دلالة الشكل
دلالة الشكل: دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
اصناف
غير أن الأدب فن عظيم نحس إزاءه بانفعال إستطيقي لا شك فيه، وهو انفعال لا يأتي به، بحكم التعريف، إلا الشكل الدال؛ ومن ثم فقد كان ينبغي على بل ألا يتردد أمام الأدب وألا يؤثر الحذر تجاهه، وأن يمد نظريته لتتسع لفن الأدب بقدر ما اتسعت لفن التصوير، وهذا ما فعله رفيقه فراي الذي أكد أن النظرية الشكلية تسع جميع الفنون؛ فالعمل الفني، أيا كان نوعه، هو بناء شكلي في المقام الأول، ونحن في فن التصوير لا نستجيب للون الواحد منعزلا، وإنما نستجيب للعلاقات القائمة بين جميع الألوان. وبالمثل فإن المهم في التراجيديا ليس الشدة الانفعالية للحوادث المصورة، وإنما الإحساس الحي بحتمية وقوعها. إن للتراجيديا، كما يقول ف. إ. هاليداي
F. E. Halliday
في كتابه «خمسة فنون»، شكلا، فهناك نمط من التوترات ينبثق عن عدد لا حصر له من الحوادث التي تبدو أول الأمر مفتقرة إلى التنظيم والتحدد، ويعمل هذا النمط على دفعنا قدما، وأخيرا يصل إلى النهاية المحتومة، فهل يمكن أن تكون الحوادث المصورة على هذا القدر من الحيوية والتأثير لو لم يكن لها هذا النمط الشكلي؟
ولعل الشكل في فن الشعر أكثر وضوحا وخلوصا مما هو في الرواية والمسرحية، فرغم أن الشعر يستخدم الكلمات ويحمل دائما مضمونا ذهنيا وينطوي على معان عقلية؛ فإن الكلمات في الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق وتتخفف من ماضيها ولا تعود أداة تخدم الفكر وتحيل إلى معان، إنها تنصهر وتكتسب الشكل وتتحول إلى غاية وتأخذ صفة الرمز الملتحم بمعناه، وكأنما الشعر عودة باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه العودة طرائق كثيرة منها الوزن (أو الموسيقى أيا كان نوعها)؛ فالوزن، كما أشار كرورانسوم، هو طريقة لفرض الصورة صوتيا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في معاني الألفاظ نفسها، وبذلك يخلق الوزن نوعا محببا من التشتيت يجعل من التلقي تجربة جمالية، كما أن للوزن تأثيرا سيمانتيا (دلاليا) هائلا، فهو يضطر الشاعر إلى أن يضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى يسلم له النغم، ويلوي بالتركيب النحوي ليستقيم له العروض، وفي هذه العملية يسترخي المعنى ويتفكك ويحقق الشعر ذاته؛ فيكون لغة بدائية صورية شيئية غامضة، أفضل تسجيلا لكثافة الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة، ولعل هذا هو السبب في أن الإلهام الذي ينبثق في وعي الشاعر فيعبر عنه بالكلمات لا يكاد يختلف عن الإلهام الذي يأتي المصور والموسيقي فيعبران عنه بالألوان والأنغام، ولعل هذا هو السبب في أن القصيدة تعني دائما أكثر مما تعنيه ترجمتها النثرية في لغة أخرى؛ من حيث إن بناءها الشكلي والموسيقي قد جعل منها «رمزا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
1
ربما يحتمل متذوق الأدب (بوصفه فنا) عبئا كبيرا يفوق ما يحتمله متذوق الفنون الأخرى. إن عليه أن يخلص إدراكه قدر المستطاع من العناصر الخارجة عن الموضوع، وما أكثرها، لكي يقع على الشكل، وعليه ألا يلتمس المعاني والدلالات العقلية منعزلة منفصلة، بل يلتمسها كما تتجسد في الشكل؛ فقد تمده المعاني والدلالات برضا ذهني ومتعة فكرية، غير أنها عاجزة عن أن تمده بالوجد أو النشوة الإستطيقية؛ فالوجد الحقيقي لن يكون في غير الشكل.
يقول الشاعر السوري د. علي أحمد سعيد (أدونيس) في كتابه «سياسة الشعر» بمعرض ذكرياته مع واحد من خيرة شعرائنا العرب: «وحين جاء دوري رغب إلي بإلحاح أن أقرأ ما كتبته عن الحسين (المسرح والمرايا، 1968). مقطوعات صغيرة كتبتها في القاهرة، وتحديدا حول مسجد الحسين، وفي حين أبدى إعجابه الكبير بها، كان فيما يبدو لي يتحفظ إزاء قصائد أرى تشبهها فنيا، وتساءلت: إن كان معجبا بهذه المقطوعات فلماذا لا يعجب بما يشابهها؟ وفي محاولة تفسير هذا التناقض كنت أقول: ثمة نوعان من الإعجاب بعمل شعري ما: الإعجاب الفني الخالص، والإعجاب الانفعالي - التعاطفي،
2
يقول الأول على لذة البناء والإتقان والتناسق، ويقوم الثاني على لذة التذكر والتداعيات والتطابق بين ما في نفس القارئ وما يثيره العمل فيها، وكان إعجابه من النوع الثاني.»
3
نامعلوم صفحہ