينا حين حاجتك إلينا، وسنحميك من خناجر أولئك اللصوص.
فنظر باسي عندئذ إلى مونسورو وقال: أتأذن لنا أيها الكونت بالمرور؟
فلم يجبه مونسورو بحرف، بل دنا من النافذة وصاح بصوت مرتفع قائلا: إلي أيها الرفاق!
فدخل ثلاثة رجال أيضا من النافذة، وانضموا إلى رفاقهم الآخرين، فركعت ديانا أمام الصليب وقالت بصوت يتهدج من الحنان: رب أنقذه بعونك وفضلك.
فاحتدم مونسورو غيظا عند سماعها، وأسرع إليها والسيف مشهر بيده يريد قتلها.
فوثب إليه باسي وثبة النمر المفترس، وطعنه بحسامه طعنة وقعت في عنقه، فجرحته جرحا غير بالغ وردته على أعقابه.
فهجم بالحال خمسة من رجاله هجمة واحدة على باسي، فجرح واحدا منهم، وقتل سانت ليك رجلا آخر.
وصاح رامي متحمسا يقول: إلى الأمام.
فقال له باسي: كلا أيها الصديق، لا تهتم بنا الآن، بل اصرف اهتمامك إلى ديانا وأبعدها عن هذا الموقف.
فأسرع رامي ممتثلا لأمر مولاه، ودنا من ديانا يحاول حملها والفرار بها، فامتنعت ودافعت الدفاع الشديد وهي تقول : كلا ، لا أدعه يموت وحده بل أموت معه.
فلم يعبأ رامي بدفاعها وحملها بين يديه، فجعلت تصيح مستغيثة بباسي صياحا مزعجا.
فناداها باسي قائلا: لا تخافي أيتها الحبيبة واهربي مع طبيبي، فسألحق بك بعد حين.
فأخذ مونسورو غدارته وأطلقها قائلا: نعم، ستلحق بها في الحال.
فارتاع باسي وحسب أن الرصاص قد أصاب ديانا، وصاح صيحة منكرة وهجم هجوم الأسود فقتل اثنين من ثلاثة كانوا قد اعترضوه في هجومه، ثم سمع رامي يقول بصوت خافت: لا تخف يا مولاي، لقد تحملت الموت عنها، وقد وقعت رصاصة زوجها بصدري.
ثم خر على الأرض صريعا.
فنظر باسي نظر القانط إلى ما حواليه، فرأى سانت ليك يجول بين الهاجمين، فقال له: أستحلفك بالله وبمن تحب أن تنقذ ديانا. - وأنت؟ - أنا رجل أدافع عن نفسي حتى الموت.
فأسرع سانت ليك إلى ديانا وقد كان أغمي عليها، فحملها وخرج بها هاربا من الباب.
وصاح مونسورو: إلي أيها الرفاق! اقتلوا الخائن.
فانقض عليهم باسي انقضاض الصاعقة، فجرح العدد الكثير وقتل من قتل، واخترق صفوفهم كما يخترق الرعد سكون الليل، وأبلى بهم البلاء الحسن، ولكن العدد يغلب القوة.
وهكذا فقد كانت المعركة بين كر وفر، فعندما يتكاثرون عليه يتراجع ليؤمن ظهره، ولكن عندما يفتكر بحبيبته وما قد يحصل لها تنتابه قوة غريبة يعاود بها الهجوم ويجبرهم على التراجع.
لقد أصيب إصابات طفيفة في أنحاء جسمه، وكانت هناك إصابة بليغة في كتفه، وعندما أمن أن حبيبته قد أصبحت في مأمن، أخذ يشق طريقه بينهم ليفر من وجوههم، وكان قد قطع شوطا كبيرا، ولم يزل بحاجة إلى نجدة صغيرة؛ لأن بوادر النصر بدأت تلوح له، وبينما يجيل النظر في وجوه أعدائه لاح له من بعيد وجهان لصديقين، ففرح لأن الأمل بالنصر عاد إليه بقوة.
الخاتمة
لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن، فهذان الرفيقان اللذان رأى بهما بوادر الخلاص، هب أحدهما لنجدته، والآخر استغل اطمئنان باسي له وغدره فطعنه طعنة نجلاء كانت القاضية على هذا المحارب الشجاع.
أما صديقه الذي هب إلى نجدته فقد جمد الدم في عروقه من هول المفاجأة، وكان نصيبه طعنة قوية، ولكنها لم تكن قاتلة فأغمي عليه وكان قد أصيب باثنتي عشرة طعنة أثناء المعركة.
فما كان من مونسورو إلا أن صافح صديق باسي اللدود، ونظر نظرة ازدراء إلى جسد باسي المضرج بالدماء، وتركه مع صديقه المغمى عليه في أرض المعركة وذهب مع رجاله.
أما بالنسبة إلى ديانا حبيبة باسي، فقد أخذها سانت ليك من يدي طبيب باسي، وأخذ يعدو بها الشارع، وبعد أن ابتعد عن مكان المعركة نظر إليها فوجدها مغمى عليها لهول المفاجأة.
وكان التعب قد أعياه، وفيما هو يفكر ماذا يفعل بها، تراءت له عربة خيل فأوقفها وصعد هو وديانا إلى داخلها، وطلب من السائق التوجه إلى ضواحي باريس، وأودعها هناك عند صديقة له تدعى جان دو بريساك، وطلب منها الاعتناء بديانا، ولهذا فقد تأخر سانت ليك عن الرجوع إلى اللوفر.
ولكن بعد مضي ثلاثة أيام على ديانا في منزل جان، عانت خلالها ديانا من الحمى والهذيان، وجان من السهر عليها.
وفي اليوم الرابع رأت جان أن حالة ديانا الصحية قد تحسنت، فقررت أن تأخذ قسطا من الراحة، فخرجت للتنزه ولجلب حاجيات المنزل.
وبعد ساعتين عادت إلى المنزل، ودخلت توا إلى غرفة ديانا، فوجدت السرير خاليا، ففكرت بأن ديانا قد صحت من هذيانها فقررت التنزه؛ لذلك أخذت تفتش عنها في المنزل والجوار، ولكنها لم تعثر على أي أثر لها.
أما الذي أصيب في المعركة مع باسي فإن شيكو نقله إلى فندق بواسي، ولكنه لم يصمد أكثر من ثلاثين يوما، فقد مات بعد هذه المدة في الفندق متأثرا بجراحه، وهذا الرجل هو كيلوس.
أما بالنسبة للملك هنري فقد كان الحزن يغمره لأنه فقد أعز أصدقائه، وكانت طريقته للتعبير عن حزنه بأنه صنع لهم ضريحا رائعا من المرمر، وأقام القداديس على راحة أنفسهم.
وبعد موت أصدقاء الملك الثلاثة، لم يبق له سوى شيكو الذي لم يفارق الملك قط.
نامعلوم صفحہ