وما كادت تسلم المركيزة الروح، حتى صدر الأمر بتشريح جثتها، فقرر الأطباء أنها ماتت بتأثير السم وحده؛ حيث لم تكن إحدى طعنات الحسام السبع التي طعنتها بالغة مقتلا منها، ووجد الأطباء معدة المركيزة وأحشاءها محترقة ومخها مسودا، وقد جاء في محضر التحقيق، كما روته إحدى الرسائل التي نشرت عن مقتل المركيزة، أنهم وجدوا كمية السم التي جرعتها كافية لقتل لبؤة في بضع ساعات، ومع ذلك قاومت المركيزة مفعول ذلك السم تسعة عشر يوما، كأنه كان عسيرا على الموت أن يختطف ذلك الجسم الجميل، وقد كان زينة الحياة.
ولما علم المسيو كتلان بوفاة المركيزة أنفذ سرية من الجند إلى قصر جنج، وأمرهم بالقبض على المركيز والراهب وخدم القصر جميعا عدا السائس الذي أعان المركيزة على الهروب. ووجد قائد السرية المركيز يتمشى في ردهة القصر الكبرى حزينا مضطربا، فأبلغه الأمر المكلف بتنفيذه، فلم يبد المركيز معارضة فيه؛ كأنه كان مترقبا له، وسلم نفسه إلى الجنود طائعا، قائلا إنه على كل حال يريد الذهاب إلى البرلمان لمحاكمة قاتلي زوجته. واستحوذ قائد السرية على مفاتيح القصر ومفتاح مكتب المركيز، ثم أمر بترحيل المقبوض عليهم، ومنهم المركيز، إلى سجون مونبلييه.
وما كاد يصل المركيز إلى هذه المدينة، وكان وصوله إليها ليلا، حتى شاع فيها خبر قدومه بأسرع من البرق، وتناولته الأفواه في أنحائها، فكنت ترى النوافذ تنفتح في طريقه ويطل منها القوم ينظرون إليه وهو سائر تحتاط به الجند، وحوله صبية في الطريق والسوقة يحملون المشاعل، فيضيء وجهه للناظرين، وكان المركيز والراهب على حصانين مهزولين تحتاط بهما الجنود، ولولا الجنود لفتكت بهما الناس؛ إذ كنت ترى الرجل يثير الرجل على هذين المجرمين ليقطعانهما إربا، ولولا دفع الجند لقضى الناس فيهما أربا.
ولما علمت مدام ده روسان بوفاة المركيزة، استحوذت على ما خلفت من مال وعقار، ثم انضمت إلى الدعوى الجنائية، وقالت: إنها لن ترجع عنها حتى تنتقم العدالة من قاتلي ابنتها.
وشرع القاضي في التحقيق، فاستجوب المركيز أولا، ولبث يناقشه إحدى عشرة ساعة، ثم استجوب الباقين، وأصدر قرارا بترحيلهم جميعا من سجون مونبلييه إلى سجون تولوز مقر البرلمان.
وقد قدمت مدام روسان إلى المحكمة مذكرة تتهم فيها صهرها، وتبدي فيها بأوضح بيان كيفية اشتراك المركيز مع القاتلين، إن لم يكن في الفعل ففي النية والعزم والتمهيد.
وكان دفاع المركيز بسيطا، قال فيه: إن ربه ابتلاه بأخوين لئيمين شرعا أولا في إصابته في عرضه، ثم أصاباه في نفس زوجة كانت عزيزة لديه، فأماتاها ميتة شنيعة، وما يدهشه إلا اتهامه في هذه الجريمة الفظيعة.
ورغما عن دقة التحقيق لم يتمكن المحقق من إيجاد أوجه إدانة قوية ضد المركيز، وكانت الشبه الموجهة إليه لا تكفي لإصدار الحكم بإعدامه.
وفي 21 أغسطس سنة 1667، صدر الحكم غيابيا ضد الراهب والفارس بأن تفصص أعضاؤهما وهما حيين ، وحضوريا ضد المركيز ده جنج بنفيه نفيا أبديا خارج المملكة، ومصادرة أمواله، وتجريده من ألقابه، وحرمانه من وراثة أولاده. أما الخوري بيريت فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد أن جرد من ألقابه الدينية، وطرد من الطوائف المنتمي إليها.
وتحدث الناس بهذا الحكم وانتقدوه طويلا، ولم تكن الظروف المخففة معروفة في قانون ذلك الزمن، فأخذ القوم يقولون: إن المركيز إما شريك لأخويه أو غير شريك، فإن كان شريكا فالحكم الصادر ضده خفيف جدا، وإن لم يكن فالحكم شديد.
نامعلوم صفحہ