داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
اصناف
هذه الوصايا والمعاملات كانت كلها من فيض الآداب العلوية الرفيعة، ولم يكن شيء منها قط من إملاء الضرورات الاجتماعية أو المصالح الاقتصادية، بل هي ولا شك قد تقررت على الرغم من ضرورات الاجتماع ومصالح الاقتصاد التي كانت غالبة في تلك الآونة على الجزيرة العربية وعلى غيرها من أرجاء العالم المعمور.
وهي لم تتقرر - بالبداهة - دفعة واحدة في مستهل الدعوة الإسلامية، ولا تقررت كلها أو بعضها قبل إسلام بلال وزملائه من الموالي والإماء. فقد تتابعت الأحكام الإسلامية في معاملة الرقيق على أثر قيام الحرب بين المسلمين والمشركين، وبعد ظهور حالة الأسرى والمستأسرين في معارك الفريقين.
فمن الخطأ أن يقال: إن أحكام الرقيق هي التي جلبت إلى الإسلام من دخل فيه من الموالي والإماء، أو إنهم سيقوا إلى الدخول فيه طلبا لراحة الجسد وهربا من مظالم السادة ومتاعب التسخير.
إن يكن هناك أثر للمعاملة الحسنة في إقبال بلال وزملائه على الإسلام، فهو على التحقيق أثر المثال الرفيع الذي تمثلوه في معاملة النبي عليه السلام لصحبه ومواليه، ولكل ضعيف منتم إليه. ولم يكن سرا مجهولا بينهم أن النبي عليه السلام أحسن إلى مولاه زيد بن حارثة فأنساه أباه وذويه، وجاءه هؤلاء يفتدونه ويعرضون عليه الحرية والعودة إلى أحضان أهله، فآثر صحبة النبي على نعمة الحرية بين معشره الأولين وفي ظلال وطنه الذي فارقه مكرها منذ سنين.
فهذا المثال الرفيع قد كان له ولا ريب أثره البالغ في تحبيب الإسلام ونبي الإسلام إلى الأرقاء وغير الأرقاء.
ولكن طلب الإسلام عند أولئك الأرقاء لم يكن طلبا لراحة الجسد ولا مفاضلة بين سيد وسيد أو معيشة ومعيشة.
فإننا لا نعرف في تواريخ العقائد الدينية أن أحدا يقبل على الدين مساومة على الراحة ورفاهة العيش، ولم يكن طلاب الراحة ورفاهة العيش قط أعوان عقيدة ناشئة في عهدها الأول وهي مقدمة على المغامرة والجهاد تتطلب الضحايا وتفرض على الأتباع ألوان الفداء.
وفي حالة بلال وزملائه خاصة، لم يكن الإسلام راحة لهم ولا انتقالا من جانب الخطر إلى جانب السلامة والأمان، بل كان على نقيض ذلك انتقالا من جانب السلامة والأمان إلى جانب الخطر الذي لا يدفعه عنهم دافع. لأن العربي يحميه من الضيم آله وعشيرته ولا يبلغ الأمر مبلغ الخطر على حياته وماله إلا في قتال صريح بعد يأس من الوفاق، ولا حاجة إلى قتال صريح أو غير صريح لإهدار دم العبد المملوك المرهون بمشيئة مولاه. وأهون من ذلك عند مولاه تعذيبه وإعناته وحرمانه الراحة وضرورات الحياة.
كذلك لم يكن طلب الإسلام عند هؤلاء الأرقاء طلبا للنقلة من رق ثقيل إلى رق خفيف، أو من سيد قاس إلى سيد رحيم؛ لأن الإسلام في مبدأ أمره لم يكن ليخرجهم من ربقة الأسر عند سادتهم الأقوياء، ولم يكن العتق جزاء موعودا لمن يغضب سيده المشرك ويرضي النبي عليه السلام بالدخول في دينه. فإنما جاء العتق مصادفة واتفاقا بعد تشديد العذاب على أولئك الضعفاء المساكين، وقد كان العذاب يقينا لا شك فيه، ولم تكن النجاة إلا وعدا مأمولا لم تبد تباشيره للعيان.
فمن الخطأ، كما أسلفنا، أن يعلل إيمان العبيد والإماء بأحكام الإسلام في معاملة الأرقاء، أو بالطمع في الراحة والمساومة على حسن المعاملة ، فإنما عرفت تلك الأحكام بعد ابتداء الدعوة الإسلامية بزمن طويل، وإنما كان العناء والخطر أول ما يصيب العبد الذي يصبأ عن دين مولاه، وكانت الراحة آخر ما يرجوه من أمل بعيد، إن سلمت له الحياة.
نامعلوم صفحہ