دليل النص بخبر الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
صفحہ 1
تأليف الشيخ الجليل أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي المتوفى سنة 449 ه
صفحہ 2
تحقيق علاء آل جعفر
صفحہ 3
مقدمة المؤسسة الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فليس هناك ثمة شك بأن التراث العقائدي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، بوسعه المناظرة لسعة الفكر الإسلامي المبارك وامتداداته الكبيرة، قد فتح الأبواب مشرعة وواسعة قبالة خريجي هذه المدرسة وروادها، والمتزودين من معينها النقي الصافي، فاغترفوا منه - قدر ما أحاطت به أكفهم أو دلاؤهم، وطوال الحقب المتلاحقة والمتوالية - علوما فياضة متنوعة أغنت المكتبة الإسلامية ومنحتها الكثير من البعد الفكري الرصين، والثقل العقائدي المتين.
ولا مغالاة في القول بأن الاستقراء المبتني على الدراسة الموضوعية لجملة المناهج العقائدية التي ترتبط بشكل عضوي بأصل العقيدة الإسلامية، وتستند في مدعياتها عليها يظهر بوضوح وجلاء الارتكاز المتجذر للأطروحات المتبناة في تلك المدرسة المباركة بعيدا في العمق الفكري للعقيدة الإسلامية النقية، فلا غرو أن تجد تلك الحجية القاطعة لهذه الأطروحات، وامتلاكها الدليل الواقعي على صوابها قبال غيرها من الأطروحات الأخرى.
ولعل مسألة الإمامة والخلافة من أهم المسائل التي ابتليت بها الأمة
صفحہ 5
الإسلامية، عملا واعتقادا، وتعرضت للكثير من البحث والجدال والمناقشة، وخضعت في التعاطي معها إلى القرار السياسي الصادر عن مراكز الحكم الدخيلة والغريبة - معنى ومفهوما - عن الأصل الثابت الذي تنادي بها الشريعة الإسلامية ، وتدعو المسلمين إلى التعبد به.
ومن هنا فإن الثابت المقطوع به كون علماء الشيعة مع مفكريهم لم يدخروا جهدا في إيضاح المفهوم العقائدي السليم لأصل الإمامة في الفكر الإسلامي بعيدا عن التفسيرات القريبة والممجوجة التي تحاول جاهدة ودون جدوى استلال دليل ما من هنا وهناك لإيجاد موطئ قدم لمدعيتها المعارضة للأطروحة السليمة التي تنادي بها المدرسة الإمامية على امتداد الدهور والعصور.
فقول الشيعة الإمامية بوجود النص الصريح والقطعي على خلافة علي عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله، وامتداد ذلك إلى أولاده من الأئمة المعصومين عليهم السلام، لم يأت من خواء، ولم يصدر عن فراغ قطعا وكما هو معلوم، بل يعضده الدليلان: العقلي والنقلي، والمترجمان كثيرا في كتب الأصحاب منذ دهور طويلة وبعيدة الغور.
والرسالة الماثلة بين يدي القارئ الكريم هي أنموذج واحد من تلك النتاجات الغنية التي ترجمها أولئك المفكرين في هذا المنحى المهم، والتي اعتمدت واقعة الغدير كدليل على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وكانت هذه الرسالة قد نشرت على صفحات مجلة تراثنا في عددها الحادي والعشرين، من سنتها الخامسة (شوال / 1410 ه) بتحقيق المحقق الفاضل الأستاذ علاء آل جعفر، والصادر بمناسبة مرور (1400) عام على واقعة غدير خم المباركة. واستمرارا مع خطة المؤسسة باستلال جملة الرسائل المنشورة على صفحات مجلة تراثنا فقد بادرنا إلى تقديم هذه الرسالة مستقلة بين يدي القارئ الكريم.
والحمد لله أولا وآخرا.
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث / قم
صفحہ 6
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة لا بد منها:
الحمد لله حمدا لا يبلغ مداه الحامدون، ولا يدرك عده الحاسبون، أحمده تعالى على كل نعمة أدركها أو لا أدركها، أعلمها أولا أعلمها، تبارك وتعالى الله رب العالمين.
والصلاة والسلام على خيرة خلق الله من الأولين والآخرين، حبيبه ومصطفاه، ورسوله الأمين الذي أخرجنا وأخرج آباءنا من الظلمات إلى النور بإذنه، وعلى أهل بيته الطيبين المعصومين حجج الله على العالمين إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فالباحث المنصف - كائنا من كان، مع اختلاف المشارب وتعدد الألوان - لا بد أن ينتابه الذهول ويعتريه الاستغراب وهو يتفحص بإمعان وتأن ما حفلت به كتب السير ومصادر الأحاديث - التي يشار إليها بالبنان وتحاط بهالات من التبجيل والتقديس - من روايات وأحاديث وأحداث، كيف أن أصابع التحريف والتشويه تركت فيها آثارا لا تخفى وشواهد لا توارى، أخذت من هذا الدين الحنيف مأخذا كبيرا، وفتحت لذوي المأرب المنحرفة فتحا كبيرا.
بل ومن العجب العجاب أن تجد في طيات كل مبحث وكتاب - من تلك الكتب - جملة كبيرة من التناقضات الصريحة التي لا تخفى على القارئ البسيط، ناهيك عن
صفحہ 7
الباحث المتخصص، تعلن بصراحة عن تزيف وتحريف تناول - بجرأة عجيبة - الكثير من أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة الناصحين، فأخذ يعمل فيها هدما وتشويها.
ولعل حادثة الغدير - بما لها من قدسية عظيمة - كانت مرتعا خصبا لذوي النفوس العقيمة، خضعت - وهذا لا يخفى - لأكبر عملية تزوير - قديما وحديثا - أرادت وبأي شكل كان أن تفرغ هذا الأمر السماوي من مصداقيته ومن محتواه الحقيقي، وتحمله - مدا وجزرا - بين التكذيب الفاضح، والتأويل المستهجن، فكانت تلك السنوات العجاف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وإلى يومنا هذا - حافلة بهذه التناقضات، ومليئة بتلك المفارقات.
ولعل أم المصائب أن يأتي بعد أولئك القدماء جيل من الكتاب المعاصرين يأخذ ما وجده - رغم تناقضاته ومخالفته للعقل والمنطق - ويرسله إرسال المسلمات دون تمعن وبحث، وكأن هذا الأمر ما كان أمرا سماويا وحتما إلهيا، بل حالهم كأنه حال من حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز حيث قال: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/43/43" target="_blank" title="الزخرف 43">﴿قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾</a> (1).
فالجناية الكبرى التي كانت تستهدف الإمام علي عليه السلام ما كانت وليدة اليوم ولا الأمس القريب، بقدر ما كان لها من الامتداد العميق الضارب في جذور التأريخ، والذي كان متزامنا مع انبثاق نور الرسالة السماوية، حيث توافقت ضمائر المفسدين - وإن اختلفت مرتكزاتها - لجر الديانة الإسلامية السمحاء إلى حيث ما آلت إليه الأديان السماوية السابقة من انحراف خطير وتشويه رهيب.
لأن من السذاجة بمكان أن تؤخذ كل جناية من هذه الجنايات على حدة، وتناقش بمعزل عن غيرها، وعن الصراع الدائم بين الخير والشر، وبين النور والظلام، وإلا فكيف يمكن للمرء أن يتصور أن الحبل يلقى على غاربه للمصلحين والمخلصين
صفحہ 8
دون أن تشهر في وجوههم الحراب وتنصب في طرقهم الشباك، بل وأني يمكن أن يتصور أن تترك للإسلام الحنيف السبل شارعة والمسالك نافذة، يقيم دعائم الحق ويرسي جذور العدل، بلى لا يمكن تصور ذلك، وتلك حقائق لا يمكن الإغضاء عنها.
ومن كان علي عليه السلام؟ هل كان إلا كنفس رسول الله صلى الله عليه و آله (2) رزق علمه وفهمه، وأخذ منه ما لم يأخذه الآخرون، بل كان امتدادا حقيقيا له دون الآخرين، وهل كانت كفه عليه السلام إلا ككف رسول الله صلى الله عليه وآله في العدل سواء (3) وهل كان عليه السلام إلا مع الحق والحق معه حيثما دار (4).
وهل كان عليه السلام لو ولي أمور المسلمين - كما أراد الله ورسوله - إلا حاملا المسلمين على الحق، وسالكا بهم الطريق القويم وجادة الحق (5).
بلى كان يعد من السذاجة بمكان أن يمكن عليا عليه السلام من تسنم ذروة الخلافة وامتطاء ناصيتها، لأن هذا لا يغير من الأمر شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ويظهر لهم وكأنه صلى الله عليه وآله ما زال بين ظهرانيهم، يقيم دعائم التوحيد، ويقف سدا حائلا أمام أحلامهم المنحرفة التي لا تنتهي عند حد معين ولا مدى معروف.
ولعل الاستقراء البسيط لمجريات بعض الأمور يوضح جانبا بينا من تلك
صفحہ 9
المؤامرة الخطيرة، التي وإن اختلفت نوايا أصحابها إلا أنها تلتقي عند هدف واحد، وهو إفراغ الرسالة السماوية من محتواها الحقيقي، ودفع بالمسلمين إلى هاوية التردي والانحطاط - كما ذكرنا - والالتحاق بركب اليهودية والمسيحية التي أمست ثوبا مهلهلا خرقا يتجلبب به الأحبار والرهبان عندما يتعاطون ملذاتهم المحرمة وشهواتهم الحيوانية.
فمن الاجتهاد الباطل قبالة النص السماوي (6)، ومرورا بالحط من مكانة الرسول صلى الله عليه وآله (7) وانتهاءا بسلب الخلافة من أصحابها الشرعيين، سلسلة متصلة الحلقات، إحداها تكمل الأخرى، إلا أن الأخيرة كانت الترجمة الصادقة لتلك التوجهات الخطيرة.
فحقا أن القربة لا تحمل البحر، ولا النملة تبتلع البيدر، وشواهد الحق ما ثلة للعيان إلا أن المخطط - مع اختلاف النوايا، كما ذكرنا ونذكر - أخذ أبعادا واسعة، ثمارها ما نراه الآن من فرقة مرة وتطاحن مؤلم، خلف أنهارا من الدموع والدماء، ولست أدري كيف يتأتى لمن وهبه الله أدنى نور يستضئ به أن يتجاوز تلك الحقائق الواضحة التي تشهد بالنص بالخلافة لعلي عليه السلام لا لكونه أحق من غيره بها فحسب.
ويحيرني من لا يرتضي للملوك والزعماء أن لا يعهدوا بالولاية والخلافة - وهم ملوك الدنيا - ويرتضون لله ورسوله ذلك وهو سبيل الدنيا والآخرة! عدا أنهم نقلوا إن أبا بكر وعمر لم يموتا حتى أوصيا بذلك، بل والأغرب من ذلك - وحديثي لمن
صفحہ 10
ليس في قلبه مرض - أن تجد تلك التأويلات الممجوجة للنصوص الواضحة، وذلك الحمل الغريب للظواهر البينة (8).
وبالرغم من أن الجميع يدركون - بلا أدنى ريب - أن الرسول صلى الله عليه وآله لا يتحدث بالأحاجي والألغاز، ولا يقول بذلك منصف مدرك، إذن فماذا يريد صلى الله عليه وآله بحديث الثقلين المشهور (9)؟ وما يريد بقوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى... " (10).
بل وما يريد بقوله صلى الله عليه وآله أيضا: " علي ولي (11) كل مؤمن بعدي " (12)؟ بل وما.... وما.... إلى آخره.
ثم أين الجميع من قوله صلى الله عليه وآله: " من ناصب عليا الخلافة بعدي
صفحہ 11
فهو كافر " (13).
وإذا كان هناك من ينفر من كلمة الحق، وتعمى عليه الحقائق، فما باله بالشواهد وقد شهد حادثة الغدير عشرات الألوف من المسلمين، كما تشهد بذلك الروايات الصحيحة في بطون الكتب (14)، بل وأخرى تنقل تهنئة الصحابة لعلي عليه السلام بأسانيد صحاح لا تعارض (15).
وحقا إن هذا الأمر لا يخفى، بالرغم من أنهم لم يألوا جهدا في طمس تلك الحقائق الناصعة المشرقة - حتى وإن تباينت الأزمنة وتباعدت المسافات - ولعل من المفارقات التي تستوقف ذي العقل الفطن وقائع مشهورة نقلها العام والخاص تعرضت للمسخ والتحريف في العديد من المصادر التاريخية والحديثية تختص بحديث الغدير وقضية الولاية، فعدا ما ذهبوا إليه من تفسيرهم لآية الولاية والتبليغ وغيرها كما يشتهون - وجدت أن بعض المصادر التاريخية عند سردها لوقائع معينة أسقطت ما لا يوافق هواها وأثبتت ما يوافقه، مثل مناشدته عليه السلام لجماعة الشورى بعد إصابة عمر بن الخطاب حيث أسقطت عبارة " فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله: من كنت مولاه فعلي مولاه.... ليبلغ الشاهد الغائب، غيري؟ " (16).
صفحہ 12
وأضاف ابن كثير في نهايته عند سرده لوصية أمير المؤمنين عليه السلام عندما أصيب وطلب منه أن يوصي لمن بعده، حيث ذكر أنه عليه السلام قال: لا، ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وآله - يعني بغير استخلاف (17) -!!
بل ومن المفارقات العجيبة ما قرأته في تاريخ بغداد (18) (7: 381) عند ترجمته لأبي سعيد العدوي (3910) فبعد أن استعرض جانبا من شيوخه الذين حدث عنهم والذين حدثوا عنه، سرد حكاية له حول مروره بالبصرة على باب عثمان بن أبي العاص، حيث نقل رؤيته لجماعة من الناس مجتمعة حول أحد الشيوخ الطاعنين في السن، وكان خراش بن عبد الله خادم أنس بن مالك، وهو يحدثهم ما سمعه من الأحاديث، وبين يديه من يكتب، قال أبو سعيد: فأخذت قلما من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا " أسفل نعلي " انتهى. هكذا عبارة مبتورة مشوهة.
غير أن الصحيح ما نقله ابن حجر في لسان الميزان (2: 229) عند ترجمته للمذكور نفسه، حيث نقل عين العبارة المتقدمة - وعن الخطيب البغدادي نفسه - ولكن بشكل مغاير مختلف، حيث روى: وقال الخطيب: أخبرنا محمود بن محمد العكبري... قال أبو سعيد: فأخذت قلما من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا في " فضل علي "!! وأورد قبلها جملة من هذه الروايات (19).
صفحہ 13
وأخيرا، وتجنبا لما لم يترك فيه علماؤنا الأبرار جانبا أو زاوية أو بابا إلا وطرقوه وأقاموا عليه الحجج البالغة والبراهين الثابتة، أعرض عن الاسترسال في هذا المبحث المهم الذي حاولت أن أدور حوله، إدراكا لجهدي المتواضع وعجزي عن الإحاطة بما لا تستغرقه المجلدات الضخمة، ناهيك عن هذه الوريقات المحدودة.
صفحہ 14
المؤلف وعصره:
ليس ثمة شك يراود من استقرأ ما كتبه مترجمو مؤلف هذه الرسالة أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان، المشهور بالشيخ الكراجكي رحمه الله برحمته الواسعة، بل وفي جملة ما خلفه من تراث فكري كبير احتوى بمساحته الكثير من العلوم المختلفة بأنه بلا شك من أجلة علماء عصره، وفقهاء ومفكري دهره.
ولا غرو في ذلك، فإن ذلك الاستقراء المتعدد الجوانب يثير في ذهن المرء الإكبار والإجلال لهذه الشخصية الجليلة التي ما زال - ورغم كل ما نذكره - غبار الغفلة عن دراستها دراسة موضوعية شاملة يلقي بضلاله الرمادية المعتمة عليها، وذلك مما يثير الأسى في قلوب الباحثين والدارسين الدائرين حول الكيان المبارك والمعطاء لها.
ولا مغالاة فيما أقول، فإن الدراسة المتفحصة لهذه الشخصية العلمية الفذة بنتاجاتها المتعددة، وقدراتها الفكرية والعقائدية الواسعة، والإشادة الصريحة بكل ذلك من قبل معاصريه ومؤرخي سيرته القريبين من عصره، بل ومن تلاهم من رجال العلم والأدب وغيرهما، وبالمقارنة الموضوعية مع الفترة الزمنية التي عاصرها، كل ذلك يوشي بصدق ما أشرنا إليه، وألمحنا إلى وجوده.
فالعلامة الكراجكي رحمه الله عند عده من قبل مترجميه بأنه شيخ الفقهاء والمتكلمين، ووحيد عصره، وفريد دهره في الكثير من العلوم والمعارف المختلفة كالنحو واللغة والطب وغيرها لم يأت هذا الأمر من خواء وفراغ قطعا، فمؤلفاته التي تزدان بها المكتبة الإسلامية، والتي أمست مراجع عطاء مشهودة للمتزودين من صافي علوم دوحة الرسالة المحمدية المباركة، ومعينها الذي لا ينضب، كل ذلك يحوي دلالات واضحة على مدى المكانة العلمية له.
ثم إنه لا يمكن بحال إطلاق هذا الحكم بمعزل عن الدراسة الموضوعية
صفحہ 15
لخصائص الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف، - الممتدة ما بين النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الهجري - والتي تعد بحق من أوضح مراحل الاحتدام الفكري والعقائدي بين مجمل المذاهب والفرق الإسلامية وما يحسب عليها في صراع جدلي - يمتد في أحيان معينة إلى أبعد من ذلك - من أجل احتواء الساحة الإسلامية وبسط الرداء عليها، أو اقتسامها على أقل تقدير.
بلى فما توافقت عليه الأجهزة الحاكمة طوال حقب التغييب القسري للوجود العلني الحر لمدرسة أهل البيت عليهم السلام - إلا في حدود ضيقة محصاة الأنفاس - وجهدها - أي تلك الأجهزة - على الترويج السياسي - البعيد عن الإيمان العقائدي - لبعض المذاهب الإسلامية الأخرى التي طرحت قبالة تلك المدرسة المباركة. وما يصاحب ذلك من مراهنات ومداهنات وتلاعب سمج في التقديم والتأخير بين جملة تلك المذاهب من قبل أجهزة الدولة بالارتكاز على أصحاب الذمم المعروضة للبيع في أسواق النخاسة، وما رافق ذلك من تزاوج حضاري بين الأمم والشعوب التي انضوت تحت الرداء الإسلامي الواسع وبين المسلمين الذين دوختهم السياسات الخاطئة والمنحرفة للحكام المتوارثين لسدة الخلافة الإسلامية دون حق أو جدارة، طيلة الحكمين الأموي بشقيه، والعباسي، كل ذلك كان له عظيم الأثر في تسرب العديد من المفاهيم الشاذة والغريبة عن العقيدة الإسلامية النقية الصافية، لا سيما والعديد من تلك الشعوب التي خضعت للإسلام وسلمت له تمتلك بعدا حضاريا، وتاريخا كبيرا، وفلسفات معقدة متشابكة هي غريبة وعسرة الفهم على ذهنية عوام المسلمين وبسطائهم، فنشأت نتيجة ذلك جملة متعددة من الأطروحات الدخيلة التي تجذرت مع الأيام ليصبح لها دعاة وأتباع لا يمكن تجاهلهم بحال من الأحوال، بل ويتطلب ذلك وقفة عقائدية جدية لتشذيب العقيدة الإسلامية من هذه المداخلات الغريبة عنها، والمنافرة لها.
ولعل الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف، والتي شهدت تمزق أشلاء
صفحہ 16
الدولة العباسة وتبعثر أوصالها (1) كنتيجة منطقية لحالات الضعف المتوالية التي أوجدها أسلوب الحكم الخاطئ وفساد سدنته ورموزه، واستشراء ذلك في عموم أجهزته بشكل معلن غير خفي، كل ذلك أدى إلى انحسار ظل هذه الدولة المقيت، وتراخي حلقاتها التي كانت أشد إحكاما على الشيعة وأئمتهم وعلمائهم، فكان ذلك إيذانا بفتح أبواب الاحتدام الفكري على مصراعيه قبالة دعاة المذاهب المختلفة وروادها والتي كانت تموج بها الساحة الإسلامية آنذاك.
والتأمل العابر لمجمل التراث الفكري والعقائدي الذي تمخضت عنه تلك الحقبة الخصبة والمعطاء يظهر بجلاء أبعاد تلك المناظرات وأشكالها المختلفة وما تتسم به، فالجدال في مسائل الجبر والاختيار، والقدم والحدوث، وصفات الله تعالى، والإمامة، والعصمة، والنص والاختيار، وغير ذلك من المباحث التي لا يعسر على أحد إدراكها ومعرفتها، يعد السمة الغالبة للمناهج الفكرية الطاغية على حلقات البحث ومطاوي الكتب، والتي تتطلب إحاطة واسعة بالكثير من تلك العلوم من قبل المناظر والباحث، وهذا ما وفق إليه علماء الشيعة ومفكروها بشكل واضح جلي.
حقا لقد كانت الساحة الفكرية وحتى عصر قريب من هذا العصر - وإلى حد ما - حكرا على فريقين متعارضين تناطحا طويلا فيما بينهما ، واقتسما - بفعل تقديم وتأخير السلطة لا حدهما على الآخر بين آونة وأخرى لأغراض وأسباب شتى - تلك الساحة، بيد إن ما ذكرناه من حالة تراخي قبضة السلطة عن علماء الشيعة ومفكريهم، وتعاطف البويهيين - الذي أحكموا قبضتهم على بغداد آنذاك -
صفحہ 17
معهم، كان له الأثر الكبير بأن يفصحوا عن قدراتهم الفكرية قبالة مفكري المذاهب الأخرى وعلمائهم الذين عرف البعض منهم بباعه الطويل وقدراته الواسعة (1) فصالوا وجالوا في هذا المعترك المقدس، وأقاموا للفكر الشيعي صروحا عظيمة كان ولا زال الخلف الصالح لهم يسترشدون بهداها، ويستضيؤون بنورها.
بلى فقد شهد ذلك العصر - الذي يمكن التعبير عنه بأنه خضم فكري كبير - أسماء لامعة كبيرة لمفكري شيعة، شغلوا مساحة كبيرة من الساحة الإسلامية، وذادوا عن النقاء الإسلامي وصفاته، وخلفوا للأمة من ورائهم تراثا عظيما مباركا، كأمثال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي (336 - 413 ه) والسيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفى ي عام (436 ه) والشيخ الطوسي محمد بن الحسن بن علي (385 - 460 ه) وجعفر بن محمد الدوريستي المتوفى ما بعد عام (473 ه) وسالار بن عبد العزيز المتوفى على الأكثر عام (463 ه) وغيرهم.
ومن ثم فإن صاحب ترجمتنا هو بلا شك واحد من تلك القمم السامقة في تأريخ التراث الشيعي الكبير أبان تلك الحقبة السالفة مع من عاصره من أولئك الأعلام الكبار الذين تعرضنا لذكر بعض منهم، من الذين أقر القاصي والداني بمبلغ علمهم، وسمو فضلهم، جزاهم الله تعالى عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
صفحہ 18
توقف لا بد منه:
ربما يخفى على البعض من القراء الكرام أن الباحث والمحقق قد تستوقفه في أحيان ما بعض المحطات والمفارقات الممجوجة والمثيرة للاستهجان والاستغراب، والتي يقف أمامها حائرا متعجبا يحاول جاهدا أن يجد لها تبريرا تستكين إليه نفسه وتستقر من خلاله.
نعم، ولعل من تلك المفارقات الغريبة التي استوقفتني كثيرا في تحقيقي لهذا المبحث إلهام ما كان متعلقا منه بترجمتي لحياة هذا العلم - المتسامي في سماء الطائفة - الإغفال الغريب لتأريخ ولادته ونشأته، بل والتضارب البين في تحديد مصدر نسبته التي طبق صيتها الآفاق، وأصبحت سمة لا يعرف عند الكثيرين إلا بها.
ولا أريد هنا أن أجد تبريرا لعلة هذا الإخفاق والاضطراب، قدر ما أردت الإشارة إلى كونه قصورا بينا لا مناص لنا من التسليم به والإقرار بحقيقته، والعمل على تلافيه وإدراك ما سقط منه.
بلى، بيد أن ما يختص بالقسم الأول من ذلك القصور - أي ما يتعلق بتأريخ ولادته - فأستطيع الجزم بأنه لا يأتي إلا احتمالا وإجمالا، حيث لم أجد ما بحثت إشارة ولو بعيدة إليها، فلم يبق إلا استقراء الشواهد المختلفة المبثوثة في طيات الكتب وترتيبها وفق التسلسل المنطقي لواقع الحال وصولا إلى أقرب النتائج الموافقة للحقيقة.
فعند استقرائي لبعض مؤلفات الشيخ الكراجكي - وبالتحديد في كتابه الذائع الصيت والموسوم بكنز الفوائد - وجدته مزدانا بإشارات متكررة لتواريخ خاصة بروايته عن بعض شيوخه أو غيرهم، وأماكن تلك الروايات، ولما كان بحثنا يتعلق بالشطر الأول منها، فقد عمدت إلى استقصاء موارد الروايات هذه
صفحہ 19
وتواريخها، فوجدت أن أقدامها تأريخا كان في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة هجرية، عند روايته عن أبي الحسن علي بن أحمد اللغوي المعروف بابن زكار، وبالتحديد في مدينة ميا فارقين (1) (2).
ولعله من المعروف بين رواة الأخبار والمحدثين كون المرء عند تلقيه لرواية في سن تمكنه من ذلك التلقي ومن التحدث به، وهذا الأمر يكون مألوفا في سن العشرين على أقل تقديري، إذ لم يتجاوزها.
فبافتراض كونه في العشرين من عمره آنذاك فإن سنه عند وفاته - والتي لم تختلف المصادر في أنها كانت عام (449 ه) - كانت في حدود السبعين عاما، والله تعالى هو العالم بحقيقة الحال.
هذا ما كان متعلقا بالطرف الأول من الجهالة التي قصرت عن إثباتها كتب السير والتراجم فدفعتنا إلى الافتراض الذي قد لا يغني عن حقيقة الحال شيئا، بيد أنه - وكما قيل - حيلة المضطر.
وأما ما هو متعلق بأصل نسبته بالكراجكي فقد تضاربت في تحديدها أقوال القوم، وذهب كل فريق إلى مذهب، ووافقه على ذلك من تبعه دون تفحص أو تدبر قدر ما أحال تحديد النسبة إلى من سبقه .
وعموما فالأمر يدور بين شقين رئسيين اثنين ما زاد عليهما فهو أما مردود إليهما، أو تفرد أحد المترجمين به، والشقين الرئيسيين هما:
(1) الانتساب إلى قرية على باب واسط في العراق.
(2) الانتساب إلى مهنة صناعة الخيم.
فالطائفة الأولى تذهب إلى أن أصل نسبته يعود إلى قرية صغيرة غير مشهورة على باب واسط تدعى كراجك (بضم الجيم)، ومن القائلين بذلك:
صفحہ 20
أ - الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب (1).
ب - الآقا بزرك في أعلام الشيعة (2).
ج - المامقاني في تنقيح المقال (3).
بيد أن تتبعي في المصادر المختلفة لم يرشدني إلى وجود قرية بهذا الاسم على باب واسط، عدا ما ذكره السمعاني في أنسابه من نسبة الكراجكة إلى هذه القرية المجهولة بالنسبة إليه والتي حدثه عنها أستاذه أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بإصبهان لما سأله عنها، على حد قوله (4).
ولم يتحدث عنها الحموي في معجم بلدانه إلا باعتماد رواية السمعاني هذه عن أستاذه فحسب دون زيادة أو نقصان (5).
ثم إن السمعاني لم يقطع بوجود مثل هذه القرية، أو بمعرفته بها، وإن كان أورد اسمان لراويان تتطابق نسبتهما مع نسبة مترجمنا، ذكر أنهما يعودان بنسبهما إلى تلك القرية، وهما: أحمد بن عيسى الكراجكي، وأخوه علي بن عيسى الكراجكي، إلا أنه ضبط النسبة بفتح الجيم لا بضمها كما ضبطها الآخرون (6).
كما أنه لا عبرة باعتماد روايته عن أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله بن علي الواسطي (7) كدليل على ذلك، لأنه - وكما ذكر ذلك بعض مترجميه - كان سائحا في البلاد، وغالبا في طلب الفقه والحديث والأدب وغيرهما، فلا غرابة أن يروي عن هذا وذاك في أمصار ومدن مختلفة، وهذا بين لمن طالع كتبه، وبالأخص منها
صفحہ 21