وكان للمركيز دوربان ولد قد بلغ سن الزواج، فلم ير له زوجة أفضل من تلك التي زانها عفافها وقد تألبت عليها أسباب الفتنة؛ ألا وهي أرملة صديقه بيرو. فانتظر حتى انقضت أيام حدادها المحدودات، ثم تقدم لها يخطبها لولده، ورأت المركيزة خطيبها حائزا صفات الكمال؛ فارتضت به بعلا وتم لهما عقد القران.
وصادف السعد ابن دوربان فرزق من عروسه في ثلاثين شهرا بثلاث من الأولاد فكان أكمل حظا من سلفه وأتم نعمة، وأقام الزوجان لا تكدر صفو عيشهما الحوادث حتى قدم إلى أفينون فارس يدعى ده بوليون.
وكان هذا الفارس من دهاة عصره؛ فتى جميلا متصل النسب بأحد كرادلة روما ذوي السلطة والجاه في ذلك الحين، فكان معجبا بنفسه فخورا بنسبه، قد خلع العذار وترك الوقار وسار بين الناس سيرة الفساق حتى اهتزت لسيرته المجامع التي كان يتردد عليها، وخصوصا في دار «مدام منتنون» أديبة عصرها حيث كانت مجمع الظرفاء والأدباء.
وقال للفارس يوما أحد أصدقائه: إني أرى الملك مستاء منك، فلا ترد سيرتك حتى يكشر عن نابه.
وكان الملك لويس الرابع عشر قد بلغ عتيا في ذلك الحين، فتظاهر بالتقوى، وأصبح لا ترضيه سيرة الفساق، فقال لصاحبه: وإني لمستاء أن يكشر الملك عن الناب الوحيد الباقي له في فمه.
فسارت الكلمة في الناس وبلغت مسامع الملك، وعلم الفارس بعدها بقليل أن الملك ينصح له أن يسافر لتبديل الهواء في القرى؛ ففهم الفارس مغزى النصيحة، وسافر مفضلا أن يستنشق في القرى هواء الحرية عن أن يستنشق في الباستيل هواء الذل والحبس، وأتى الفارس إلى أفينيون تصحبه الخيلاء يظن نفسه سيدا حل في ضيعة فشرفها.
وكانت شهرة مدام دوربان بالعفاف في أفينيون تعادل شهرة الفارس بالفسق في باريس، فرأى منها الفارس خصما لا تطيق شهرته احتماله، فعزم على منازلتها حتى يفوز بها فيفوز عليها، فصار يترقب حضورها في كل مكان فيحضر فيه، ولا يدع فرصة تمر بدون أن يبدي نحوها انعطافا ويكشف لها عن حبه. وكان المركيز دوربان واثقا بطهارة زوجته وأمانتها على عرضها، فكان مطلقا لها الحرية تفعل ما تشاء وتذهب أنى تريد، وشاءت الأقدار أن تدق ساعة المركيزة ولا تدري أأعمتها الشهوات أم فتنها الفارس لهواه، فاستبدلت عزة الطهارة بذل الفحش، فهوت من عرش الصيانة إلى حضيض الابتذال.
وكانت غاية الفارس الاشتهار فأسرع بإعلان فوزه في المدينة، فكان الناس بين مصدق ومكذب، فأراد أن يقنع المكذبين؛ فأمر أحد خدامه أن ينتظره بعد نصف الليل على باب المركيزة بمشعل وجرس، وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل خرج الفارس من قصر خليلته يتقدمه الخادم بالمشعل يضيء له الطريق ويقرع بالجرس، فيهب القوم من مراقدهم لصوت الناقوس ولم يعهدوه، فيطلون من نوافذهم يتساءلون عن الخبر، فيرون المركيز سائرا وراء خادمه في الطريق الموصل بين بيته وقصر المركيزة، فيدركون المراد حيث أصبحت القصة أشهر من علم. وخشي الفارس أن يبقى في القوم منكر، فكرر هذا العمل ثلاث ليال متعاقبات حتى لم يبق في المدينة من لم يبلغه الخبر إلا المركيز.
وجرت العادة ألا يعلم الزوج بخيانة زوجته إلا آخر الناس، وهكذا علم المركيز من بعض أصدقائه أن اسمه أصبح مضغة الأفواه، فحرم على امرأته أن تلقى خليلها، ولما سمع خليلها القصة أخذ يحاول بزلاقة لسانه أن يوقع اللوم عليها قائلا: إن سوء تصرفها وتدبيرها فضح سرها، فظنت المسكينة أنها هي المخطئة، وأقبلت على عشيقها تبكي وتطلب السماح.
وبلغ المركيز في هذه الساعة - وكان قد بث على زوجته الرقباء - أن خليلها لديها، فأمر بغلق الأبواب وكمن له في ردهة الدار مع بعض الخدام ليقبض عليه وهو خارج، وكان الفارس مشغولا عن دموع خليلته بنجاة نفسه، فسمع قفل الأبواب وشعر في الدار بحركة غير معتادة، ففطن إلى أنهم يقصدونه بسوء؛ فهم من ساعته وفتح نافذة ووثب منها إلى الطريق، وكانت النافذة على ارتفاع ثلاثة أمتار منها فسقط ولم يصب بسوء، ولم يهتم بالقوم الناظرين والطريق مملوءة بالناس؛ إذ كان الوقت ظهرا، وعاد الفارس إلى بيته بقدم ثابت بطيء كأنه لم يفر من موت ولم ينج من كمين.
نامعلوم صفحہ