دلالة الشكل
دلالة الشكل: دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
اصناف
على سبيل المثال، ذلك أن فضولنا البشري يغشي انفعالاتنا الإستطيقية، ولا نعود نرى الصور بوصفها أشكالا؛ لأننا سرعان ما نتأملها بوصفها أشخاصا، وفي المقابل فإن التصميم المكون من أشكال تخيلية خالصة خلو من أي مفتاح معرفي (سجادة فارسية مثلا) حري إذا كان شديد التركب والتعقيد أن يربك المشاهدين ذوي الحساسية المحدودة. أما الفنانون بعد الانطباعيين فإنهم باستخدامهم أشكالا محرفة بحيث تحبط وتحير الاهتمام والفضول البشريين، وتمثيلية رغم ذلك بحيث تسترعي الانتباه المباشر إلى طبيعة التصميم؛ قد وجدوا طريقا مختصرة إلى انفعالاتنا الإستطيقية. إن هذا لا يجعل اللوحات بعد الانطباعية أفضل من غيرها ولا أسوأ، بل يجعلها أيسر في إدراكها كأعمال فنية، ربما سيظل صعبا دائما على أغلب الناس أن يتأملوا الصور كأعمال فنية، غير أن اللوحات بعد الانطباعية ستكون في ذلك أقل عسرا من اللوحات الواقعية، بينما هم إذا كفوا عن تأمل الأشياء غير المزودة بمفاتيح تمثيلية (مثل بعض أعمال النسيج الشرقي) بوصفها آثارا تاريخية، فقد يجدون من العسير عليهم أن يتأملوها على الإطلاق.
لكي يبرز الفنان تصميمه فإنه يجعل همه الأول أن يبسط، غير أن مجرد التبسيط، أي التخلص من التفاصيل، لا يكفي؛ إذ لا بد للأشكال الإخبارية المتبقية أن تكون دالة، ولا بد للعنصر التمثيلي لكي لا يفسد التصميم أن يصبح جزءا منه، ويتعين عليه إلى جانب تقديم المعلومات أن يثير انفعالا إستطيقيا، وها هنا الموطن الذي تفشل فيه الرمزية. إن الرمزي يتخلص ولكنه لا يهضم ويتمثل، ورموزه، في عامة الأحوال، ليست أشكالا دالة بل ناقلات خبر شكلية؛ فالرموز ليست أجزاء مدمجة لتصور تشكيلي، وإنما هي اختصارات فكرية، والرموز لا يبثها انفعال الفنان بل يخترعها فكره، إنها مادة ميتة في كائن عضوي حي، وهي جاسئة
6
مغلقة؛ لأنها غير مغمورة في إيقاع التصميم. وليست الأساطير الشارحة التي اعتاد رسامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثير من الرسامين القديرين تصاميمهم. لقد تمكن دورر
Durer
في لوحته الشهيرة «ميلانكوليا»، وتمكن إلى حد ما في نقوش أخرى قليلة مثل «القديس يوستيس» و«العذراء والطفل» (المتحف البريطاني
B. 34. ) من أن يحول كتلة من التفاصيل إلى شكل مقبول الدلالة، غير أننا في الشطر الأكبر من أعماله (مثل «الفارس» و«القديس جيروم») نجد أن التصور الجميل قد أفسدته كتلة من الرموز غير المهضومة وأتت عليه. •••
إن التصميم هو تنظيم الأشكال، والرسم هو صوغ الأشكال ذاتها، ومن الواضح أن هناك نقطة يمتزج عندها الاثنان، ولكن هذا أمر لا يهمنا الآن، عندما أقول إن الرسم رديء فإنني أعني أنني لم أهتز لحدود الأشكال التي تكون العمل الفني، وباعتقادي أن أسباب رداءة الرسم مماثلة لأسباب رداءة التصميم، تأتي رداءة الرسم عندما لا يتطابق الشكل المرسوم مع جزء من تصور انفعالي؛ فالهيئة التي يتخذها كل شكل في العمل الفني يجب أن يمليها الإلهام ويفرضها، وأرى أن يد الرسام يجب أن تقودها ضرورة التعبير عن شيء ما قد أحسه لا إحساسا شديدا فقط بل إحساسا محددا أيضا، إن على الرسام أن يعرف مهمته، ومهمته إن كنت صائبا هي أن يترجم إلى شكل مادي شيئا ما قد أحس به في نوبة من النشوة؛ ولذا فإن الأشكال التي لا ترسم إلا لملء فجوات هي أشكال رديئة الرسم، وإن الأشكال التي لا تمليها أي ضرورة انفعالية، والأشكال التي تثبت وقائع، والأشكال التي تنتج عن نظرية في فن الرسم أو عن تقليد الأشياء الطبيعية أو تقليد أشكال الأعمال الفنية الأخرى؛ كل هذه أشكال لا قيمة لها، إنما يجب أن يكون الرسم ملهما، وأن يكون تجليا طبيعيا لتلك الهزة التي تصاحب الفهم الانفعالي للشكل. •••
ينصرف النساء والرجال الذين اهتزوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد الأعمال الفنية، ويمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم أكثر حساسية لكل ما يجري حولهم، وهكذا يدركون بحدة زائدة معنى الحياة وإمكانها، وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأولوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق، ولن أنازعهم في شأنه، فأن تتحرك مشاعرك للفن أهم بكثير من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يحركها، فقد أريد أن أذكرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيلون أحيانا أنه الفن، لما كان له أن يحرك مشاعرهم بهذه الطريقة، إذا كان الفن مجرد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يمنح العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يحركنا الفن بهذا العمق وهذه السرية لأنه يضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئا ما جديدا، شيئا يأتي لا من الحياة البشرية بل من الشكل الخالص، أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يكتفي بإضافة شيء جديد بل يبدو أنه يغير القديم ويثريه، فهو أمر مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس. •••
أطلقوا يد الفنان.
نامعلوم صفحہ