داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
اصناف
وما زال يصحب النبي مجاهدا حتى قبض عليه السلام، فأقام الأذان بعد وفاته أياما على أرجح الأقوال ثم أبى أن يؤذن وأصر على الإباء، لأنه كان إذا قال في الأذان «أشهد أن محمدا رسول الله» بكى وبكى معه سامعوه، فلم يطب له المقام حيث كان يصحب النبي ويراه ثم هو بعد لا يصحبه ولا يراه، وآثر الاغتراب على فرط حبه لمكة والمدينة، وآثر الجهاد على فرط حاجته إلى الراحة في غرة الستين، واتفقت أرجح الأقوال على أنه استعفى الصديق من الأذان معه واستأذنه في الخروج إلى الشام مع المجاهدين. فأذن له بعد إلحاح منه، واشترك في معارك لا نعلمها على التفصيل، ثم سكن إلى ضيعة صغيرة بجوار دمشق يزرعها ويعيش من غلتها، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك إلا يوم أذن للخليفة الفاروق بدعوة من كبار الصحابة والتابعين، ويوم تصدى لمحاسبة خالد في مجلس الحكم بين يدي أبي عبيدة.
وأدركته الوفاة في نحو السبعين - لأنه كان ترب الصديق على أرجح الأقوال - وقيل: إنه مات في طاعون عمواس، وقيل سنة عشرين للهجرة أو إحدى وعشرين. واستعذب الموت؛ لأنه سيجمع بينه وبين النبي وصحبه كما كان يقول في ساعات الاحتضار، فكانت زوجته تعول إلى جانبه وتصيح صيحة الوله: واحزناه! فيجيبها في كل مرة: بل وافرحاه! غدا نلقى الأحبة؛ محمدا وصحبه.
وكانت وفاته بدمشق فدفن عند الباب الصغير، وقبره رضي الله عنه معروف يزار.
وليس أدل على قدر بلال عند الصحابة والتابعين من ذلك الوجد الذي اختلجت به حناياهم وهو يؤذن لهم في دمشق بعد انقطاعه عن الأذان تلك السنين الطوال. بكى عمر وبكى معه الشيوخ الأجلاء حتى اخضلت اللحى البيض واضطربت الأنفاس التي لا تضطرب في مقام الروع. ولو بدا لهم أنهم يستمعون إلى صوت آدمي ينطلق من حنجرة من اللحم والدم لما اختلجوا تلك الخلجة ولا تولاهم ما تولاهم يومئذ من الوجد والرهبة، ولكنهم أنصتوا لوحي الغيب حين أصغوا إليه، وقام في أفئدتهم أنه صوت جدير بمحضر النبي عليه السلام يسمعه معهم كما سمعوه معه آونة من الزمان. فهم إذن في عليين أو أقرب من عليين، وهم إذن على مسمع ومشهد من ذات الله جل وعلا وذات النبي عليه السلام في جواره، وهم إذن أرواح علوية يضيق اللحم والدم بفيضها الإلهي فترجف من الوجد وتنكسر الأجساد بالبكاء مغلوبة في عالم الأرواح وآفاق السماء.
رحم الله بلالا ... إنه كان داعي السماء ليرفع أبناء الأرض بدعوتها. وقد رفعتهم في ذلك اليوم إلى الأفق الأعلى؛ إلى الحضرة التي ترتجف فيها الأجساد لأنها غريبة في ذلك الجوار. •••
وحق للمسلمين في ذلك العهد أن يقرنوا بين محضر النبي وصوت بلال حيث كان. فمن سيرة بلال الوجيزة نعلم أنه كان يأوي إلى كفالة النبي في حياته البيتية كما كان يأوي إليه في حياته الدينية. وأن أحدا من الصحابة لم يكن يذكرهم بالنبي عليه السلام كما كان يذكرهم به مؤذنه وصاحبه ووليه طوال حياته حيث يرونه أو حيث يستمعون إليه، وقد شغل النبي بمعيشته في بيته كما شغل بعتقه ورزقه وتقويم دينه، ففي روايات مختلفة أنه تزوج بوصية منه عليه السلام، وفي إحدى هذه الروايات:
إن بني أبي البكير جاءوا إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: زوج أختنا فلانا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله، أنكح أختنا فلانا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا الثالثة فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عنه؟ رجل من أهل الجنة فأنكحوه.»
والظاهر أنه تزوج غير مرة وأنه مات بغير عقب، فقد جاء في رواية قتادة أنه تزوج أعرابية من بني زهرة، وجاء في رواية أخرى أن له زوجة تدعى هندا الخولانية، وهي من خولان اليمن لا من خولان الشام؛ لأنها كانت معه قبل هجرته إلى الشام.
ذكره ابن إسحاق فيمن حضر بدرا فقال: وبلال مولى أبي بكر. مولد من مولدي بني جمح اشتراه أبو بكر من أمية بن خلف وهو بلال بن رباح لا عقب له.
نعم ولكنه أعقب الميراث الذي يتصل بالأذان في كل مكان ... فلا ينساه من يسمع الأذان ويرجع به إلى أول من نادى به قبل أجيال وأجيال.
نامعلوم صفحہ